د. عبدالله المدني
من بعد الكوري الجنوبي "بان كي مون" الذي أنتخب كأمين عام للأمم المتحدة في عام 2007 خلفا للغاني "كوفي أنان". ومن بعد الهندي "شاشي تارور" الذي شغل منصب نائب الأمين العام للأمم المتحدة لشئون المعلومات والإتصالات ما بين عامي 2002 و2007 أي في عهد "كوفي أنان". ومن بعد اليابانية "ساداكو أوغاتا" الحاصلة على درجة الدكتوراه بإمتياز من جامعة كاليفورنيا في بيركللي، والتي ترأست مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين من عام 1999 وحتى 2001 . ومن بعد الياباني "كويشيرو ما تسورا" الذي قاد منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) لدورتين متتاليتين ما بين عامي 1999 و 2009 .
هاهي شخصية آسيوية لامعة أخرى تنتخب كخامس مدير لمنظمة عالمية هامة هي الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تتخذ من العاصمة النمساوية مقرا لها. ونعني بهذه الشخصية الياباني "يوكيا أمادو" الذي نال أغلبية الثلثين المطلوبة من الأصوات (23 من أصل 35 صوتا) متغلبا على منافسيه الآخرين (الجنوب أفريقي "عبدالصمد مينتي" والأسباني "لويس ايخاياري" والبلجيكي "جون بول بونسيليه)، ليخلف بذلك المصري الدكتور "محمد البرادعي" الذي فضل التقاعد مع انتهاء مدة خدمته في نهاية نوفمبر المنصرم.
أما ما يميز "يوكيا أمادو" عن سلفه فهو كثير. فالبرادعي لم يكن متخصصا لا من قريب أو بعيد في علوم الطاقة النووية أو أي علم قريب من هذا الحقل المعرفي، لكنه كان صاحب سجل ناصع ومتميز في الإدارة فقط. أما خليفته الياباني فدبلوماسي محترف، تدرج في أرقة الخارجية اليابانية منذ أن أنهى دراسة الحقوق في جامعة طوكيو في عام 1972 ، وشغل مناصب دبلوماسية في واشنطون وبروكسل وجنيف وفيينا و في العاصمة اللاوسية "فينتيان". كما وأنه أكمل تعليمه العالي في جامعة نيس الفرنسية ما بين عامي 1973 و1975 متخصصا في قضايا نزع السلاح ومنع انتشار الأسلحة النووية. وحينما ترأس دائرة العلوم ونزع السلاح ومراقبة انتشار الأسلحة النووية في وزارة الخارجية اليابانية في عام 2004، فإنه شارك بصفته تلك في جميع المفاوضات الخاصة بإعداد الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية حول الأسلحة التقليدية وأسلحة الدمار الشامل والأسلحة الكيماوية والبيولوجية، الأمر الذي منحه دراية واسعة بهذه القضايا التي تعتبر من صلب وظيفته الجديدة في وقت تواجه فيه الوكالة الدولية للطاقة الذرية جملة من التحديات غير المسبوقة في تاريخها، على رأسها بطبيعة الحال البرنامج النووي الإيراني.
إلى ما سبق، فإن ما يميز "أمادو" عن سلفه أنه ينتمي إلى بلد كان الأول في العالم الذي يضرب بالقنابل النووية، وبالتالي فهو أقدر من غيره على إدراك مخاطر هذا السلاح وما يمكن أن يلحقه من أذى ورعب للبشر، وما يمكن أن يخلقه من مآس ومعاناة مريرة من الصعب معالجتها أو محوها من الذاكرة بسهولة. ولهذا فإن المتوقع من "أمادو" أكثر بكثير مما كان متوقعا من "البرادعي" الذي أنتقده البعض، تارة بسبب ما قيل عن مواقفه المتساهلة والمتضاربة من طهران، وتارة أخرى بسبب إدلائه بتصريحات لم يكن مخولا بها.
ما يمكن إستنتاجه من تزايد وجود شخصيات آسيوية في مناصب دولية مرموقة في السنوات الأخيره كثير:
أوله، أن آسيا ليست فقط مصنعا للتكنولوجيا والبضائع الإستهلاكية من إليكترونيات ومنسوجات ومركبات فارهة مريحة، وإنما أيضا مصنع للرجال والنساء القادرين والقادرات على الإضطلاع بمسئوليات أرفع المناصب الدولية وتحقيق إنجازات يحسب لهم.
وثانيه، أن هذا التطور هو نتيجة طبيعية وحتمية لسياسات الحكومات والقيادات الآسيوية التاريخية في ايلاء إهتمام خاص بالموارد البشرية تعليما وتدريبا ورعاية. تلك كانت سياسات انتهجها نهرو وإبنته أنديرا في الهند منذ الخمسينات و طوال العقود التالية، وإنتهجها "لي كوان يو" في سنغافورة، و "مهاتير محمد" في ماليزيا، و "دينغ هسياو بينغ" في الصين، و "بارك تشونغ هي" في كوريا الجنوبية، و"تشيانغ كاي شيك" في تايوان.
وثالثه، أن اليابان لئن فشلت حتى الآن في الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن - بسبب عوائق منها معارضة الصين الشديدة - وبالتالي سلب منها حقا مشروعا يتوافق مع ما بلغته من نهضة جبارة وتفوق علمي وصناعي وإقتصادي، وما تنتهجه من سياسات عقلانية متزنة ذات صدى إيجابي في المحافل الدولية، وما تغدقه من مساعدات وقروض إنمائية وإقتصادية على دول العالم الثالث، فإنها عوضت بمناصب دولية مرموقه من خلال أبنائها المؤهلين تأهيلا عاليا.
ورابعه، أن المشهد ليس سوى مشهد مكمل للحضور الآسيوي في كل أصقاع العالم. وبعبارة أخرى هو دليل على مدى إنتشار الآسيويين وبروزهم خارج أوطانهم، ومدى إستغلالهم لما يتوفر لهم في بلاد المهجر من رعاية وفرص وظيفية وتعليمية وتدريبية وحريات مطلوبة لجهة البحث والنقاش. وهذا ما جعل الهنود والصينيين وبعض الباكستانيين والبنغاليين في مقدمة الشعوب المحققة لإنجازات وإكتشافات مشهودة في الغرب في حقول الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والفضاء والحاسوب.
ولعل أبرز دليل في هذا السياق ما جرى ويجري في الولايات المتحدة الأمريكية التي تشير إحصائيات عام 2000 إلى أن الآسيويين باتوا يشكلون نحو 4 بالمئة من إجمالي عدد سكانها، أو نحو 11 مليون نسمة، من بعد أن كان عددهم في عام 1970 لايتجاوز 1.5 مليون نسمة، وفي عام 1980 نحو 3.7 مليون نسمة، وفي عام 1990 7.3 مليون نسمة. وطبقا لإحدى الدراسات الأكاديمية الحديثة نسبيا، ينتظر أن يرتفع العدد بحلول عام 2050 إلى 40 مليون نسمة.
في الدراسة المشار إليها (دراسة ماهانتي وآخرون عام 2000 ) نجد حقائق وأرقام لابد من التوقف عندها والتمعن فيها لدلالاتها العميقة في ما خص موضوعنا. من تلك:
• إن الهجرة الآسيوية إلى الولايات المتحدة بدأت في منتصف القرن التاسع عشر، حيث وفد آسيويين كثر للعمل في مناجم الذهب أو في بناء السكك الحديدية في غرب البلاد، أو في مزارع السكر والأناناس في هاواي.
• إن تلك الهجرات إستمرت دون قيود حتى عام 1952 حينما طبق قانون يعطي لكل دولة آسيوية كوتا محددة (100 مهاجر في العام)، غير أن هذا القانون أستعيض عنه في عام 1965 بقانون جديد حمل إسمي الرئيسن الأسبقين جون كيندي و ليندون جونسون. وطبقا لهذا القانون سمح بأن يكون إجمالي عدد المهاجرين من العالم إلى الولايات المتحدة هو 270 ألف مهاجر في العام الواحد وبمعدل 20 ألف مهاجر لكل دولة، وبأن تكون الأولية للمهاجرين المهرة والأكفاء. وفي عام 1990 أصدر الكونغرس تشريعا حول تنظيم الهجرة الشرعية تركزت مواده على جذب العمالة الماهرة والمدربة فقط. أما في عام 1998 فقد مرر الكونغرس تشريعا آخر سمح برفع سقف تأشيرات الدخول للمهاجرين المهرة من 65 ألفا إلى 115 ألفا في العام الواحد للفترة ما بين 1999 و 2000 ، على أن الكونغرس عاد ورفع السقف مرة أخرى في عام 2000 إلى 195 ألف تأشيرة لكل عام من الأعوام الثلاثة التالية، مع منح كل تأشيرة عمل صلاحية لمدة ست سنوات تجدد بعد مرور السنوات الثلاث الأولى.
• إن الآسيويين كانوا في مقدمة المستفيدين من هذه التشريعات، وذلك بسبب تفضيلهم الهجرة إلى الولايات المتحدة لأسباب منها أن الأجور في الأخيرة أعلى، والفرص الوظيفية والتعليمية أكثر تنوعا، وشروط العمل وبيئته أكثر جاذبية وتحررا عنها في الأقطار الأخرى.
• إن ثلثي المهاجرين إلى الولايات المتحدة في عام 1965 كانوا من آسيا (24% من الصين، و20% من الفلبين، و19% من اليابان، و 12% من الهند، و10% من كوريا الجنوبية)
• إن المهاجرين الآسيويين في الولايات المتحدة يتركزون في عشر ولايات (كاليفورنيا و نيويورك و هاواي و نيوجيرسي و ايلينوي و فلوريدا وفرجينيا وماساتشوستس).
• إن المهاجرين من كوريا والصين والهند هم الأكثر إهتماما وتوقا للتحصيل العلمي والإرتقاء بالذات، فيما المهاجرين من كمبوديا ولاوس وفيتنام هم الأقل إهتماما بذلك. ففي عام 1999 كان 42 بالمئة من المهاجرين الآسيويين قد نجحوا في الحصول على شهادات جامعية مقارنة بنسبة 28 بالمئة من الأمريكيين. وفي العام نفسه إستحوذ الآسيويون على 10 بالمئة من إجمالي درجات الدكتوراه التي قدمتها مختلف الجامعات الأمريكية، بل كان نحو ثلث تلك الدرجات في تخصصات علمية مثل الطب والهندسة.
• إن الغالبية العظمى من المهاجرين الآسيويين يعملون في مهن مرموقة ومدرة لدخول عالية مثل الهندسة وطب الأسنان والتدريس الجامعي والمحاماة وتكنولوجيا الإتصالات، ولا يبالون كثيرا بإشغال وظائف ومناصب إدارية في القطاعين العام والخاص. وأفضل دليل على هذا هو أنهم يمثلون 4% فقط من علماء الإجتماع، لكنهم في الوقت نفسه يمثلون أكثر من 10 بالمئة من علماء الفيزياء والكيمياء والطب والهندسة والحاسوب في الولايات المتحدة بحسب إحصائية أجريت في عام 2000 .
بتلك التشريعات المتدرجة والحازمة والحصيفة إستطاعت الولايات المتحدة أن تستقطب أكبر تجمع للمهاجرين الآسيويين المهرة على أراضيها، فأفادتها وإرتقت بأحوالها من جهة، وإستفادت من إمكانياتها ومواهبها من جهة أخرى، فيما ظل المهاجرون الآسيويون غير المهرة خارج حدودها.
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
البريد الإليكتروني: elmadani@batelco.com.bh
الأحد، ديسمبر 20، 2009
آسيا لا تصنع السلع فقط وإنما أيضا الرجال
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق