نقولا ناصر
(يكمن في الخلاف المسيحي – اليهودي على العاصمة الروحية في القدس صراع سياسي مستتر الآن لكنه لم يتوقف أبدا وهو إذا لم ينفجر في الوقت الراهن بسبب طغيان الخلاف الإسلامي – اليهودي عليه لأسباب واقعية فإن انفجاره مستقبلا ليس إلا مسألة وقت)
إن الهدف المعلن من الفاتيكان وممثليه الدينيين والدبلوماسيين المحليين للزيارة التي سيقوم بها البابا بينيديكت السادس عشر للأراضي المقدسة في الأردن وفلسطين في الفترة من 8 – 15 أيار / مايو المقبل هي "الحج" الديني ، فالخليفة ال 265 للكرسي الرسولي في روما الألماني الذي ولد باسم جوزيف ألويس راتزينغر لم يتلق دعوة رسمية من الحكومات الثلاث في الأردن وفلسطين وإسرائيل ، لكن لقاءاته المقررة مع قادتها والصراع السياسي الدموي الطاحن على الوجود وعلى الحدود في المنطقة يجعل من المستحيل لرحلة الحج البابوي إلا أن تكون سياسية ، كما أن حصر المسؤولية عن تنسيق زيارته بوزارات السياحة الثلاث قد حول الحبر الأعظم إلى جائزة سياحية كبرى يبذل وزير السياحة الإسرائيلي بخاصة جهده لاستغلالها تجاريا إلى الحد الأقصى في رمزية تذكر بالصراع الأزلي بين الروح وبين المادة بقدر ما تذكر بشخصية "شيلوك" المسرحية التي خلدها وليم شكسبير .
في الأردن الذي أطلق موقعا الكترونيا بعدة لغات للترحيب بقداسته في "مهد الحضارات" كما قال مدير عام هيئة تنشيط السياحة حميدي نايف الفايز ، سوف يزور البابا "المغطس" ، ويبارك وضع حجر الأساس لكنيسة "معمودية" هناك ، وحجر أساس لجامعة كاثوليكية في مادبا ، ويقيم قداسا في العاصمة ، لكن مركز حج البابا سوف يكون غربي النهر حيث سيطغى السياسي والسياحي على الديني في زيارته .
يقول الفاتيكان إن ثمانين في المئة من المقدسات في الأراضي المقدسة مسيحية وهي جميعها تقريبا موجودة في فلسطين باستثناء "المغطس" الذي تعمد فيه المسيح والذي اعتمده الفاتيكان على الشاطئ الأردني من نهر الأردن بينما كنائس أخرى ما زالت ترى موقعه على الجانب الغربي من النهر ، ومثل كل الكنائس الأخرى تعتبر الكنيسة الكاثوليكية القدس العاصمة الروحية "الوحيدة" للمسيحية والمسيحيين وإن كانت عاصمتها الإدارية في روما ، ولذلك فإنها معنية مباشرة بالجهود الحثيثة التي تبذلها دولة الاحتلال الإسرائيلي والمنظمات اليهودية العالمية والحركة الصهيونية لتهويد المدينة .
ويلاحظ هنا أن الدعاية الإسرائيلية تحاول جاهدة تغييب هذه الحقيقة والخلاف اليهودي – المسيحي العميق حولها وبسببها عن وعي الرأي العام المسيحي في العالم وتركز بدلا من ذلك على الخلاف اليهودي – الإسلامي لأنها ترى في وجود العاصمة الروحية للإسلام في مكة المكرمة والمدينة المنورة نقطة ضعف إعلامية تعزز الادعاء اليهودي بأن القدس كانت دائما العاصمة الروحية "الوحيدة" لليهودية متجاهلة حقيقة كون القدس عاصمة روحية للإسلام باعتبارها مسرى النبي محمد ومعراجه ومتجاهلة أيضا حقيقة عدم وجود أي مكان مادي مقدس لليهود فيها مثل كنيسة القيامة أو المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة ، اللهم باستثناء حائط البراق الذي سمح التسامح الإسلامي والاستهتار السياسي معا لليهود بالصلاة فيه ليتحول إلى "حائط المبكى" وإلى المكان المقدس الوحيد "الموجود" لليهود في بيت المقدس .
ويكمن في هذا الخلاف المسيحي – اليهودي على العاصمة الروحية في القدس صراع سياسي مستتر الآن لكنه لم يتوقف أبدا وهو إذا لم ينفجر في الوقت الراهن بسبب طغيان الخلاف الإسلامي – اليهودي عليه لأسباب واقعية فإن انفجاره مستقبلا ليس إلا مسألة وقت . إن قيام ثلاث بابوات بزيارة القدس والأراضي المقدسة خلال أقل من خمسين سنة ، وهم بالإضافة إلى بينيديكت البابا بولس السادس عام 1964 والبابا السابق يوحنا بولس الثاني عام 2000 ، يعكس المعركة السياسية الصامتة التي يخوضها الفاتيكان باسم "الحج" حول العاصمة الروحية للمسيحية في القدس . وربما كان اختيار ثلاثتهم للآردن ، لا إسرائيل ، معبرا لهم إلى الأراضي المقدسة مؤشر له دلالته في هذا السياق . ومما يلفت النظر هنا حرص القيادات العربية الفلسطينية السياسية والدينية جميعها على الدفاع عن المقدسات الإسلامية والمسيحية معا في بيت المقدس وأكنافه بينما ما زال الفاتيكان يجد حرجا في الإفصاح عن وجود مصلحة مشتركة له مع العرب والمسلمين في الدفاع "المشترك" عن المقدسات الثنائية المهددة جميعها بالتهويد الزاحف والمتسارع للحاضنة العربية الإسلامية لهذه المقدسات .
إن استقبال البابا لأمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى في الفاتيكان يوم الجمعة الماضي وتوقيع مذكرة تفاهم بين الجانبين في اليوم السابق كانا احدث مؤشر إلى أن أبواب الفاتيكان ما زالت كما كانت مفتوحة أمام الدبلوماسية العربية ، التي يقيم الفاتيكان علاقات مع معظم دولها ، غير أن دبلوماسية الفاتيكان تبدو ما زالت أسيرة ضغوط خارجية وعوامل ذاتية تمنعها من الخروج الصريح على الملأ بموقف يحررها من محاولة البقاء على الحياد بين حليف عربي إسلامي يمد أياديه لها لإنقاذ العاصمة الروحية للمسيحية وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تسعى حثيثا لاحتكار القدس عاصمة روحية وسياسية لها فقط .
لا بل إن الفاتيكان يبدو أكثر اهتماما بافتعال أسباب تجعل أي تحالف ممكن وواقعي كهذا أبعد منالا ، كما يفهم من تصريحات البابا الزائر عام 2006 التي اعتبرها المسلمون مسيئة لدينهم الحنيف ، وكما يفهم من استنكاف البابا عن الاعتذار عنها حتى الآن كما طالبه زكي بني ارشيد الأمين العام لحزب جبهة العمل الإسلامي الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن مؤخرا عشية زيارته . إن "تسويغ" البابا لإساءته للمسلمين بأنه كان "يقتبس" من نص تاريخي ليس كافيا كاعتذار لهم ، خصوصا في ضوء سابقة "اعتذار" الفاتيكان لليهود . فهل يفاجئنا قداسته خلال زيارته الحالية التي سيجتمع أثناءها مع قادة دينيين مسلمين ويزور الحرم القدسي الشريف بإسقاط هذه العقبة المستجدة أمام تعاون مسيحي إسلامي أفضل سينعكس بالتأكيد إيجابا على حماية المقدسات المشتركة الخاضعة للاحتلال وكذلك على "الوجود المسيحي" في المنطقة .
والمفارقة اللافتة للنظر هنا أن البابا الحالي مثل سلفيه يعلن بأن من أهداف حجه الحفاظ على ما تبقى من "الوجود المسيحي" في الأراضي المقدسة ، متجاهلا الحقيقة التاريخية بأن هذا الوجود قد استمر بفضل حاضنته العربية والإسلامية فقط في وقت غاب فيه الفاتيكان والكاثوليكية عن المنطقة طوال ثمانية قرون من الزمن تقريبا منذ نهاية حروب الفرنجة (كما سماها المؤرخون العرب والمسلمون) أو الحروب الصليبية (حسب المؤرخين الأوروبيين والغربيين) على بلاد العرب والمسلمين ، وبأن هذا الوجود قد بدأ يتعرض للتهديد فعلا أولا بسيطرة الاستعمار الغربي الأوروبي على الوطن العربي وتجزئته ثم ثانيا بتبني هذا الاستعمار للمشروع الصهيوني في فلسطين الذي تحول إلى دولة ما زالت الدول الاستعمارية الأوروبية السابقة ووريثها الأميركي هي الضامن ليس فقط لأمنها بل ولأمن احتلالها وتوسعها الاستيطاني أيضا .
وهدف آخر معلن لزيارة قداسته هو الحث على السلام والمصالحة . وهذه في جوهرها دعوة سياسية تنفي الصفة الدينية للحج البابوي المعلن . صحيح أن البابا لم يأت بدعوة رسمية من القيادات السياسية المعنية ، بل جاءت الدعوة من مجمع المطارنة "ومني شخصيا ، كما تلقى دعوة من السلطات المدنية المختلفة في الأردن وإسرائيل والأراضي الفلسطينية" كما قال المطران فؤاد الطوال ، مطران الكاثوليك في الأردن وفلسطين وإسرائيل ، الذي استدرك قائلا مع ذلك: "يجب ألا نخدع أنفسنا: يوجد بعد سياسي مئة في المئة ، ... فنحن هنا نتنفس سياسة ، أوكسيجيننا هو السياسة" .
لكن هذه الدعوة للسلام والمصالحة بين قوة قائمة بالاحتلال وبين شعب خاضع للاحتلال ، وبين تهويد متواصل لعاصمة روحية للمسلمين والمسيحيين وبين إنقاذها ، هي دعوة للوقوف على الحياد ، وهذا موقف وصفه المطران الطوال في مقابلة مع "زي نت" يوم الأربعاء الماضي قائلا إنه "توازن جيد" يحاوله الفاتيكان لكنه "توازن جيد يصعب إيجاده والحفاظ عليه" ، ليضيف: "كلما كان الفاتيكان صديقا أكثر لإسرائيل ، كلما كان قادرا أكثر على الانتفاع من تلك الصداقة من أجل سلام وعدل أكبر" ! ولا يسع المراقب إلا أن يتساءل عن الحكمة من منطق كهذا بعد تجربة شراكة تعاقدية في السلام ، لا صداقة فحسب ، فلسطينية ومصرية وأردنية وعربية أخرى لم يتمخض عنها منذ عام 1991 سوى المزيد من الاحتلال والحروب والعدوان والاستيطان والعنف وكل ما يجعل السلام والعدل أبعد من أي وقت مضى . إن الحياد في صراع بين الخير وبين الشر ، وبين الحق وبين الباطل ، إذا كان مفهوما ومتوقعا من القادة السياسيين فإنه يكون مستهجنا إذا تبناه قادة روحيون من وزن الحبر الأعظم .
وفي سياق الحديث عن "انتفاع" الفاتيكان من الصداقة مع إسرائيل ، ربما يكون "مفيدا" تذكير المطران الطوال بالنداء الذي وجهه السفير الفلسطيني السابق لدى الفاتيكان عفيف صافية إلى البابا يوحنا بولس الثاني أثناء زيارته للقدس في الشهر الثالث من عام ألفين لمساعدته وغيره من المقدسيين المسيحيين في العودة إلى القدس التي حرموا منها لأنهم كانوا خارجها عند وقوع الاحتلال عام 1967 ، ف"صداقة" الفاتيكان مع إسرائيل لم "تنفع" صافية حتى الآن لا في عهد البابا السابق ولا في عهد خليفته وهي إذ فشلت على مستوى أفراد في "نفع" دبلوماسي عريق في صداقته للفاتيكان وفي دعوته للسلام والعدل بعد أن مثل شعبه في لندن وواشنطن وموسكو قبل أن تستغني قيادته عن خدماته مؤخرا لأنه شارك مع سفراء آخرين في مهرجان نظمته حماس فإن المراقب لا يكون متجنيا عندما يتساءل عن أي عدل وسلام يمكن أن تحققه صداقة الفاتيكان وإسرائيل في قضايا على مستوى أهم من الأفراد !
إن الاحتلال الإسرائيلي في باطله لا يراعي للفاتيكان قداسة أو وزنا . فقد اعترف الفاتيكان بإسرائيل بموجب "الاتفاق الأساسي" عام 1993 وبعد خمسة عشر عاما على نفاذ ذلك الاتفاق وعشر سنوات على نفاذ "اتفاق الشخصية القانونية" للكنيسة الكاثوليكية بين الجانبين ، ما زالت المفاوضات الثنائية حول المسائل المالية والأملاك تجرجر أذيالها و"ليس ذلك فقط ، بل إن المعاهدات التي وقعت وصودق عليها ما زالت بانتظار مصادقة الكنيست عليها" كما جاء في مقال عن العلاقات الثنائية نشره الحارس الفرنسسكاني للأرض المقدسة عشية زيارة البابا . وما زالت الصعوبات قائمة أمام منح تأشيرات الدخول الإسرائيلية لكهنة الكنيسة ، وما زال الإسرائيليون يتطاولون على العقيدة المسيحية كما فعلت القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي في شباط / فبراير الماضي ، وفي التطاول على رأس الكنيسة كما فعل هيلل فايس البروفسور بجامعة بار إيلان في مقال له نشرته أو أشارت إليه عدة صحف إسرائيلية أوائل الشهر الجاري ووزع في المعابد اليهودية عندما هاجم البابا واصفا إياه بأنه "حصان طروادة" لحرمان إسرائيل من "الحوض المقدس" في القدس .
وإذا كان اعتماد جنرال احتياط في جيش الاحتلال الإسرائيلي محسوب على العرب الدروز في عسفيا هو بهيج منصور للاتصال مع الفاتيكان والتفاوض معه فيه استهتار بالفاتيكان فإن اعتماد وزير السياحة الإسرائيلي ستاس مايسيزنيكوف من حزب إسرائيل بيتنا الذي يقوده العنصري وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان ليكون المسؤول عن تنسيق زيارة البابا فيه إهانة . فهذا الوزير العنصري لم يكتف بوضع عصي سياسية في مسار الزيارة عندما أعلن مثلا مخيم عايدة للاجئين الفلسطينيين قرب بيت لحم "منطقة ج" غير خاضعة لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني ومنع التحضيرات التي تقوم السلطة بها في المخيم لزيارة البابا بهدف منع زيارته حتى لا يتم تسليط أضواء الإعلام على قضية اللاجئين من ناحية وعلى الجدار الفاصل الذي يشق المخيم ويحاصره من ناحية أخرى ، أو عندما حذف اسم رئيس بلدية سخنين مازن غنيم من قائمة المدعوين العرب لمقابلة مع البابا ، بل إنه حول مناسبة الزيارة إلى بقرة سياحية مقدسة .
فالموقع الإلكتروني الذي أطلقته للمناسبة وزارة السياحة بسبع لغات يتضمن روابط لوكالات السفر والسياحة الإسرائيلية ، ويقتبس من قنصل إسرائيلي في كندا مثلا قوله إن "إسرائيل تتوقع ... أن يسير على خطى البابا" الآلاف من المسيحيين في العالم ، (بينما منحت دولة الاحتلال حسب زعمها عشرة آلاف من مسيحيي الضفة الغربية ومائة أو مائتين من إخوانهم في غزة تصاريح لاستقبال البابا في القدس وبيت لحم والناصرة) . لكن الأهم من كل ذلك هو استغلال البابا نفسه لافتتاح اثنين من أهم المشاريع السياحية الإسرائيلية ، للتعويض عن عشرة ملايين دولار ضختها إسرائيل في التحضير لزيارته ولتبييض صورتها دوليا غداة عدوانها الأخير على قطاع غزة ، كما ذكرت وكالة الصحافة الفرنسية في السادس من الشهر الجاري .
ففي الناصرة يجهد الصندوق القومي اليهودي التابع للمنظمة الصهيونية العالمية لإكمال بناء مدرج يتسع لأربعين ألف نسمة على سفح تلة حاول اليهود دفع المسيح إلى الموت من فوق أحد منحدراتها ليتزامن افتتاحه مع زيارة البابا في الرابع عشر من الشهر المقبل . وفي القدس المحتلة سوف يزور البابا "مصعد الزمن" السياحي الإسرائيلي ليدشن "الأوديسا الجوية" فيه ليحلق من داخل قاعة تتسع ل 102 متفرجا فوق إسرائيل ليكتشف "ماضيها وحاضرها" من منظور صهيوني ، في دعاية مجانية مباركة على أرفع مستوى لمشروع يراد له أن ينقل السياحة في بيت المقدس من دينية إلى سياسية ترفيهية في سياق عملية التهويد الجارية على قدم وساق .
ربما كانت على حق الشخصيات المسيحية العربية التي حبذت في رسالة إلى الفاتيكان مؤخرا تأجيل زيارة قداسته أو تضمينها محطة غزاوية ، لكن المطران الطوال له رأي آخر في أن تتم الزيارة: "ما الذي ينبغي عمله ؟ هل ننتظر أوقاتا أفضل ؟ إن هذه المنطقة لم تعرف السلام أبدا . أننتظر حتى تحل القضية الفلسطينية ؟ إنني أخشى أن يقضي إثنان أو ثلاث بابوات قبل أن تتم تسويتها بشكل قاطع" !
* كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق