راسم عبيدات
.......لسنا من السذاجة لكي نعتقد أن زيارة البابا للديار المقدسة،هي دينية- روحانية والصلاة من أجل أن يعم السلام البلاد والتسامح والتصالح بين شعوب المنطقة فقط،بل المسألة أبعد وأعمق من ذلك بكثير، ولها علاقة بالابتزاز والاشتراطات السياسية والتوازنات والتطورات الاقليمية والدولية،وهذه المدلولات والمعاني والأهداف واضحة من خلال الدول التي زارها البابا وجدول أعمال زياراته ولقاءاته،والزيارة لوكانت دينية- روحانية فقط،فالأولى أن يبدأ البابا زيارته بزيارة سوريا مهد الديانات والحضارات،ولكن كون الزيارة سياسية بامتياز كانت سوريا خارج تلك الزيارة ولأسباب لا نخالها تخفى على أحد.
ونحن لا ننكر على البابا أو غيره من قادة شعوب العالم أجمع، الحق في زيارة"يد فاشيم" التي ترمز الى المحرقة اليهودية وما عاناه اليهود من ظلم واضطهاد على أيدي النازية الألمانية،وهذا ليس مقبول لا على المستوى الأخلاقي ولا الضميري ولا الإنساني،ولكن مقابل هذه المحرقة،هناك شعب يتعرض للظلم والاضطهاد ويمنع من ممارسة ليس حقوقه السياسية والوطنية والعيش بحرية وكرامة في وطن حر ومستقل كباقي بني البشر،بل يحرم من أبسط شروط ومقومات الحياة الانسانية،وهو يتعرض لحصار ظالم منذ أكثر من ثلاث سنوات،وتهدم بيوته بشكل يومي ويحرم من الوصول الى أماكنه المقدسة وتأدية شعائره الدينية بحرية،والأخطر من ذلك أنه محاط بجدار فصل عنصري،يضعه في معازل وأقفاص لم تعرف لها أشد عصور البشرية حلكة وظلام مثيل أو شبيه.
وكان الأولى في البابا أن يزور جدار الفصل العنصري لكي يشاهد حجم المأساة التي يعيشها ويحياها الشعب الفلسطيني بشكل يومي ومستمر بسبب هذا الجدار العنصري،والتي آثاره وتداعياته وأخطاره تفوق أخطار وتداعيات النكبة،واسرائيل التي تحاول أن تخفي معالم جريمتها رفضت حتى في زيارة البابا لمخيم عايدة للاجئين في مدينة بيت لحم،أن يجري استقبالة والألتقاء به في منطقة يشاهد منها جدار الفصل العنصري الذي يخنق ويطوق ويقطع أوصال مدينة مهد المسيح عليه السلام.
والبابا والذي يفترض أن تكون زيارته رمزا للسلام والمحبة والتسامح والتصالح ورفض الظلم والاضهاد أي كان مصدره ومن يمارسه،وجدنا حتى في ذلك معايير مزدوجة لها علاقة بالأهداف والمصالح،فهو التقى عائلة الجندي الاسرائيلي المأسور"جلعاد شاليط" والتي شرحت له عائلته مدى معاناتها وحزنها على ابنها المأسور منذ 1500 يوم،وهو الذي كان في مهمة عسكرية وليس رحلة صيد أو قنص على حدود قطاع غزة،والبابا الذي أبدى حزنه وتأثره على "شاليط" وتعاطفه مع أسرته،والذي ترجم له بالايطالية كتاب يقال أن"شاليط" ألفه، لم يقابل أو يلتقي بأي من عائلات الأحد عشر ألف أسير فلسطيني،ولم يبدي حزنه أو تعاطفه لا معهم ولا مع أكثر من 12 أسير فلسطيني،مضى على وجود الواحد منهم أكثر من 11000 يوم في سجون الاحتلال الاسرائيلي لا ذنب لهم اقترفوه إلا أنهم يناضلون ويكافحون من أجل يكون لهم ولشعبهم وطن حر يعيشون فيه كباقي بني البشر،ولا مع الأطفال الرضع الذين يسجنون مع أمهاتهم في سجون وزنازين الاحتلال الاسرائيلي في مخالفة وتجاوز فظ لكل الأعراف والمواثيق الدولية والتي تمنع سجن الأطفال.
فأي مفارقة تلك وأي ازدواجية وتعهير للقيم والمبادىء والمعايير هذا... يا دعاة العالم الحر ويا قداسة البابا!!!!!
والبابا وغيره من قادة العالم الغربيين يدركون حجم التكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني،والتي السبب المباشر والأول فيها هو الغرب،الذي منح أرضهم للغير،ولكي يساهم لاحقاً في طردهم وتهجيرهم من ديارهم ووطنهم،والذي يحلمون بالعودة اليه،منذ أكثر من 60 عاماً، بعد أن شردوا ووزعوا في مخيمات اللجوء والشتات في طول البلاد وعرضها،وهم محرمون من العودة الى القرى،التي هجروا وشردوا منها،فسكان قريتي اقرث ويرعم في الجليل،رغم كل القرارات الصادرة حتى عن المحاكم الاسرائيلية نفسها بعودتهم، يحرمون من هذا الحق ومن هذه العودة ،والبابا كان حري به أن يزور قريتي أقرث وبرعم للتعاطف والتضامن معهم لا على المستوى الديني فحسب،بل والاخلاقي والانساني والسياسي.
ولكن البابا لو تجرأ وقال أنه سيلتقي أحد من عائلات الأسرى الفلسطينيين أو أنه سيزور مدينة غزة المحاصرة والمحرومة من أبسط مقومات الحياة الانسانية،وحتى من اعادة إعمار البيوت والمدارس والمشافي التي دمرها الاحتلال في عدوانه على القطاع في كانون أول/2008،أوزيارة قريتي اقرث وبرعم المهجرتين قسراً وعنوة،فالبابا حينها لن يكون بابا،بل سيتحول الى معادي للسامية وداعم"للإرهاب"،وكما خسر من قبله سياسيين وكتاب وأدباء أوروبيين غربيين وظائفهم ومراكزهم ومناصبهم لتجرئهم على رفض وادانة الممارسات الاسرائيلية القمعية بحق الشعب الفلسطيني والتشكيك في مدى دقة وصحة المعلومات المعطاة عن المحرقة،فحال البابا حينها لن يكون بأفضل من حالهم،وستدعو اسرائيل الى تنحيته ومقاطعته وربما محاكمته.
في مؤتمر حوار الاديان والذي عقد في فندق النوتردام في القدس وبمشاركة البابا،والتي فرض فيها الشيخ التميمي قاضي القضاة نفسه بكلمة شرح فيها معاناة الشعب الفلسطيني بمختلف أبعادها بشكل مكثف ومختصروخلال ست دقائق مقتنصة،ورغم كل الحقائق التي سردها سماحة الشيخ التميمي،فقد ثارت ثائرة اسرائيل وكالت التهم للشيخ التميمي،وأعلنت أن حاخاماتها من الآن فصاعداً لن يحضروا أي مؤتمر لحوار الأديان يحضره الشيخ التميمي،وما تريده اسرائيل ليس مؤتمراً يسلط الضوء ويكشف حقيقة ممارساتها وجرائمها،بل مؤتمرا على غرار مؤتمر حوار الأديان الذي عقد في نيويورك،والذي خر فيه الكثير من الزعماء العرب الذين حضروا ذلك المؤتمر سجداً وركوعاً لسماع ترانيم ومواعظ الحاخام الكبير"شمعون بيرس" عن اسرائيل بأنها دولة محبة وسلام،فهي وهو وغيره من قادة اسرائيل وحكامها،"لم يرتكبوا لا مجزرة ولا مذبحة ،واسرائيل دولة محبة وسلام"،وهي تدافع عن نفسها ضد"ارهاب حماس والمقاومة الفلسطينية وحزب الله وسوريا وايران"...وغيرهم.
ويا سعادة وقداسة البابا،نحن نقول لك من قلب مدينة القدس مهد الديانات السماوية،أنه اذا كان المسيح ووفق الديانة المسيحية قد صلب وعذب مرة وحمل صليب الآمه،فالشعب الفلسطيني يصلب ويعذب في اليوم ألف مرة،بفعل ممارسات اسرائيل القمعية والاذلالية،وما ترتكبه من جرائم يومية بحق شعبنا الفلسطيني الأعزل،جرائم تطال البشر والحجر والشجر وكل ما يمت للوجود الفلسطيني بصلة أو علاقة.
ومطلوب منك ومن كل المتشدقين بقيم الحرية والأخلاق والتسامح والعدالة والحرية إدانة ممارسات اسرائيل وجرائمها بشكل واضح وصريح ودون لبس أو مواربة،وبدون ذلك لن تستقيم المعادلات أو يطمئن ويثق بكم شعبنا،والذي ما زال جلده يكتوي بسياط معاييركم المزدوجة وديمقرطيتكم الزائفة والخادعة.
القدس- فلسطين
الأربعاء، مايو 13، 2009
البابا.. المحرقة.. شاليط.. النكبة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق