زهير الخويلدي
"إن أخلاق الأرض تغير دور الإنسان العاقل من مستعمر لمجتمع الأرض إلى عضو عادي ومواطن فيه، إنها تقتضي منه احترام الأعضاء- الزملاء له وأيضا احترام المجتمع بحد ذاته"
ألدو ليوبولد – الفلسفة البيئية
ما علاقة الفكر بالأرض؟ كيف يمكن أن يدافع الفكر عن حرمة الأرض؟ هل يمكن أن يمثل المنجم المناخ الأرضي الملائم الذي يتربى فيه الفكر وينشأ؟ ألا من هبة تشتعل وسط الظلام الدامس وتتهيأ في حقول الفلاحين هادئة وفي الصمت المخيم على أنفاق المناجم؟ ألا من دورة تصعد بالحبل الحضاري من الدرك الأسفل إلى الأعلى ؟ ألا من عود على بدء يفعل المخزون الثوري الموروث عن الجبائي وحمدان قرمط والغفاري والحلاج وابن رشد ؟
ما أغرب أن يقترن الاحتفال بيوم الأرض بتحرير العمال من المنجم وبإيقاف نزيف الاستغلال والكف عن العبث بمقدرات وذخائر الشعب وبإضراب الطلبة واعتصام المسرحين وتجمهر المهجرين من أجل ضمان حق العودة إلى سالف نشاطهم وقصد المطالبة بإرجاعهم إلى مواقعهم السابقة وفك حبل اعتصام التخرج والشغل طالما أن الهجرة في قوارب الموت والتزوج لأعوام بالبطالة هو الفن الأرقى في الحياة اليومية. ما أروع أن تجتمع الأحداث والأشخاص ضد الوطن والأمة و القيم الكونية وأن يلوذ المواطن الإمبراطوري بالقبيلة ويتسلح بالتراث والتقاليد ومكارم الأخلاق ويخرج التاريخ منتصرا وحده دون منافس في معركة متكافئة مع القدر استعملت فيها كل الأسلحة عدى الحظ وسوء الطالع.
ما أروع أن ينعقد مؤتمر القمة العربية في إمارة قناة الجزيرة ليتوحد العرب أول مرة مع أمريكا الجنوبية في ظل حضور كومانديتو بوليفاري في الملحق الاقتصادي ولينقذ النظام الرسمي للجامعة العربية ما تبقى من العرض بالاتفاق على الوقوف صفا واحدا ضد مذكرة إيقاف رئيس دولة عربية افريقية ذات سيادة كمقابل على التراجع العلني عن تشريك رموز المقاومة في اجتماعات مخصصة لقيادات معدلة حسب كراس شروط بيت الطاعة الدولي وبعد التوبة والمصالحة بين الأخضرين وفتح النوافذ لمرور الهواء وتنقية الأجواء الدبلوماسية بين تدمر وجرس.
ربما يكون الطريق الأقصر إلى تحرير كل رقعة أرض محتلة من مسطح محايثة بني كنعان إلى مضيق الطارق هو التبرع بيوم من الراتب وحمل الشارة الحمراء على الأذرع والسوداء على الجبين والبيضاء على الصدر وإرسال الأدوية في سفن إنسانية تقودها شخصيات لا شرقية ولا غربية لا يسمح لها بالدخول ولا حتى بالرسو في عرض البحر فتظل تحلم بكسر الحصار والاعتراض على الجدار.
المدهش أن المدافعين عن القضية اليوم وغدا لم يعودوا من الرفاق والشبيبة بل من الأخوة وأهل الرضوان والفتوى من الملأ الأعلى، ولكن الباعث للأمل والتفاؤل جدا أن قطار التسوية لم يغادر محطته الأولى وأن السلام صار غذاء البطون التي لا تشبع وأن التسامح وقع تقديمه كدواء لكل الأسقام وأن لغة الصراع والثورة والقوة لم تتجه من اليسار إلى اليمين ولم تبارح دائرة الوسط بل أطاح بها جميع الناس بما في ذلك الأصدقاء والأعداء.
نص الوثيقة بدأ في سايس بيكو وتعزز في كامب ديفد ومدريد وأوسلو لينتهي في ساحل جبل سيناء والفرق واضح أن المرات السابقات كان اتفاق في أراضي غير أهلية ولكن هذه المرة تم في أرض عربية والتوقيع بنيران صديقة والرعاية كانت احتفالية شعبية والتأييد جاء من كتيبة الثقافة الرسمية.
العروبة تحولت إلى خط أحمر لا ينبغي التنازل عنه بعد كانت اللسان الذي تلهج به كل بلدان الجامعة العربية ، في حين أن الإسلام شوهد ينزح من البادية إلى المدينة ويهاجر من الجنوب إلى الشمال ويقرأ السلام على العالم وعلى نفسه بعد أن تمت دمقرطته وعلمنته من خلال طبخة غريبة عجيبة زبدتها كانت قطف ثمار حقوق الإنسان لكل من أتى راكبا، وأما المقاومة فهي في معاجم العجم إما أن تكون مقاولة أو مناولة وفي الحروف الأبجدية العربية مغامرة ومساومة.
انتخابات شكلية في كل قطر ومتنافسون جدد على عدد المقاعد القديمة والحظوظ طبعا متساوية جدا والتنوع والتعدد على رأس كل القوائم والاختلاف لحمة بين الفرقاء ورحمة للخلص والأتقياء والملاعب الرياضية والمسارح والمنتزهات قد أعدت سلفا لمثل هذه الأغراض النزيهة والبعيدة كل البعد عن منطق الإشهار والدعاية وجيش الفنانين في انتظار صفارة البداية حتى يبدؤوا رحلة عزف أنشودة التوريث.
الآن فقط إذا أردت أن تحتفل في يوم تدافع فيه عن أرضك فاكتب عن المنجم لتحفظ من النسيان وصايا كل الذين دخلوا إلى بطنه ولم يخرجوا وكل الذين خرجوا للدفاع عن الأرض ولم يعودوا لأن التجربة تستدعيك والفكر يخاطبك ، وقع نصك باسمك وأرسله إلى عمال الأرض وأهديه إلى أبناء المناجم وإلى المتجهين صوب الفكر الحاذق إذ ماذا بقي من الأرض غير جوف كهف يؤدي إلى حضن المنجم رحل الأجانب بكنوزه وألقوا الفضلات على جانبيه فجرفت مياه العواصف التربة وأفسدت أديمها؟
الآن فقط اكتب أنهم مروا من هنا وحملوا معهم كل شيء نافع وخربوا أرضي وهذا المنجم الفارغ من ثروته شاهد على فعلتهم وهذا الذهن الشارد إدانة لهم وهذا الفكر الثائر يحتج على مسالمتهم. أين التعويض؟ وأين جبر الأضرار حتى يكون هناك صفح وثمة مسامحة وإسقاط للدين والعفو عن الذنب؟
الفكر هو الصياد العاتي الذي يحلق في سماء المعركة يتابع عن كثب جميع فصول الحياة ويغمره الطين ليناله سواد الغبار المنبعث من ركض الأرجل القادمة والهاربة ويشهد على النهب الحضاري.
إن السماء لا تمطر أفكارا وإنما تطلع الأفكار من الأرض طلوع العمال من مخارج المنجم والأرض لا تفتح أبوابها لبني البشر إلا عبر مغارات المناجم ولكن الفكر حينما يتوجه نحو ذاته يدافع عن حق العامل في ثروته وحق الأرض على ساكنها في أن يصون عرضها ويفلح تربتها.
يرتبط المنجم في الرأي السائد باستخراج بعض الخيرات من الأرض قصد الحصول على الكنوز والمعادن النفيسة وتحقيق النعمة والثراء ونراه يفتح أبوابه في كل صباح ليستقبل زواره وبعض من مودعيه ويغدق عليهم قسطا لا بأس به من العذاب الذي قد لا يرونه في اليوم الآخر جحيما ويصرف لهم هذه المرة الفقر عنوة و البطالة كرها وحتى إن كل الساعد وتصبب الجبين عرقا.
الأرض مسرح ومرتع كل المهرولين من الغزاة والطغاة وهي غالبا ما تبسط جناحيها محتضنة الجميع، فهي الأم والعالم الذي نسكن والكون الذي يختزن بين أروقته العناصر والوجود الذي يقبل ويدبر.
أتظنون أن كل ذلك تم تحت أنظار الآلهة والبشر يلهون ويمرحون والأرض تسرق والمنجم ينادي والفكر بعيد ولا من مغيث. انه المنجم، إنها الأرض، انه الفكر، الفكر عرق المنجم ، المنجم ملح الأرض، الأرض تقاوم كل من يأتيها غازيا وترحب بكل من ينزل عندها ضيفا، أليس طلوع الفكر من المنجم مثل طلوع الفطر من الأرض؟ أليس التحاق العمال بالمنجم مثل نزول الغيث بعد أشهر من القر؟ ألا ينبغي أن تتحول فكر الفلاحة والتربية والاستصلاح إلى إتيقا لتحرير الأرض من الاستعمار والمنجم من الاستغلال والفكر من التلوث بأدران الانبطاح والتطبيع مع الواقع؟
كاتب فلسفي
الاثنين، أبريل 06، 2009
طلوع الفكر من المنجم هو مثل طلوع الفطر من الأرض
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق