سامح عوده
– فلسطين
ربما لأننا أدمنا الهزائم، فما عاد يعنينا، الدفاترُ، والحبرُ، والكتب، ولا حتى أي شيء يحاولُ استنهاض العزيمةِ فينا، ولان الكتابة ليست درباً من الهوى، ولا طريقاً للتسليةِِ، أو حتى العبث، فبالكتابة يمكن أن تواجه النفس بحقيقتها، ويمكن لك أن تكتبَ التاريخ الذي هو محصلة أحداث تراكمية شكلت الوعي الأول لفئة أو عرق في بقعةِ ما، فيكون الحبر الذي خُطَتْ به عوالم الزمان والمكان هو الأثر الباقي لمن سيأتي من بعدهم، ترى بأي عين سيقرأ الأحفاد سيرة الأجداد ؟!
بلا شك حروف التاريخ سوف تكون مفتوحةً على كل الاحتمالات، إما أن يتفاخرُ الأبناء بسيرة ناصعةٍ ، أو يدفنون رؤوسهم كالنعام بين الحفرِ خزياً، ولأننا عَربٌ – بفتح العين- فينا من الشهامة، والنخوة، الكثير، فان أحفادنا، وأحفاد أحفادنا، سيحاولون بكل السبل أن يسخروا مننا على الأقل عبر القرن الماضي، وبداية هذا القرن الذي لا تلوح في افقه أي بوادر تغير في الحال، إذ لا يمكن أن تدون إلا النكبات والنكسات، والهزائم، والتراجع، والتخاذل، وكل ما يبعثُ في النفس الغصة، والاشمئزاز، فعذراً يا كاتبَ التاريخ هذه هي الحقيقة الواضحة التي يجبُ أن يعيها الجميع..!!
في كتابة التاريخ الحديث وأقصد - قرناً من الزمان مضى ونيف- محوران للحديث، محورٌ يتعلقُ بالذات العربية التي لم تسعَ إلى التغير، وفضلت بسلبيتها وجبنها أن تكون متفرجةً، وكأنها ليست عنصراً في المشهد المكون لتراكمية الأحداث، ومحورٌ ثانٍ يتعلق بآخر، هو العدو، الغريب الذي دخل وتسلل إلى أوطاننا، فهجرَ وقتلَ، واستباح كل القوانين الإنسانية، يحاول أن يصنع تاريخاً بشعاً، على أطلال أهل الحق وأصحاب الأرض، وفي المحورين مشهدان مختلفتان بكل " كيميائهما "، أراهما في مخيلتي مشهدُ " صاحب الحق المتخاذل " ومشهد " الدجال الظالم " إنها مفارقةٌ صعبةٌ، فالعقلُ الآدمي بتعقيداته بكل ما أُوتي من فطنةٍ وذكاء، لا يمكن له الولوج إلى أعماقهما للتحليل أو الربط بينهما، لأن الفطرة الإنسانية لا تقبل الاثنين باختصار .
فالآخر العدو الغريب، الصهيوني، الحاقد، الدخيلُ على هذه الأرض، يحاول بالقهر والقتلِ، وبكل البشاعة والقذارةِ ، أن يشكلَ هالةً من البراءة على سلوكه كي يكون مقبولاً على أرض لم يكن يوماً فيها مولده، يحاول أن يجعلَ من آلة ترهيبه عنصراً أساسياً ليكتب بوسائل إجرامه المنظم تاريخاً مزيفاً لشعب لقيط ..!! كيف يمكن ذلك ؟ ورائحة الأرض المجبولة بدماء الشهداء فلسطينية خالصة، وعرق الفلاحين يروي ذرات ترابها الكنعانية، وعجين الفلاحات، ورائحة خبزِ الأمهات يشهد، وزيتوننا، وزيتنا، وقدسنا، وساحلنا، يشهد، يا كاتب التاريخ مهلاً ففي الصفحات ما زال متسعٌ ..
ولأن التاريخَ هو الأهم فقد حاول الآخر الغريب أن يقتلع الزيتون، ويحرق الأرض، كي لا يكون لنا قمحٌ وخبزٌ، كي لا يشير ذلك إلى فلسطينيتها، حتى نرحل ونتركها فارغةً له، حاولَ أن يأتي، بالروس، والبلغار، والفلاشا ووو، وكل الذين ضاقت بهم السبل في بلاد الثلج، أو بلاد الجوع، كي يكونوا أهلاً لهذه الأرض، لكن ذلك لم يكن، لأن الزنود السمراء، المعجونة في رحم الأرض الطاهرة كذبت كل نبوءاتهم، فوجه الأرض، وسماؤها، وهواؤها، لا يقبل إلا فلسطينيناً خالصاً، دماً، وروحاً، وشكلاً، لأن العناصر غير الأصيلة تحدثُ خللا في التركيب " الفسيولوجي " وبالتالي عناصر الدفاع في الجسم تطردها خارجاً.
بقيت العمليةُ صعبةً عليه فكل محاولاته أخفقت في تدجين الإنسان الفلسطيني وترويضه، ليكون عبداً يعملُ بالسخرة، يأكلُ كي لا يشبع، ويعملُ كي يموت، فلجأ إلى تسخير أقلام الضلال، كي تكون يده الأخرى في اغتيال كل شيء فلسطيني، لذلك ظهرت العديد من الأدبيات تحاول أن تربط بين شعب لقيط، وأرض لا تقبل إلا بالطهر في رحمها، تسابقَ الساسةُ، والأدباء، والتجارِ، والفجار، وكل أصحاب الذمم الخراب منهم كي يزيفوا التاريخ، ويضيفوا " هرطقات " تدلُ على البلاهة، لم يعرفوا أن الدجل، والدهاء، الذي مورس لم يفلح في جذب أنظار يهود العالم إلى هذه الأرض، فالمعطياتُ المتوافرةُ عن دوائر هجرتهم تفيد بان أعداد المهاجرين اللقطاء في تراجع مذهل، وأن المهاجرين الذين حاولوا جذبهم مؤخراً يفكرون بالعودة من حيث جاءوا، فلا المناخُ مناخهم، ولا السماء سماءهم.
صورت كل الأدبيات الصهيونية التي كتبت قبل قيام حركتهم الصهيونية بأنها حركة إنسانية، تسعى للم شمل شعب تشتت في المنافي، ومن أبرزها ما كتبه " بنيامين نتنياهو " في كتابه " مكان تحت الشمس " حيث حاول أن يقلب المسميات ويغير في طرفي المعادلة، لذلك غير اسم فلسطين إلى " ارض إسرائيل الموعودة " ممارساً احتيالاً وتزييفاً تاريخياً ليثبت بأن هناكَ رابطاً زائفاً بين الأرض الفلسطينية الخالصة واللقطاء، ويتمادى في هذيانه ليقول بأن الفلسطينيين الموجودين على هذه الأرض هم " أقلية " برغم الملاين المهجرة والمشتتة في دول الشتات، يبدو انه تناسى قاصداً..!! بان الميزان الديمغرافي في أي اتجاه يميل..؟! محاولة " نتنياهو" ليست الأولى ولا الأخيرة، فأقلام الافكِ واحدة، وأصوات الحق كثيرةً، وبالتالي فان كل ما كتب لم يخرج عن هذا الإطار، هرطقات تحاول الربط بين الخرافة والواقــع.
يبدو أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفنُ، فكاتبُ التاريخ لم يستطع الربط بين الخرافة والواقع، الواقع المبني على الحقيقة الراسخة، والخرافة المبنية على التأويل غير المنطقي، لذلك كان لا بد من رؤىً أخرى تحاول جسر الهوة بين التصورين، فهم بمنطق الجبابرة، ونحن بمنطق الضعفاء، حاولنا أن نسير في مركبٍ يجمعنا، متجاوزين كل الخسارات، والهزائم، كي نعيش معاً، دولتان، يجمعنا مستقبلٌ، لذلك تسابق أنبياء السلام ليوجهوا بوصلة المركب استعداداً للانطلاق، فلم ينطلق المركب لأن أشرعته الورقية لا تتناسب ورحلة السفر، ولن تصمد في وجه الريح القوية، والقناديل الهلامية التي كانت تتموج على وجه البحر نضب زيتها، ولم يعد بالإمكان المسير متراً واحداً إلى الأمام، لأن كاتب التاريخ يأبى أن يكتب مستقبلاً واحدا لنا ولهم ..!!
يخطئ من يظن أن الطبيعة تقبل بالضعفاء، أو المهزومين، فالتاريخ لا يرحم عاجزاً، ولا يسترُ عورة ً مكشوفةً في العراء، حتى لو حاولنا أن نلون بعض سطور التاريخ، فهناك شواهد لا يمكن أن يغيبها مداد السطور، حكايا الجدات، وتضحيات الأمهات، ودروب الشهداء، هي من ستكشفُ عوراتنا في وجه الريح، ونبقى في العراء عراة، ويخطئ من يظن بأن كاتب التاريخ سيكتبُ عن الفلسطينيين وحدهم، كاتبُ التاريخ سيكتب عن أمة بعدد رمال الصحراء، تخاذلت وتهاونت في استرداد حقها، وغضت الطرف عن نصرة المقهورين في أرض هي لهم أولى القبلتين وثاني الحرمين الشريفين، وأما قارئ التاريخ فسيلعن أمة تجاوزت المليار بقيت صامتةً صمتاً تجاوز قرناً من الزمان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق