الياس بجاني
أثار كلام للنائب وليد جنبلاط قاله في خلوة خاصة الكثير من الردود. هذا هو النص الحرفي لكلامه، والذي كان قد عُرِض بالصوت والصورة من على تلفزيون الـ"نيو تي في" خلال أحدى نشرته الإخبارية الأسبوع الفائت:
("جنبلاط يقول بالصوت والصورة في إحدى لقاءاته مع المرجع الروحي لشيخ طائفة الموحدين الدروز أبو محمد جواد وليّ الدين. يقول: "بس بالموضوع الشيعي بريطانيا عم تفتح على حزب الله، أميركا عم تحاور إيران، اليوم وين من البحر بجيب ذخيرة، أو من سوريا، أو من إسرائيل؟ إسرائيل لاً، بحر ما فش، وشفت ليه لمن عشنا كنا محاصرين ولما كنت عم ناقش ونظّر 50 زائد واحد، صحيح من المنطق الدستوري كان فينا نجيبو لنسيب لحود، مش هيك؟ بس شفت وقتها لا... شو إسمو هيدا سمير جعجع كانوا بيتمنوا المسيحية نعلق مع الشيعة ليتفرجوا علينا، وحتى بعض السنّة كمان بيتمنوا، شفناهون ببيروت للسنّة، جاب 1000 واحد من عكار ما اعدوش ربع ساعة، هنّي بيتمنوا نعلق ببعضنا، وبعدين هني بيقعدوا بيتفرجوا علينا". ورداً على كلام أحد مناصري الذي يطالب برفع قامة الدروز، يقول جنبلاط: "بعتقد مرفوع راسنا ما إنهزمنا، بس كمان ما فينا نمشي بحرب مطلقة نفسيو وسياسية ومذهبية ضدّ الشيعة". يتدخّل الشيخ ليقول: "مع إحتراماتك ودرسك للأمور حقيقة، بشوف إنّو العداء مع الشيعة ما الو لزوم، صارت قضية خاصة وخلصنا". يقول احد الأشخاص: شيخ نحنا كلنا معك ومع وليد بك، أي قرار بتاخدوه نحنا معكم إن الله راد" جنبلاط يفسّر اكثر ويقول: "الإنتخابات إلي حتصير مش رح يتغيّر شي جوهري، مصيبتنا بالشوف إنّو بطلّنا لائحة لإنو رجعت النعرة الإنعزالية، ما هوي الجنس العاطل بيبقى جنس عاطل مع الأسف. سعد الحريري هلّق جرّب فينا، طمعّوا لغطاس وصلنا لهون، بدنا نجرّب نعالجها بهاليومين، والاّ بدّي سكّر اللايحة ضدّ دوري شمعون وغطاس خوري". الجدير بالذكر انّ تحقيق الـ"نيو تي في" تضمّن أيضاً مشهداً لوليد جنبلاط يُفتّش في تركيا الذي يبدو انّه ذهب اليها متخفياً كفردٍ عادي وليس كزعيم لبناني")
كلام النائب جنبلاط هو تجني فاضح، ومدان ومستنكر جملة وتفصيلاً، وما كان يجب أن يقال تحت أي ظرف. إلا إن الذين حاولوا الاستفادة مِنه إعلامياً وشعبياً، وخصوصاً المسيحيين منهم الذين كان أصابهم الخرس والطرش والعمى يوم وُضعت صورة السيد حسن نصرالله على "المسبحة"، وتم الترتيل باسمه في أحدى الكنائس، فهؤلاء قد انطلقوا بردودهم من دوافع شخصية، وانتهازية فاقعة، ونوايا خبيثة، وخلفيات حاقدة، ومصالح انتخابية، وليس دفاعاً لا من قريب ولا من بعيد عن الموارنة، وهم الذين يجهدون لضرب كل ثوابت الكنيسة المارونية، ولجر لبنان إلى أحلاف شيطانية إيرانية وسورية، ولاستعداء المنظمات الدولية ودول العالم الحر.
مداليل كلام جنبلاط في المفهوم النفسي وليس الآني والإنفعالي كثيرة، وهي تبين بوضوح عمق وتجزر خوف الطوائف اللبنانية من بعضها البعض، وحذرها الشديد الواحدة من الأخرى، إضافة إلى رواسب تاريخية متنوعة ومتعددة تراكمت على مدار السنين من جراء المواجهات العسكرية والصراعات الوجودية والتهجير والتنافس والتناتش، وغيرها الكثير.
ويبين كلام "البيك" أيضاً ما يحاول البعض التعامي عنه باستمرار، وهو أن الشعب اللبناني مكون من مجموعات اثنية ودينية واجتماعية وعرقية مختلفة، تجمع ما بينها الهوية اللبنانية، والمصير الواحد، والتوق إلى الحرية والاستقلال والديموقراطية، وهذه هي المميزات التي جعلت من لبنان بلداً فريداً ومختلفاً عن باق بلدان الشرق الأوسط ذات الدين أو المذهب الواحد، والنظام الواحد، والحاكم الواحد الأوحد، ومبدأ الـ 99.9%.
من هنا الأهمية القصوى في اعتراف وقبول كل مجموعة من مكونات لبنان الـ 18 بخصوصية وعِرْق واثنية وحضارة ومذهب ومخاوف باقي المجموعات.
ومن هنا أيضاً تنبع ضرورة قبول الآخر كما هو دون محاولات لقهره وصهره وتغيير جلده وحضارته واثنيتة ودينه.
ليس المطلوب من أحد أن يفقد ذاته وخصوصيته، و"لبنان أولاً"، هو العنوان الكبير المفروض منطقياً ودستورياً ومصيرياً وانسانياً أن يبقى القاسم والرابط المشترك بين الجميع.
حتى يبقى لبنان وطناً للرسالة، رسالة التعايش والحضارة والحريات، المطلوب بحزم أن يبقى الأرمني أرمنياً، والماروني مارونياً، والدرزي درزياً، والشيعي شيعياً، والسني سنياً، والكردي كردياً، والعلوي علوياً، وإلخ. فكل المجموعات اللبنانية مهمة للمحافظة على فرادة لبنان، وهي أعضاء في جسم واحد، هو جسم لبنان الـ 10452 كيلومتر مربع، وعندما يصاب أي منها بمكروه يتأثر الجسم كله.
الهوية اللبنانية، وفقط اللبنانية، هي التي تجمع الكل، وتظلل الكل، وتساوي بين الكل، وتصون كرامة الكل، وتضمين مصير الكل.
وحتى يستمر لبنان ويبقى على تنوعه وفرادته، من المهم جداً أن تُؤمن وتصان ودون قيود الحرية المطلقة لكل مجموعة من مكوناته لتحافظ على هويتها وعرقها وتاريخيها ومذهبها ونمط حياتها وتميزها.
غني عن التذكير أن كل المحاولات العنفية السابقة لإلغاء خصوصية مكونات لبنان الإثنية قد فشلت، كما أن كل محاولات حزب الله القمعية والإرهابية الجارية حالياً بقوة لتغيير نمط حياة اللبنانيين، ومفهومهم للحرية والتنوع والانفتاح والسلام والتسامح وحب الحياة ستفشل، ولن ترى النور، وإن توهم الذين يتاجرون بعباءة المقاومة والانتصارات الإلهية غير ذلك.
يبقى إن ما قاله النائب جنبلاط بحق الموارنة تحديداً، هو بالطبع تجني مستنكر ومدان ومعيب، ولكن هو القاعدة في مجالس اللبنانيين الخاصة، وليس الشواذ. والحقيقة التي نعرفها جميعا، وإن كنا نغلفها باللياقات، هي أننا كلبنانيين عموماً، قادة وسياسيين ورسميين وأفراد ورجال دين، نقول في مجالسنا الخاصة بحق بعضنا البعض كمجموعات اثنية ودينية وحضارية كلاماً أكثر بكثير قساوة وتعدياً وإهانة واستخفافاً، وحتى تحقيراً مما قاله جنبلاط .
أما المشكلة الأساسية في كلام جنبلاط كما نراها، فهي تكمن في أنه عُمم إعلامياً، فيما كلام غيره لا يخرج إلى العلن.
السؤال هو، من أوصل هذا الكلام إلى الإعلام وهو قيل في جلسة جداً خاصة، مصلحة من يخدم، ولماذا؟؟
اليوم رد جنبلاط في مؤتمر صحافي، واصفاً الكلام الذي نسب إليه بأنه مجتزأ لتعميم الإساءة، ومعتبرا أن تسريب الشريط التلفزيوني يشكل سابقة لخرق الحرمات. وأشاد بغبطة البطريرك صفير مؤكدا على العلاقة التاريخية والصداقة والمحبة التي يكنها له، وأمل أن يكون حديثه الآن كافياً "لمحو الإساءة غير المقصودة التي حاول بعض الإعلام التذاكي من أجل سبق صحفي كنّا بغنى عنه".
نختم بما جاء في (إنجيل لوقا 12/2 و3): "ما مِن مستورٍ إلا سيُكشف، ولا من مَكتومٍ إلا سيُعلَم. فكُلّ ما قُلتُموه في الظُّلُمات سَيُُسمَعُ في وَضحِ النَّهار، وما قُلتُموه في المخابئِ هَمْساً في الأذن سَيُنادى بهِ على السُّطوح")
الأربعاء، أبريل 22، 2009
فشة خلق جنبلاط هي القاعدة، وليست الشواذ
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق