السبت، مايو 02، 2009

ولا بدَ أن يستجيب القدر

سامح عوده

– فلسطين

الماضون عبر الأشواك ..

عبور هادئ على ضفاف كتاب...

" شعر المعتقلات في فلسطين 1967 م – 1993 م "

للدكتور .. " زاهر الجوهر حنني "

ثمة َ أشياءٌ تسحبكَ بعبيرها بعيداً، لتعيد ترتيب خارطة الوقت كما كانت، نقية، بهية، وذاتَ سطوع؛ الزنزانة، والقيدُ، والقضبان، والسجان، وصقيع الغرفة، والعزلُ، وكل ما أبدعته يد الظالمين لم تستطع أن تحجب نور الشمس من الدخول ولو للحظة..!! إلى عوالم الأسير الفلسطيني في زنزانته، كل الأطياف دخلت إليه، واجتاحته، فبقي هو الموج فوق الموج، النسر فوق الأرض، نجماً لا يطال، هو ذاك الإنسان المحفور في ذاكرته الوطن، والموشوم على جدار قلبه ذلك المصير الحتمي، كسر القيد، وعدم الاستسلام لإرادة أحد، مهما كانت سطوته، وجبروته .

شيء ما، يختزلُ عوالمك، يسحبكَ إلى فضاء فسيح، أبعد من زنزانة موصدة الأبواب، وليل بستائره المعتمة، لم يستطع أن يترك المشاهد سوداء، فتستسلم لإرادتها لتجعل عالمك أسود يبشرُ بالفناء، لذلك فقد استطاعت الأرواح أن تمضي بلا قيد، غير مباليةٍ، بتفاصيل الوقت، وقيود الزمن، والحدود، والجدران، استطاعت أن تمضي بثبات إلى كل الأمكنة، إلى الدروب الموغلة، إلى الوطن، إلى الأم، إلى الأزقة، إلى أرواح الشهداء، إلى كل شيء في الوطن، مائه، هوائه، ترابه، فتصوره كأن العين تراه، بكل ثبات وإرادة لا تقهر استطاعت أن تنتج ملحمة عشق في التحامها مع الحياة، لأنها رفضت كل مسوغات الفناء، فكانت كطائر العنقاء نهضت من تحت الرماد، فأعادت توجيه أشرعتها نحو ميناء الوطن، لتقدم نماذج نضالية، وأدباً مقاوماً يستحق الوقوف أمامه، يورثُ للأجيال.

كان لا بد من مقدمة رمزيه، تناسب موضوع كتاب أذهلني بكل تفاصيله وهو " " شعر المعتقلات في فلسطين 1967 م – 1993 م " للدكتور .. " زاهر الجوهر حنني " الذي صدر في العام 1997 على هيئة أطروحة ماجستير، ولم ينل الكتاب نصيباً في النشر إلا في العام 1999 حيث صدر عن بيت الشعر الفلسطيني بعد أن أخفق في النشر مدة عامين، والكتاب يقع في (350 ) صفحة من القطع المتوسط مقسم إلى بابين :

الباب الأول : وهو عن المضامين الشعرية ، مقسم إلى أربعة فصول، كل فصل عبارة عن دراسة متكاملة مرتبطة بالفصل السابق، والفصول هي : الغربة والوطن، بين الأم والحبيبة والوطن، القدرة على تخطي حواجز الزمان والمكان، مضامين شعرية أخرى .

الباب الثاني : دراسة فنية وهو أيضاً مقسم إلى ثلاثة فصول هي : في اللغة والأوزان، الرمز في شعر المعتقلات، الصور الشعرية، في كل فصل من الفصول مواضيع ذات علاقة، إضافة إلى مقدمة وتمهيد عرض من خلالهما للقارئ نبذة تاريخية عن شعر المعتقلات، وكيفية تطوره.

ويحتوي الكتاب في نهايته على قائمة المراجع والدوريات التي رجع إليها المؤلف في بحثه، أرى أن تلك المراجع تستحق القراءة كباقي أجزاء الكتاب الأخرى، اذ من الممكن أن تضيف للقارئ شيئا ربما يبحث عنه في توسيع معرفته وتنمية ثقافته .

ويتناول الكتاب في بداياته الأولى .. نبذة تاريخية عن معاناة الشعب الفلسطيني منذ قيام ما يسمى بدولة إسرائيل في العام 1948وحتى العام 1967 م، وكيف تعامل الصهاينة مع الفلسطينيين من تهجير، وقتل، وسلب للأرض ومصادرة للهوية الوطنية، واعتقال، وكيف حافظ الفلسطينيون على هويتهم الوطنية، فقد كان لا بد من صمود أسطوري، لمواجهة الذهنية الإسرائيلية الماكرة، الهادفة لتفريغ الأرض من سكانها الشرعيين، وطحنهم بين أنياب القوة العسكرية الناشئة الإسرائيلية المدعومة كل الدعم من أمريكا، فقد زج بالآلاف من الشباب الفلسطينيين في السجون، وقد مثلت الحركة الأسيرة الفلسطينية منذ لحظة الاعتقال الأولى البوصلة التي وجهت الحركة الوطنية فكرياً، وسياسياً، واستطاع المعتقلون الفلسطينيون أن يكتبوا عن ذاتهم وهمهم الوطني، فأنتجوا أدباً، وشعراً، وفنون أخرى بقيت شاهدةً عليهم حتى الآن، كما أن تلك الفنون الأدبية ومن ضمنها الشعر موضوع الكتاب وصلت إلينا بطرق مختلفة ساهم الكتاب في إيصال جزء يسير منها، ولأن وسائل النشر لم تكن كما هي اليوم لذلك فقد ضاعت كثير من النصوص الأدبية والشعرية بسب الإجراءات الصهيونية التي كانت تعد أي حرف يكتبه المعتقلُ داخل زنزانته قنبلة فكرية من الممكن أن تشكلُ خطراً على الاحتلال، لذا فقد سعى الاحتلال لمحاربة قصاصات الورق التي كان المعتقلون يخطون عليها هواجسهم .

ويوثق الكتاب أيضاً للحركة الفكرية في المعتقلات الصهيونية، بحيث يتطرق إليها بشكل مقتضب على الرغم من أنها تحتاج إلى بحث منفصل، ويعرض لتبلور الحركة الشعرية في فلسطين بعد العام 1967 م، فخلال أكثر من ثلاثين عاماً ناضل المعتقلون الفلسطينيون بكل الوسائل كي يدخل القلم والكتاب والدفتر إلى المعتقل، لذلك فقد عملت إدارة المعتقلات ضد أي عمل ثقافي مهما كان نوعه، فعمدت إلى اقتحام غرف المعتقلين وتعريتهم، وتفتيش الغرف وإتلاف كل ما فيها، هذا الأمر دعا المعتقلين إلى ابتكار أدوات ليكتبوا عليها " أما الورق، فقد استخدم المعتقلون ورق لف البرتقال، وورق علب اللبن، وقطع لف الزبدة بعد غسلها وتجفيفها " إنها إرادة التصميم وتحدي الجلاد هي التي دفعت إلى إنتاج أدب وشعر بالرغم من ظروف الاعتقال القاسية.

لقد استطاع الدكتور زاهر بتجربته الشعرية، وتجربته الاعتقالية، أن يفصل الجزيئات، في موضوع بحثه، ويقدمها للقارئ بشكل رائع وجميل، حتى وإن لم يكن القارئ شاعراً، أذهلني أسلوبه الفذ، وذكاؤه في إيصال المادة للقارئ، فهو كمن يقدم لك الشهد ما أن ترتشف القطرة الأولى حتى تطلب المزيد، هذا ما لمسته في أسلوبه من خلال قراءتي للكتاب، الذي فتح لي آفاقاً أخرى بدأت البحث عنها، كالسيرة الذاتية للشعراء الذين ذكرت قصائدهم في الكتاب ، فهو يوثق من خلاله تجارب اعتقالية شعرية، ويسلط الضوء عليها، من خلال نماذج الشعراء الذين قام بدراسة قصائدهم، وأيضاً فهو يعرض وبأسلوب لبق نماذج الشعر في تلك الفترة، من الموزون إلى الحر، إلى النبطي .

كنت قد قرأت الكتاب مرة، ومرة.. ثم عدت إليه مرات أخرى، خاصة وان جمال المادة المطروحة وأسلوبها المشوق جعلني أعود بالذاكرة إلى عقود مضت، أتخيل عجلة التاريخ كيف كانت، وكيف مرت السنين، وحجم التغيرات التي طرأت على الحركة الأسيرة، والأسرى الذين أنتجوا أدباً وشعراً في وقت كان الدفترُ والقلم تهمة، كما أن الكتاب جعلني أستحضر قسماً كبيراً من الشعراء الذين ذكروا في الكتاب، أستعيد بداياتهم الأولى، وأقارنها بما وصلوا إليه الآن خاصة وأنني على علاقة ببعض الشعراء ممن ذكروا فيه، ولذلك فإن المادة المطروحة في الكتاب هي ما تجعلك تعود مرة ومرة، إما لترتيب معلومة في ذهنك، أو لتوثق معلومة أخرى مرت معك أثناء يومك .

عرض الدكتور زاهر أسماء لامعة في الشعر الفلسطيني يشار إليها بالبنان، وعرض كذلك تجربتها الإنسانية، ومعاناتها في المعتقلات منذ العام 1967 م، فالمعتقل مثل بالنسبة لها مادة خصبة للإبداع الشعري، فهم قد أوغلوا في الكتابة عن القيد والزنزانة، وجذبها الشوق خارجاً لتكون مع الجماهير، تكتب عن معاناتهم، بحبر ناري، يذيب الصخر، واستطاعت بإبداعاتها أن تكتب عن الشوق الدفين في أعماق النفس والبحث عن سبل الخلاص وتحطيم القيد .

الكتاب قد يكون التجربة الأولى في المكتبة الفلسطينية؛ فهو أول دراسة أكاديمية فلسطينية تتناول هذا الموضوع، بل وأعتقد جازماً أنه التجربة الأولى في المكتبة العربية، وهنا فلا بد من وقوف مع الذات أكثر، والحديث بوضوح أكثر عن الحالة الأدبية في الوطن العربي برمتها، خاصة وأن الاهتمام بالأدب الهابط هو الأكثر رواجا - وعذراً من القارئ على هذه الكلمة - ، وللوضوح أكثر فالكتاب وبتقييمي المتواضع لم يتجاوز نشره حدود فلسطين، ومع ذلك حتى في فلسطين لم يوزع بشكل واسع نظراً لشح الإمكانيات، ولا أدري ما السبب ؟! ربما نكون نحن الفلسطينيين بصفة خاصة والعرب بصفة عامة قد وصلنا حدَّ الإشباع في الثقافة والأدب ..!!

وفي السياق نفسه أرى أن يُعتمد الكتاب كمرجع للدراسات العليا في الجامعات الفلسطينية والعربية، لأنه وباختصار جزء من التوثيق للذاكرة الفلسطينية لم تفلح محاولات العدو الصهيوني في شطبها، كما أرى انه من الضروري أن يتم إكمال جوانب مهمة في تاريخ الحركة الفلسطينية الأسيرة بحيث يعتمد بحث آخر يسلط الضوء على الحركة الأدبية والشعرية في المعتقلات ما قبل العام 1967 م، وبحث منفصل آخر ما بعد العام 1993 م وحتى انتفاضة الأقصى، لأنه وفي الأعوام الماضية ظهرت نماذج شعرية وأدبية تستحق أن يسلط الضوء على إبداعاتها، هذه المقترحات مرفوعة للمؤسسات الفلسطينية ممثلة في " وزارة الثقافة، ووزارة الإعلام، ووزارة الأسرى، ونادي الأسير الفلسطيني" ولأن هذا المشروع الريادي يحتاج إلى جهد وإمكانيات فإن المؤسسات الإعلامية والثقافية العربية يجب أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية في تنوير الأجيال، وتقديم مادة ثقافية أدبية للقارئ العربي ترتقي به وبفكره، وعلى القنوات الفضائية المشاركة في تسليط الضوء على الكتاب ومادته، خاصة وأن هناك برامج خاصة تقدم للقارئ نماذج من المكتبة العربية والعالمية كبرامج " وخير جليس في الزمان كتاب " .

إن الكتاب بكل ما قدمه من جمالية أدبية، شعرية، توثيقية، ومع كل الايجابيات التي ذكرتها سابقاً فقد أغفل المؤلف نقطتين مهمتين هما :

أولا : لم أقرأ في الكتاب أي نص شعري لأسيرة فلسطينية، وهذا الأمر أربكني كما يمكن أن يربك غيري من القرآء، فكان أجدر بالمؤلف أن يخصص ولو صفحة واحده يوضح للقارئ فيها إن كانت هناك نصوص شعرية لأسيرات فلسطينيات أم لا ؟ وهل استنفذ كل أدوات البحث أم لا ؟ خاصة وأن الكتاب خصص كبحث لنيل درجة علمية وهي " الماجستير " .

ثانياً : لا أنكر البته بأن موضوع الكتاب يتناول شعر المعتقلات في فلسطين من العام 1967 م وحتى العام 1993 م، وبالتالي فإن الكتاب لم يتطرق إلى جزء مهم في حياة الحركة الأسيرة وهم السجناء الفلسطينيون في المعتقلات العربية، بالرغم مما ذكره لي الدكتور زاهر بأن الكتاب خصص للمعتقلات في فلسطين إلا أنني لست معه في هذا الرأي، إذا إن وسائل الاتصال تطورت خاصة بعد تبلور معالم الحركة الشعرية في المعتقلات بعد العام 1980 م ، فهل كان هناك اتصال عبر الرسائل على شكل قصائد بين معتقل في فلسطين ومعتقل في دولة عربية أخرى ؟ من المفروض أن يكون المؤلف قد تطرق فيها ولو من باب الذكر لنماذج شعرية في المعتقلات العربية.

يقول المؤلف في خاتمة الكتاب " حاولت أن أقول كل ما أريد حول شعر المعتقلات وشعرائه، غير أنني لم أستطع وذلك لأنني كلما ولجتُ فكرة، تكشف لي آفاق جديدة، وبرغم ذلك فقد استطعتُ أن أقول أن شعر المعتقلات في فلسطين بدأ عشوائياً وشيئاً فشيئاً تبلورت حركة شعرية اتخذت لها مميزات خاصة . " وأنا أقول أنني بدأت بقراءة الكتاب عشوائياً وانتهيت بالكتابة عنه، وكلما ولجت إلى سطر في الكتاب تفتحت لي آفاق أخرى، وعدتُ بالذاكرة إلى الحقبة التاريخية التي كتبت بها القصيدة، فأخشى ما أخشاه أن يطول عبوري الهادئ على ضفاف الكتاب أكثر فلا أنهي العمل الذي بدأته، فمساحة الكلام لا تسمح بالتعمق أكثر، شعبنا المعطاء الذي وهبه الله هذه القدرة على التحدي والصمود، فأنتج أدباً مقاوماً داخل المعتقلات فلا بد أن يظفر بالتحرر والاستقلال يوماً ما ، ولا بد لليل أن ينجلي ... ولا بد للقيد أن ينكسر...ولا بد أن يستجيب القدر .

ليست هناك تعليقات: