د. مصطفى يوسف اللداوي
الجزء الثاني
حياة تزخر بالجهاد والمقاومة على مدى أكثر من ثلاثين عاماً هي عمر مقاومته، وسني صموده، وصفحات عمره الطويلة المليئة بالجرأة والجسارة والتحدي والإرادة الصلبة، لم يتوقف خلالها أبو الحسن المبحوح عن القيام أو التفكير بالمقاومة، وفي الوقت الذي انشغل فيه آخرون بالتربية والإعداد، كان أبو الحسن يحمل بندقيته على كتفه، ويجوب وإخوانه بساتين مخيم جباليا والمنطقة الشرقية ومسجد حسن البنا على شاطئ المخيم، متدرباً على السلاح، مخططاً لمهامٍ قتالية، متحفزاً لمواجهة، أو متهيئاً لهجوم، ولم يكن أبو الحسن يعرف الخوف أو التردد، أو يدرك حسابات التوازن العسكري، أو مقاييس التكافؤ في القوى، بل كانت الجرأة عدته، والجسارته خطته، والتحدي منهجه، وقبضة يده تلوح في الأفق، بوجهٍ عابسٍ غاضب، ثائرٍ على الضعف، رافضٍ للاستسلام، يتحدى الظروف الصعبة، ويواجه الخطوب المعقدة، وكان ضباط الأمن الإسرائيليين المشرفين على مخيم جباليا، يعرفون هذا الشاب ذي الهمة العالية، والحركة السريعة، والأكتاف العريضة، والعضلات المفتولة، الذي ما ينتهي من صلاته حتى يهب واقفاً لمكان العبادة الآخر، الذي كان يقضي فيه جل أوقاته، فكانوا يخشون من غيابه، ويخافون من حضوره، فيباغتونه في بيته، أو يفاجئونه في مقر عمله .
وكانت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" قد تعرضت في الرابع عشر من شهر آب / أغسطس من العام 1988 لأول ضربةٍ أمنية إسرائيلية، إذ قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي باعتقال المئات من نشطاء حركة حماس في الضفة الغربية وقطاع غزة، فغصت معتقلات أنصار "3" في النقب وسجن السرايا بغزة بنشطاء حركة حماس، وطالت الاعتقالات الشهيد القائد صلاح شحادة، الذي كان يشرف على النشاط العسكري للحركة، وقد كان يدير من بيت أبي الحسن المبحوح معظم عملياته العسكرية، ويشرف على تكوين الخلايا العسكرية الجديدة، ويتابع فعاليات الإنتفاضة الوليدة، وكان محمود من قبل قد قضى بصحبة الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي في سجن غزة المركزي قبل اندلاع الانتفاضة الأولى مدة عامٍ، بتهمة حيازةِ أسلحةٍ نارية، التي كان يحرص على حيازتها دوماً، إذ لم يكن يتحرك في غزة إلا ومسدسه على جنبه، أو في سيارته، وكان قد تهيأ له ولإخوانه سلاحٌ وفير، حيث كانت مجموعاتٌ عسكرية استطلاعية تقوم برصد السيارات الإسرائيلية التي تحوي أسلحة نارية، بينما يقوم آخرون بجلبها من مختلف المدن الإسرائيلية إلى قطاع غزة، حيث كان المبحوح وبعض العاملين معه، يشرفون على نقل الأسلحة من السيارات الإسرائيلية إلى أيدي المقاومة، الأمر الذي مكن مجموعات المقاومة الأولى من حيازةِ أسلحةٍ نارية ساعدتهم كثيراً على مباشرة العمليات العسكرية.
ولكن الضربة الأمنية الإسرائيلية الأقوى والأشد ضد حركة حماس، كانت في مايو / آيار عام 1989، وفيها اعتقل شيخ الانتفاضة الشهيد أحمد ياسين، وآلافٌ آخرون من نشطاء الحركة، وذلك إثر العمليتين العسكريتين النوعيتين، اللتين قام بهما المبحوح وإخوانه، حيث نفذوا أول عملية أسر ضد جنود العدو الإسرائيلي، وقاموا في العمق الإسرائيلي بأسر وقتل الجنديين الإسرائيليين آلان سعدون، وآفي سبورتس، في أول عمليةٍ عسكرية نوعية تقوم بها حركة حماس، فجن جنون قادة العدو الإسرائيلي، وأخذوا يتخبطون بحثاً عن الفاعلين، وبدأت الملاحقة الأمنية الأولى والأشد لأبي الحسن وإخوانه في داخل قطاع غزة، ولكنه كان يتحرك أمام أعينهم بخفة، فيسبقهم إلى بيته، ويجلس مع أهله، ويغادر بيته قبل وصولهم، أو أثناء مداهمتهم، ولكن أحداً من الجنود الإسرائيليين لم يقوَ على اعتقاله، ونفذت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بحقه عمليات ملاحقة ومداهمة وكمائن كثيرة، في مناطق عديدة من أحياء مدينة غزة ومخيم جباليا، ولكن أبا الحسن كان يقفز دوماً من فوق الأسوار، ويمشي فوق الأسطح، وعيون الإسرائيليين لا تدركه، وقبضاتهم لا تصل إليه، ونيران بنادقهم لا تطاله، فقد كان يراهم ويتابعهم، ويمشي خلفهم ويلاحقهم، ولا يخشى من التفاتتهم، ولا يحسب حساباً لقوتهم.
وانتقل أبو الحسن من غزة حيث المقاومة والتحدي، إلى خارج الوطن فلسطين، في عمليةٍ أقضت مضاجع الإسرائيليين وأذهلتهم، إذ كيف تمكن من الفرار والإفلات من الحصار المطبق على قطاع غزة، وهم الذين يلاحقونه في كل مكان، ويتابعون آثاره في كل أنحاء قطاع غزة، ويحلمون في اليوم الذي يلقون فيه القبض عليه، لينتقموا منه وقد مرغ بالتراب بزة جنودهم العسكرية، ولكن أبا الحسن كان كالضوء يتسلل، وكالهواء ينفذ، وكالظل بصمتٍ يتحرك، فلا يعرف بتحركه أحد، ولا يطلع أحداً على برامجه، يعتمد على حسه، ولا يخالف حدسه، عيناه لا تنامان، تتحركان في محجريهما في كل مكانٍ، تسجلان كل شئ، وترصدان كل حركة، فلم يكن يهمل أي معلومةٍ ولو صغرت، وكان يدرك أن الإسرائيليين لن يدعوه وشأنه في خارج فلسطين، وأنهم سيلاحقونه للنيل منه وتصفيته، ولكنه كان قد عزم على مواصلة الطريق الذي بدأه، ولن يتخلى عن نهج المقاومة الذي ارتضاه لنفسه، غير مبالٍ باليوم الذي تنال منه إسرائيل أو عملاؤها.
أدرك أبو الحسن أن إسرائيل لا يرغمها شئ غير القوة، ولا يكسر غطرستها غير عنفٍ أشد وأقوى، ولا يضع حداً لعدوانها إلا مقاومة صلبة، وإرادة قوية، وتحدي لا يلين، وأيقن أن الشعب الفلسطيني قادر على الصمود والمقاومة، وأنه قادر على منع إسرائيل من الاستمرار في الاعتداء عليه، ولكن الصمود يتطلب قوة، والقوة تحتاج إلى سلاح، وأن الشعب الفلسطيني إذا امتلك سلاحه فلن تقوَ إسرائيل على سحقه، ولن تتمكن أي جهةٍ من مصادرة حقه في دولته ووطنه وعودة أهله، فبدأ رحلةً شاقة من السفر والترحال، من بلدٍ إلى آخر، بحثاً عن سبل دعم المقاومة، وتسليح رجالها، فطاف في كل مكان، وزار كل البلاد، ونسج من أجل هدفه علاقاتٍ كثيرة، وصنع تحالفاتٍ عديدة، ونجح في مهمته نجاحاً كبيراً، أثار حنق وغضب إسرائيل وأعوانها، فلاحقته عيونهم في كل مكانٍ يكون فيه، ورصدت حركته، وتابعت سفره، وأعدت الخطط لتصفيته، وكلفت جهاتٍ عديدة بالبحث عنه ومراقبته ومتابعة تحركاته، ولكنه كان لهم دوماً بالمرصاد، يقظاً حذراً، يفشل مخططاتهم، ويعطل خططهم، فلم تنجح كل الجهود الذي بذلت من أجل النيل منه، ولم تتمكن عمليات الاعتقال والتضييق والتعذيب التي تعرض لها، من منعه من مواصلة طريقه، واستكمال مشواره، ولم تثنه عن عزمه، ولم تفت في عضده، بل كان يخرج دوماً بعد كل محنة أشد قوة، وأقوى مراساً، وأكثر عناداً، غير مبالٍ بكل ما يجد من صعابٍ وتحديات، بل كان يستخف بقوة العدو، ويستعظم إرادة المقاومين، وكان يشعر أن العدو يعيش مأزق قوة المقاومة، وصلابة إرادتها.
أيها الفلسطينيون، بل أيها العرب والمسلمون، يا من تعلقت قلوبكم بغزة وهي تحت القصف، وبتم تخافون عليها من الانكسار، وتخشون على المقاومة من الهزيمة، أنتم في حضرة رجلٍ عظيم عزيزٍ، لا يقبل بالإهانة، ولا يرضى بالذل، ولا يستسلم للضعف، ولا يعترف بالعجز، وقد كان له فضلٌ كبير في صناعة انتصار غزة والأمة، وصمود المقاومة، إنه واحدٍ من كثير كان لهم الفضل الكبير في ثبات المقاتلين وشدة بأسهم، إنه أحد الذين يقفون بصدقٍ وراء قوة المقاومة، التي آمن بها وعزّز سلاحها، ومكن رجالها من امتلاك الكثير من أسباب القوة والمنعة، وعمل بصمتٍ لسنواتٍ طويلة كجنديٍ في الخفاء، بعيداً عن الأضواء والإدعاءات، مضحياً بخصوصياته وحاجاته الشخصية، يتابع ويرصد ويوجه ويحرك، ولم يكن ينتظر غير الشهادة، وبجهوده ذاق الإسرائيليون ويلات الموت ومرارة الهزيمة والانكسار، وعرفوا أن في فلسطين رجالاً كالجبال الشم الرواس، وأبطالاً كالنجوم في علياء السماء، فحق لنا أن نفخر بك أبا الحسن ونعتز، وأن نباهي بجهادك ومقاومتك، فإن غبت يا أبا الحسن فإن جهدك سيبقى، وأثرك لن يزول، والقوة التي زرعت سنحصد ثمارها اليوم أو غداً عزةً وانتصاراً، وسيبقى اسمك لدى الأمة كلها في الخالدين، سيذكره الطالعون، وسيحفظه المقاتلون، وسيخلده المنتصرون، لذا فنحن معك يا أبا الحسن في كل يومٍ نتابع، رغم أن جثمانك بعد لم يوارى الثرى، إلا أننا معك غداً ومن أجلك سنحاول أن نعرف ... هل مُتَّ أم قُتلتَّ ... وأنت ثالث الثلاثة ...
الأحد، يناير 24، 2010
المبحوح وإرادة الصمود
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق