صبحي غندور
تشهد المنطقة العربية جملةً من الأزمات المتراكمة زمانياً والمتفاعلة مكانياً، وهي في معظمها أزمات تحمل سمة التعدّدية في مظاهرها وفي أسبابها أيضاً.
فبعض الأوطان العربية يعاني الآن من خطر الاحتلال أو التدخّل الخارجي إضافةً إلى خطر الصراعات الداخلية، بل ربّما مخاطر الحرب الأهلية. وهنا تشترك مشكلة تحدّيات الخارج مع انقسامات الداخل.
أوطان عربية أخرى تمرّ في ظروف سياسية تبرز فيها أعطاب الحكم والمعارضة معاً. فلا الناس راضية عن الحاكم ولا هي مقتنعة أيضاً بالمعارضة البديلة. فهذه أوطان تعيش مشكلة الحكم والمعارضة معاً.
حتى في البلاد التي لا تعاني من مشكلة تحدّيات الخارج وانقسامات الداخل، أو من ثنائية أزمة الحكم والمعارضة، نجد الاختلال قائماً فيها حول مسألتي العدل السياسي والعدل الاجتماعي.
وهناك مشاكل تشترك فيها عموم المنطقة العربية، خاصّةً حينما يتعلّق الأمر بالمسائل الفكرية والثقافية وبكيفية فهم الدين والهُويّة الوطنية والقومية. فالهويّة الوطنية تُمارس الآن وكأنّها نقيض للهويّة القومية وفي مواجهتها. كذلك أضحت الأولويّة للانتماءات الطائفية والمذهبية، وعلى حساب الانتماء إلى الوطن الواحد والقيم الدينية المشتركة. كما أنّ التطرّف في الفكر أو في الأسلوب هو اللون السائد الآن على معظم الحركات السياسية العاملة بأسماء دينية وطائفية.
إنّ هذه المشاكل العربية المشتركة هي الحاضن الآن لكثير من الأزمات الوطنية أو الإقليمية. وهذه المشاكل والأزمات العربية هي ليست وليدة الحاضر أو الماضي القريب فقط، بل هي محصّلة لتراكم كمّي في الأوضاع السياسية على امتداد شريط زمني طويل، نحصد نتائجه حينما تشتدّ تحدّيات الخارج إذ تظهر جليّة أكثر أمراض وأعطاب الداخل في مواجهة هذه التحدّيات.
لكن دروس التاريخ تعلّمنا أيضاً أنّ المنطقة العربية هي نهر جارف لا بحيرة راكدة. وهذا ليس بخيار لأبناء هذه الأمَّة، بل هو قدرها المحتوم بما هي عليه من موقع استراتيجي مهم، وبما فيها من ثروات طبيعية ومصادر للطاقة، وما تختصّ به وحدها من أماكن مقدّسة لكلِّ الرسالات السماوية. فحتّى لو اختارت بعض شعوب الأمَّة العربية العزلة عن جوارها وعن العالم المحيط بها، فإنّها لا تقدر على ذلك بسبب خيارات القوى الأخرى الإقليمية والدولية التي تطمح للسيطرة على ما في هذه البلدان من خيرات.
ثمّ إنّ الصراعات بين القوى الإقليمية والدولية وتنافسها على المنطقة العربية، يزيد من هدير هذا النهر الجارف في المنطقة. فالسؤال إذن هو ليس حول حدوث التغيير فيها أو عدمه، بل عن نوعية هذا التغيير ومواصفاته واتجاهاته، وعن أطرافه المستفيدة أو المتضرّرة، سواء محلّياً أو خارجياً.
فالصراعات والتحدّيات وحركة التغيير، هي قدَر بلدان الأمّة العربية، لكن ما يتوقّف على مشيئتها وإرادتها هو كيفيّة التعامل مع هذه التحدّيات، وهو أيضاً نوعية التغيير الذي يحدث على أرضها وفي مجتمعاتها.
إنّ واقع الحال العربي الآن لا يحمل رؤيةً عربية مشتركة فاعلة لمستقبل أفضل، ولا يقوم في معظم الأحيان والحالات على مرجعيات فكرية وسياسية سليمة. فهناك إمّا استسلام للأمر الواقع ولإرادة الخارج، أو تصدٍّ في المقابل لهذا الواقع من خلال قوى متعدّدة المرجعيات وتتناقض لديها الأفكار والأساليب.
إنّ كثيرين من أبناء الأمّة يتشكّكون الآن من هُويّتهم العربية وممّا هو مشترك بين بلدان هذه الأمّة، دون إدراك منهم أنّ ما هو قائم من وضع سلبي لا يعبّر أصلاً عن العروبة نفسها. فالحديث هو عن "أمَّة عربية" بينما هي أوطان وحكومات متعدّدة، وأحياناً متصارعة، بينما المتعاملون مع هذه الأمّة العربية من قوًى إقليمية ودولية هم أمم موحّدة بكل معاني التوحّد أو التكامل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري. فلو أنّ حال هذه القوى كان شبيهاً بحال العرب الآن، لما استطاعت أصلاً أن تشكّل تحدّياً أو خطراً على غيرها. فالعرب أمّة منقسمة تتعامل مع أمم متحدة!!
ولعلّ أخطر ما في الواقع العربي الرّاهن هو الشعور باليأس والإحباط وفقدان الأمل بمستقبل أفضل.
***
ليس هناك من بداية واحدة فقط لمعالجة كلّ هذه المشاكل المتأزّمة في المنطقة العربية، فأيُّ نجاح في تفكيك أزمة هو عنصر مهم للمساعدة في حلّ باقي الأزمات، لكن المدخل الصحيح لأيِّ عمل ناجح هو توفّر الفكر السليم الذي يقود هذا العمل ويحرّك طاقات القائمين به. الأمّة العربية تحتاج الآن إلى رؤية فكرية مشتركة تحسم الخلل والتناقض المفتعل بين هُويّات مختلفة لأوطانها ولشعوبها، بحيث يتعزّز معاً، وفي وقتٍ واحد، الولاء الوطني على حساب الانتماءات الضيّقة الأخرى، كما هو مؤمّل أيضاً على صعيد الهُويّة العربية ومجالات التعبير المختلفة عنها، داخل المجتمعات وبين الحكومات.
فالتّعامل مع سلبيّات الواقع والعمل لإيجاد بدائل إيجابيّة يتطلّب الخروج أوّلاً من المأزق الذي يعيشه الفكر العربي المعاصر في كيفيّة تحديد جملة مفاهيم ترتبط بالهويّة والانتماءات المتعدّدة للإنسان العربي، وبدور الدّين في المجتمع، وبالعلاقة الحتمية بين حرّية الوطن وحرّية المواطن، وبالفهم الصحيح للعروبة وللمواطنيّة وللعلاقة مع "الآخر"، وأخيراً في التلازم المنشود بين الفكر والحركة.
فهناك قطاع كبير من العرب لا يجد أهمّية الآن للأمور الفكريّة أو للمؤسّسات المهتمّة بالفكر والثقافة، وهذه الفئة من العرب تجد أنّ الأولويّة الآن هي للأمور الحركيّة والعمليّة حيث لا يجوز إضاعة الوقت والجهد في قضايا الفكر والتنظير، بينما نجد في المقابل العديد من المفكّرين العرب يكتفون بطرح الفكر ولا يساهمون في بناء المؤسّسات التي تقدر على تحويل الأفكار إلى برامج عمل تنفيذيّة.
فالفكر في المجتمع هو كالإعداد الدّراسي والجامعي الذي يوجِد الأساس العلمي والنظري السّليم للأعمال الحركيّة المطلوبة في المجتمع. الفكر هو الذي يحدّد الأهداف المرجوّة من أيّ عمل، وهو الذي يصنع وضوح الرؤية خلال مسيرة تنفيذ برامج العمل. لكن لا قيمة للفكر إذا لم يعالج عمليّاً مشاكل قائمة وإذا ما بقي أسير الكتب وعقول المفكّرين. فالقيمة الحقيقيّة لأي فكرة تتحصّل من مقدار تعاملها مع الواقع ومشاكله والقدرة على تغييره نحو الأفضل.
إنّ أساس العطب في الجسم العربي هو في الفكر أولاً وقبل أن يكون في طبائع نظم الحكم أو كيفيّة المشاركة الشعبية في الحياة العامّة. والحديث عن الفكر لا يعني فقط النخب المثقفة في المجتمع، بل هو شامل لما يسود الأمَّة من تراث فكري ومعتقدات وعادات وتقاليد ومفاهيم لأمور الدين والدنيا، شكّلت بمجملها الواقع العربي الراهن.
إنّ إصلاح الفكر العربي بشموليته التاريخية والجغرافية لا يضع فقط الأهداف السليمة للمستقبل، بل يحدّد أيضاً ضوابط الأساليب ووسائل العمل التي تكفل النجاح والتقدّم والتغيير نحو الأفضل.
الأربعاء، يناير 27، 2010
أزمات متعدّدة لأمَّة واحدة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق