الجمعة، ديسمبر 04، 2009

أصول المعاش وسياسة الأحوال عند الفارابي

زهير الخويلدي

" قصدنا في هذا القول ذكر قوانين سياسية يعم نفعها جميع من استعملها من طبقات الناس في متصرفاته مع كل طائفة من أهل طبقته ومن فوقه ومن دونه على سبيل الإيجاز والاختصار."[1]

لم نعرف فيلسوفا عربيا معتنيا بالسياسة وأمور المدينة والأفعال الإرادية والشيم الأخلاقية قدر اعتناء المعلم الثاني أبي نصر الفارابي والدليل على ذلك أن معظم كتبه ومؤلفاته ورسائله لم تخلو قط من أفكار اجتماعية وتوجيهات أخلاقية وتدبيرات سياسية بداية بكتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة" ثم السياسة المدنية" و"فصول المدني" و"كتاب الملة" مرورا بجوامع نواميس أفلاطون و"السياسة الملوكية" إلى أن ننتهي بتحصيل السعادة والتنبيه على سبيل السعادة وفصول منتزعة وكتاب في الاجتماعات المدنية. ولكن الجديد في هذا المضمار هو اكتشاف "رسالة في السياسة" بعد أن ساد الخلط عند المؤرخين بينها وبين "كتاب جوامع السياسة" وقد وقع تحقيقها عن طريق على محمد اسبر بالاعتماد على نسخة شيخو ونشرها مؤخرا من طرف دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر دمشق 2006 .

الإشكال الذي يطرح في هذا السياق هل أن رسالة في السياسة هي التي ذكرها ابن أبي أصيبعة في عيون الأنبياء بكتاب السياسة المدنية أو مبادئ الموجودات" أم أنها هي عينها "كتاب جوامع السياسة"؟

الجدير بالذكر أن رسالة الفارابي في السياسة تتكون من خطبة يذكر فيها الفكرة العامة للبحث ومقدمات تتضمن تقصيا للطبيعة البشرية ومدى الحاجة إلى تدبير سياسي وأخلاقي لعلاقة الفرد مع نفسه ومع الجماعة التي ينتمي إليها والجماعات المغايرة لها على السواء.

كما تنقسم الرسالة إلى خمسة محاور وهي على النحو التالي:

- معرفة الخالق وما يجب لعزته

- ما ينبغي أن يستعمله المرء مع رؤسائه

- ما ينبغي أن يستعمله مع أكفائه

- ما ينبغي أن يستعمله المرء مع من دونه

- في سياسة المرء نفسه

ما نلاحظه أن الفارابي استعمل صيغة الواجب وفعل ينبغي وهو ما يؤكد النظرة المثالية التي يفكر بها في الأمور السياسية ولكنه دعا إلى الاعتبار من أحوال الناس وإمعان النظر في أعمالهم وبحث عن القوانين وتطرق إلى النسبي والإمكان وفكر في التدبل والتغير الذي يطرأ على الأمم بفعل الانتقال في المكان أو الاختلاف في اللسان والدين والعرق والثقافة والزمان.

الملاحظة الثانية هي أن الفارابي حافظ على نفس التراتب الاجتماعي والبناء الهرمي عندما ذكر طبقة الرؤساء (الفوق) وطبقة الخدم (التحت) وعامة الناس (الأكفاء) ولكنه أشار إلى ضرورة أن يسوس المرء نفسه أي ن يعتني بذاته بلغة الرواقية واعترف بتناهي الطبيعة البشرية بقوله "ليس في أجزاء العالم ماهو كامل من جميع الجهات"[2].

من جهة ثالثة يمكن أن نستنتج أن الفارابي حاول فهم السياسة لا من جهة القوة الناطقة العقلانية للإنسان التي يتميز بها عن بقية الكائنات بل من جهة القوة البهيمية التي يشترك فيه مع بقية الحيوانات لأنه رأى أن المشكل ليست في الإرادة والاختيار التي يتمتع بهما الكائن العقلاني بل في الغريزة والمزاج التي لهما الكلمة على النفس. يقول حول هذا الموضوع:"القوة البهيمية إذن أغلب عليه وكل ما كان أقوى وأغلب فالحاجة إلى إخماده وتوهينه وأخذ وأهبة والاستعداد له أشد وألزم."[3]

الملاحظة الرابعة أن الفارابي في هذه الرسالة يعطي الأولوية للمصلحة ويجعل المرء يميل إلى النافع وينفر من الضار من الأعمال وهو ما يكسبه نظرة ذرائعية صريحة تفرق بين السياسة الصالحة تحرص على التمسك بالأمر المحمود والسياسة الفاسدة التي تسقط في ارتكاب الأمر المذموم. ألم يقل هو نفسه:"إن المرء لا يخلو في جميع تصرفاته من أن يلقى أمرا محمودا أو أمرا مذموما وله في كلاحة من الأمرين فائدة إن استفادها"[4]؟

في كتاب فصول منتزعة ينسب الفارابي في مفهوم السياسة بقوله:"ليست السياسة على الإطلاق جنسا لسائر أصناف السياسات بل هي كالاسم المشترك لأشياء كثيرة تتفق فيه وتختلف في ذواتها وطبائعها"، لكنه ينفي وجود أية شركة بين السياسة الفاضلة والسياسات الجاهلية لاسيما وأن"السياسة الفاضلة هي التي ينال السائس بها نوعا من الفضيلة ما لا يمكن أن ينال إلا بها...، وينال المسوسين من الفضائل في حياتهم الدنيوية والحياة الآخرة ما لا يمكن أن ينال إلا بها. أما في حياتهم الدنيوية فإن تكون أبدانهم على أفضل الهيئات التي يمكن في طبيعة واحد منها أن يقبلها وتكون أنفسهم على أفضل الحالات التي يمكن في طبيعة نفس من أنفس الأشخاص وفي قوتها من الفضائل التي هي سبب السعادة في الحياة الآخرة ويكون عيشهم أطيب وألذ من جميع أصناف الحياة والعيش الذي لغيرهم" [5]أما" كل صنف من أصناف السياسات الجاهلية يشتمل على أصناف مختلفة ومتباينة حدا. فمنها ماهو في غاية الرداءة ومنها ما ضرره يسير ومنفعته كثيرة بحسب قوم بأعيانهم وذلك لأن حال السياسات ونسبتها إلى الأنفس كحال الأزمان ونسبتها إلى الأبدان ذوات الأمزجة المختلفة."[6]

إن السياسة الفاضلة تقوم على التعقل والحكمة العملية وامتلاك الفاضل للقوة التجريبية والتدرب على صناعة التدبير بالنسبة للنفس عند الفرد وللمدينة عند الجماعة ،أما السياسات الجاهلية فتقوم على التغلب والشرور والخساسة والسفسطة وتنتج رديء العيش وتحرم الناس من نعمة الحياة ولذائذ الدنيا.

المسألة الرئيسية التي يمكن معالجتها من خلال هذه الرسالة القديمة من حيث الأصل والجديدة من حيث المراجعة والتحقيق تتعلق بتدبير المرء لنفسه ومدينته وبطبيعة العلم المدني ومنزلته من الفلسفة والسياسة والأخلاق عند الفارابي؟ ويمكن تحويل هذا الموضوع إلى الإشكالية التالية: هل تدبير الممكن في سياسات الفارابي يدور حول قيمة واحدة أم يطرح تعددا في مستوى المعايير؟

يحدد الفارابي غرضه من العلم المدني بقوله:" إن أنفع الأمور التي يسلكها المرء في استجلاب علم السياسة وغيره من العلوم أن يتأمل أحوال الناس وأعمالهم ومتصرفاتهم ما شهدها وما غاب عنها مما سمعه وتناهى إليه منها وأن يمعن النظر فيها وأن يميز بين محاسنها ومساوئها وبين النافع والضار لهم منها. ثم ليجتهد في التمسك بمحاسنها لينال من منافعها مثل ما نالوا وفي التحرز والاجتناب من مساوئها ليأمن من مضارها ويسلم من غوائلها مثل ما سلموا..."[7]

بيد أن الأهم في هذه الرسالة هو ما ذكره الفارابي عن سياسة المرء نفسه أو ما نسميه اليوم في الفلسفة الإتيقية المعاصرة بالعناية بالذاتsouci de soi والذي كان عند ابن باجة تدبير المتوحد وأروع ما في نص الرسالة هو طلب الصلاح المادي الدنيوي والمعنوي الرمزي، إذ يصرح:"ينبغي للمرء أن يرجع إلى خاص أحواله فيميزها ويستعمل في كل حال من أحواله ما يعود بصلاحها.'[8]

ما يلفت النظر في هذه الجملة ليس مقصد الصلاح فحسب بل لفظ الخاص والتطرق إلى الحال وربما كان يعني رفض الحكم التعميمي على الإنسان واحترام الخصوصيات والفوارق بين الناس وكان يعني أيضا تحميل الإنسان مسؤولية الحال التي هو عليها من جهة المعاش والسلطة والصحة والجاه وتحريضه على الارتقاء بالتعويل على نفسه نحو مرتبة الوجود الأشرف.

" واجب على كل من يروم نيل الفاضل أن لا يتغافل عن تيقظ نفسه في كل وقت وتحريضها على ماهو أصلح له وأن لا يهملها ساعة فإنه متى أهملها لابد أن تتحرك نحو... البهيمي."[9]

هنا يثمن الفارابي ملكة الحذر والحيطة وأخذ العزم وإعداد العدة وأخذ الأهبة للأمور وينبه من إفشاء الأسرار للمناوئين ويدعو إلى التيقظ من العدو واستطلاع المعلومات عن المجتمع وطلب السلامة للناس وتحصين القرار والأسوار ويجعل مشورة ذوي العقول والألباب كقاعدة لسياسة الصالحة بقوله:"لابد للمرء من المشاورة مع غيره في آرائه وتدبيره، فينبغي أن يستودعها ذوي النبل وكبر الهمة وعزة النفس وذوي العقول والألباب."'[10]

غاية المراد هو المنفعة وسبيلها مزايلة الأدب وأفضل الحكم الجالبة للسعادة هي:لا تطلبوا من الأشياء ما أحببتموه ولكن أحبوا ماهي محبوبة في أنفسها."[11]

هذا أبلغ ما جادت به قريحة الفارابي الفكرية وحدسه الفلسفي من الأصول والقوانين التي متى استعملها المرء في معاشه وقاس عليها في متصرفات أموره وأسبابه استقامت به أحواله.

لكن البعض يعتقد أن أبي نصر الفارابي لم يخرج عن المنظومة الأكسيولوجية الإغريقية خاصة لما ترك لنا كتاب حول المدينة الفاضلة يشبه من حيث الظاهر كتاب الجمهورية لأفلاطون ولما حاول الجمع بين هذا الحكيم الإلهي والمعلم الأول حسب تعبير حكماء العرب ويشاع أيضا أنه ظل وفيا للفلسفة الأرسطية عندما اعتبر السعادة هي الغاية القصوى للحكمة البشرية وقيمة القيم وأنه جعل لتحصيلها أربع طرق: الفضائل النظرية والفضائل الفكرية والفضائل الخلقية والصناعات العملية وأن الزوج الأول: النظرية والفكرية يتقدم ويحدد الزوج الثاني:الخلقية والعملية.

ولكن مثل هذا الأمر يبدو مقبولا ومنطقيا من وجهة نظر التأليفية الأرسطية وغير منسجم وغير شرعي مع الإضافات والتنقيحات والتجديدات التي أجراها وقام بها الفارابي إلى العلوم الحكمية العربية وعلى هذه التأليفية الإغريقية خاصة من الناحية العملية ومن الناحية الإنشائية الصناعية الحيلية.

غير أن المشكل قد يتفاقم إذا افترضنا بديا أن العملي التدبيري من جهة والإنشائي الحيلي من جهة ثانية يفرضان منطقهما الخاص بهما على ابستيمية النظري ويحوران أسسه وهيكليته ونظام الخطاب فيه، لينفلت حبل العقال عند الفارابي بين النظر والعمل والصناعة وليفقد الأول زعامته ويفرض الثاني مبادرته بعد أن خسر تبعيته وليكون الثالث خير مجسم ووسيط بين سماء التجريد وغبار التجريب.

فهل يصح أو يجوز أن نعتبر أبي نصر قد جوف السياسة فأرداها علما قائم الذات يتدبر شعاب النفوس البشرية الوعرة ويدبر اقتصاديا المنازل والسكك والقرى والمدن ويقترب بذلك من حال السياسي؟

المراجع:

أبو نصر الفارابي، رسالة في السياسة، تقديم وضبط وتعليق على محمد اسبر، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر دمشق2006

أبو نصر الفارابي، فصول منتزعة، تحقيق فوزي متري النجار، دار المشرق بيروت،

[1] أبو نصر الفارابي، رسالة في السياسة، تقديم وضبط وتعليق على محمد اسبر، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر دمشق 2006، ص51.

[2] أبو نصر الفارابي، رسالة في السياسة، ، ص52

[3] أبو نصر الفارابي، رسالة في السياسة، ، ص53.

[4] أبو نصر الفارابي، رسالة في السياسة، ، ص54.

[5] أبو نصر الفارابي، فصول منتزعة، تحقيق فوزي متري النجار، دار المشرق بيروت، ص 92

[6] أبو نصر الفارابي، فصول منتزعة، ص -93

أبو نصر الفارابي، رسالة في السياسة، ص، ص52-53[7]

[8] أبو نصر الفارابي، رسالة في السياسة، ، ص75.

[9] أبو نصر الفارابي، رسالة في السياسة، ، ص53.

[10] أبو نصر الفارابي، رسالة في السياسة، ، ص77

[11] أبو نصر الفارابي، رسالة في السياسة، ، ص83.

ليست هناك تعليقات: