رشا ارنست
أثناء السنوات الأولى لكل طفل، نجده ينظر في كل من حوله من أشخاص وأشياء، وأول ما يُبصر، يرى بعينيه ذلك الوجه المبتسم والذراعان الحاضنان له منذ اللحظة الأولى، لتحفظ عينيه اقرب مَن له وهي أمه. ومن بعدها يأتي الجميع. ومع الوجوه والأصوات نراه ينظر من حوله يرى تفاصيل الأشياء بألوانها وأشكالها ودائماً ما نلاحظ أن عيني الطفل تقع على صورة تشبه والدته وهى حاضنه طفلها الملك الصغير المتوج على قلوبنا. ليسأل بعينيه من حوله: مَن تلك المرأة التي تشبه أمي؟ أهي أمي أم أنها امرأة أخرى تشبهها؟ ومن ذلك الذي في حضنها؟ وبالالتفات إلى انتباه الطفل للصورة الموجودة بأغلب البيوت نجد أمه تقول له هذه "العذراء مريم تحضن ابنها الوحيد يسوع". وبين أم يسوع وأمي هناك شبه، هناك الحب والحضن والآمان، هناك تلك النظرة التي تحفظ بها كل شيء في قلبها.
يكبر الطفل وتكبر محبته لأمه التي حملته في أحشائها وأمه التي ترعاه بحبها وعنايتها الفائقة بجوار ابنها الإله الوحيد. لا أظن أن هناك طفل أكمل عامه الثاني لا ينطق كلمة العذراء مريم أم يسوع، ومع استمرار عمره يعرف أنها أم يسوع وأمنا أيضاً، هكذا قال لنا يسوع قبل أن يسلم روحه على الصليب "ورأى يسوع أمه والى جانبها التلميذ الحبيب إليه، فقال: يا امرأة هذا ابنك، وقال للتلميذ: هذه أمك، فأخذها التلميذ إلى بيته من تلك الساعة يو19:26-27" أعطاها يسوع أن تكون أمنا جميعاً وان نصير لها أبناء، وكما أخذها يوحنا إلى بيته أخذناها نحن أيضاً فتوجت في بيوتنا وقلوبنا أماً وملكة ليس لها نظير، أخذت مكاناً في بيوتنا وقلوبنا لا يستطيع احد أن يتقاسمه معها.
لم تعد مريم العذراء إلى بيتها لتكمل حياتها وحيدة بعد موت ابنها، إنما ذهبت لتعيش مع أبنائها التي أصبحت بحكم ابنها الذي تعبده وبوصية منه أماً لهم ولنا جميعاً. أم كسائر أمهات كل العصور، تتعب وتتحمل وتصبر وتقاسي من اجل أبنائها، لم تتوارى يوماً مريم الأم الحنونة عن أبنائها حتى بعد صعودها بجوار ابنها ملك الملوك. إنما تواجدت متى نادينا عليها بقلوب واثقة في محبتها ومحبة ابنها. يسوع الابن الوحيد لمريم الذي أطاعها وكانت هي سبباً لبداية معجزاته في عرس قانا الجليل، ها هو يُلبي حتى الآن كل ما نطلبه بثقة منه بواسطة أمه القديسة الشفيعة القادرة أن تأخذ منه رجاء وتبعثه فينا دائما.
منذ كنا صغار وارتبط اسم العذراء مريم بألقابها المتعددة بنشاط جنود مريم، وهو نشاط خاص بالكنيسة الكاثوليكية، وكان لفترة قصيرة قائم بأغلب الكنائس الكاثوليكية بمصر. وكل الأجيال الشابة والمُسنة تعرف جيداً معنى جنود مريم، الذي ضم الآلاف من الكاثوليك منذ طفولتهم وحتى شيخوختهم، ومازال مستمراً حتى الآن في كنائس متعددة.
جنود مريم هو اجتماع (أسبوعي في اغلب الأحيان) يُقسم إلى فرق حسب الأعمار، ولكل فرقة اسمها. فالأطفال تكون اسم فرقتهم فرقة التكوينية المريمية نسبة إلى أنهم في مرحلة التكوين. ثم فرقة نجمة الصبح وهي للشبيبة المريمية، ثم ينتقلون مع تقدم مرحلتهم العمرية إلى فرقة سلطانة السلام حتى مرحلة الشيخوخة. وتختلف اسم الفرقة باختيار لقلب للعذراء مريم في كل كنيسة. وهذا النشاط معروف قديما داخل كنيستنا الكاثوليكية حيث انه مميز عن باقي الأنشطة، وهذا يرجع للطابع التكويني الروحي والإنساني الذي يحويه. ففي جنود مريم كل المجموعة هم جنود العذراء البتول الذين يحملونها إلى الآخرين ويعيشون على مثالها، في أمور حياتهم ويتأملون بمسبحتها في حياة إلهنا يسوع المسيح ابنها الوحيد. الكل يُصلي ويعمل ويَخدم كجنودها الأمناء على رسالة المحبة التي نحملها بقلوبنا.
في جنود مريم عرفت كيف أصلي، أمسكت بالمسبحة لأول مرة بحياتي وعرفت كيف تدور بين أصابعي تلك الحبات وهى تخترق قلبي الصغير لأقول ليسوع " احبك يا ربي وأحب أمي العذراء مريم" مع حبات المسبحة دارت حياتي، ومع كل صلاة كنت اعرف أنها تسمعني، ليس فقط بأذنيها إنما بقلبها أيضاً. اعرف دائما أنها تصغي إليّ. واعرف إنني أصغي إليها أيضاً، تعلمت منها كيف أحب وكيف أعيش الحب، تعلمت وتعلم معي كل من عَرف مريم كيف نتحمل الألم ونصعد به إلى الجلجثة ونقوى على ضعفنا، تعلمنا معها كيف نقدم أغلى ما عندنا تحت أقدام ابنها يسوع.
بمرور كل يوم مع العذراء مريم، أثق أن من سلمت نفسها وابنها وتقاسمت الألم من اجلنا لن تتركنا، أكملت طفولتي كجندية من جنودها الذين يطيعون توصياتها دائماً، تأملت بحياة الفادي والمخلص وأنا أصلي إليها، عرفت معنى أن ندخل في شركة محبة عندما أتضرع إليها لأجل مريض أو فقير أزوره كعمل مريمي في جنود مريم.
الآن وفي ظل السرعة والأحداث التي يسير فيها العالم باتجاه مجهول غامض، بدأ الملل والضيق يتسرب للبعض من الصلاة كجنود لمريم الأم والصديقة والملكة، فأصبح كل شيء نهجه السرعة حتى الصلاة. ذهب كثيرون في موجة تكنولوجيا وعولمة أضاعت معنى أن نكون جنود تحتاجنا القائدة مريم العذراء للدفاع عن إيمان آخرين يُنادونها حتى تغيثهم. جنودها لم يعودوا يملكون الاحتمال والحب والرجاء الذي يُرسلون به باسم ابنها وبشفاعتها للعالم. فأصبح الكل في دوامة واحدة. ولكن حتى متى؟ متى يعود الجيش ويصف صفوفه ماسكاً بأسلحته؟ أسلحة حب وحماس وإيمان برب يعلم كل شيء.
عندما تحدثت منذ أيام مع صديق عن أخبار رعيته اخبرني أن جنود مريم لم تعد كالسابق، وأصبح الكل يشعرون بالروتين من تكرار الصلاة. لم يعد هناك حماس الجنود كالسابق.
إذا لم نعد جنودها. وإذا لم يعد لدينا الإيمان بابنها والرجاء فيه ... فماذا نملك؟ ومَن نكون؟ أنكون أشباه مسيحيون وأشباه جنود!!.....لا نحن جنودك يا مريم، وسنكون هكذا إلى الأبد، سنتحدى كل شيء لنكون مخلصين في إيماننا وثقتنا في إلهنا ابنك يسوع، سنقف أمام كل جهل وخوف وجديد يريد أن يسرقنا منك.
لم اعرف غيركِ عندما سقطت منذ ثماني سنوات بين قضبان السكة الحديد بعد أن مزقني. عندما سألني أول شخص نظرت إليه بعد سقوطي لم أدرك أنني أقول له "مريم معي"، نعم كانت مريم أمي معي، كما كانت مع ابنها على الصليب. لم تتركني لحظة. ظلت عند قدماي حتى بعد أن فقدتهم. ظلت معي لأنها تحبني ولأني بقلبها كما أنها بقلبي. عَرفت أنها معي دون أن أفكر، أحسست بطيفها في داخلي. سأظل اذكر أن تعلقي بمريم غير عادي. ففي كل يوم تطلع فيه الشمس اعرف أنها تطل علىّ بجوار ابنها من شرفة السماء، باعثة إليّ بشعاع من نور، بشعاع أمل، كالقائد الذي يبعث في جنوده كل لحظة أمل حتى يسير بجنوده إلى النصر.
في عيدها اليوم بحسب التقويم القبطي أقول لها" احبك يا أمي..كلي لكِ" وسأكون في وعدي لكِ ابنة وجندية تستظل بجناحيك إلى الأبد حتى ألقاكِ.
هناك تعليق واحد:
لقد تم عمل موقع خاص لجنود مريم باللغة العربية وهو
legiomariaegypt.com
فان لم يكن عندك مانع من نشر مقالاتك بالموقع مع ذدر المصدر ارجو مراسالتي علي
george.younan@yahoo.com
شكرا
إرسال تعليق