نقولا ناصر
يتأكد انسداد الطريق لحل الأزمة الداخلية الفلسطينية يوميا بدفق التصريحات الرسمية المنطلقة من رام الله الرافضة حتى للحوار حول حل للأزمة قبل تراجع حماس عن "انقلابها" في غزة بينما أكده لأول مرة من دمشق الأسبوع الماضي خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس التي لم تتوقف منذ حزيران / يونيو المنصرم عن تسريب الأخبار عن اتصالات أو حوارات للبحث عن حل لها ، هذه الأخبار التي كانت رئاسة السلطة الفلسطينية وحركة فتح التي تقودها تسارع فورا إلى نفيها . كما تأكد هذا الطريق المسدود "الداخلي" بفشل أكثر من تسع مبادرات للتوسط بين جناحي الأزمة وباستمرار صدور المراسيم والقرارات الرئاسية التي تضمن دون شك استمرار انسدادها .
أما خارجيا فتشير كل الدلائل إلى أن الوحدة الوطنية الفلسطينية ستظل محظورة أميركيا وإسرائيليا ومرتهنة لوهم الخروج بنتائج ملموسة من المؤتمر الدولي الغامض في أهدافه وفي هوية المشاركين فيه الذي اقترحه الرئيس الأميركي جورج دبليو. بوش في الخريف المقبل لإحياء عملية السلام الفلسطينية – الإسرائيلية ، وهو ما تراهن عليه الرئاسة الفلسطينية في رهان أخير كما يبدو على حلفاء وشركاء في عملية السلام أثبتوا منذ مؤتمر مدريد عام 1991 أنهم حلفاء وشركاء بعضهم فقط في حصار صانع القرار الفلسطيني حتى يرضخ لشروطهم ، بغض النظر عمن يكون صانع القرار هذا ، سواء كان الراحل الذي غدروا به ياسر عرفات أو خليفته الحالي محمود عباس الذي يحاصرونه حتى في إدارة الشأن الداخلي أو حماس التي تنازعه إدارة هذا الشأن في مناطق للحكم الذاتي إما محاصرة في قطاع غزة أو أعيد احتلالها في الضفة الغربية .
وربما يكون هذا الرهان الخاسر سلفا ، طبقا لتحليلات معظم المراقبين وتوقعات معظم السياسيين الفلسطينيين والإسرائيليين والعرب والأجانب لمؤتمر بوش المقترح ، هو السبب فيما تناقلته بعض وسائل الإعلام ونفته أو لم تؤكده الرئاسة الفلسطينية عن عزم الرئيس عباس ، إن فشل المؤتمر ، على الاستقالة وعن عملية بحث تجري عن خليفة له .
ويثبت قادة الاحتلال الإسرائيلي يوميا أن حظر الوحدة الوطنية الفلسطينية هو ثابت من الثوابت السياسية لدولة الاحتلال كما يثبت الراعي الأميركي لعملية السلام العقيمة حرصه المتواصل على إجهاض هذه الوحدة كلما لاح أمل في تجسيدها كما أثبت بعد اتفاق مكة وتأليف حكومة الوحدة الوطنية التي أعقبته . وينبغي للفلسطينيين قبل غيرهم أن يتوقفوا ، ليعتبروا ، عند ردود الفعل الإسرائيلية السريعة الغاضبة على الدعوات الفلسطينية والدولية الأخيرة إلى ضرورة الحوار و"العودة إلى الوحدة الوطنية" كشرط مسبق لمنع الأزمة المستحكمة بين أكبر حركتين تقودان النضال الوطني من أجل الحرية والاستقلال من التفاقم حد القطيعة التي لا رجعة عنها وكشرط مسبق لا غنى عنه لاستمرار ما وصفته رئاسة الوزراء الإسرائيلية ب"العملية الدبلوماسية" الجارية مع الرئاسة الفلسطينية كمدخل لاستئناف محتمل ل"عملية السلام" التي أوقفها فشل قمة كامب ديفيد الأميركية – الفلسطينية – الإسرائيلية أواخر عام ألفين .
وتُذكٌر ردود فعل تل أبيب الأخيرة على دعوتين إحداهما فلسطينية والثانية أوروبية حثتا على الحوار الوطني الفلسطيني بردود الفعل الإسرائيلية ضد اتفاق مكة وحكومة الوحدة الوطنية التي انبثقت عنه ، إذ ترى تل أبيب في أي محاولة وطنية أو من المجتمع الدولي لاستئناف الحوار لجسر الخلافات بين حركتي "فتح" و "حماس" والعودة إلى الوحدة الوطنية "خطأ فادحا" .
إن الدعوة الموجزة وغير الواضحة التي وجهها الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى حماس يوم الأربعاء قبل الماضي عقب لقائه مع وزير الخارجية الياباني تارو آسو في رام الله ل "العودة إلى الوحدة الوطنية" وكذلك الدعوة "العامة" إلى "الحوار" التي وجهها قبل ذلك رئيس الوزراء الإيطالي رومانو برودي قد أثارتا عاصفة إسرائيلية من ردود الفعل على دعوتين عامتين كانتا مجرد تلميح يندرج في إطار العلاقات العامة دون أن ترقى أي منهما إلى العرض الفعلي لمبادرة رسمية جادة .
فبعد ساعات قليلة فقط من دعوة عباس سارع مكتب رئيس وزراء دولة الاحتلال إيهود أولمرت إلى إصدار بيان يهدد الرئيس الفلسطيني بأن أي وحدة بين حماس وبين فتح ستقود إلى انهيار "العملية الدبلوماسية" مع إسرائيل . وأشار البيان إلى أن أولمرت أبلغ عباس أثناء اجتماعهما الأخير في أريحا بأن "التقدم" الذي تم إحرازه بينهما خلال الشهرين الأخيرين سوف ينتهي إذا انضمت حماس إلى الحكومة الفلسطينية مرة أخرى ، وأوضح أن عباس "يدرك جيدا" الموقف الإسرائيلي .
وكانت وزيرة خارجية أولمرت ، تزيبي ليفني ، قد أعلنت على ذمة رويترز ، خلال مؤتمر صحفي عقدته في 14 الجاري تعليقا على دعوتين من رئيس الوزراء الإيطالي رومانو برودي ولجنة العلاقات الخارجية في البرلمان البريطاني للحوار مع حماس: "إنني أعرف بأن المجتمع الدولي تواق لرؤية نوع من التفاهم بين حماس وبين فتح . هذا خطأ . إنه غلطة ، غلطة كبيرة وضخمة" . وهددت ليفني بدورها بأن "أي تسوية مع الإرهاب ، مع هؤلاء المتطرفين ، يمكن أن تقود إلى نسف الحكومة الجديدة في السلطة الفلسطينية" ، أي حكومة سلام فياض التي "يمكننا أن نتوصل إلى شيء" في "الحوار" معها.
وكان برودي قد خاطب مجموعة من الشباب الفلسطيني والإسرائيلي في معسكر للسلام على الساحل الإيطالي قائلا ، كما نقلت عنه وكالات أنباء إيطالية: "إن حماس موجودة ... ولا ينبغي لأحد أن يرفض الحوار مع أي كان" . وأصدر الناطق بلسانه سيلفيو سيركانا بيانا لاحقا قال فيه إن إغلاق الحوار مع حماس يمكنه أن يقود إلى توتير الأوضاع ، لكنه ميز بين "الاتصالات" وبين "المفاوضات" موضحا أن كليهما يمكن أن يجري بصفة "غير رسمية" . وقد رحب الناطق بلسان حماس سامي أبو زهري بتصريحات برودي قائلا إنها "تتزامن مع تصريحات إيجابية أخرى لمسؤولين أوروبيين" .
ولم تُفوٌت وزارة الخارجية الإسرائيلية حتى هذه "المجاملة" اللفظية التي خاطب بها برودي مجموعة من الشباب الفلسطيني والإسرائيلي ، ربما كان بعضهم مراهقا دون السن القانوني ، فسارعت إلى انتقادها: "إن أولئك الذين يدعون إلى إعادة إدخال حماس في المعادلة يرتكبون خطأ (لأن ذلك) سوف يشل عملية المصالحة فقط ويوقف قوة الدفع الراهنة" ، كما قال الناطق بلسان الوزارة مارك ريجيف .
وكانت لجنة الشؤون الخارجية بمجلس العموم البريطاني قد نشرت مؤخرا تقريرا بعنوان "الأمن العالمي: الشرق الأوسط" حث الحكومة البريطانية على فتح مناقشات مع حركات إسلامية منها حماس وحزب الله اللبناني و"الإخوان المسلمون" وجاء فيه أن بريطانيا قد أخطأت بمقاطعتها لحماس ، وأن مقاطعتها كانت أحد أسباب انهيار حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية ، وأنه ينبغي عليها الآن أن تساعد في إعادة حماس إلى حكومة مع السلطة الفلسطينية التي تقودها فتح . وحثت اللجنة رئيس الوزراء البريطاني السابق والمبعوث الخاص للجنة الرباعية الدولية توني بلير على التواصل شخصيا مع حماس لمصالحتها مع فتح وللضغط على الرئيس عباس للدخول في مفاوضات مع الحركة الإسلامية لإقامة حكومة وحدة وطنية .
وسارع السفير الإسرائيلي في لندن تزيفي هافيتز إلى شجب التقرير البرلماني البريطاني قائلا: "من المحزن أن تقترح لجنة برلمانية بريطانية مكافأة جماعة متطرفة ... بمنحها شرعية دولية" ، متجاهلا أن اللجنة البرلمانية البريطانية كانت متساوقة مع شبه إجماع دولي تشذ عنه إسرائيل وحليفها الإستراتيجي الأميركي فقط على أهمية استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية كشرط مسبق لنجاح أي عملية سلام مرجوة ومتغافلا عن حقيقة أن حماس أخذت شرعيتها من شعبها وحتى من خصمها الوطني الذي لم يطعن لا في شرعية وجودها ولا في الانتخابات التي حملتها إلى السلطة والتي موٌلها وراقبها المجتمع الدولي قبل أن ينقلب على نتائجها .
وإنها حقا مفارقة لافتة للنظر أن تسمح القيادة الفلسطينية لأن يكون هؤلاء "الأجانب" أكثر حرصا ، لفظيا وظاهريا في الأقل ، على الوحدة الوطنية الفلسطينية من الفلسطينيين أنفسهم وهي أيضا مفارقة أكبر أن تصر روسيا والنرويج مثلا على مواصلة اتصالاتهما بحماس بينما القيادة المفروض أنها للشعب الفلسطيني كافة تحرص على عدم تفويت أي فرصة لنفي أي خبر قد يكون صحيحا وقد لا يكون عن اتصالات لها بالحركة المحاصرة في القطاع ، في نهج أفشل حتى الآن تسع وساطات رسمية وشعبية لإصلاح ذات البين في الانقسام الفلسطيني كان آخرها المبادرة اليمنية ، بينما تكرر إسرائيل تهديدها بأن استمرار اتصالاتها مع الرئيس عباس وحكومة سلام فياض مشروطة ب"إبقاء حماس خارج اللعبة" كما قال الناطق بلسان الحكومة الإسرائيلية ديفيد بيكر للنيويورك تايمز في 13 الجاري .
لكن حتى إسرائيليين يعترفون بأنه "إذا لم تكن حماس في اللعبة فإنه لا توجد أي لعبة" كما كتب داني روبنشتاين ، وفي هذه الحالة فإن حماس وفتح سوف تشتبكان في الضفة الغربية قريبا جدا على الأرجح كما حذر رئيس دائرة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية البريغادير جنرال يوسي بايداتز أعضاء الكنيست (هآرتس في 7 الجاري) .
لغة إيجابية في إطار سلبي
لقد كانت دعوة عباس متساوقة تماما مع إجماع وطني وعربي وإسلامي ودولي على ضرورة الحوار والوحدة الوطنية وكانت افتراقا نوعيا ، لغويا في الأقل ، عن مواقفه السابقة المعلنة التي تتلخص بالرفض القاطع للحوار مع حركة المقاومة الإسلامية ، "جملة وتفصيلا" حسب تصريحات بعض قادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني التي يتزعمها وآخرين من كبار معاونيه من غير فتح ، ولم تكن دعوة صريحة لا لبس فيها إلى "الحوار" حول العودة إلى الوحدة الوطنية .
غير أن اللغة البناءة للدعوة أعادت للرئيس صورته التي عُرف بها تاريخيا كرجل حوار مع الأعداء قبل الأصدقاء ، وهي الصورة التي هزها خط تصريحاته الساخنة والغاضبة الرافضة للحوار منذ قادت الازدواجية في السلطة إلى انهيار الشراكة الوطنية قبل أكثر من شهرين . ودلت الاستجابة السريعة المُرحبة والبناءة بدورها لدعوته من حماس ووصفها دعوته ب"الإيجابية" ودعوتها له للتوجه إلى غزة على أن قطرة الأمل التي أسقطها قد نزلت فوق أرض عطشى للحوار والوحدة الوطنية ، بالرغم من تفسير بعض النافخين في نار الفتنة الوطنية لهذه الاستجابة "الحمساوية" بأنها تعبير عن حالة ضعف لا ينبغي الانخداع بها .
وكان يمكن لدعوة عباس أن تبعث الأمل فلسطينيا في إمكانية استئناف الحوار الوطني لوقف تفاقم القطيعة السياسية و"السلطوية" والجغرافية بين جناحي الشرعية الفلسطينية المنبثقة من صناديق الاقتراع لولا عاملين أولهما وأهمهما مسارعة دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى استباق أي توجه كهذا بالتهديد بإعادة العلاقات الفلسطينية – الإسرائيلية إلى ما كانت عليه قبل انهيار حكومة الوحدة الوطنية وثانيهما استمرار الرئاسة الفلسطينية وحكومة رئيس الوزراء سلام فياض في نهج معاكس لما أوحت به دعوة عباس .
فالاستثمار السياسي المستمر للحصار المحكم المفروض على حماس في قطاع غزة ، بالرغم من نفي رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات حيث: "لا أحد يفكر بهذه الطريقة في مكتب عباس" كما قال ، وكذلك الاستثمار السياسي لوضع المجلس التشريعي المشلول الناجم عن استمرار احتجاز ممثلي الشرعية الفلسطينية كرهائن في سجون الاحتلال من أجل استغلال "حالة الطوارئ" المعلنة لإصدار مراسيم رئاسية يوجد جدل واسع حول دستوريتها هدفها ترجيح الكفة في الصراع "الحركي" بين حماس وبين فتح أو تلبية الاستحقاقات الإسرائيلية التي تبنتها لجنة الوسطاء الرباعية الدولية أو كليهما ، إنما هو استثمار يتناقض مع مصداقية أي دعوة للعودة إلى الوحدة الوطنية ، بقدر ما يتناقض معها تكرار حماس لتجربة فتح في احتكار السلطة وصنع القرار الوطني .
وينبغي لردود الفعل الإسرائيلية السريعة والغاضبة على دعوة عباس ومثيلاتها أن تكون دافعا كافيا لوقف مثل ذلك الاستثمار السياسي ، سواء كان مقصودا أم غير مقصود ، ودافعا كذلك للتوقف عن تكرار الأحادية في السلوك السياسي التي قادت الوضع الفلسطيني إلى حالته الراهنة التي لا تسر صديقا ولا تغيظ عدوا .
إن استمرار القطيعة بين حماس وبين فتح وبين شرعيتين فلسطينيتين تطعن كل منهما في شرعية الأخرى ، وما يصاحب ذلك من تلاسن إعلامي يتصاعد حد "التخوين" والاتهامات المتبادلة بخدمة أجندات خارجية وإملاءات أجنبية ، إنما يشوه الصورة الشعبية للقيادتين تشويها ينسحب على أكبر حركتين تقودان النضال الوطني ، مما يخلق فجوة ثقة واسعة بينهما وبين الشعب الذي تتصديان لقيادته ، بغض النظر عما إذا كانت حججهما السياسية مقنعة أو غير مقنعة ، صحيحة أو غير صحيحة .
ويبدو الطرفان أسرى نشوة "الحسم" الذي حققه كل منهما ، كل في منطقته ، لإنهاء حالة الازدواجية في سلطة الحكم الذاتي ذات الرأسين التي شلت النضال الوطني الفلسطيني بكل أشكاله منذ وقوعهما في مصيدة إجراء انتخابات تشريعية في ظل الاحتلال أوائل عام 2006 ، متناسيين أن حسم كل منهما كان وما يزال مجتزأ ومنقوصا ، فما يزال "حسم" حماس" العسكري بالانقلاب القاعدي على مؤسسات الرئاسة الأمنية محصورا ومحاصرا في القطاع بينما ما يزال "حسم" فتح السياسي ب"انقلاب القصر" على "الشراكة" الوطنية التي وقعت الحركتان الاتفاق عليها في مكة المكرمة في 8 شباط / فبراير الماضي ، في أول إعلان عن القبول بنتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة والبناء عليها في إطار وحدة وطنية أساسها الشراكة .
فهذه الحرب الكلامية تصب في خدمة الاحتلال الإسرائيلي الذي طالما سعى إلى أن يكون عرب فلسطين ، سواء تحت الاحتلال أو في المنافي ، شعبا بلا قيادة وطنية وسياسية والذي يثبت قادته كل يوم أن حظر الوحدة الوطنية الفلسطينية هو ثابت من الثوابت السياسية لدولة الاحتلال .
فاستمرار الوضع الراهن يقود تدريجيا إلى تآكل المصداقية القيادية لقيادتي طرفي الأزمة ويهدد بتحويلهما من قيادات وطنية إلى قيادات فئوية وبتحويل رجالاتهما من قادة إلى مجرد "حكام" لا يعرف أحد كم ستطول قدرة بعضهم على إدارة شؤون الحياة اليومية في قطاع غزة المغلق والمحاصر بآلة الحرب الإسرائيلية أو إلى متى سيستمر اعتراف تل أبيب وواشنطن ببعضهم الآخر حكاما للحكم الذاتي الذي أعيد احتلاله في ربيع عام 2002 في الضفة الغربية ، مما يهدد بخلق فراغ قيادي نتيجة للطريق المسدود الذي وصل الحوار إليه بين الحركتين وكذلك للطريق المسدود الذي وصل إليه الحوار داخل فتح نفسها التي قادت العمل الوطني طيلة الأربعين عاما المنصرمة والتي أوصل الانقسام داخلها في المقام الأول الوضع الوطني إلى ما وصل إليه الآن ، بالرغم من النفي المتواصل لعدم وجود أي انقسام داخلها .
إجماع وطني على الحوار والوحدة
طبقا لاستطلاع للرأي أجرته مؤسسة "فافو" النرويجية ، ومولته وزارة خارجية النرويج ، في الفترة بين 2 – 12 الشهر الماضي ، أي عندما كانت ردود الفعل في ذروة حدتها ، ونشر في 23 تموز / يوليو الماضي ، فإن المصالحة الوطنية هي بالنسبة للفلسطينيين أهم من محادثات السلام مع لإسرائيل حيث يريد 85% منهم مفاوضات بين الحركتين المتصارعتين يؤيدها 91% من الحمساويين و 73% من الفتحاويين .
إن الرئيس عباس مطالب بإثبات أن دعوته إلى حماس "للعودة إلى الوحدة الوطنية" لم تكن غيمة صيف أو زلة لسان أو مجرد تكتيك في سياق القطيعة اقتضاه شبه إجماع وطني وعربي ودولي على ضرورة الحوار والوحدة الوطنية ، إجماع يشذ عنه بالطبع الإسرائيليون وحليفهم الاستراتيجي الأميركي ، كما أنه مطالب بتوضيح ما يقصده من دعوته . فهل يقصد بالعودة إلى الوحدة الوطنية عودة إلى حكومة وحدة وطنية على أساس الشراكة طبقا لاتفاق مكة أم يقصد عودة إلى وضع الازدواجية القاتل الذي تفجر دما محرما وانقساما تحظره المصالح العليا الحقيقية للشعب الفلسطيني وقطيعة يسعى الاحتلال إلى ترسيخها كواقع سياسي لا رجعة عنه يجعل الحديث عن أي "مشروع وطني" فلسطيني لغوا لا يقنع صديقا ولا عدوا ؟
لقد كانت المطالبة بوقف الحرب الكلامية قاسما مشتركا بين جميع المبادرات ومقترحات الحل الفلسطينية تمهيدا لحوار وطني يعيد الوحدة الوطنية على أساس الشراكة ، في الأقل بين الحركتين الرئيسيتين في البداية ، خصوصا في الوضع الراهن حيث تغيب أي إمكانيات واقعية في الأمد القريب لإفراز "طريق ثالث" بديل للحركتين ، بالرغم من كثرة العناوين السياسية الفلسطينية التي تجهد عبثا حتى الآن لتطوير مثل هذا "البديل الثالث" . إن "البديل" الوحيد المتبقي هو عودة صدوق إلى وحدة وطنية صادقة تنهي إلى غير رجعة الأوهام التي ما زالت تراود البعض بإمكانية "استئصال" البعض الآخر .
وتقول الرئاسة الفلسطينية و"فتح" إنهما ترفضان الحوار مع حماس على أساس "الأمر الواقع" الذي خلقته الحركة في القطاع ، وليس لأنهما ترفضان الحوار معها من حيث المبدأ ، ولذلك تطالبانها قبل الحوار بالعودة إلى الوضع السابق على "الانقلاب" الذي قادته هناك ، لكن لم يعد سرا أن تيارا رئيسيا في رام الله ما زال يراهن على أن يرهق الحصار حماس حد التراجع طوعا عما أقدمت عليه ولذلك يفسر دعوة الحركة الإسلامية المتكررة إلى الحوار بأنه تعبير عن حالة ضعف لا ينبغي الاستجابة لها .
إن توجه الرئيس عباس لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية كمخرج من الأزمة لا يحظى ، طبقا ل "فافو" ، إلا بتأييد 33% من الفلسطينيين بينما لا يؤيد اللجوء إلى "استفتاء" سوى 16% فقط . وكان آخر المشككين في "جدوى" الانتخابات رئيس وزراء حكومة الطوارئ فياض نفسه . وبغض النظر عن الطعن على نطاق واسع في شرعية هذه الدعوة إلى الانتخابات وعن استحالة إجرائها لأسباب عملية ليس أقلها معارضة حماس لها والانفصال القائم أمنيا وسياسيا بين القطاع وبين الضفة فإن التوجه إليها ما زال يندرج في سياق الخيارات التي طرحت للانقلاب على نتائج الانتخابات التشريعية في كانون الثاني / يناير 2006 .
وكل الفصائل المتحالفة أو المؤتلفة مع فتح في إطار منظمة التحرير الفلسطينية ، خصوصا منها من كانت شريكة لها في مسيرة أوسلو وبالتالي مسؤولة مثلها عما آل إليه الوضع الوطني منذ عام 1993 ، أو تلك العضو في المنظمة لكنها معارضة لأوسلو دون أن تغير معارضتها شيئا حتى وصول حماس إلى مؤسسات أوسلو ، أو الفصائل غير الأعضاء في المنظمة ، تكاد تجمع في مبادراتها ونداءاتها لحل الأزمة على الحوار والتوافق الوطني كشرط مسبق لإجراء الانتخابات ويشاركهم في ذلك حتى قوى نشأت في ظل أوسلو ولم تكن موجودة كقوى سياسية قبل ذلك مثل "مبادرة" مصطفى البرغوثي وكذلك شخصيات مثل حنان عشراوي "شريكة" رئيس وزراء الطوارئ فياض في "الطريق الثالث" الذي أوصل كلاهما إلى عضوية المجلس التشريعي لسلطة الحكم الذاتي والتي كانت وما زالت من أفصح المدافعين عن اتفاقيات أوسلو ، ناهيك عن شخصيات في اتجاه معاكس تماما لها ثقلها الوطني والتاريخي والثقافي مثل جورج حبش وشفيق الحوت وأنيس الصايغ وبيان نويهض وصلاح الدباغ وأحمد اليماني (أبو ماهر) وبسام الشكعة ووحيد حمد الله وغازي الصوراني وحسن الخطيب وغيرهم ممن وجهوا نداء مشتركا للحوار الوطني "الشامل" معتبرين أن الاستقواء بالشرعية "في رام الله أو في غزة" هو بلا أساس ولا مبرر في ظل استمرار هجوم الاحتلال على الوطن والمواطنين وأن "لا شرعية إلا شرعية الوحدة الوطنية والنضال التحرري الديموقراطي لطرد الاحتلال" .
قوتان نافذتان لهما رأي في الأزمة
غير أن اشتراط الحوار والتوافق الوطني للحل يكتسب أهمية سياسية أكبر عندما يأتي من قوتين نافذتين على ارض الواقع مثل "فتح" نفسها ومثل رجال أعمال من وزن المليونير النابلسي منيب المصري ممن لهم دورهم القيادي في اقتصاد الأراضي المحتلة منذ عام 1967 حيث تبلغ حصة القطاع الخاص في إجمالي الناتج الوطني أكثر 74% . فالمصري الذي قال للجروزالم بوست الإسرائيلية مؤخرا إن على الفلسطينيين نقل تركيزهم من السياسة إلى الاقتصاد والرياضة ، يُعدٌ حاليا مع غيره من "المؤسسين" لإعلان حزب "سياسي" جديد ، إذ "مع الاستقطاب في الشارع نشعر بحاجة كبيرة إلى جسم جديد توجد مساحة كبيرة له في السوق" كما قال مؤسس آخر هو سعد عبد الهادي للواشنطن بوست في 18 الجاري ، مضيفا أن "لا حماس ولا فتح لديها الجواب" .
وربما تلقي ضوءا على توجهات الحزب الجديد سلسلة المقالات الأخيرة التي نشرها من يُعتبر ناطقا باسمه وهو الصحفي الفلسطيني المعروف هاني المصري ، الذي رفض قبول منصب وزير الإعلام في حكومة الطوارئ وهو "مدير عام" في الوزارة . حول اقتراح الرئيس عباس الذهاب إلى انتخابات مبكرة الذي درسته اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية خلال يومين متتالين من الاجتماعات أواسط الشهر الجاري دون أن تتوصل إلى قرار ، قال: " حتى تكون الانتخابات حلا ، يجب أن يسبقها توافق وطني على إجرائها (و) ... اتفاق على المرجعية وقواعد اللعبة الديموقراطية" .
وتعليقا على ما رددته وكالات الأنباء عن مرسوم رئاسي جديد قيد الإعداد لحظر مشاركة مرشحين في الانتخابات ممن لا يعترفون بمنظمة التحرير والاتفاقيات التي وقعتها مع إسرائيل كتب هاني المصري: "إن الوضع الذي نعيش فيه غيب تماما المجلس التشريعي ، مجلس الشعب ، الأمر الذي وضع كل السلطات والصلاحيات في يد الرئيس ، ما ينذر – بصرف النظر عن شرعية ذلك قانونيا – بإرساء حكم فردي يتحكم فيه فرد واحد ، وما يعني إذا استمر أن الديموقراطية ستصبح في خبر كان" . وأضاف المصري الناطق بلسان حزب "المصري" قيد الإنشاء: "إن إلزام الآخرين باتفاق أوسلو هو إقصاء للآخرين" من النظام السياسي الفلسطيني "وهذا أمر خطير جدا ... بعد أن تجاوزت إسرائيل كليا هذا الاتفاق" ، ثم تساءل: "هل توافق كافة الأحزاب الإسرائيلية على اتفاق أوسلو قبل اشتراكها بالانتخابات؟"
لقد ركز المحللون على تفسير المواصفات السياسية الواردة في المرسوم الرئاسي المشار إليه التي تسربت إلى وسائل الإعلام بأنها تستهدف إقصاء "حماس" عن أي انتخابات مقبلة متجاهلين أن المُستهدف هو تيار وطني وقومي وإسلامي غالب في الساحة الفلسطينية عارض وما زال يعارض اتفاقيات أوسلو وما انبثق عنها وحماس ليست إلا كاسحة ألغامه ويأتي في رأس هذا التيار شرائح قيادية في فتح نفسها وفصائل مخضرمة في عضوية منظمة التحرير . وقد انتبه إلى ذلك المحلل السياسي الفلسطيني بلال الحسن .
كتب الحسن: "تتجاوز هذه المسألة التنظيمات الموجودة خارج إطار المنظمة، لتشكل مساسا بالتنظيمات، ومساسا بالأفراد، الموجودين داخل إطار المنظمة. فهناك العديد من القرارات الفلسطينية التي كان لها دائما مؤيدون ومعارضون. فهل سيؤدي مثل هذا القرار ـ إذا صدر ـ إلى المطالبة بطرد كل من عارض في السابق قرارا من قرارات منظمة التحرير الفلسطينية؟ لنأخذ مثلا من النهايات وليس من البدايات. حين اتخذ قرار تعديل الميثاق عام 1994 (دورة المجلس الوطني الـ 21)، وحين اتخذ قرار إلغاء الميثاق عام 1998 (الاجتماع المشترك بحضور الرئيس الأميركي بيل كلينتون)، وكان هناك مؤيدون (أغلبية)، وكان هناك معارضون (أقلية)، فماذا سيكون الموقف من هؤلاء المعارضين بعد صدور القانون الجديد؟ هل سنفصلهم، أم سندعوهم إلى التوبة؟ وحين جرى توقيع اتفاق اوسلو عام 1993، كان هناك مؤيدون وكان هناك معارضون، وكان من بين المعارضين أعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني، وفصائل فدائية بأكملها. فماذا سيكون الموقف من هؤلاء المعارضين، هل سيمنعون من ترشيح أنفسهم، أم سيطالبون بالإذعان لخط سياسي واحد وحيد؟ ولنتذكر هنا أن أعضاء كبارا في قيادة حركة فتح، عارضوا تعديل الميثاق، وأدلوا بتصريحات قاسية ضد التعديل (محمد غنيم/ابوماهر، فاروق القدومي، هاني الحسن، صخر حبش، محمد جهاد..... وآخرين)، وقالوا إن تعديل الميثاق يعني إلغاء منظمة التحرير الفلسطينية، ويعني إلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين" .
وبطريقة ذكية نقل المصري "الصحفي" في "حوار مع صديقي القاضي" الفلسطيني قول القاضي إن "حكومة إنفاذ الطوارئ" بدعة غير قانونية فرضتها الضرورة وإن الرئيس "لا يستطيع أن يحل المجلس التشريعي أو يدعو لانتخابات مبكرة أو يشكل حكومة طوارئ" وأن اللجوء إلى منظمة التحرير ومجلسها المركزي بديلا للمجلس التشريعي "من ناحية الموضوع" لا الشكل ليس صالحا قانونيا لأنها "غائبة ومشلولة ولم تعد تحظى بالثقة والرضى من قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني ، رغم أنها لا تزال شرعية ، لكن شرعيتها ضعيفة ومنقوصة ... فإذا كانت الانتخابات ستقسم الوطن والشعب أكثر من الانقسام الحالي ، فإنه لا معنى لها ، فهناك شرعيات أهم من شرعية القانون الدستوري ... وشرعية المقاومة والتحرر الوطني أعظم من شرعية صناديق لاقتراع" . وفي مقال منفصل قال هاني إن المنظمة "أصبحت مشلولة وأداة في يد السلطة بدلا من أن يكون العكس" .
لو لم نكن نعرف أن هاني المصري هو الكاتب لاعتقد القارئ أن ما كتبه هو أجزاء من بيان لحماس أو من تصريح لأحد قادتها ، مما يكشف مساحة واسعة للاتفاق سياسيا بين الحزب الجديد والحركة الإسلامية إضافة إلى قاسم اقتصادي مشترك آخر هام يجمعهما هو الاتفاق على اقتصاد السوق ودور القطاع الخاص . وقد لفت أنظار الأغلبية الساحقة "العاملة" من الشعب الفلسطيني أن أول بيان هام أعلنه رئيس وزراء حكومة حماس التي سبقت حكومة الوحدة الوطنية ، إسماعيل هنية ، كان بيانا يُطمئن فيه القطاع الخاص الفلسطيني دون أي إشارة مماثلة تُطمئن عمال فلسطين تحت الاحتلال .
والخلاصة في رأي هاني المصري هي أنه " لا يمكن عزل حماس وإسقاطها من الحساب بعد أن ... أصبحت جزءا من الشرعية الفلسطينية" وبالرغم من أنها " أجرت تغييرات عديدة على مواقفها وبرامجها ظهرت بموافقتها على إعلان القاهرة، والتهدئة، والاشتراك بالسلطة عبر الانتخابات واعتماد برنامج إقامة دولة على حدود 1967، وإرسال إشارات عديدة عن استعدادها للاعتراف بإسرائيل (وهو ما تنفيه الحركة) مقابل ثمن معقول ، وعن استعدادها للموافقة على دولة ذات حدود مؤقتة مقابل هدنة، ولكن كل هذه السياسات والإشارات لم تقبل منها ولم تفتح لها طريق الاعتماد كطرف فلسطيني أساسي من قبل الولايات المتحدة ولإسرائيل" .
نقطة البداية لحل الأزمة
أما القوة الثانية النافذة على أرض الواقع التي تشترط الحوار والتوافق الوطني للحل فهي تيار قوي داخل حركة فتح نفسها التي يُسجل لبعض رموزه أنهم مارسوا النقد الذاتي علنا ومنهم هاني الحسن وفاروق القدومي وجبريل الرجوب ، نقدا ذاتيا لم تبادله حماس بالمثل بالرغم من اعتراف رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل بارتكاب بعض الأخطاء أثناء السيطرة على غزة واعتذاره العلني الجريء عنها . وربما يكون النقد الذاتي المتبادل والعلني هو المدخل السليم لخلق بيئة عامة صحية تمهد لحوار جاد يقود الحركتين إلى الوحدة الوطنية .
لقد اعترف القدومي والحسن والرجوب وغيرهم من قادة فتح بأن الحركة قد ارتكبت أخطاء لكن الحسن والرجوب تحديدا أثارا نقطتين هامتين تبددان الكثير من الخلط الناجم عن العصبية التنظيمية في الحرب الكلامية الساخنة بين الحركتين أولهما أن فتح والأجهزة الأمنية لم تهزم في القطاع لأتها لم تدخل المعركة أصلا ! فمع من كانت معركة حماس إذن ؟ ألا يعطي ذلك مصداقية لتكرار حماس القول إنها لم تستهدف لا فتح ولا الأجهزة الأمنية بل تيارا نافخا في نار الفتنة الوطنية لصالح أجندات خارجية ؟ ألا يؤكد ما تعلنه حماس من أنها لم تنقلب على السلطة والشرعية بينما حماس هي الإضافة الأحدث والأهم للشرعية الفلسطينية ؟
أما النقطة الثانية الهامة التي أثارها الحسن والرجوب فهي الفشل في إصلاح الأجهزة الأمنية وتوحيدها ، كما أوضح الأول في كلمته المكتوبة أمام المجلس المركزي للمنظمة الذي انعقد مؤخرا في رام الله وكما قال الثاني في مقابلة أجرتها معه قناة "العربية" الفضائية ، التي قال الرجوب فيها إنه سبق أن حذر من انفجار كالذي حدث في غزة إذا لم يتم إصلاح الأجهزة الأمنية . وهذا النقد الذاتي يعيد الأزمة إلى أصولها ويعيد تسليط الأضواء على أن نقطة البداية لحل الأزمة لا تبدأ من اعتراف حماس ب"الخطيئة" أو ب"الجريمة" أو ب"الانقلاب" الذي قامت به في غزة وبإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل ذلك حيث يعود الجميع إلى الدوران في الحلقة المفرغة ولا تبدأ من اعتراف فتح والرئاسة ب"انقلاب القصر" على نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة وبالتراجع عن أكثر من 100 مرسوم وقرار رئاسي أصدرها عباس فعمقت الانقسام الوطني ، بل تبدأ بحوار وطني يوصل إلى توافق وطني على أسس وطنية لا فئوية لبناء الأجهزة الأمنية ولدورها ، وهذا مطلب وطني وهو كذلك مطلب قديم للمانحين الدوليين لسلطة الحكم الذاتي وإن اختلفت الأهداف .
لقد فشلت المبادرات المنفردة أو المشتركة للفصائل الأخرى الأعضاء وغير الأعضاء في منظمة التحرير ، وخصوصا مبادرات الجبهتين الديموقراطية والشعبية و"المبادرة" ، لأن نقطة البداية فيها كانت مطالبة حماس بالتراجع أولا دون أن تأخذ في الحسبان أن حسم حماس في غزة كان نتيجة الأزمة لا السبب فيها ، مما حول هؤلاء المبادرين عمليا إلى جزء من الأزمة بدل أن يكونوا جزءا من الحل لأنهم في الواقع تبنوا تكرار مطالبة حماس بأن " تعيد السلطة على قطاع غزة للشرعية الوطنية برئاسة الرئيس محمود عباس وأن تحل هذه المليشيات القاتلة والدموية التي أصدر الرئيس قرارا بحلها" ، كما صرح "مستشار الرئيس لشؤون منظمة التحرير الفلسطينية والناطق الرسمي باسم حركة فتح" أحمد عبد الرحمن يوم الأحد الماضي ، متناسين جميعا أن إصرارهم المتواصل على تجريد حماس من الشرعية لن يغير من واقع شرعيتها شيئا وأن القفز على نتائج الانتخابات الشرعية التي أوصلتها إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية للحكم الذاتي تحت الاحتلال ليس هو الطريق الصحيح إلى حل الأزمة وأن الاستمرار في اعتبار القوة التنفيذية التي أنشأتها حكومتها الشرعية "خارجة على القانون" سوف يعقد الأزمة ، فنقطة البداية للحل هي التوافق الوطني بالحوار على دور الأجهزة الأمنية وإصلاحها وحل مشكلة "القوة التنفيذية" في هذا السياق .
إن الرؤية الإستراتيجية لدور الأمن في النضال الوطني التي يطرحها جبريل الرجوب والنقد الذاتي الذي مارسه وهاني الحسن وغيرهما مدخل لحل الأزمة جدير بالمقابلة بالمثل من طرف حماس وبالتعاطي معه بأفق وطني وبمعزل عن الفئوية الضيقة والعصبية التنظيمية من الطرف الآخر . لقد كان عدم انصلاح الأجهزة الأمنية واستخدامها أداة في الصراع السياسي بين الحركتين هو الهدف المعلن لل"الحسم العسكري" الذي أقدمت عليه السلطة الشرعية لحكومة الوحدة الوطنية التي تقودها حماس بواسطة القوة التنفيذية التي تستمد شرعيتها من الشرعية التي أنشأتها والتي رفضت الشرعية الثانية للرئاسة الاعتراف بشرعيتها قبل أن تصدر مرسوما رئاسيا يحظرها باعتبارها "قوة خارجة على القانون" بعد أن "استقلت" شرعيتا الازدواجية الفلسطينية كل في المنطقة التي تتخندق فيها حاليا بانتظار فرصة للانقضاض سياسيا أو عسكريا على الأخرى ، اللهم إلا إذا نجحت الوحدة الوطنية في الحيلولة دون مواجهة كهذه .
لكن بالرغم من نفوذ هذا التيار في فتح ونفوذ القطاع الخاص ، سواء نجح رجال أعماله في إنشاء حزبهم أم لم ينجحوا ، وبالضد من شبه الإجماع الوطني على الأهمية الحيوية للحوار والوحدة الوطنية ، فإن طريق الحوار لم ينفتح بعد لتظل الوحدة ممتنعة داخليا حتى يفقد المراهنون على تعب حماس أملهم في أن يجبرها الحصار على التراجع وحتى يكتشف اللاهثون وراء ظلالهم بحثا عن ربيع سلام في خريف مؤتمر بوش المقبل أنهم إنما يلهثون وراء وهم .
nicolanasser@yahoo.com
* كاتب عربي من فلسطين -
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق