المحامي علي حيدر
تحفز ذكرى النكبة الفلسطينية الكثيرين من المثقفين والمفكرين العرب والفلسطينيين بشكل عام وفلسطينيي الداخل بشكل خاص على مراجعة الأسباب التي أدّت إلى النكبة، سيرورتها ونتائجها، مع توقّف لتوصيف الحالة الفلسطينية الراهنة وتشخيصها. كما تقام الكثير من النشاطات السياسية والفعاليات الوطنية والندوات الفكرية، والمعارض الفنية، ومسيرات العودة.
وإن كانت هذه الفعاليات والمساهمات الفكرية تثير التفاؤل وتبشّر بخير، وخصوصاً نتيجة لتواصل الأجيال، وتكامل الأدوار، وتعميق الانتماء للوطن، وحفظ الذاكرة وتجسيد كوننا مركبًا هامًّا من الشعب الفلسطيني بالإضافة للاجئين ولأولئك الرابضين تحت الاحتلال، إلاّ أنّ السؤالَيْن المركزيين اللذين يبقيان مطروحين للنقاش هما: كيف يمكن أن نستنهض قوانا في الداخل الفلسطيني كمجتمع نصوغ تطلعات وأهدافًا واضحة ومتّفقًا عليها، تكون الثوابت الوطنية في صلبها؟ وكيف يمكن أن نكوّن قيادة جماعية قادرة ومؤهلة على قيادة المجتمع لتحقيق هذه التطلعات والأهداف؟
وإن كنّا على وعي تامّ بأنه لا يمكن رسم صورة للمستقبل المرغوب وللنهضة المرجوّة، دون قراءة شاملة للمشهد الراهن والظروف التي نعيشها، وتعريف مصادر القوة والضعف والفرص والتهديدات التي نواجهها كجماعة أصلانية، صاحبة وطن (فاقدة للسيادة)، مؤكّدة على حضورها، رافضة مشاريع الطرد والتهجير والإقصاء، ومجموعة لها امتداداتها: القومية، الحضارية، الثقافية والدينية . إلاّ أنه لا يمكننا طرح تطلعات مستقبلية نهضوية إلا اذا استطعنا مراجعة، تحليل وفهم أين كنا؟، ماذا فعلنا؟ وماذا لم نفعل على مدار السنوات السابقة؟. هذه المراجعة تفتح أمامنا آفاقًا لفهم التوجّهات والتحوّلات، وعلى إثر هذا الإدراك يمكن معرفة ما العمل؟ واهتداء بتصنيف الكاتب طه عبد الرحمن في كتابه "الحقّ العربي في الاختلاف الفلسفي" لأشكال الأسئلة التي تقسم إلى ثلاثة أشكال: "السؤال الناقد"، "السؤال الفاحص" و "السؤال المسؤول"، فأسئلتنا في هذا السياق تندرج تحت مصنّف الأسئلة المسؤولة، وهي الأسئلة التي لا تسأل عن وضعها كأسئلة بقدر ما تسال عن موضوعاتها. ولذلك، فالأسئلة مدفوعة ليس بدافع "السؤالية" فحسب وإنما بدافع المسؤولية أيضا.
لا يمكن من خلال هذه المقالة القصيرة أن نحيط بكامل مقومات النهضة، أو أن نطرح أنموذجًا مكتملاً، ما إن تتوفر كل مقوماته تصبح النهضة أمرًا متحققًا قطعيًّا. فالأحداث والعناصر الفاعلة على المستوى الإقليمي، والدولي قد تكون أقوى من أي تنظير، وبالتالي، فإنّ المقومات المذكورة هنا هي ليست بمثابة قائمة مغلقة، بل هي مجموعة مفتوحة وقابلة للتطوّر.
كما ذكر سابقًا، المجتمع الفلسطيني في الداخل له امتداداته في الوطن العربي والأمة الإسلامية. ونهضة فلسطينيي الداخل ليست معزولة أو منفصلة عما يحدث في هاتين الدائرتين، فنحن نتفاعل، نتأثر ونؤثر. كما أن النهضة هي ليست شيئًا مستحيلاً وغير قابل للتحقيق. فإذا راجعنا تاريخنا (ومن دون المقارنة حاليًّا حتى مع شعوب أخرى) فقد حدثت نهضات مختلفة ومتعددة على مسار التاريخ والزمن، تبعتهما انتكاسات وانحدارات، وهذا شيء حتميّ في حياة الشعوب والحضارات. وفي المقابل، في حال لم نخلق المحفزات ونوفر آليات النهضة، سوف يسوء الأمر ويتدهور أكثر مما هو عليه الآن، وسوف يقود الى حالة تدمير شامل وإحباط تامّ، تكون النهضة في حينها مستحيلة ومتأخرة. وقد عولج موضوع النهضة العربية بشكل عام من قبل العديد من المفكرين العرب في السنوات الأخيرة أمثال الجابري، طيب تيزيني، نديم الببيطار، جليفر أشقر، برهان غليون، عزمي بشارة وآخرين، حيث تركز قسم منهم في المعيقات وأكد قسم آخر على مركبات أساسية، من دونها لا يمكن للنهضة أن تتحقق ولا مجال في هذه العجالة تفصيل كل الطروحات. بل نريد أن نخصّ بالنقاش فلسطينيي الداخل ونقل النقاش من المعيقات الى المقومات، من منطلق الوعي بأن فهم المعيقات هو مدماك هام في عملية بناء المقومات.
أعتقد بان أهمّ مقومات النهضة الحقيقية هو الإحساس بالوضع الذي آلت إليه أمور المجتمع، وإدراك أن هذا الوضع يلقي بأعبائه على الجميع بشكل أو بآخر، ولذلك من حق الجميع المشاركة في صياغته بحيث يكون "مجالاً للنهوض الحضاري الشامل".
ينبغي أن تستثمر البنية الاجتماعية، والسياسية والثقافية التعددية للمجتمع الفلسطيني مقوماً للنهضة ـ وذلك من خلال خلق مناخ لحوار حرّ وخلاّق، قادر على خلق الأفكار وترجمتها بعد مناقشتها إلى ممارسة عملية فعالة ومسؤولة. بدل السجالات التناحرية، والخلافات بين التيارات والأيديولوجية والعصبيات (والتي تؤدي إلى حالة من الريبة والشك والقطيعة، أضف إلى التهريج والاستهزاء بالآخرين) كما يترتب بناء أخلاقيات للتداول والاتصال داخل المجموعة. يلاحظ من يراقب الساحة السياسية والاجتماعية بأن الكثير من الطاقات والجهود توضع في الاقتتالات الداخلية بدل أن توظف في مواجهة القامع والقاهر الخارجي.
من أجل ترشيد الحوار المباشر، والتفاعل الذي يهدف الى وضع تطلعات متفق عليها ورسم خطط فاعلية يجب بناء مرجعية وطنية قوية، تشكل المركز السياسي والإداري للفلسطينيين في الداخل. هذه المرجعية تبادر بدورها لبناء وتطوير مؤسسات تحمل مشروع النهضة. وقد ازداد النقاش مؤ خرا حول لجنة المتابعة وطبيعة عملها وكيفية انتخاب رئاستها وهذه فرصة لإعادة بنائها وانتخابها وإدخال مركبات جديدة كالنقابات والاتحادات المهنية كأعضاء بها، ووضع نظام داخلي يعرف مؤسساتها، يحكم عملها ويوضح كيفية تداول السلطة بها، ومن ألأفضل أن تحدد مرحلة انتقالية يتم بعدها انتخاب المؤسسات بشكل مباشر ، وذلك من أجل تقوية شرعيتها وزيادة ارتباطها بالمجتمع ورفع مستوى أدائها ونجاعة عملها وبطبيعة الحال من أجل بناء وتفعيل مؤسسات يترتب، كما يقول عالم ألاجتماع ماكس فيبر، وجود شخصيات قياديه وكريزماتيه.
النهضة تستدعي خلق الانسجام الناجع بين طموحات الفرد وآماله من جهة، وبين مصالح المجموعة والصالح العام من جهة أخرى، وهذا يحدث نتيجة لمشاركة واسعة للجمهور ومن خلال تواصل دائم بين القيادة والقواعد الشعبية والقوى المجتمعية لإيجاد حلول عملية لقضايا المجتمع.
يجب أن تكون النهضة مدفوعة بقيم العدل والحرية والمساواة والإبداع، وخلق التضامن الداخلي الحقيقي، والصدق والإخلاص والعمل والاجتهاد والمثابرة، وإتقان المهمات والدقة في إنجازها، والاعتماد على الذات وبناء وتطوير الرموز ومراجعة نقدية للتراث والانفتاح على عوالم جديدة.
لا يمكن للنهضة أن تتأتى إلا في جو يشجع على الفكرالعلم والمعرفة في شتى مجالات العلوم وخصوصًا العلمية، التقنية، اللسانيات والفنون مع وضع جهود كثيرة في البحث والتطوير.
إنَّ استخدام اللغة العربية وتأكيد حضورها وممارستها في الحيّز العامّ لهو مركبٌ نهضويٌّ هامّ. كما أن تحدي السلطة والهيمنة ومظاهر السيطرة هي عوامل هامة تشير الى يقظة المجتمع ووعيه، يجب أن تدفعه لوضع استراتيجية نضال.
يترتب تحفيز النمو الاقتصادي لأهميته كمصدر قوة في بناء الذات وخلق الفرص للنجاح ويحرّر من التبعية، يضمن الحياة الصحية والبيئية والتعليم والإعلام والانتاج والتنمية، ومما لا شك فيه أن تفعيل دور المرأة ومشاركتها وتمثيلها هو دور مركزي في تخليق عملية النهضة وتقدمها.
(عبلين)
الاثنين، أبريل 27، 2009
حول ذكرى النكبة وآفاق النهضة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق