صبحي غندور
حكاية المنظمة الصهيونية العالمية.. أصبحت قصّة معروفة جداً وسط الشارع العربي. لكن المهمّ في هذه الحكاية المكرَّرة دائماً على أسماعنا، أنّها ليست فقط مجرد حكاية بل إنها سيرة من فرض علينا ـ نحن العرب ـ وعلى العالم أجمع، أن نقبل الآن بما كان مستحيلاً في السابق. و"المستحيل" هنا تحقّق على مراحل زمنية وليس دفعة واحدة.
ففي 29 آب/أغسطس من العام 1897 انعقد المؤتمر الصهيوني الأول (برئاسة ثيودور هيرتزل) في مدينة بال بسويسرا، وضمّ مجموعة من كفاءات يهودية منتشرة في العالم شكّلت فيما بينها "المنظمة الصهيونية العالمية" لخدمة "العقيدة الصهيونية". حينها، دعا هيرتزل المشاركين إلى وضع "خطط استراتيجية ومرحلية" تؤدي بعد 50 عاماً إلى وجود دولة إسرائيل. وقد تحقق ذلك فعلاً بعد 50 عاماً أي في العام 1947 !!.
ثم كان النصف الثاني من القرن العشرين مسخّراً من أجل تكريس الاعتراف العالمي والعربي (والفلسطيني تحديداً) بهذا الكيان وبالتعامل معه!!
نحن العرب لا نحتاج أصلاً إلى إدراك مخاطر ما تفعله المنظمة الصهيونية، حتى نتحرّك وننهض ونصحّح أوضاعنا السيئة في أكثر من مجال، لكن نحتاج نحن العرب إلى الأخذ بالأسلوب العلمي في العمل، تماماً كما أخذت به المنظمة الصهيونية ـ ولم تخترعه ـ يوم تأسّست وخطّطت ثمّ نفّذت.
وعناصر هذا الأسلوب العلمي مطلوبة في الحياة العملية لأيّ مجتمع أو شعب أو جماعة منظّمة، وهي تقوم على الجمع ما بين "نظرية فكرية" وبين "خطط استراتيجية" لمدى طويل، وبين "خطط عملية مرحلية" متنوعة من أجل تنفيذ الاستراتجيات.. فأين نحن العرب من ذلك؟ وأمام تعذّر وجود ذلك على المستوى الرسمي العربي (بحكم تعدّد الحكومات وخلافاتها)، أين هذا الأمر على المستوى المدني العربي، وفي الحدّ الأدنى، أين هو وسط بعض الكفاءات العربية المقيمة أو المنتشرة في كل العالم؟!
فأمَّة العرب تعاني الآن من عطبٍِ في الداخل، ومن تهديدٍ من الخارج. لكن عدم علاج الضعف وإصلاح العطب سيهدّد هذه الأمَّة بالتحوَّل إلى أمَّةٍ مستباحة أرضاً، ومتصارعة شعوباً، حتى إشعار آخر!
إنّ إعفاء النّفس العربيّة من المسؤوليّة هو مغالطة كبيرة تساهم في خدمة الطّامعين بهذه الأمّة والعاملين على شرذمتها، فعدم الاعتراف بالمسؤوليّة العربيّة المباشرة فيه تثبيت لعناصر الخلل والضّعف وللمفاهيم الّتي تغذّي الصّراعات والانقسامات.
أين العرب الآن من المكوّنات الأساسية لمجتمعاتهم والتي تقوم على دور الأديان وعلى مزيج من الهويتين العربية والوطنية؟. فالرسالات السماوية تدعو إلى التوحّد ونبذ الفرقة. والعروبة تعني التكامل ورفض الانقسام. والوطنية هي تجسيد لمعنى المواطنة والوحدة الوطنية. فأين العرب من ذلك كلّه؟
إنّ غياب الفهم الصّحيح للدّين والفقه المذهبي وللعلاقة مع الآخر أيّاً كان، هو المناخ المناسب لأيّ صراع طائفي أو مذهبي يُحوّل ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتّعدّد إلى عنف دموي يُناقض جوهر الرّسالات السّماويّة، ويحقّق غايات الطامحين للسيطرة على الأرض العربية!.
إنّ ضّعف الولاء الوطني يصحَّح من خلال المساواة بين المواطنين في الحقوق السّياسية والاجتماعيّة، وبالمساواة أمام القانون في المجتمع الواحد.
كذلك هو الأمر بالنسبة للهويّة العربية حيث من الضروري التمييز بينها وبين ممارسات سياسية سيّئة جرت من قبل حكومات أو منظّمات أساءت للعروبة أولاً وإن كانت تحمل شعاراتها. فالعروبة هي هويّة ثقافية جامعة تستوجب تنسيقاً وتضامناً وتكاملاً بين العرب يوحّد طاقتهم ويصون أوطانهم ومجتمعاتهم.
فالضعف الآن هو في "المثقّفين" المعتقدين فعلاً بالهويّة العربيّة، والرافضين فكريّاً وعمليّاً للفصل بين أهداف تحتاجها الأمّة العربيّة كلّها. الضعف هو في غياب التنسيق والعمل المشترك بين من هم فكريّاً في موقع واحد لكنّهم عمليّاً وحركيّاً في شتات بل في تنافس أحياناً!.
إنّ الاصلاح والتصحيح والتغيير مسائل كلّها مطلوبة، وتحقيقها ممكن، لكنّها غايات للعمل الجماعي على المدى الطويل، لا بالعمل الفردي وحده، أو بمجرد التنظير الفكري لها.
فالأساس للخلل الراهن في جسم الأمَّة العربية، هو في حال الانحدار السائد منذ ثلاثة عقود وفي فشل العديد من المفكرين والسياسيين وعلماء الدين بالحفاظ على الظاهرة الصحية بالتعدّد الطائفي والمذهبي والإثني في مجتمعاتهم، حيث أصبحت الأفكار والممارسات تصبّ بمعظمها في أطر فئوية ضيّقة داخل الوطن الواحد.
إنّ التعدّدية كانت قائمة في البلاد العربية خلال الخمسينات والستينات، لكنّها لم تكن حاجزاً بين الشعوب ولا مانعاً دون خوض مشترك لمعارك التحرّر والاستقلال الوطني، بل كانت مفخرة معارك التحرّر آنذاك أنّها تميّزت بطابع وطني عام صبغ القائمين بها، فكانت فعلاً مجسّدة لتسمية "حركة تحرّر وطني".
اليوم، نجد حكومات عربية "عاهدت" إسرائيل وأميركا على "السلام"، حتى لو قامت تل أبيب أو واشنطن بتدمير واحتلال بلدان عربية أخرى، وبمواصلة قتل وتجويع وتشريد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
اليوم، نتعايش مع طروحات فكرية وسياسية لا تخجل من توزيع العرب على طوائف ومذاهب وأقليات بحيث أصبحت الهويّة الوطنية الواحدة غايةً منشودة بعدما جرى التخلّي المخزي عن الهويّة العربية المشتركة.
هو أيضاً انحطاط حاصل الآن بعدما استباحت قوى أجنبية (دولية وإقليمية)، وبعض الأطراف العربية، استخدام السلاح الطائفي والمذهبي والإثني في حروبها وصراعاتها المتعدّدة الأمكنة والأزمنة خلال العقود الثلاثة الماضية، وفي مجتمعات تتوارث فيها الأجيال مفاهيم خاطئة عن النفس وعن الآخر، وفي ظلِّ غيابٍ واضح لمنابر وطنية عروبية ديمقراطية تجذب الشباب العربي وتحوّل طاقاتهم إلى قوّةٍ تجمع ولا تفرّق، تصون وحدة الأوطان ولا تمزّقها.
طبعاً، فإن الخروج من هذا الحال العربي الرديء يتطلّب أولاً كسر القيود الدامية للشعوب، وفكّ أسر الإرادة العربية من الهيمنة الخارجية، لكن من المهمّ أيضاً تحرير العقول العربية من تسلّط الغرائز والموروثات الخاطئة.
إنّ المدخل السليم لنهضة هذه الأمَّة من جديد وللتعامل مع التحدّيات الخطيرة التي تستهدف أوطانها وشعوبها وثرواتها، هو السعي لبناء هُويّة عربية جامعة تلمّ شمل هذه الأمَّة وما فيها من خصوصيات وطنية وأثنية وطائفية، وتقوم على حياة سياسية ديمقراطية سليمة تعزّز مفهوم المواطنة وتحقّق الولاء الوطني الصحيح. وبذا تصبح العروبة لا مجرّد حلٍّ لأزمة العلاقات بين البلدان العربية فقط، بل أيضاً سياجاً ثقافياً واجتماعياً لحماية الوحدات الوطنية في كلِّ بلدٍ عربي ولمواجهة مخاطر الانفجار الداخلي في كلِّ بلد عربي.
إنّ ذلك يحتاج حتماً إلى طليعة عربية واعية وفاعلة ومنظّمة تبني النموذج الجيد لهذه الدعوة العربية المنشودة. ولن يتحقّق ذلك البناء في زمنٍ قصير لكنّه الأمل الوحيد في مستقبل أفضل يحرّر الأوطان ولا يفتّتها بعد تحريرها، ويصون الشراكة مع المواطن الآخر في الوطن الواحد، فلا يكون مُسهِّلاً عن قصدٍ أو عن غير قصد لسياسات أجنبية تفرّق بين العرب لتسود عليهم.
هناك بلا شك خميرة عربية جيدة صالحة في أكثر من مكان، وهي تعاني الآن من صعوبة الظرف وقلّة الإمكانات وسوء المناخ الانقسامي المسيطر، لكن تلك الصعوبات لا يجب أن تدفع لليأس والإحباط بل إلى مزيدٍ من المسؤولية والجهد والعمل. فالبديل عن ذلك هو ترك الساحة تماماً لصالح من يعبثون في وحدة هذه الأمّة ويحاولون إشعال النار في رحابها.
الخميس، أبريل 09، 2009
من أجل النهوض والإصلاح
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق