يوسف فضل
في فصل الصيف من كل سنة تنطلق قوافل وجحافل القوات العربية الزاحفة والراكبة والطائرة صوب ارض المعارك الأوروبية لفتح أراض جديدة سلما لإعادة عصر أو الحنين لإعادة عصر الفتوحات الإسلامية والتاريخ التليد . وتحتل منطقة ماربيا (مربط خيولنا العربية ) باسبانيا حصة الأسد من البطولة والأموال العربية . وبما أنني لا املك شرف المشاركة في معاركنا العربية الحديثة المظفرة هذه ونيل الأجر والثواب في الجهاد السياحي فأنني أتوجه إلى السياحة الداخلية إلى المنطقة الغربية وتحديدا مكة المكرمة لبضعة أيام أخلو فيها إلى نفسي لعل وعسى أن تتعظ وتجدد النشاط ومن ثم العودة للحياة اليومية بثوب جديد لكنه ما يفتأ أن يتمزق من كثرة الخطايا .
في رحلتي الأخيرة إلى مكة المكرمة استغلت الشركة التي اعمل لديها وجودي في جده فقامت بتكليفي بأعمال خارج حدود الإجازة القصيرة مما اجبرني على تأجيل موعد تاريخ العودة للرياض ثلاث مرات إلى أن كان اليوم الموعود يوم الاثنين الموافق 6/8/2007 حيث حصلت على مقعد في الطائرة بعد شق الأنفس وموعد إقلاع الطائرة العاشرة صباحا .
زرت جدة مرات كثيرة وبصراحة لم أحبها فهي جدة غير . كيف ؟ فهي المدينة التي يشعر فيها المرء انه يرتدي ملابسه الداخلية والتي ينساها بحكم تكرار العادة في خضم الحياة لكن سخونة ورطوبة جدة العالية تجعل الملابس الداخلية تلتصق بجلده فيقوم بين الفينة والأخرى بمحاولات عابثة خاسرة بنزع مؤقتا ما يستطيعه مما يلتصق بجلده من ملابس . وثاني الأسباب أنه لا توجد طريق في جده دون حفر بكافة الأحجام حتى أنني كدت أن اجزم أن موظفي دائرة بلدية جده يملكون شركات مقاولات خاصة بهم لأعمال الحفر وورش إصلاح السيارات لإصلاح ما تفسده الطرقات وهكذا يكتمل مشروعهم الاقتصادي في تشغيل اليد العاملة الأجنبية .فسعادة الوزير القصيبي يسعود وسعادة موظفي دائرة بلدية جدة يسعدنون .
شاهدت البارحة فيلم final destination ( المحطة النهائية ) الذي يتحدث عن كيفية لعب القدر بمصير الإنسان فشعرت بانقباض نفسي رافقني إلى أن وصلت إلى المطار وصورة الطائرات تتهاوى أمامي لكني لم اصل إلى حالة الرعب التي عاشها محمد هنيدي في فيلم فول الصين العظيم . فإذا كانت حبكة معظم أفلام الطائرات بين السماء والأرض فان حبكة هذا النص هي داخل صالة الانتظار في مطار جدة .
كانت صالة المغادرة في مطار جدة مزدحمة بالمسافرين ، والمطار دائم الازدحام طوال العام فيسجل المسافر اسمه على قائمة الانتظار ولكن عند دخول الطائرة تجدها ملأى بنسبة 80% فلماذا كل هذا الهرج والمرج للحصول على مقعد؟ ربما لإشعار المسافر بطريقة غير مباشرة بتقديم شكره للخطوط السعودية على كرمها معه بان وفرت له مقعدا في اللحظة الأخيرة .
لم أك على قائمة الانتظار لأني كنت حاصلا على رقم حجز مؤكد PNR وقد حصلت على بطاقة صعود الطائرة Boarding Pass من ماكينة إصدار التذاكر الذاتية Self Chick in Machine حتى أنني قمت بتقديم المساعدة للآخرين في كيفية الحصول على تذاكرهم من هذه الماكينة التي لا تتذمر مثل موظف المطار لأن البعض (من مختلف الجنسيات ) منهم لا يعرف قراءة رقم الحجز ولا تغذيته لهذا الموظف الآلي خفيف الدم الذي لا يعرف الواسطة في الحجز فكل المسافرين عنده إما خيار أو فقوس أي متساوون في الحقوق .
بقي ساعة على موعد إقلاع الطائرة (ذكرت سابقا أن موعد الإقلاع الساعة العاشرة صباحا ) فهيأت نفسي بتناول كوبا من الشاي لممارسة عادة القراءة وجلست في صالة الانتظار اقرأ ما تيسر لي مما احمله من مواد (تسمم ) الأفكار مثل بعض المشاركات المرسلة للركن الأخضر قبل النشر وعندما انتهيت منها تناولت رواية من الأدب الصيني بعنوان " ورقة في الرياح القارسة " a leaf in the bitter wind وهي سيرة ذاتية للكاتبة تنغ – هسنغ يي تسرد فيها قصة حياتها وعائلتها بغزارة الأحداث التي عصفت بالصين والاحتمالات اللامتناهية من التعذيب النفسي والجسدي خلال الثورة الثقافية وتراكم غرائب الثورة الثقافية على المجتمع الصيني حتى هروبها إلى كندا .فكل فكر لا بد وان يعمق حالة الاغتراب الاجتماعي التي تعيشها شريحة من المجتمع بغض النظر عن موقعها المكاني والجغرافي . فكرة الصراع متجددة لأنها تظهر بأنماط مختلفة ولأننا نقرأ الفكرة في زمن ومكان مختلف فنظنها فكرة جديدة .
سمعت النداء بالتوجه للبوابة رقم خمسة للذاهبين إلى الرياض ولم انتبه إلى رقم الرحلة فخلت أن النداء موجه لي فلملمت أغراضي وحشوتها داخل الشنطة اليدوية وأخذت مكاني في طابور المسافرين وعندما وصلت لموظف المطار فاجأني بقوله :" هذه رحلة رقم 1028 " . أجبت :" اعرف إنها رحلة 1028 أليست الرحلة متجه إلى الرياض ؟". أوضح لي أن الرحلة المتجه إلى الرياض حاليا هي برقم 1030 والتي كان موعد إقلاعها الساعة السابعة والنصف صباحا ورحلتك هي التي بعدها ". ثبتني موظف المطار على حالة من اليقين بان رحلتي سوف تتأخر ولم يعلمني عن موعد إقلاع رحلتي القادمة .
الآن أدركت سبب الازدحام في صالة الانتظار إذ أن كمبيوتر المطار كان معطلا مما جعل إدارة المطار تلغي كافة الرحلات فعجت الصالات بأعداد المسافرين الذين تاهوا مثل الغنم لافتقارهم لخطة بديله وعدم معرفتهم في كيفية الانتظار ولم تقترح عليهم إدارة المطار أي بديل ولم تعلمهم عن موعد إقلاع رحلاتهم الجوية البديلة المغادرة وهل هذه هي نفس البوابة التي سيصعدون من خلالها إلى الطائرة البديلة . وان شاشات الإرشاد والاستعلام لم تعمل حتى بعد أن أعيد العمل بنظام الكمبيوتر .
لم يكن أمامي من بد غير التصبر والانتظار مع هذا الحشد من الكرنفال الذكوري في صالة الانتظار إذ أن لباس الرجال من كل لون وطراز وبيئة أما النساء فكن متشحات بالسواد .
خاطبني مسافرا تائها :" هل هذه الرحلة متجهة إلى اسطنبول ؟" . أشفقت عليه بالرد :" أنت في صالات الرحلات الداخلية اذهب إلى صالات الرحلات الدولية ". ودعني بقول شكرا . وذهب يبحث عن مبتغاة . سمعت طرفا من حوارا بنبرة صوت عالية ما بين موظف المطار ومسافرا متأخرا عن رحلته المتجه إلى الرياض رقم 1030 . قال له موظف المطار :" يا أخي إذ بعد أن أقلعت الطائرة الساعة الحادية عشر والتي كان موعدها الساعة السابعة والنصف وتأتي متأخرا هل هذا معقول " شعر المسافر أنه مثل مرآة مقعرة تصغر نفسه وغادر الطابور .
قدمت لي سيدة فلبينية بطاقة صعودها للطائرة مستفسرة عن بوابة الصعود أوضحت لها أن رحلتها متجهة إلى طريف وعليها التوجه إلى بوابه رقم 7 . وسمعت مسافرا باكستانيا يتحدث بانفعال عبر جواله ولم افهم منه غير كلمة"أتشا" .
شكل المسافرون حلقات تجمعية ليناقشوا ما يودون مناقشته من حوارات ارتجاليه عفويه لتمضية الوقت فطرق مسامعي شخصا يقول :" وقعت المعاملة من المدير والا ما يحتاج " . مسافر آخر يشرح عبر جواله الوضع :" تأخرت الطائرة . السستم كله ضارب في المطار " .
على حين غفلة مني دفعت امرأة رضيعها لي :" يا خوي احمله شوي حتى أسوي الحجاب " حملت الرضيع وشكرتني المرأة . لفت نظري فلبيني مارا من أمامي إذ كان يضع نظارته على اذنيه من الخلف وكأن عيناه تقعان في المنطقة المتصلة ما بين الرقبة وقاع الجمجمة هل وضع النظارات بهذه الطريقة هي نوع من الحركة الاحتجاجية أم تعبيرا عن اليأس فلا يريد أن يرى ا لواقع من الأمام بل ينظر إليه من الخلف ؟ أم أنه يخاف ضجر الحياة ؟ نادى على مسافر فلبيني آخر بلغة التجالوج : " قبايان " . وتابعا حديثهما ربما (أقول ربما ) عن خطط حياتهما المستقبلية الإنسانية .
استفسر احد المسافرين مني ما إذا كانت هذه الرحلة لخطوط سما وعندما أجبته بأنني "لا اعرف" رد أنت مسافر مع سما؟ سؤاله المكرر رفع ضغطي فزممت شفتاي ورفعت لساني إلى بداية سقف حلقي وأصدرت صوت "تشك ".
اشتكت امرأة من طول الانتظار فطلبت من ابنها بعمر 8 سنوات :" خذ شيل أخوك ومشيه . امسك ظهره كويس وروح اسأل موظف المطار عن موعد طيران الدمام ؟" امتثل الولد لأمر أمه .
استغاث بي مسافر :" لسه ما في أخبار عن رحلة 1028 ؟ قلت له أن هذا المسافر البنجالي لم يحظ بأي جواب من ذاك عامل النظافة البنغالي .
خاطبني مسافر آخر كان على عجلة من أمره :" هذا رايح فين ؟ ابها !" . " الله أعلم " كان جوابي .
شنفت أذناي لحوار ضاحك حين قال مسافر :" طيب من أحسن بريده والا الدوادمه ؟" أجاب متلقي السؤال :" بريده " لكنه بدوره رد بسؤال آخر :" مين أحسن الإسكندرية والا شرم الشيخ ؟" جاء الجواب المتذاكي الضاحك :" الإسكندرية _ الإسكندرية ما فيهاش حرام . شرم الشيخ كلها حرام " .
اكتشف مسافر سوداني بالصدفة وجود زميل له لبناني :"كيف أخبارك . صحتك . رد اللبناني :" مش جيده " استفسر السوداني :" يا راااااااااا جل " .
في الركن بالقرب من البوفيه كانت محادثة طويله لمسافر :" أهلا وسهلا أبو مالك. البيت بيتكم . أنا بانتظاركم . لا زلنا في المطار . اعمل لي معروفا . افتح الفايل ( الملف ) وابحث في الاوفرز ( العروض ) لان الكستمر (العميل) يريد أن يركب الديفايز ( الجهاز ) قبل ما يرسل الدروينجز ( الرسومات ) وطلبت منه أن يرسل الدروينجز فول ديتيلز ( كامل التفاصيل ) أرجو الاتصال به واعمله فولو أب ( متابعه ) إحنا ون تيم أخوة .
حدثت نفسي بان استغل كل هذه الأفكار وأخطها حتى لا تطير ويصعب ملاحقتها واصطيادها فعدت أدراجي إلى البوفيه وجلست على كرسي وأمامي طاوله وتناولت القلم أكتب على سجيتي ما باحت به قريحتي . مر الوقت كالسهم وسمعت النداء للرحلة 1028 فقررت على عجلة من أمري أن انهي هذا النص فتذكرت حالة الفلسطيني في داخل مغتصبة السلطة الفلسطينية الذي يضيع ربع عمره في استخراج وتجميع المعاملات الحكومية للسلطة والدول العربية والربع الثاني من عمره في انتظار اجتياز الحدود العربية التي هي رجز من عمل الشيطان والربع الثالث يتركه للجيش الإسرائيلي ليقرر ما يشاء أن يفعله به ما بين نهايتين السجن أو الموت والربع ا لرابع يوزعه في اكتشاف قيادته لأنه منذ وجود المشكلة ا لفلسطينية لا توجد لنا قيادة وهي ملهاة مثالية للحفاظ على سرد الأخبار السارة على الشعب الفلسطيني فحسدت نفسي التي تتذمر من تأخر إقلاع الطائرة مدة ساعتين ومع ذلك احتسيت الشاي داخل صالة مكيفة واستمتعت بوقتي ولم يكن الوضع بذاك السوء بل وكتبت فإذا سارت أمور الرحلة على خير وما يهمني من الخير هو أن اصل بالسلامة فلن أضيف كلمة واحده بعد هذه النقطة .
Nfys001@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق