د. عبدالله المدني
إلى ما قبل أيام قليلة خلت كان معظم الدلائل تشير إلى أن منطقة الهند الصينية ماضية من جديد نحو الحروب الطاحنة من تلك التي جربتها وذاقت مرارتها وطحنت شعوبها وأخرت نموها على مدى عقود من الزمن، تارة تحت شعار نيل الاستقلال من المستعمر الفرنسي، وتارة أخرى تحت شعار التحرر من نفوذ وسطوة المعسكر الغربي ممثلا في الولايات المتحدة، وما بين هذا وذاك دارت بطبيعة الحال صراعات دموية مريرة ما بين الإدارات الوطنية حول المغانم والحصص ونشر المعتقدات الإيديولوجية، بلغت ذروة وحشيتها في ما قامت به جماعة الخمير الحمر بقيادة المجرم بول بوت في كمبوديا، والذي سيذكر التاريخ مسئوليته عن مقتل أكثر من مليوني إنسان بريء في معتقلات التعذيب أو معسكرات النفي و إعادة التثقيف. ومما زاد من قوة هذه الدلائل أن اشتباكات وتبادل لإطلاق النار ما بين القوات التايلاندية والكمبودية قد وقعت فعلا و أسفرت عن قتيل وأربعة جرحى على الأقل، فضلا عن تدفق الحشود والآليات العسكرية.
أسباب تاريخية وليست سياسية
المختلف هذه المرة هو أن سبب الأزمة لا علاقة له بالعوامل السياسية الخارجية أو الاستقطابات الدولية كما في الماضي وإنما هو سبب تاريخي بحت، أو بصورة أدق خلاف حول الأحقية في ملكية معابد هندوسية وبوذية متناثرة على مساحة من الأرض على الحدود المشتركة لكل من تايلاند وكمبوديا، وهما جارتان لئن اشتركتا في التاريخ والثقافة، فان بينهما أيضا ما صنع الحداد من أيام الحرب الباردة حينما كانت تايلاند قاعدة عسكرية متقدمة للأمريكان في حربهم ضد قوات الفيييتكونغ الفيتنامية وقوات الباتيتلاو اللاوسية، فيما كانت كمبوديا تنتقل من الحياد ( كما في حقبة الأمير نوردوم سيهانوك) إلى التحالف مع الأمريكان ( كما في ظل إدارة لون نول) فإلى التحالف مع الشيوعيين ( كما في زمن حكم الخمير الحمر).
الخلاف ليس وليد اليوم أو الأمس القريب
والحقيقة أن الخلاف بين البلدين الآسيويين الجارين ليس وليد اليوم أو الأمس القريب، وإنما يعود إلى عام 1962 حينما قررت محكمة العدل الدولية في لاهاي أن ملكية معابد "برياه فيهيار" المقامة على منحدر جبلي بارتفاع 1700 قدم في شمال كمبوديا والى الشرق من إقليم سيساكيت التايلاندي، تعود إلى كمبوديا بحجة أن الفترات التي كانت خاضعة فيها لحكم ملوك الخمير الحمر هي الأطول ثم بحجة أن التايلانديين لم يثيروا الموضوع لزمن طويل، وهو ما لم تقبل به بانكوك من منطلق أن الوصول إلى تلك المعابد أسهل ويتم من خلال أراضيها، ناهيك عن ارتباط قدسيتها بقدسية بقية المعابد التايلاندية.
موضوع عاطفي ومثير للمشاعر القومية
وإذا ما ذهبنا ابعد من ذلك ، فإننا نجد أن تلك المعابد صارت موضوعا عاطفيا يثير المشاعر القومية عند الشعبين التايلاندي والكمبودي منذ اكتشافها على يد بعثات الآثار الفرنسية في مطلع القرن العشرين. ففي عام 1904 شكلت مملكة سيام و سلطات الإدارة الاستعمارية لكمبوديا لجنة مشتركة لتحديد الحدود الفاصلة ما بين البلدين، وكانت التعليمات المعطاة هو الالتزام بتحديد الحدود وفق خطوط الظل لسلسة جبال دانغريك، وهو ما جعل المعابد تقع في الجانب الكمبودي من الحدود. بعد ذلك ، وتحديدا في عام 1907 بعث الفرنسيون إلى التايلانديين نتائج أعمال مسح أكثر دقة تؤكد الحقيقة السابقة. لكن الطرف الأخير الذي بدا متحفظا على تلك النتائج انتهز مغادرة قوات الاحتلال الفرنسي لكمبوديا في عام 1954 ليقوم باحتلال المعابد المذكورة. وردا على هذه الخطوة التايلاندية اشتكت فنوم بنه بانكوك في عام 1959 لدى محكمة العدل الدولية ، فكان قرار الأخيرة السالف الذكر والذي اتخذ بنسبة 9 إلى 3 ، إلى جانب قرار آخر اتخذ بنسبة 7 إلى 5 يدعو حكومة بانكوك إلى إعادة كل التحف النفيسة - من تلك التي قد تكون بانكوك استولت عليها - إلى مواقعها الأصلية
الامتثال لحكم محكمة العدل
وتأكيدا على نزعتها السلمية ورغبتها في عدم الانجراف بعيدا في الصراعات الدموية التي كانت تحيط بالمنطقة وقتذاك، قررت بانكوك في يناير/كانون الثاني عام 1963 الامتثال لحكم محكمة العدل الدولية وسحب قواتها وإنزال علمها من المنطقة المتنازع عليها، ليدخلها على الفور أكثر من 1000 كمبودي من متسلقي الجبال يتقدمهم الأمير نوردوم سيهانوك الذي كان حينئذ في عز مجده وقوته والذي ألقى في المحتشدين خطابا عاطفيا. في هذا الخطاب قدر الزعيم الكمبودي لجيرانه التايلانديين أريحيتهم وتفهمهم، وتقدم نحوهم بمبادرة كريمة تمثلت في تنازل بلاده عن كل التحف والنفائس التي قد تكون نقلت من معابد "برياه فيهيار" ، وتأكيده على حق كل التايلانديين في زيارة المعابد وقتما يشاؤون ومن دون تأشيرات دخول.
دور الفيتناميين في المحافظة على المعابد
غير أن ظروف الحرب الباردة وانقسام العالم إلى معسكرين متصادمين ودول تقود الحروب بالوكالة، لم تترك تايلاند أو جاراتها في الهند الصينية تعيش بأمان وسلام. فالحرب الأهلية في كمبوديا استمرت وشهدت متغيرات كثيرة. صحيح أن معابد برياه فيهيار ظلت قلعة حصينة لوقت طويل في يد قوات الجنرال لون نول الحليفة لواشنطون، لكن الصحيح أيضا أنها كانت لسنوات مستهدفة من قبل قوات الخمير الحمر، حتى تمكنوا من الاستيلاء عليها في مايو/أيار 1975 وسدوا المنافذ السياحية التايلاندية إليها. بعد ذلك وتحديد منذ ديسمبر/ كانون الأول عام 1978 صار هذا الموقع الأثري الهام وما يحيط به من أراضي مستهدفا لأسباب استراتيجية من قبل القوات الفيتنامية التي غزت كمبوديا للإطاحة بنظام بول بوت. لكن ما سيذكر للفيتناميين أنهم رغم هجومهم العسكري على الخمير الحمر المتحصنين في تلك المعابد، كانوا حريصون على عدم إتلاف هذا الكنز الأثري أو تدميره بعكس أصحاب الشأن المحليين.
ألغام الخمير الحمر تخلق مشاكل جديدة
في هذه الأثناء لجأ الكثيرون من الكمبوديين إلى تايلاند هربا من وحشية نظام الخمير الحمر أو خلفائه، ولم تقصر بانكوك في احتضانهم رغم الخلافات الحدودية والمشاعر المحتقنة. وحينما بدأت الأوضاع تعود في كمبوديا إلى السلام والاستقرار في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات، أعادت بانكوك ضيوفها من حيث أتوا وعبر الأراضي التي تقع عليها المعابد موضوع الخلاف، لتكتشف أن الخمير الحمر زرعوا تلك الأراضي بالألغام وأن تنظيفها و إعادة تأهيلها سياحيا يستدعي جهدا دوليا جماعيا.
أسباب عودة الملف إلى الواجهة اليوم
أما أسباب عودة موضوع هذه المعابد إلى الواجهة في هذا التوقيت، فانه لئن كان مرتبطا إلى حد ما بالأزمة السياسية التي تعيشها تايلاند منذ إقالة رئيس حكومتها القوي تاكسين شيناواترا، فانه من جهة أخرى يرتبط بقرار منظمة اليونيسكو في يوليو/تموز الماضي إضافة المعابد إلى قائمة المواقع التاريخية العالمية. وبكلام أكثر تفصيلا، فانه بمجرد قيام اليونيسكو بفتح الباب أمام تلقي الطلبات في هذا الخصوص أعلنت فنوم بنه نيتها بالتقدم لضم معابد برياه فيهيار إلى قائمة تضم 26 موقعا اثريا عالميا جديدا. هنا اعترض التايلانديون بحجة انه طالما وجد خلاف حول تلك المعابد فانه لا يمكن لأحد طرفي النزاع أن يبت وحده في أمرها، وأن المفترض هو الاتفاق على قرار ثنائي بخصوصها، وهو ما تم سريعا حينما بادرت الدولتان إلى التقدم بطلب مشترك إلى الاجتماع الثاني والثلاثين للجنة التراث العالمي المنعقدة في مونتريال من منطلق أن تلك المعابد تجسد قيمة أثرية عالمية يجدر الاهتمام بها وترميمها والحفاظ عليها، علما بأن مبادرة الدولتين واتفاقهما جاء على خلفية شرط يقضي بإعادة ترسيم الحدود المشتركة بحيث تخضع المعابد والااضي الملحقة مباشرة بها لسيادة فنوم بنه مما يعني منح الكمبوديين أراض تسيطر عليها حاليا تايلاند بمساحة 6- 4 كيلومترات مربعة .
احتجاجات داخلية تدفع بانكوك للتراجع عما اتفقت عليه مع الكمبوديين
على أن الاحتجاجات الداخلية في تايلاند ضد الاتفاقية و التي رأى فيها البعض سابقة تعطي للكمبوديين حق التوسع والمطالبة بأراضي جاراتها، دفعت بانكوك إلى التراجع عن قرارها المشترك السابق مع فنوم بنه، فيما مضت الأخيرة بمفردها تطالب اليونيسكو بوضع المعابد على قائمة التراث العالمي، وهو ما تم لها فعلا في السابع من يوليو/ تموز 2008 ، رغم معارضة بعض الدول التي بررت موقفها باحتمال أن يوظف رئيس الحكومة الكمبودية هون سين قرار اليونيسكو توظيفا سياسيا في الانتخابات القادمة، ثم بررته بضعف إمكانيات كمبوديا للوفاء بالتزاماتها والتي لا تشمل فقط المحافظة على تلك الآثار وصيانتها، وإنما تمتد لتشمل تعبيد الطرق وتمهيد الدروب السهلة والآمنة نحوها، و الحفاظ على الحياة الفطرية والايكولوجية في المناطق المحيطة كالاهتمام بالأفيال والنمور والثعابين وأنواع الفراشات النادرة.
الأزمة كمثال لممارسة ضبط النفس الآسيوي
والحال أن هذه الأزمة الأخيرة تصلح كمثال للقول بأن دول جنوب شرق آسيا والهند الصينية بقدر ما هي تتعلم من تجارب بعضها البعض في النمو الاقتصادي وصناعة المعرفة والتقدم التكنولوجي، فإنها تتعلم أيضا من بعضها البعض الحنكة السياسية و ضبط النفس و الكلفة الهائلة للعودة إلى لغة الحروب والعنتريات في تسوية مشاكلها. إذ بدا الجانبان التايلاندي والكمبودي حريصين على عدم التصعيد رغم الاشتباكات العسكرية المحدودة والضغوط الداخلية. فرئيس الحكومة التايلاندية "سوماتشي ونغساوات " قال للصحافيين أن سياساتنا تقوم على حل الخلاف مع الجارة الكمبودية عن طريق المفاوضات، رغم أن بلاده هي الأكبر والأغنى والأقوى تسليحا بفضل تحالفها مع الأمريكيين من خارج منظمة حلف شمال الأطلسي فيما ظل وزير خارجية كمبوديا ينفى لوسائل الإعلام وجود غزو تايلاندي لأراضي بلاده، رغم أن قوات بلاده هي الأشرس والأقدر على خوض غمار حروب الأدغال. وهكذا نجح الجانبان في نزع فتيل أزمة كان بالامكان أن تعيد منطقة الهند الصينية إلى زمن حروب الستينات.
عودة الروك اند رول والكرواسان والباغيت إلى هانوي
ولا شك أن كمبوديا – ومعها أيضا لاوس – تحاولان اليوم انتهاج نهج الفيتناميين الذين كانوا أول من طلق الحروب في المنطقة، ونبذ العنف والدموية، وفتح أبوابه لخصوم الأمس تجارة واستثمارا وسياحة، إلى الحد الذي صارت معه بعض ما كان يقاوم في الماضي تحت ستار حماية المجتمع من التغريب والأمركة كموسيقى الروك اند رول وفني الجاز والبلوز ومستحضرات كريستيان ديور وايف سانت لورانس و خبز الباغيت وفطيرة الكرواسان من معالم مدينة هوشي منه (سايغون سابقا)
د. عبدالله المدني
باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة: 2 نوفمبر 2008
البريد الالكتروني : elmadani@batelco.com.bh
الأحد، نوفمبر 02، 2008
آخر ما تحتاجه الهند الصينية العودة إلى زمن الحروب
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق