د. عبدالله المدني
من يا ترى يعمل من اجل أن تنغمس الهند في بحور الدماء والعنف؟ أهي جارتها الباكستانية اللدودة المسكونة بالغيرة من نجاحات الهند على مختلف الأصعدة وفشلها هي في المقابل في كل شيء؟ أم هي الأحزاب الهندوسية القومية التي ربما وجدت في إغراق البلاد بالدم ونسبته إلى الأقلية المسلمة مبررا للتضييق عليهم وإقناع الناخب الهندوسي بالتصويت لصالحها في الانتخابات البرلمانية القادمة في عام 2009 بدلا من التصويت لحزب المؤتمر المتهم بالتراخي في ضرب الحركات الإسلامية العنيفة؟ أم هي الجماعات الكشميرية المسلحة التي باتت تشعر بأن الوقت لم يعد في صالح تحقيق أحلامها بضم كشمير إلى باكستان أو سلخها في كيان مستقل؟ أم هي الحركات الأكثر راديكالية ضمن الحركة الطلابية الإسلامية ( اس آي ام آي) أو المنشقة عن الأخيرة والمنضوية تحت جناح مجموعات جهادية تستخدم أسماء وهمية لتشتيت انتباه أجهزة المخابرات والأمن الهندية.
رأس الأفعى ما زال حيا
وسواء أكانت الإجابة هذه أو تلك، فان الحقيقة تبقى واحدة وهي: " أن رأس الأفعى ما زال حيا وقويا " على نحو ما كتبه الأستاذ طارق الحميد في الشرق الأوسط اللندنية يوم 28 نوفمبر الفائت. صحيح أن مومباي (أو بمبي بلهجة كبار السن في الخليج) تعرضت لأكثر من ست هجمات إرهابية في السنوات الأخيرة، كان آخرها في عام 2000 حينما شنت جماعة – يعتقد أنها جماعة عسكر طيبة الإرهابية الناشطة في كشمير الباكستانية – هجوما على أنظمة السكك الحديدية في ساعة الذروة فقتلت 200 راكبا بريئا، غير أن العملية الإرهابية الأخيرة المنسقة في 26 نوفمبر المنصرم، والتي استهدفت عشرة مواقع على الأقل ستظل حتى الآن الأكثر دموية وبشاعة ومهارة أيضا في التخطيط واستهداف درة المدن الهندية وأكثرها ازدهارا وحركة ونموا، بل وأكثرها أيضا شهرة منذ القدم في التسامح واستيعاب ذوي الثقافات المتباينة، الأمر الذي جعل منها أكثر المدن الهندية على الإطلاق جذبا لآبائنا وأجدادنا في " خليج ما قبل النفط" ففيها تاجروا وأقاموا وبنوا المساجد والمدارس وبيوت الضيافة وتركوا من الذكريات والآثار ما لا تزال قائمة إلى اليوم. وبعض من هذه الآثار توجد على مقربة من بوابة الهند التاريخية ( غيت أوف انديا) التي قيل أن الإرهابيين نفذوا منها بالقوارب المطاطية مستخدمين نفس الأسلوب الذي اتبعه ثوار نمور التاميل وعناصر المنظمات الفلسطينية لضرب أهداف على سواحل سريلانكا و إسرائيل على التوالي.
تحفة فندق تاج محل
وحينما نقول بوابة الهند، فان أول ما يخطر على بال الباقين على قيد الحياة من رجالات الرعيل الخليجي الأول هو فندق تاج محل الساحر الذي كان موقع الاستهداف الأول للإرهابيين. فهذه التحفة المعمارية الرائعة التي افتتحت في 16 ديسمبر 1903 بتصميم من المهندسين المعماريين الهنديين " سيتارام فايديا " و " دي ميرزا" وبتمويل من رجل المال والصناعة الهندي المعروف " جامسيتجي نصروانجي تاتا " وبتنفيذ من المهندس البريطاني " ويليام تشامبرز "، يواجه بوابة الهند في منطقة كولابا، وشهدت صالاته وقاعاته اجتماعات ولقاءات ما بين الكثيرين من تجار الخليج ونظرائهم الهنود والأوروبيين. وطبقا لموسوعة ويكيبيديا فان ما دفع تاتا إلى إنفاق أكثر من 420 مليون روبية (مبلغ ضخم بمقاييس تلك الحقبة) على تشييد الفندق هو أن الإنجليز لم يسمحوا له ذات مرة بدخول فندق "واتسونز" على اعتبار أن الأخير هو مخصص للبيض فقط.
آخر من يهتم بالتحف والفنون المعمارية
وبطبيعة الحال، فانه لم يكن مستغربا على الإطلاق أن يقوم الإرهابيون باستهداف هذا الأثر التاريخي – دون أن يرف لهم جفن – ومعه أيضا أثرا تاريخيا آخر لا يقل جمالا وروعة هو محطة تشاهراباتي تشيفاجي للقطارات المصمم على النمط الفيكتوري. أليس هؤلاء هم من صلب حركة طالبان أو أشباهها ممن دمروا آثار باميان التاريخية في أفغانستان ضاربين بعرض الحائط كل توسلات الأمم المتحضرة ووساطات رجال الدين الإسلامي. فهذه أمور جمالية وشاعرية لا يولونها أي احترام ولا تحتل لديهم أية قيمة، بل لا مكان لها في نفوسهم المجبولة على التدمير و الحقد الأعمى و سفك الدماء.
تحليلات متباينة
لقد تباينت التحليلات حول الجهة الفعلية وراء الحادثة بسبب تعقيدات العملية الشديدة وحسن تنظيمها الذي يصل إلى مستوى ودقة تنظيم هجمات 11 سبتمبر 2001 . ففي ما أكد البعض أنها جماعة مرتبطة بالقاعدة المستاء من استمرار عمليات القصف الأمريكية ضدها وضد حلفائها من القبائل الباكستانية في ولاية الحدود الشمالية الغربية. قال آخرون، العكس وذلك من واقع اختلاف الأسلوب المستخدم في الهجوم وغياب العناصر الانتحارية واللجؤ إلى اخذ الرهائن. وهناك من أكد أن الجماعة المنفذة هي جماعة منشقة عن جماعة "المجاهدون الهنود" التي تردد اسمها كمسئولة عن أكثر من عملية إرهابية طوال العام الحالي كعمليات جايبور في مايو وعمليتي بنغلور وحيدر آباد في يوليو وعملية نيودلهي في سبتمبر وعملية آسام في أكتوبر، غير أن آخرين اعترضوا قائلين أن عملية في صورة تنظيم ودقة عملية مومباي غير ممكنة دون مساعدة أجهزة استخبارات أجنبية محترفة، وهو ما يبدو أن المسئولين الهنود قد باتوا مجمعين عليه، بدليل كلمة رئيس حكوتهم " مانموهان سينغ" التي جاء فيها : "أن الجماعة التي تقف وراء هجمات مومباي ممولة ومدعومة من الخارج، وأن المسئولين عنها ستتم مطاردتهم ومعاقبتهم.
مجاهدو ديكان
أما إرسال بيان تتبنى فيه جماعة "مجاهدي ديكان" مسئولية الهجوم، فهو في نظر مراقبين كثر، لا يعدو أن يكون خدعة، أو كما قال مراقب بريطاني "قد لا تكون هناك على الإطلاق منظمة بهذا الاسم المستوحى من هضبة ديكان. والأخيرة مجرد هضبة تعني اسمها باللغة السنسكريتية " الجنوب"، وتشكل مساحتها المثلث الجنوبي للهند حيث تقع ثمان ولايات وسواحل طويلة وسلسلة من الجبال ومدن تجارية مزدهرة وقلاع علمية. وعلى الرغم من أن هذه الأراضي تضم شعوبا وأعراقا وثقافات متباينة مثل ثقافة درافيندرام المنتمية إلى عائلة اللغات الاورو – هندية، و الثقافة الماراثية المنتمية إلى عائلة اللغات الهندو- آرية، وثقافة التيلوغو في ولاية اندرا براديش (المعروفة خليجيا باسم حيدر آباد)، وثقافة كاندا في ولاية كارناتاكا، وثقافة التاميل في ولاية تاميل نادو، وثقافة المالايالام في ولاية كيرالا (المعروفة خليجيا باسم ساحل مليبار)، فإنها ظلت على الدوام واحة سلام واستقرار وتعايش وانفتاح. وحتى حينما كان بعض الأحداث الخارجية ينفخ في بعض أبنائها روح العداء والضغينة، فان هذه الروح كانت تواجه محليا قبل استشرائها فتذوي مدحورة، بحيث لم يتلوث أي صاحب هوية هندية بلوثة الإرهاب العالمي أو فيروس التطرف، أي خلافا لكل الجنسيات الآسيوية الأخرى التي تورطت بصورة من الصور في أعمال الإرهاب سواء داخل بلدانها أو في الخارج.
الحركة الطلابية الإسلامية
ولا يكتمل الحديث عما حدث دون التطرق بالتفصيل إلى الحركة الطلابية الإسلامية التي ربما كان بعض عناصرها المنشقة هي التي خططت ونفذت العملية. فما هو معروف عن هذه الحركة على نطاق واسع هو أنها تأسست في ولاية أوتار براديش الشمالية في ابريل/نيسان 1977 ، وان أهدافها الرئيسية تقتصر على تحرير الهند مما تسميه النفوذ الغربي المادي وتحويل المجتمع الهندي بكل أطيافه المختلفة إلى مجتمع إسلامي خالص. والمعروف أيضا أن نيودلهي حظرت في عام 2002 أنشطة هذه الحركة التي يعتنق أفرادها الإسلام الديوباندي، شأنهم في ذلك شأن الطالبانيين في أفغانستان، بعدما تبين بالدليل انغماسهم في الأنشطة العنيفة، لكن هذا الحظر تم رفعه في اغسطس/آب 2008 بناء على قرار قضائي من المحكمة العليا التي لجأت إليها الحركة. والديوباندية التي ظهرت في الهند في عام 1879 عقيدة تقوم باختصار على الشعار التالي: الله هو ربنا ، والقرآن هو دستورنا، ومحمد هو زعيمنا، والجهاد هو طريقنا، والشهادة هي خيارنا.
الاختلاف ما بين الجيل المؤسس والجيل التالي
وتعتقد مصادر كثيرة أن تنظيم القاعدة استطاع أن ينفذ إلى هذه الحركة ويغسل أدمغة الكثيرين من رموزها بحيث صارت أفكار الجيل المؤسس لها مختلفة تماما عن أفكار الجيل اللاحق. فمؤسس الحركة الذي يدعى محمد احمدالله صديقي والذي يعمل حاليا كأستاذ للصحافة والإعلام في جامعة غرب ألينوي الأمريكية، لم يجد مثلا حرجا أمام أتباعه من الذهاب والعيش في البلاد التي يحارب قيمها، فيما ظل جيل الشباب في الحركة أكثر التزاما بالقيم والشعارات الراديكالية التي نشرتها في صفوفهم الثورة الإيرانية، وعلى رأسها أساليب إحداث التغيير الاجتماعي. ومن صور الاختلاف بين الجيلين أيضا الموقف من زعيم الثورة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات. فعلى حين كان الجيل القديم يعتبره رمزا لكفاح الفلسطينيين، كان جيل الشباب يعتبره خائنا ودمية في أيدي الغرب.
نقاط سريعة لا بد من الإشارة إليها
بقي أن نشير سريعا إلى عدة نقاط في سياق حديثنا عن هذه العملية الجبانة:
• إنها استهدفت دون نجاح ضرب الاقتصاد الهندي، تماما مثلما استهدفت القاعدة ضرب الاقتصاد الأمريكي من خلال ما أسمته "موقعة مانهاتن".
• إنها قد تتسبب، إن لم تتسب بعد، في عودة التوتر إلى العلاقات الهندية – الباكستانية، وتبخر كل الآمال المعقودة على حدوث تطورات ايجابية في روابط البلدين بعد فتح حدودهما المشتركة في معبر كشمير، وذلك في ضؤ الاتهامات المتبادلة بين مسئولي الدولتين
• أنها أكدت مجددا وعي الغالبية العظمى من الشعب الهندي، لجهة صعوبة جر مكوناته إلى المصادمات الطائفية، إذ لم تسجل وقوع حوادث اصطدام أو انتقام ما بين الهندوس والمسلمين مثلا على خلفية الحادثة الإجرامية، وبذلك فشلت في إسقاط إحدى أهم دعامات الدولة العلمانية في الهند.
• أنها برهنت مجددا على تحلي المعارضة الهندية بالرقي في أدائها حينما تكون الأمة في مواجهة التحديات و الأخطار. حيث وضع زعيم المعارضة " لال كريشنا أدفاني " خلافاته مع رئيس الحكومة جانبا وتوجها معا إلى مومباي لمواساة مواطنيها، فيما انصرف البرلمان إلى مناقشة الملفات الأقل جرا إلى المصادمات والانقسامات.
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية – من البحرين
تاريخ المادة : 30 نوفمبر 2008
البريد الالكتروني :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق