محمد داود
من الخطأ الاستراتيجي الرهان أو المناورة على الساحة الغزية في أي مواجهة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية مع العدو، وفي كثير من المرات أثبتت النظرية صحة واقعيتها، حتى في هذه الأثناء التي نلتمس الخسارة، فلا يزال القطاع محاصراً ويفتقر لكل مقومات الحياة.
إن التأخير في إطالة الجهود المبذولة من أجل عقد مصالحة وطنية تنهي حالة الانقسام والشرخ الفلسطيني الجاري؛ يصب في هذا الإطار، فما زال المتحاورون من قطاع غزة على مواقفهم، يسعون لكسب المزيد من الضغوط السياسية، الرامية لانتزاع المزيد من الشروط لصالحهم، وذلك بإطالة أمد الحوار وتهميش دور مصر الحثيث لرأب الصدع الفلسطيني، وهنا إذ أسجل سخطي من مسألة الحوار وكثرة الملفات وحالة التعقيد، والوساطات وعدد الجولات والحديث يجري عن أكثر من خمسة ملفات، كل شهر ينجز ملف، أي يحتاج الحوار لمزيد من الوقت، والخشية تكمن في حال تراجع المسيطرين لسبب ما عند الشروع في الآليات التنفيذ، ومن ثم العودة إلى نقطة الصفر، بالتالي تصبح المصالحة متعذرة "لا قدر الله" وتؤجل، وهكذا إلى حين الوصول إلى نهاية ولاية المجلس التشريعي.وهكذا الفشل يتبعه فشل آخر، فالكل منوط بالمصالحة، "التهدئة وإعادة أعمار قطاع غزة، وملف شاليط، وفتح المعابر؛ بل إن إسرائيل ربطت التقدم في تنفيذ استحقاق عملية التسوية؛ بأنه مرهون بالمصالحة وتوفر الشريك السياسي،.... وغيرها من الملفات التي تنتظر إتمام المصالحة" .
فوجهة النظر الإسرائيلية منذ البداية كانت صائبة وهادفة عندما أخلت قواتها ومستوطنيها من قطاع غزة؛ لأن الثمن الأمني والديمغرافي لمستوطنيها يفوق المكاسب التي سعت لتكريسها، كما أن حماية العدد الضئيل من المستوطنين المتواجدين في القطاع تشكل عبئًا عسكريًا لوجستيًا ومادياً على الجيش الإسرائيلي. في المقابل قامت ببناء جدار عازل يحفظ لها كتلها الاستيطانية، بالإضافة إلى أنها وضعت السلطة الفلسطينية أمام تحديات جسام؛ أدت في نهاية المطاف إلى انشغال وصراع سياسي فلسطيني داخلي على الحكم "الاقتتال والشرخ السياسي" بين شطري الوطن، مما أذهبت أحلام الدولة الفلسطينية المتواصلة.
إن سبب التغيير في الموقف الإسرائيلي واضح إذ تدرك إسرائيل أن الخروج من مأزق قطاع غزة قد يعني تضاعف حجم الفوضى الراهنة وبروز حالة من الفراغ الأمني الذي قد تملأه قوة أخرى وعناصر متطرفة ومدفوعة من أطراف خارجية، لذلك خرجت باتفاق سلام.
فقطاع غزة لا يشكل مقارنة بالضفة الغربية عبئًا أمنيًا كبيرًا على إسرائيل بسبب نجاح السياج الفاصل الذي أقامته دولة الاحتلال العنصرية عليه منذ فترة طويلة في منع حصول عمليات تفجيرية واستشهادية داخل إسرائيل. وهو أي قطاع غزة معيارياً ساقطاً أمنياً وعسكرياً واقتصادياً، وخاسر من يراهن عليه، وقد أثبتت التجربة صحة ذلك، فعسكرياً لم تفلح القوات المصرية في وقت سابق من الحرب مع دولة الاحتلال، عبر استخدام قطاع غزة وخسرت جنودها مع القوات الإسرائيلية، إذ كانت غزة هي نقطة التهديد المصري لإسرائيل، حيث أن هجمات الجيش المصري تجاه إسرائيل كانت عليها أن تبدأ من هذا القطاع ولذلك وبعد اتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية انحسرت الأهمية الإستراتيجية للقطاع كذلك الحال بالنسبة للأمن الإسرائيلي.فقد هرب الجيش الإسرائيلي المحتل تاركاً قطاع غزة عام 94 واستكمله بانسحابه التام عام 2005، وكذا حال المقاومة الفلسطينية التي لم ترتقي لأساليب جديدة بسبب انعدام المقومات الميدانية، خاصة وأن إسرائيل لجأت إلى أسليب عسكرية متطورة أبرزها، إقامة سياج أمني استشعاري يصعب اختراقه، وقد كشفت الحرب الأخيرة على قطاع غزة بوضوح كم هو ساقط أمنياً وعسكرياً بالنسبة للشعب الفلسطيني، ويبقى العقل الفلسطيني هو المدبر والمبتكر، إذ لجأت فصائل المقاومة الفلسطينية إلى إتباع أساليب جديدة في الرد على اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي وقد فاجأت جيش الاحتلال، فلجأت إلى استخدام الصواريخ المحلية الصنع، واستخدام الأنفاق لاختراق الحصون ولتهريب العتاد عبر الحدود مع مصر.
ولأن القطاع شريط ساحلي ضيق يسهل رصد تحركات سكانه، وقد أفلحت إسرائيل في اغتيال العديد من رجال المقاومة، رغم ذلك يبقى لقطاع غزة أهمية إستراتيجية قصوى في تحديد المستقبل الفلسطيني، إذ تنقطع بدونه الصلة الفلسطينية الوحيدة الممكنة للضفة الغربية بالبحر المتوسط وبالعالم الخارجي، وبدونه تصبح فلسطين المستقبل بلداً داخلياً محصوراً ومحاصراً لايملك منفذاً بحرياً مستقلاً يصله مباشرة مع العالم الخارجي.
وغزة تفتقد لأية مميزات جغرافية بالنسبة للأمن الإسرائيلي لأن طبيعتها الجغرافية معقدة وهذه الطبيعة هي التي جعلت الإسرائيليين دوماً يفكرون في عزل القطاع عن بقية الأراضي العربية المحتلة ، فمن الناحية العسكرية لا تستطيع إسرائيل أن تضع قوات عسكرية كبيرة أو تحتفظ بقواعد عسكرية دائمة على أرضية لضيق المساحة وللعنف المدمر والعداء الشرس الذي يضمره السكان ضد الجيش الإسرائيلي كما أن محدودية مساحته لا تساعد على القيام بأية مناورات أو تكتيكات عسكرية على أرضية فالأراضي المحدودة تفشل أية خطة عسكرية لأنها تبقى مكشوفة وتحت نيران وأعين المقاومة .
من الناحية الاقتصادية القطاع لا يتمتع بأي موارد اقتصادية بل إنه عاجز بموارده المحدودة عن تشغيل سكانه الأصليين،حتى في أبسط الأحوال منها، مما استخدمت إسرائيل السلام الاقتصادي من خلال السيطرة على المنافذ الطبيعية للقطاع للتحكم وابتزاز المواطن الفلسطيني خدمة لأهدافها السياسية.
يذكر أن قطاع غزة هو أعلى كثافة سكانية في العالم، أما معدل دخل الفرد فهو متدن للغاية، ونظراً لمحدودية سوق العمل داخل القطاع والإغلاق الشامل والمستمر الذي يعاني منه من قبل الاحتلال الإسرائيلي، فإن نسبة البطالة في تصاعد مستمر، وما يعنيه ذلك أن القطاع فقير جداً بإمكانياته، وأن سكانه يعانون ضائقة حياتية ومعيشية متفاقمة.
وأخيراً نناشدكم بأن تكونوا على قدر المسؤولية والاستجابة لجهود الحوار، حتى نحظى كلنا بإعادة قضيتنا الوطنية إلى سلم اهتمام العالم ومن أجل إتمام أعمار قطاع غزة ومواجهة المخططات الإسرائيلية.
كاتب وباحث
السبت، مايو 16، 2009
كفاكم استنزافاً لقطاع غزة وأهله
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق