د. فايز أبو شمالة
كنت طفلاً في الحادية عشر من عمري عندما حدثت المحرقة، وما زلت أذكر كلمات أبي، ووصيته لي: إلى الأبد، أبق يا ولدي، يهودياً. هكذا وظف شمعون بيرس رئيس دولة إسرائيل الذاتي لخدمة العام اليهودي، وهو يتحدث أمام البرلمان الألماني في الذكرى التي يسمونها "الكارثة والبطولة" بينما جلس أعضاء البرلمان مؤدبين في حضرة الرئيس الإسرائيلي، ولم تبد منهم أي مشاغبة، أو رفض لهذا التحقير اليهودي لتاريخ ألمانيا، والأدهى من ذلك؛ أن أعضاء البرلمان قاطعوا شمعون بيرس بالتصفيق أكثر من مرة، بل وقفوا لدقائق مع نهاية الكلمة، وهم يصفقون، ويبايعون "شمعون بيرس" يهودياً تنكّس أمامه رؤوس الألمان، ويقسم قادتها السياسيون بين يديه يمين الخضوع لليهود.
كنت مندهشاً وأنا أتابع كلمة شمعون بيرس باللغة العبرية، وقد بثتها الإذاعة، والتلفاز الإسرائيلي، وكانت الدولة في غاية الفرح، بينما صدى حروف اللغة العبرية تتردد وسط برلين، في المبنى التاريخي "البندوستاغ"، وشمعون بيرس يقول: في مثل هذا اليوم قبل سبعين سنة نفذ النازيون الألمان جرائهم بحق اليهود أبناء جلدتي، وفي سنة 1951، اعترف المستشار الألماني بالمحرقة اليهودية، وبحق دولة إسرائيل بالتعويض، وها هي ألمانيا تدعو إلى هذا اليوم العالمي لإحياء الكارثة، كدليل على صداقتنا، وتواصل العلاقة الحميمة بين ألمانيا وبين إسرائيل، وبين أوروبا وبين إسرائيل، وما عليكم إلا الحلم الرائع للمستقبل.
أليس غريباً هذا التذلل الأوروبي لليهود؟ وهل حقاً هذه هي ألمانيا؟ وهل هذه هي حقيقة الشعب الألماني؟ فما الذي سحق عقول الأوروبيين، وذاكرتهم؟ وكيف انقلبوا على أنفسهم، وهم من قرأ تاريخ اليهود، ولامسوا بأعينهم ما قاله: "بار بوروخوف" ممن وضعوا الأساس لدولة إسرائيل، ورفعوا شعار: "بالدم والنار سقطت يهودا، بالدم والنار ستقوم يهودا". ومع ذلك يتنكر الأوروبيون لماضيهم، وينسون الحاضر، وهم يصغون للقاتل "نتانياهو" وهو يقول في الاحتفال المركزي للذكرى في بولندا: جئت من "أورشليم" لأقول لكم: إلى الأبد لن ننسى، ولن نصفح، ولن نسمح لم ينكر حدوث الكارثة، بأن يمحو ذاكرتنا.
إنه الخوف اليهودي على الذاكرة المزيفة التي زرعوها في عقول البشر لأغراض عقائدية، وهم حريصون على توظيفها باستمرار، ولاسيما بعد أن فضحت حرب غزة حقيقتهم، كما قال الكاتب الإسرائيلي "جدعون ليفي": إن ألف خطاب ضد اللاسامية لن يطفئ النار التي أضرمتها حملة "رصاص مصبوب"، ليس فقط ضد إسرائيل بل ضد العالم اليهودي بأسره. وهذا ما يستحث العرب والفلسطينيين لأن يبعثوا ذاكرتهم، وأن يرددوا صباح مساء: إلى الأبد سنبقى عرباً مسلمين، وإلى الأبد لن ننسى حقنا في فلسطين، ولن نسمح لم تآمر على حقوقنا، وأخرجنا من ديارنا، بأن يخرجنا عن ديننا، ومن ذاكرتنا، أو أن يدنس تضحياتنا.
fshamala@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق