صبحي غندور
مرّت أيام قليلة على الذكرى ال34 للحرب الأهلية اللبنانية، وهناك الآن أسابيع معدودة تفصل عن موعد الانتخابات النيابية اللبنانية المقرّرة في مطلع شهر حزيران/يونيو القادم، هذه الانتخابات التي ستحصل وفق قانون انتخابي وُضع منذ حوالي نصف قرن وكان مساهماً في بناء لبنان "مزرعة الطوائف" لا لبنان الوطن الواحد، كما كانت من نتائجه انقسامات بين اللبنانيين على أساس مناطق وأقضية موزَّعة على طوائف ومذاهب و"عائلات سياسية" ممّا مهّد المناخ السياسي والشعبي لحرب أهلية طاحنة استمرّت خمسة عشر عاماً.
ولعلَّ هذا القانون الانتخابي، الذي جرى العودة إليه الآن إثْر "اتفاق الدوحة" في العام الماضي، هو مناسب تماماً لما عليه الحال السياسي اليوم في لبنان من إثارة الغرائز المناطقية والطائفية والمذهبية، ومن توظيف للمال السياسي، ومن تحجيم للتيّار الوطني اللبناني التوحيدي.
لقد كان لبنان، قبل بدء الحرب الأهليّة في 13 نيسان/أبريل 1975، نموذجاً للعرب في ممارسة الحياة السياسيّة الدّيمقراطيّة، والتّعدّدية الحزبيّة، والانفتاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولمجتمع الحرّيات العامة بشكل عام. لكن بعد اشتعال الحرب الأهليّة انكشفت مساوئ هذا "النّموذج اللّبناني" وما كان فيه من أمراض طائفيّة هدّدت الجسد اللبناني أكثر من مرّة بخطر الانتحار الّداخلي أو القتل المتعمّد من الخارج!.
ودارت الأعوام والأحداث في لبنان حتّى رست على صيغة اتّفاق الطائف عام 1989، والّتي أثمرت وفاقاً لبنانيّاً مدعوماً بوفاق دولي/عربي على إعادة إحياء التجربة اللّبنانيّة القديمة بطبعة جديدة منقّحة!
وهكذا عاد "النموذج اللّبناني الصّالح" إلى الوجود بالمنطقة العربيّة رغم التّشوّه الّذي حدث له بفعل سنوات الحرب خلال عقدي السبعينات والثمانينات.
وعلى مدار ربع قرن من الزمن (من العام 1975 إلى العام 2000) كان الخنجر الإسرائيلي هو الأكثر إيلاماً في الجسم اللّبناني، بل كان هذا الخنجر المسموم يستهدف قتل "النموذج اللّبناني" الّذي أعطاه عام 1974 من على منبر الأمم المتّحدة الرّئيس اللّبناني الرّاحل سليمان فرنجيّة كبديل عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وكنموذج لتعايش الطوائف المتعدّدة في ظلّ دولة ديمقراطيّة واحدة.
وقد استطاعت المقاومة اللبنانيّة الّتي برزت عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 أن تردع هذا الخنجر وأن تقطع يد الاحتلال الّتي حملته، فكان الانتصار اللبناني على الاحتلال الإسرائيلي عام 2000 بداية لنموذج لبناني جديد في المنطقة العربيّة وفي الصّراع العربي الإسرائيلي. فإذا بتعبير "اللبننة" يتحوّل من معنى الإنذار بحرب أهليّة والتحذير من مخاطرها، إلى معنى المقاومة النّاجحة ضدّ الاحتلال والقدرة على دحره.
لكن التفاعلات السياسيّة والأمنيّة التي حصلت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، جعلت "النّموذج اللبناني المقاوم" يتراجع لصالح "النّموذج اللبناني" المتصارع مع نفسه، وفي ظلّ تصعيد محموم قادته إدارة بوش ضدّ حركات المقاومة لإسرائيل، فأصبح المستهدف الأوّل هو رأس النّموذج المقاوم ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.
وصحيح أنّ إسرائيل دعمت أطرافاً لبنانية في الحرب الأهلية وساهمت بإشعال معارك طائفية عديدة، لكنّها فشلت في تجزئة الوطن اللبناني وانتصر اتفاق الطائف العربي على مشاريع التقسيم الطائفي الإسرائيلي.
لكن لا المشاريع الإسرائيلية بشأن لبنان طُويَت صفحتها بدلالة حرب صيف العام 2006، ولا المحاولات الإسرائيلية في استقطاب جماعات لبنانية جرى التخلّي عنها أبدياً.. فلبنان ما يزال في دائرة الاستهداف الإسرائيلي بغضّ النظر عن التغييرات التي حدثت وتحدث في المجالين الدولي والإقليمي.
لقد نجح اللبنانيون – برعاية عربية- في جعل اتفاق الطائف مدخلاً جيداً لإنهاء الحرب اللبنانية، إلا أنّ هذا المدخل الجيّد لم يستتبعه بناء بيت لبناني جيّد على أسس متينة.
إنّ البيت اللبناني الواحد ما زال مهدّداً بالانهيار لأنّ اتفاق الطائف كان يجب أن يؤدّي إلى إلغاء الطائفية السياسية مع الحفاظ على لبنان كبلد قائم على تعدّد الطوائف، فالمطلوب ليس إلغاء أيّ طائفة أو مذهب بل إلغاء الطائفية السياسية والمذهبية السياسية، حيث أنّ كلاهما يؤدّيان إلى حروب الطوائف والمذاهب وإلى استغلال الخارج لصراعات الداخل.
وعوضاً عن تنفيذ كل بنود "اتفاق الطائف"، وتطوير الصيغة السياسية اللبنانية لكي تتجاوز الحالة الطائفية، نجد الآن تراجعاً قد حصل من خلال اعتماد قانون انتخابي مناطقي وطائفي بدلاً من اعتماد قانون قائم على "المحافظة" و"نظام النسبية".
وكأنّ المنشود هو استمرار تشويه "النموذج اللبناني الديمقراطي" مماشاةً وتسهيلاً لمحاولات تشويه "النموذج المقاوم"، فلا يكون لبنان في الحالتين مثالاً يُحتذى في محيطه العربي!
هناك بذور أمل نرجو أن تنمو وتكبر في السنوات القليلة القادمة؛ منها ما قرّره وزير الداخلية اللبناني بإعطاء اللبنانيين حقّ عدم ذكر الطائفة أو المذهب على "بطاقات الهوية"، ومنها أيضاً إقرار حقّ الانتخاب لسن 18 بدلاً من 21 المعمول به الآن، وهذا يضيف دوراً هاماً لجيل الشباب اللبناني إذا جرت توعيته وتربيته بمضامين وطنية توحيدية متجاوزة لحكم العائلات المتوارثة وللفرز الطائفي والمناطقي.
ومن بذور الأمل أيضاً بمستقبل أفضل وجود شرائح سياسية وأكاديمية واجتماعية ناشطة الآن في معظم لبنان ترفض "لبنان الطائفي" و"حكم الوراثة السياسية" وتعمل من أجل لبنان الواحد الديمقراطي، الحريص على هويته العربية وعلى دوره المقاوم للعدوّ الإسرائيلي.
لكن العامل الأهمّ سيكون مقدار وعي الشّعب اللبناني عموماً، وجيل الشباب تحديداً، بالذي أمامه من احتمالات وخيارات، وبما عليه من مسؤوليّة ودور.
فجيل الشّباب في لبنان هو أداة أي صراع مسلّح أو تفجير أمني، وهو وقود أي أزمة كما هو طليعة أي حلّ.
الجيل اللّبناني الجديد قادر على صنع "نموذج لبناني" يقوم على الديمقراطيّة السليمة في الداخل وعلى التحرّر من أي هيمنة خارجيّة في ظلّ الحفاظ على "نموذج لبنان المقاوم" الّذي حرّر الوطن من الاحتلال الإسرائيلي.
لقد اقتسم الحاكمون بعد "اتفاق الطائف" الحكم ومنافعه، وحاول كلّ طرف أن يجعل من نفسه ممثلاً لفئة أو طائفة أو منطقة، فاستمرّت العقلية نفسها التي كانت سائدة قبل الحرب عام 1975، ونشأ جيل ما بعد الحرب في بيئة سياسية فاسدة معتقداً أنّ المشكلة هي في "الآخر"، لكن لم يدرك هذا الجيل الجديد أنّ مشكلة وطنه ومشكلة مستقبله هي في التركيبة السياسية التي تتولّى إعادة البناء السياسي والتي ترفض التخلّي عن امتيازات النطق السياسي باسم هذه الطائفة أو المذهب أو المنطقة.
حبّذا لو أنّ الشباب اللبناني يتحرّك للمطالبة بحرّيته من زعامات سياسية طائفية موروثة، بعضها يورث أبناءه العمل السياسي وهو ما زال على قيد الحياة السياسية!.
ولو يتساءل الشباب اللبناني: تُرى لِمَ تمارس الديمقراطية في لبنان فقط من خلال توريث معظم الحاكمين والمعارضين لأبنائهم وأقاربهم؟ ثمّ لِمَ تنتقل البندقية من كتف إلى كتف على جسم هذا الزعيم أو ذاك، وتتغيّر تحالفاته الإقليمية والدولية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، لكن لا يتغيّر عنده قانون التوريث السياسي؟ أليس حالٌ كهذا هو المسؤول عن الاستقواء بالخارج كلّما دعت الضرورة؟ ألا يجعل هذا الأمر من لبنان مزرعة لا وطناً؟ ويحوّل الناس من شعب إلى قطيع يُساس ثمّ يُذبَح عند الحاجة؟!
أوَليس ذلك هو السبب الأول لكثرة التدخّل الإقليمي والدولي في الساحة اللبنانية؟
اللبنانيون هم "يكونون كما يُولّى عليهم"، و"يُولّى عليهم كما يكونون".. فتتكرّر المأساة في كلّ حقبة زمنية، طالما أنّ جذور المشكلة كامنة في "العقلية اللبنانية" التي تتحدّث من جهة عن "عالمية لبنان"، وتتصرّف من جهةٍ أخرى بوحي من مصالح الحي والشارع و"الزاروب"!
الخميس، أبريل 16، 2009
النّموذج اللّبناني المشّوه
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق