سامح عوده
عائــــدون ....(..!!..)..
واحدٌ وستون عاماً نموت ...
مفردات الكلام البليغ، وزخرفات اللغة، تضيع، تتقهقر، تتلاشى، عندما يغرقُ الفلسطيني العاشق، في بحر عينيها المأسورتين، ذاك العاشق، المفتون، بترابها، ومائها، الغارق بكل تفاصيلها، ما زالَ ينظرُ إلى البحر، وكأن للبحرِ مواسم يأوي فيها العاشقون، هناك على البحر، وهجٌ يسلبُ ذاك العاشق الجوال أغاني السفر في منافي العالم، ومخيمات اللجوء، على امتداد السواحل، حجارةٌ، وبيوت، وتاريخٌ، ظل شاهداً، هناك على البحر عكا، وحيفا، واللد، والرملة ... ومدن فلسطينية كانت بالأمس منارة الشرق، وبالقرب من البحر، سهول وجبال، وبرتقال، ونسائمٌ تداعبُ وجه السماء، والعاشقُ الجوال، الفلسطيني المهجر، بانتظار أغنية ذات إيقاعٍ جديدٍ، هو بانتظار أغنية العودة التي لم يمل انتظارها .
في الخامس عشر من أيار – مايو من العام 1948 م، وفي كل عام، وعلى أرض كانت مملكة من جمال، وجنة من نور، بدأت نكبةُ فلسطين، باحتلال جزء من أرضنا في ذاك العام، ليقيم عليها " لقطاء الأرض " دولتهم، وليحتفلوا باستقلالهم، ونحيي نحن الفلسطينيين في الداخل والشتات ذكرى نكبتنا، وليكتفي العربُ بهزيمتهم، وصمتهم الذي طال ..!! وها هو الخامس عشر من أيار مايو من هذا العام قد دقت عقاربه، وما زال طريق العودة بعيدَ المنال، بل قد يكون درباً من دروب الجنون، ولأن الإيمان اليقين بأن كل احتلال زائل لا محالة، وأن الحق باق مهما طل الأمد، فالفلسطيني العاشق ما زال قلبه معلقاً بالعودة، إلى هناك، حيث ميلاده الأول .
تأتي الذكرى الحادية والستون للنكبة وشعبنا الفلسطيني يعلقُ آمالاً كبيرةً على استعادة حقوقه، المتمثلةِ بإقامة دولته الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف، وعودة اللاجئين، بالرغم من أن الأفقَ لا يبشرُ بالخير، فالحالةُ الفلسطينية مزرية بكل تفاصيلها في ظل انقسام مقيت، خلف وراءه فصولاً مبكية إذا ما أضيفت إلى فصول النكبات، والنكسات الفلسطينية، أصبح المشهدُ معقداً، يصعبُ على العقل استيعابه، ولذلك فإن الفلسطينيين مطالبون الآن أكثر من أي وقت مضى بالوحدة، والتوافق على مشروع سياسي واحد يضمن لهم إقامة دولتهم التي يحلمون بها كباقي شعوب الأرض، وعلى الشعب الفلسطيني أن يقول كلمته بوضوح كونه هو الذي يدفعُ ثمن ذلك الانقسام، فالصراع على كرسي معلقة بالهواء درب من دروب " الغباء " وتعبير عن حالة فصام لن تؤدي إلا لبقاء الاحتلال جاثماً على صدورنا، يدمر مقدراتنا، ويسفك دمنا، في كل بقعة من أرضنا المحتلة .
تمر الذكرى الحادية والستون للنكبة، وتكثر التأويلات، ويكثر المنظرون السياسيون من الفلسطينيين والعرب الذي بدأوا يدلون بدلوهم في مصير اللاجئين، فاستخدموا مصطلحاً جديداً " حل عادل لقضية اللاجئين " إن هذا المصطلح الجديد الذي بدأ يعشش في ذاكرة بعض المهزومين لا يعبرُ إلا عن نفسية مريضه، إذ انه يحمل في داخله خبثاً ومكيدة يحاول إيقاع الفلسطينيين في شرك التأويلات اللامنطقية، والعودة بهم الى المربع الأول في تفسير للمصطلحات، وعليه فإن اللاجئين هم أصحاب الحق، وليسوا بحاجة لوكلاء عنهم في الحل الذي يرونه مناسباً، إن مثل هذا المصطلح الذي دخل عالم السياسة من أوسع أبوابه لا بد وأن يحاربه الفلسطينيون بكل قوتهم خاصة وأن أفق السلام الذي لهثنا وراءه مغلقٌ، بعد الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، الذي أفرز حكومة متطرفة، لا تؤمن إلا " بالترانسفير " – الترحيل - للفلسطينيين وسلب أرضهم، وبالتالي فما الداعي لتقديم تسهيلات مجانية لسراب لم يعد موجوداً ؟ .
تأتي الذكرى الحادية والستون ... ونحن نموت في الوطن وفي الشتات، فحال الفلسطينيين في الشتات ليس بأفضل مما هو عليه في الداخل، أينما طافت عينك في دول الجوار العربي ستجد أن الفلسطينيين مهانون، في مسكنهم، وفي حركتهم، وفي حقيقة وجودهم، مقيدون تحت شعار " رفض التوطين " وكأن الفلسطيني إن سكن، أو علمَّ أبناءه، ينسى حق العودة الذي ظل ينتظره أكثر من واحد ٍ وستين عاماً، قدر اللاجئ الفلسطيني أن يموت قهراً، أو أن يموت تحت أسنة الحرب الطائفية، والصراعات الداخلية في الدول المضيفة، كما هي الحال في العراق، حيث يتعرضُ اللاجئون الفلسطينيون في العراق إلى إبادة جراء ما تمارسه المليشيات الطائفية البغيضة بحقهم، وعندما حاولوا الفرار إلى الحدود الأردنية والسورية لم تكن الحال بأفضل منها داخل العراق، قدرهم أن يكونوا في ترحال دائم من لجوء إلى لجوء .
المشهد الفلسطيني بكل مكوناته معقدٌ وهو يحتاج إلى رؤىً ثاقبة عند الولوج إلى تفاصيله، فالاحتلال مازال احتلالا، والمجتمع الدولي الذي أوجد إسرائيل جسماً غريباً في قلب امتنا، لم يعمل إلا على تكريس الاحتلال وتقويته عبر تقديم يد العون اقتصادياً، ومالياً، وساهم المجتمع الدولي في إسناد إسرائيل بسكوته عن جرائم الاحتلال في فلسطين، وأما العربُ الذين صمتوا، فطال صمتهم الخجول، حتى أصبحت إسرائيل دولة قوية يحسبون حسابها ولا يقدرون على مواجهتا مجتمعين، هذه الحقيقة المؤسفة التي لا يمكن أن تكون زيفاً يجب التعامل معها بواقعية، وحتى لا يذهب ضعفاء النفوس إلى تأويل الكلام عن موضعه، واللعب بالمفردات فعلى العرب أن يتحملوا مسؤوليتهم التاريخية تجاه شعبنا الذي يساق إلى المقصلة للذبح، فها نحن نفتح صحائف النكبة للعام الواحد والستين، فماذا ينتظرون ؟ لم يبقَ للفلسطيني إلا ذكرى النكبة، أو ذكرى النكسة، أو ذكرى المجازر كي يخلدها .
واحد وستون عاماً نموت .. من أجل وطن مقدس، لا يصلحُ للنسيان، رغم ما حل بنا من نكبات فإننا الباقون، لأنه لنا المستقبلُ، أما هم فليرحلوا، هذا هو الهدف الأسمى لوجودنا وبقائنا، الموت من أجل كل شيء مقدس ونبيل اسمه فلسطين، نحن مقتنعون تماماً بعدم توازن القوى لكن البقاء لمن يصمد ، وهذا ما جسده شعبنا لأكثر من ستين عاماً، رسالة شعبنا في هذا العام أننا لا محالة عائدون ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق