د. صلاح عودة الله
أنا البحر في احشائه الدر كامن** فهل سألوا الغواص عن صدفاتي..هذا ما قاله الشاعر العربي الكبير الراحل حافظ ابراهيم واصفا اللغة العربية..لغة الضاد, هذه اللغة التي نبتعد عنها مع مرور الزمن, وجيل اليوم من الشباب والشابات لم تعد تهمه هذه اللغة ولا حتى الأغاني التي غناها اكبر المطربين والمطربات وكتب كلماتها اكبر الشعراء ولحنها اكبر الملحنين, فما يهم هذا الجيل اليوم هو الاستماع الى اغاني هيفاء وهبي وإليسا وروبي ونانسي عجرم..مع أن كلمات أغانيهن لا معنى لها..بل قمن بتحويل الفن لعرض أزياء وأجساد،فالتي تظهر جسدها أكثر هي الرابحة..فيا لسخرية القدر..؟!
لقد ارتبط الشعر العربي عبر مختلف مراحله وعصوره بالغناء والموسيقى والنغم, وليس ادل على ذلك من كتاب "الأغاني"لأبي الفرج الأصفهاني,والذي يقلب صفحاته سوف يتحقق من مدى هذا التزاوج والترابط بين الشعر والغناء في حياة العرب, ولم يبلغ الغناء العربي مستوى التقدم في كل العصور, بمعزل عن الشعر العربي, بل ولا أبالغ حينما أقول بأن وجود الشاعركان محركا لقريحة الفنان..كذلك كان الغناء العربي رديفا للشعر, معانقا للكلمة السحرية المبحرة في الجمال والخيال,فكان الغناء هو الشعر,وكان الشعرهو الغناء..ورغم انقضاء مئات السنين, فان الاذن العربية ما زالت تلتقط قول الشاعر القديم:
قل للمليحة في الخمار الأسود**ماذا فعلت بناسك متعبد؟
وكذلك قصيدة ابي فراس الحمداني والتي غنيت كثيرا, وأعاد صياغة لحنها بعبقرية منفردة عملاق الموسيقى العربية رياض السنباطي,وتسامت بها,كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي أم كلثوم الى نهاية الابداع بعبقرية صوتها وأدائها,بالمعنى الذي يؤكد التزاوج العميق بين سحر الشعر وجمالية النغم, بين المرجعية التراثية القديمة والمرجعية التراثية المعاصرة: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر**أما للهوى نهي عليك ولا أمر؟ وقد تواصل هذا التزاوج العميق وتبلور بصورة جلية مع اطلالة النهضة العربية, فلا يدهشنا احتضان أمير الشعراء أحمد شوقي للموسيقار الشاب محمد عبد الوهاب, فيخرج من بين هذا الاحتضان:يا جارة الوادي طربت وعادني**ما يشبه الاحلام من ذكراك. كما لا يدهشنا الارتباط الفني الطويل بين أم كلثوم والشاعر أحمد رامي على النحو الذي انجب للغناء العربي المعاصر روائع من نوع:
لبست ثوب العيش لم أستشر** وحرت فيه بين شتى الفكر...
ولقد ظلت رباعيات الخيام غائبة ضائعة في حنايا المكتبات حتى ترجمها الى الأنجليزيه الشاعر"فتزجرالد" عام 1859م ثم توالت الترجمات بها بعدة لغات اجنبيه وثم ترجمت بالعربيه من نسخه انجليزيه لكن الشاعر احمد رامي احس ان هناك تناغما بينه وبين الخيام بعد قراءتها فهو طروب مثله غنائي يحب الحياة..تعلم احمد رامي الفارسيه في مدرسة اللغات الشرقيه في جامعه السوربون بهدف ترجمه النسخه الاصليه الفارسية الى العربيه..وعن ترجمتها قال احمد رامي"دارت الأيام ومازالت هذه الرباعيات ترنيم روحي ارددها خاليا بالليل او سامرا بالنهار فهفتت نفسي الى اخراج طبعة جديدة ابعث فيها نفحات الخيام الى عشاق تلك الروح الساريه عبر السنين".
وعلى هذا النحو ارتقى الغناء العربي, وارتفع بمستوى الذوق الفني للمستمع العربي, ولم يكن ذلك متاحا لولا الشعراء وصناع الكلمة الشعرية المنغمة, وكذلك الفنان الملحن وصاحب موهبة حقيقية,كما يمكن أن نلمس هذه الحقيقة في قصيدة الشاعرجورج جرداق التي أبدع في تلحينها الموسيقارمحمد عبد الوهاب:
هذه ليلتي وحلم حياتي** بين ماض من الزمان وات.
وقد توسعت موضوعات الغناء العربي المعاصر,لتتناول فلسفة الحب والجمال, من منظور شفاف تتجلى فيه الرومانسية الفنية في ارق معانيها وأبهى صورها, وذلك من تجربة"فيروز" مع بعض نصوص وأشعار جبران خليل جبران,التي تحولت مع صوت فيروز الى لوحات ملونة بالوان الرومانسية الحالمة..وقد تغنت فيروز بهذه الكلمات الموغلة بالرومانسية الجبرانية ومن ألحان محمد عبد ألوهاب: "سكن الليل وفي ثوب السكون تختبىء الأحلام وسعى وللبدر عيون ترصد الأيام.. ومع مجيء الشاعر العظيم نزار قباني الى عالم الأغنية العربية, بقصائده المتميزة بلغتها,والجديدة بموضوعاتها,والجريئة بأفكارها,عرفت الأغنية العربية نهضة جديدة.
وكانت كلمات هذا الشاعر قد استطاعت ومنذ الوهلة الأولى ان تجد لها مكانا خاصا بها بين ذلك الكم الكبير من الأشعار والقصائد الغنائية الأخرى,ووجد فيها كل من الفنان والمستمع"الحلقة " المفقودة في المتن الشعري الغنائي العربي,سواء على مستوى الشكل أو المضمون. لقد ارتبك امام نصوص نزار قباني الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب, عندما تسلم أول مرة قصيدة"أيظن" ليضع لها لحنا من اداء نجاة ألصغيرة , وعبر شخصيا عن خوفه وارتباكه من أن ينفر الناس من هذه الأغنية, وذلك لتعود المستمع على نمط معين من المواضيع التي تتناولها الأغاني, والمتسمة بالروح المحافظة التي لا تجرؤ على ترديد كلمات من نوع:
حتى فساتيني التي أهملتها ** فرحت به رقصت على قدميه..
سامحته وسألت عن أخباره ** وبكيت ساعات على كتفيه...
ومع أن هذه القصيدة كانت نقلة نوعية فريدة في الأغنية العربية من حيث الفحوى واللحن,الا أنها نجحت وبصورة رهيبة, لدرجة أنها احتلت المركز الأول بين الاغاني التي ظهرت في السنة نفسها.."أيظن" التي كتبها نزار و تغنى بها عبد الوهاب و غيره من النجوم هي ليست التي تغنى بها البعض في الأيام الأخيرة.. فقد تم محو كل شيء جميل في هذه الأغنية و هذه القصيدة بعبارات و ألحان أقل ما يقال عنها أن الحيوانات تنفر منها..وأتسائل هنا ان كان ملوك الإسفاف و إتلاف الذوق العام قد تملكوا الساحة في الأعوام الأخيرة أفلا يكفيهم ذلك؟ و ليتركوا لنا الماضي الجميل؟. أَيظن هي ليست أيظن الجديدة..وأيظن الجديدة هي ما سمعناه في الفترة الأخيرة واتخذت شركة إنتاج من أسم الأغنية كفيلم لها..وبالطبع الفيلم أتفه من التفاهة ذاتها..لا شك أن كل شيء جميل سيندثر يوما ما..حتى جمال القصائد والألحان سيندثر بفعل التخلف التطوري. هناك الكثير من الأغاني وبكلمات الشاعر نزار قباني، والتي لاقت إقبالا واسعا من الجمهور..أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر،"قارئة الفنجان" وقد غناها الفنان الراحل عبد الحليم حافظ:
جلست والخوف بعينيها** تتأمل فنجاني المقلوب..
ثم يقول:
وسترجع يوما يا ولدي** مهزوما مكسور الوجدان..
وستعرف بعد رحيل العمر** بأنك كنت تطارد خيط دخان...
وفي هذه القصيدة الرائعة،عدة معاني ،إذ يجد رجل السياسة فيها ما يعبر عن طموحه السياسي، ويجد المناضل في دلالتها ما يرمز إلى انكساراته وهزائمه، كما قد يجد فيها الإنسان المتوثب ما يعبر حقيقة عن خيبة أمله في نهاية المطاف بعد سلسلة المحاولات على درب الحياة..ما اروع ان يكتب شاعر عظيم قصيدة عظيمة في كلماتها وان يغنيها ويلحنها مغني وملحن عظيمان؟. هكذا كان الشاعر العربي وهكذا كان المطرب العربي..الشعر له معنى والأغنية لها كلماتها..أما في وقتنا الحاضر فنسمع أغاني لا معنى لها وما يهم الشباب هو الرقص على موسيقى وكأنهم في"ديسكوتيك"يتمايلون ويترنحون وهذا كل ما يعنيهم..بعد كل هذا السرد لواقع الشاعر العربي والأغنية العربية،أرى نفسي في السنوات الأخيرة وكأن الأغنية العربية قد فقدت معانيها عدا عن بعض الأغنيات,وأما القصائد والأشعار فقد حافظت نوعا ما على قيمتها وإن لم ترتقي إلى المستوى الذي كان معهودا سابقا. بعد كل هذا السرد التاريخي, اقول:
هل سيكتب ابو الطيب المتنبي شعرا تغنيه هيفاء وهبي؟ من منا لم يغدره الزمن واطلقت الأيام بنهارها وليلها العنان لأنيابها لتهشم جسده..في يوم من الأيام وبعد ان اصبح حال" المتنبي" كحال معظم الناس في عصره بلا عمل وصار همهم الوحيد هو التفاني من أجل ان يحصلوا على لقمة العيش, فالملوك والسلاطين أصبحوا جهلاء لا يقدرون الشعر والشعراء ولا يعطونهم مايستحقون من المال والعطايا,وكان حاله عسيراً جداً وميئوساً منه بينما كان بعض الشعراء يعيشون في نعيم دائم سببه الأول والأخير قصائدهم الغنائية التي لا معنى لها..وصاروا يكتبون الشعر كي تغنيه اليسا و روبي ونانسي فجنوا الأموال الكثيرة من وراء ذلك..
أما المتنبي فكان شاعرا ملتزما ومحافظا على مبادئه وقد رفض بيع تاريخه أمام الأموال ولكن قراره هذا كان ثابتا في مخيلته واحاسيسه ووجدانه..إلى أن جاءه عرض لا يفوت بل أفضل من العروض التي حصل عليها غيره..كانت"زرياب" عصرها المطربة الشهيرة هيفاء وهبي التي يتابعها جميع العرب من المحيط إلى الخليج تفكر في لون مختلف من الأغاني والفيديو كليب..كانت تفكر أن تغني شيئاً جديداً لم تغنيه أية مغنية..فطلبت من أبي الطيب كتابة قصيدة تكون وفق عروض الجنس التي تؤديها, وفعلاً قام ابو الطيب بتلبية النداء متناسيا ومتجاهلا مبادئه, فقد رأى أولاده يموتون جوعاً, وعرض عليها بعض قصائده ولكنها أفهمته أنها بحاجة إلى شيء يجذب الناس من الكلمات إضافة إلى بعض الاستعراضات..كلمات يفهمها الصغير قبل الكبير..
وسافرالمتنبي إلى"هاواي" ليقضي عطلة ينظم بها القصيدةً وعندما رأى هناك مالم يره من قبل جاءه شيطان الشعر مسرعاً وبدأ بالكتابة وبعد ان انهى كتابتها في هذا الجو الرومانسي عاد إلى لبنان ولما قرأتها مطربة العصر هيفاء, اعجبت بها اعجابا شديدا وكانت المكافأة كبيرة جدا, وبدأت بتلحين الأغنية مع اعلانات ضخمة وترويج واسع مما دعا العالم كله إلى انتظار اغنيتها هذه..وفعلاً بعد فترة قصيرة أصبحت الأغنية جاهزة للعرض وكانت المفاجأة الكبرى للجمهور حيث انتظر على أحر من الجمر..وبدأت الأغنية والكل ينظر إلى التلفاز وآذانهم لاتسمع ما يقال:
"بوس الواوا خلي الواوا يصح..لما شفتو صار الواوا بح"..أعجب العالم العربي من محيطه الى خليجه بهذه الأغنية التي حققت أرباحاً خيالية واصبح يرددها الملايين ويحفظها عن ظهر قلب كل كبير وصغير, ولكن الجميع نسوا أن شاعرهم هذا قال في يوم من الأيام:
الخيل والليل والبيداء تعرفني**والسيف والرمح والقرطاس والقلم..
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي**وأسمعت كلماتي من به صمم..!..
ولكن الجمهور أدرك أن قوله تحقق إذ أن الأعمى صار ينظر إلى التلفاز ليرى هيفاء وهبي تترنم بأدبه فعلاً والأصم لم يعد بحاجة إلى أذنيه ليسمع فعيناه تكفي لرؤية هذا الأدب على جسد عار صار في هذا الزمان أصل الطرب وكل الطرب..فيا له من زمن غدار..زمن لا يرحم..زمن اصبح فيه الجسد رخيصا مقابل الأموال..ومعذرة منك يا شاعر العرب الأول..يا"ابا الطيب المتنبي"..ومعذرة يا"لغة الضاد"..!. **تم الرجوع وبتصرف لبعض المصادر.
-القدس المحتلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق