الجمعة، ديسمبر 04، 2009

دكتور شوقي شعث لازلت تسكُنني حتى رمقي الأخير



د. صائب شعث *

لم أكن اعلم بان واجبي بصلة الرحم في عيد الأضحى سينتهي بتقطيع قلبي إلي أجزاء صغيرة، تنزف كلها ألما بمجرد سماعي لخبر وفاة الرائع العالم الدكتور شوقي شعث. بهذا الراحل الكبير ربطتني أجمل العلاقات الإنسانية ، أخوة، أبوة ،عمومة، صداقة و عشق مشترك لفلسطين و روح رفاقية متناهية في حسها الوطني و الإنساني، حلم مشترك و هدف مشترك وطريق مشترك .

افترقنا من السنين طويلا ، ولكني اقسم وأجزم بأنك يا أبا الهيثم كنت معي دوما، في كل يوم في حلي و في ترحالي ،كنت أحدثك عن فرحي و أشكو لك قسوة الأيام ، مسافات شاسعة كانت تفصل بين بلاد الثلج و كثبان بلاد الرمضاء. في حمرة فجر كل صباح ،كنت تتشكل مبتسما دوما فوق غيمة سيارة تحط بالقرب من نافذتي نستكمل أحاديثنا تحتها و أخبرك بجديدي، و ابحث عن حلول لديك.

اشعر بقصر هامة شديد، عندما تنسج مخيلتي صورة هذا العالم المناضل الإنسان المكثر في التواضع ،الراحل الكبير البروفسور شوقي شعث " أبا الهيثم"، لا تستطيع حروفي أن تخط أو ترسم ولو جزء بسيطا من هذه الشخصية ،التنويرية النهضوية العربية العملاقة، ذات الصفات الإنسانية النبيلة التي ساهمت الى حد كبير في تطوير بعض جوانب الشخصية العربية الفلسطينية المعاصرة و صقلها بجوانب فكرية وبحثية دون جلبة.

اذهب لزيارته ، لاني اعشق رفقته و أثقل عليه بأسئلة تحتاج لأزمنة طويلة من الإجابات ، يسحبني من يدي ونمشي لا اعلم إلي أين، نسير و نمضي و هو يزودني بإجاباته، فجأة أجد نفسي في مكتب أكاديمي، أتابعه و هو يسعى للحصول على مقاعد دراسية لطلبة فلسطين بهذه الجامعة أو تلك الدولة. الحق به فأكتشف نفسي في دائرة شؤون اجتماعية للثورة الفلسطينية، يطرح للمسؤولين حال أسرة هذا الشهيد أو ذاك الأسير.انتظره على مقهى جامعي حتى ينتهي من محاضرة علمية يلقيها في تلامذته.

يلتفت نحوي فجأة كما لو انه تدارك شيئا كاد أن ينساه قائلا:" صائب هيا بنا ننطلق للبيت قبل أن تغضب منا " وزارة الداخلية" _ وزارة الداخلية المقصود بها هنا زوجته الفاضلة أم الهيثم ، ليت وزارات الداخلية و الخارجية مجتمعة لديها بعضا من الرُقي الذي يأسرك فور اللقاء وحسن ضيافتها العربية الأصيلة أو خصلة من إنسانيتها _.يكرر" هيا فأم الهيثم جهزت مأكولات خاصة لك اليوم" ، ندخل بيته المتواضع الذي تسكنه الكتب و يستضيف قاطنيه عنوة.

يحيي أسرته التي تناول معها إفطار الصباح، كأنه غاب عنها دهرا من الزمان، أكاد المس حرارة الشوق بينهم في حديث هيثم المتحمس و مداعبة حسن الصاخبة، و ضحكة هند المُعدية و ابتسامة جميلة التي تبث الطمأنينة في من هم حولها و دلال هالة أخر العنقود عليه. تدخل علينا وزارة الداخلية،" أم الهيثم" مرحبة، تفترش وجهها الجميل أوسع ابتسامة ، و تمسك بيده تسأله عن يومه ، و يجيبها " يوم هادئ كغيره"، أتعجب و أنا اسحب مقعد مائدة الطعام لأتهاوى عليه و أريح قدمي التعبتين... هادئ كغيره!، إذا ما هو الصاخب في أيامه... لقد اشتكى حذائي من المسير يا رجل.

سمعته يداعب " أم الهيثم " قائلا كرجل تاريخ و كعالم أثار " أنا أثمنك و اعتز بك أكثر كلما تقدم بك العمر أكثر". طريقته الفريدة و المتناهية في الرقي و التحضر كرجل أسرة ، أخذتها عنه بحذافيرها، كنت معجبا جدا بمنهجه التربوي كيف يصنع من أبنائه و بناته أصدقاء له، يضع فيهم الثقة و يحملهم المسؤولية بالتدريج، و يبث فيهم روح الإنتماء الوطني والقومي و الوفاء الأسري. كان يشركهم في تفاصيل حياته قولا و فعلا، و يهتم بأصغر التفاصيل في حياتهم اليومية و يهتم جدا لسماع يومياتهم التي يتحدثون عنها و يسال بشوق عن مزيد من التفاصيل، و كأنه بعمرهم جميعا. رجل أينما دبت قدماه تركت أثرا من الخير و علامة على الطريق الى الفضيلة.


كنت قادما للتو من جبل لبنان الى الشام، بهدف زيارته فقصدت دائرة التاريخ و التراث الفلسطيني- التي كافح لتأسيسها ليحافظ على التراث و الفلكلور الفلسطيني الذي أضحى هدفا للنهب و التزوير الصهيوني، أطلق العنان لحملة الحفاظ و صيانة تاريخ فلسطين و الوقوف أمام محاولات التشويه و التزوير الشرسة. -عانقني وأمسك بيدي و جال بنا داخل المركز.

كان بيتا عربيا شاميا قديما هالني جماله ببحرته التي توسطته و غرفه العتيقة التي تكاد أن تنطق بحكايات العشق العربي المطوية بين الجدران و تحاول أن تطل علينا بزخمها من شرفاتها و مشربياتها.": هذا البيت أهدته وزارة الثقافة السورية للمركز"، كانت الغبطة والفرحة والحماس تغلف هذه الكلمات و هو يدفع بها نحوي ، كالعدوى دب حماسة و فرحته في شراييني ، تجسدت أمامي أحلامه ، و ورشاته العلمية ، وهو يدور أرجاء المركز، يخبرني الى أين سيوجه بعثاته العلمية للطلاب الفلسطينيين وتحدث عن أفضل الجامعات العالمية التي سترحب بطلبته و كيف سيسخر علاقاته الدولية العلمية و المصداقية الأكاديمية العالمية المتميزة التي يتمتع بها لأجلهم. شاهدت الكثير من هذه الأحلام تتحقق و تتحول لإنجازات و التقيت بالعديد من العلماء و الرسميين الذين كانوا نتاج لنضال هذا العالم العملاق البروفسور شوقي شعث "أبا الهيثم".


هذا الرجل الذي يعتبر من أحد أهم خبراء الآثار والتاريخ القديم على الصعيد الأكاديمي الدولي، عالم تتحول غزارته العلمية و شخصيته الفذة الى أجمل صور الأب الحنون نحوك، لا يعتلي أي عروش من الأستذة أو يشير الى الدرجات العلمية أو شهادات التقدير التي نالها بوطنه العربي أو في أوروبا. هذا العالم لا يشير لمناصبة الأكاديمية الرفيعة المحلية أو الدولية، أو لدوره الفعلي في إعادة صياغة التاريخ القديم بمنهجية علمية بحته تستند الى البحث الأثري ولا لإسهامه في تأسيس مدرسة تاريخية فكرية منهجية حديثة تعيد ترتيب أبجديات تاريخنا العريق بطرق علمية أصيلة تحفظه و تفك طلاسمه.

كنت ثوريا يساريا يافعا تسكنني الثورة الفلسطينية وحركة التحرر العربي ببعدها القومي و الأممي في ليلي ونهاري ، استرشد بفكر يساري عربي قومي عماده الراحلين جمال عبد الناصر و الدكتور جورج حبش، أتشكل ثقافيا بحروف انسابت من أفواه و أقلام غسان كنفاني و تشى غيفارا و على بن أبي طالب كرم الله وجهه.

علمني" أبا الهيثم" بدون حروف، كيف نحترم المناضلين و نبجلهم، ففي زيارة قمنا بها سويا بمنتصف الثمانينات لنلقي التحية آنذاك علي صديقنا- الراحل الشهيد " أبو علي مصطفي " ،سال أبا الهيثم أبو علي عن صحة و أحوال حكيم الثورة، فانتصب أبو علي واقفا وقال "هيا بنا يا رفاق لنطمئن جميعا عليه فهو هنا بمكتبه" . شق أبا على طريقا من عدة خطوات و طرق الباب المواجه لنا و فتح الباب على مصراعيه، ودخلنا على صوت يرحب بنا و إذا بحكيم الثورة ينتصب واقفا رغم الشلل النصفي و يرفض إصرار أبا الهيثم على أن يجلس و يمد الحكيم يده المصابة و يصافحنا بحرارة وتواضع لافتين .

في حضرة جورج حبش دوما أجد نفسي أوسع من حدقات عيوني و أحسن من فن الإصغاء، فهذا هو الحكيم، كلما التقية أتعلق به أكثر يأسرني بشخصيته الأسطورية . استدرت نحو أبا الهيثم و أبو علي مصطفى فلمحت سعادة و فخر كبيرين يكتسيان وجه أبا الهيثم و هو يتحاور مع الحكيم. بعد أن ودعنا الحكيم واقفا، و أوصلنا أبو علي مودعا لمدخل المكتب الخارجي ، التفت نحو أبو الهيثم وقلت " كنت معك في لقاء قادة فلسطينيين بارزين و عرب أيضا، لم ألحظك يا دكتور بهذا القدر من التقدير أو التواضع و الرضا كما كنت عند الحكيم" و قال لي هذه " الكارزما" التي يمتلكها الحكيم تبث في أعماقي طمأنينة وطنية تجعلني اشعر بالاعتزاز بفلسطينيتي و عروبتي لوجود رجل في أمتننا مفكر و مناضل و إنسان كجورج حبش.

نقش الدكتور شوقي شعث في أعماقي، أهمية فهم التاريخ القديم الكلي لسوريا (فلسطين، سوريا ، لبنان و صحراء شرق الأردن) و مصر و بلاد الرافدين، بشكل علمي صحيح و موثق لكي نستطيع أن نناضل على جبهات عالمية غاية في الأهمية باستخدام مجوداتنا الأثرية و مادة التاريخ العلمي الناتجة عنها، لكشف زيف المدارس التاريخية التوراتية السائدة في الرأي العام الغربي .

كان يحضني للعمل على ضحد المدارس التاريخية التوراتية التي تشوه فعليا التاريخ القديم و تختصره لفترة بسيطة من السنوات تدور حول قصص يهودية توراتية تختصر العالم و الحضارات الإنسانية فيها. كان يكرر و يقول لي هذه المدارس التاريخية التوراتية تشرعن المنهج الصهيوني وتعممه كمسلمات علمية من ثم تُبنى عليها أراء و أفكار و أيديولوجيات ، تفرز رأي عام غربي ومن ثم عالمي يدعم سياسات حكومية وغير حكومية، تساند تاريخيا و علميا بشكل مُزيف ادعاءات المغتصب الصهيوني ، أنها تعطي أرضية أخلاقية وهمية للغرب الاستعماري الإمبريالي يستخدمها ليبرر بربريته و لتكثيف حملته في اغتصاب ثرواتنا و حقوقنا .

هذا الدرس لم يكن مجرد أحاديث ،بل جولات في المتاحف و لقاءات زجني في غمارها مع بعثات علمية لعلماء تاريخ و أثار من شتى العالم، تنقب في بلاد الشام . أمسكت بالُرُقم القديمة من حضارة إيبلا و حاورت علماء طليان كالبروفسور" ماتزون" و بعثته من جامعة روما و استمعت للبعثات اليابانية و غيرها. أدركت قوة المنهج العلمي في الآثار و التاريخ القديم، أمنت بقدرتنا على هزيمة خرافات تاريخ المدارس التوراتية، مهما وفرت لها صناعة البروبوغندا الصهيونية و الغربية من إمكانات و خرافات. كان للزج بي في المتاحف و بين الرُقم و اللُقى الأثرية و التفاعل مع أهل الاختصاص العلمي ، اكبر الأثر في إعطائي القدرات العلمية الميدانية لتوفير المعلومة الدقيقة القادرة على التصدي لخرافات أبواق الدعاية الصهيونية والغربية في نضالنا اليومي لنصرة قضايا الأمة العربية.

إني اثمن غاليا كل لحظة قضيتها برفقتك أيها الجهبذ ، أنها أفضل أيام عمري ، كنت كالأسفنج امتص كل قطرة علم تأتي من صوبك. أقرب أيام حياتي الحافلة لقلبي و هي دوما مشتعلة بذاكرتي، تلك التي استضفتني أنت و أسرتك الرائعة بدارك الحلبية. أنت الآن في بلاد الرمضاء العربية و أنا بعيد، بعيد عنك خلف جبال الثلج...آه كم أنا في شوق جارف إليك. لقد انقبض صدري و سكنه الألم و أحسست بهشيم في صدري، عندما اخبرني العزيز حسن بأنك كنت تسال عني في آخر أيامك معنا على هذه الأرض.

لتعلم يا صديقي و رفيق الروح بأنني لازلت أخاطبك كل فجر مع حمرة الصباح من تحت غيمتك السيارة ، ها أنا ذاهب الى لقاءنا المعتاد في فجر هذا اليوم سأقف تحت غميتك السيارة فلا تحرمني من بسمتك التي تعطى للسماء حمرتها ، فأنت يا أبا الهيثم تسكنني حتى رمقي الأخير.

ليست هناك تعليقات: