انطوني ولسن
)ذكريات.. العمر اللي فات، هي محطة استراحة فكرية، انزل فيها من قطار الحاضر محاولاً الاسترخاء والتجوال في شوارع وحارات ومدن وحدائق حياتي.. اثناء تجوالي أحكي للقاريء حكاية من هنا او من هناك، اربطها بحكاية اخرى او حكايات، ان اقتضي الامر العودة الى قطار الحاضر. سأفعل ذلك لاستمرارية التفاعل مع الحاضر، الذي سيصبح يوماً.. ذكريات العمر اللي فات).
دعونا الآن نكمل الحكاية..
أرسل معنا احد جنود الشرطة ومعه دفتر (الاحوال) لأثبت فيه قيامي بفتح المكتب رسمياً بعد نزع (الشمع الأحمر)، وما ان تم ذلك وخطونا الخطوة الأولى داخل المكتب حتى هلّ علينا نور ذلك (الفار).
من أطلق عليه هذه الصفة صادق كل الصدق فله فم (الفار).. قصير القامة.. معمم.. أسمر الوجه.. تلمع عيناه ببريق المكر والخديعة والحيلة..
جلست خلف المكتب وخلفي (الشانون) الخاص بأوراق المكتب. نظرت الى الرجل وأطلت النظر.. ثم نطقت قائلاً.. انت الفار.. صُح (بالصعيدي).. ردّ علي « ايو يا سعادة البيه». قلت له «وانت كنت ماشي ورانا امبارح من ساعة ما رسيت بينا المعدية.. صُح.. فأجاب «صُح يا سعادة البيه.. بس كيف عرفت وأنا كنت ع راجب من بعيد». قلت له «حسيت بيك». تحرك ليجلس على الكرسي امام المكتب.. خبطت بيدي على المكتب ووقفت صارخا فيه «تكونش فاكرها فوضه واللا فوضه.. ما فيش حد «يجعد» في المكتب من غير اذني فاهم يا.. والله ما انا عارف ان كنت بني آدم واللا «فار».
ارتجف الرجل واخذ يعتذر. أشرت له بأصبعي ليخرج خارج المكتب.. قبل ان يصل الى الباب ناديت عليه.. عاد مسرعا.. أدرت له ظهري فتحت درج (جارور الشانون).. أخرجت أول ورقة وقعت عليها يدي.. اعطيت الورقة له ليخبرني بكل ما فيها.. اخذ يقرأها وبسرعة اخبرني عنها.. كررت العمل مع اوراق اخرى كثيرة.. وكان واضحا انه يعرف كل صغيرة وكبيرة في المكتب.
انتهزت الفرصة واستعنت به في عملية جرد المكتب طوال الأسبوع المحدد. لم يعرف اننا عائدان الى اسوان ومنها الى القاهرة. ظنّ المسكين انني رئيس المكتب وسأبدأ العمل بعد أسبوع. في اليوم المحدد تحدثت الى ضابط المباحث ان يبعث معي (اثنان من المخبرين) وسيارة الشرطة الى (اللوكاندة) بعد ان انتهي من اغلاق المكتب وتشميعه (بالشمع الأحمر) وختمه بختم الجمهورية. وان يرافقنا المخبران في (المعديه) ثم الى محطة القطار على ان يعودا من محطة كوم امبو.
طوال فترة عودتي بعد انتهاء مهمتي في مركز ادفو كنت أشعر بتلك الأشعة الحادة المسلطة عليّ والتي تمنى صاحبها (الفار) لو استطاع قتلي لفعل دون تردد.. فقد خدعته لمدة اسبوع واستغليت طاقته في جرد المكتب استغلالاً ما بعده استغلال..
قرر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر "معبود الجماهير" بناء السد العالي معتمدا في بنائه على الاتحاد السوفيتي. اختيرت المنطقة الجنوبية من أسوان والمعروفة بمنطقة بلاد النوبه (وهي الجزء الواصل بين جنوب مصر وشمال السودان) لتكون بحيرة اطلقوا عليها (بحيرة ناصر) ليتم فيها تخزين مياه نهر النيل خلف السد العالي. القي على عاتقنا (مصلحة الاحوال المدنية) القيام بالاعداد لتهجير أهل البلاد. لأن المصلحة أصبحت الجهة الوحيدة في مصر التي تتابع المواطن من المهد الى اللحد في جميع شؤونه الاجتماعية.
بدأت المصلحة الاعداد لارسال موظفيها الى تلك المنقطة لعمل اللازم من اجراءات يتم فيها احصاء عدد السكان مع استخراج بطاقات عائلية وشخصية وغير ذلك من خدمات.
اتفق رئيسي العقيد محمد نصار خليل على ان يذهب هو على رأس احدى هذه المجموعات واكون انا مساعدا له، والباقون اما من المصلحة ذاتها او من المكاتب المنتشرة في طول البلاد وعرضها.
ذات يوم طلب مني سيادته ان اذهب الى سيادة وكيل عام المصلحة لانه يريدني في أمر يجهله هو.
ذهبت الى سيادة وكيل عام المصلحة العميد محمود انور حبيب الذي بادرني بالسؤال:
* هل عندك استعداد للسفر الى النوبة بعد غد؟
- نعم عندي استعداد اذا ما وافق سيادة العقيد على ذلك لأننا قد اعددنا الكشوفات الخاصة بهذه المأمورية وسأكون معه بإذن الله.
* انا اسألك انت عن مدى استعدادك العائلي، فقد مرض احد اعضاء اللجنة المسافرة بعد غد.. أما موضوع المفتش فاتركه لي.
- كما تريد سيادتكم..
كان المفتش في انتظاري في لهفة شديدة ليعرف سبب استدعاء الوكيل العام لي.. أخبرته بكل ما حدث فنظر الي وقال:
-راحل.. أهو كده الرجاله واللابلاش.. برافو عليك.
ذهبت الى مكتبي وكان الوكيل العام قد طلب من المفتش الذهاب اليه لم تمض دقائق حتى سمعت صوت المفتش يصرخ بصوت عالٍ وهو صاعد الدرج:
- اتفضل يا خويا روح خد الفلوس وسافر.. انتو ناس فلصو لا عندكم مبادئ ولا احترام.. اتفضل روح.. اتفضل..
كان قد وصل الى حيث كنت في انتظاره. حدجته بنظرة غاضبة وقلت له:
- الأول كنت راجل.. دلوقتي بقيت لا عندي مبادئ ولا عندي احترام.. انا رايح المأمورية زي ما طلب مني سيادة الوكيل..
نزلت الدرج غاضباً وتوجهت الى موظف الخزانة وصرفت المبلغ المالي الممنوح لي وتوجهت الى مكتب الوكيل العام للحصول منه على اذن بترك العمل بعد اخذ استمارات السفر المجانية.
وصلنا اسوان ومعي من المصلحة زميل اسمه فايز.. التقينا جميعا في منزل سكرتير المفتش بأسوان الاستاذ عباس. ظننت نفسي شابا فتوجهت الى الحمام لأستحم بمياه (الدش) الباردة. لم احتمل المياه وبدأت (العطس) ارتديت ملابسي بسرعة. وكانت انفلونزا حادة أصبتُ بها فجعلتني استلقي على ظهري في الباخرة التي اقلتنا الى مداخل بناء السد العالي. ولم استمتع بهذا المنظر التاريخي.
وصلنا «ابو هور» والتي كان اسمها الاصلي «الأب هور عندما كانت النوبة مسيحية الديانة والايمان» وهي اول محطة لنا واستلمنا العمل من اللجنة السابقة. اعطاني عمدة القرية شرابا خاصا ساعدني على متابعة العمل رئيس اللجنة من محافظةالفيوم.. لكن وجود موظف من المصلحة له هذه الاقدمية مثلي يعطيه حق التصرف كرئيس اللجنة دونما اعتراض. وقد حدثت عدة مواقف كنت اتخذ فيها القرار الحاسم وأقوم بتنفيذه غير عابيء به. كان شهر رمضان ووجدنا الكرم من أهل كل قرية نذهب اليها. كان يُعد لثلاثتنا.. فايز والفنان النحات العالمي آدم حنين وانا الفطار صباحا والغداء ظهراً والافطار مع الصائمين وقت الافطار والعشاء وقت العشاء، لم يحدث ابدا ان طُلب منا ان نصوم مثل الباقين.. بل كانت تأتيني السجائر صباح كل يوم مع البائع الذي يحضر ما تحتاجه القرية (بالفلوكا). في احدى القرى سب رئيس اللجنة غفير العمدة. شعر العمدة انه هو الذي اهين، لم اكن اعرف ما حدث ونقلوا اليّ الخبر مؤخرا وقت الافطار. انتظرنا العمدة على الافطار كالعادة. لكن لم يأتِ العمدة لدعوتنا. ذهبت اليه بنفسي وكنت قاسيا في حديثي معه وأصريت على اننا سنتناول افطارنا وسحورنا من الأطعمة المحفوظة التي اشتريناها قبل دخولنا الى بلاد النوبة.
نهض الرجل مستسمحا ورافقني حيث بقية الزملاء واعتذر للجميع (وليس لرئيس اللجنة) وأمر باحضار الفطار الى حيث نقيم. لكن أهل القرية لم يغفرو للرجل تلك الاهانة. عرفوا عنه التدخين ولم يستطع الصوم لعدم قدرته على الامتناع عن التدخين، فماذا فعلوا به؟
التجارة هناك كانت بالمراكب الشراعية او (الفلوكه) كما أوضحت. فكان التجار يحضرون الى القرية اثناء النهار ونحن مشغولون بالعمل. يتركون نصيبي من علب السجائر التي يحضرها لي احد الغفر في السر.. وعرفوا كيف يؤدبونه ولم يفتح فمه بعد ذلك بكلمة مع أحد.
الحياة جميلة في بلاد النوبة. مناظر الطبيعة خلابه، بيوتهم لها طراز خاص شدّ انتباه كثير من المهندسين والمعماريين من جميع انحاء البلاد وخاصة الايطاليين. يوجد معبد منحوت في الصخر اسمه (معبد جرف حسين) صورة طبق الأصل من معبد (ابو سمبل المشهور، ولا أعرف من أين جاءت تسميته (معبد جرف حسين) وما بين حسين ونحت الجبل قرون وقرون.. على العموم لقد غمرته المياه.. مياه بحيرة ناصر. الشعب النوبي من أطيب الناس الذين تعاملت معهم والتقيت بهم. كبارهم كانوا يفضلون الموت على ترك بلادهم والنزوح الى بحرى (كما كانوا يشكون لي). الشباب النوبي موجود فوق كل باخرة في العالم.. وأفخم المطاعم والاوتيلات العالمية، معروف عنهم الأمانة والصدق في الحديث، شعرت بسعادة وراحة خلال 45 يوما قضيتها هناك.
في جولة اخرى في محافظة اسوان بعد بناء السد العالي ذهبت الى مركز كوم امبو. صممت على رؤية القرية النوبية، وكانت المهزلة. الفارق الكبير بين نوبة النيل والمناظر الطبيعية والحياة البسيطة التي كان يعيشها أهل النوبة.. وما هم عليه في منازل سقوفها قريبة من الأرض، مكتومة من شدة حرارة كوم امبو والارض الجافة المبنية عليها.. مع مقارنة بسيطة من بيوتهم التي غمرتها المياه التي كانت بفتح شباك في الصيف يأتيك نسيم عليل يرطب من حرارة الجو. وفي الشتاء يفتح شباك آخر فتأتي أشعة الشمس تدفيء بيوت شعب قلوبه عامرة بالدفء الواضح في تعاملهم مع الناس. الحق يقال خسارة ان يستهان بهم وهم جزء لا يتجزأ من مصر.. أعرف من سيقول لي ومن لم يستهان به من ابناء مصر الشرفاء الاحرار.
انتقل بكم مع ذكريات.. العمر اللي فات هذه المرة في سينا. قررت الحكومة المصرية ان تقوم بإرسال بعثة توجيه وارشاد ووعظ الى منطقة سيناء والاماكن المجاورة. بالاضافة الى هذا العمل يشترك في المأمورية وحدة طبية بشرية ووحدة طبية بيطرية مع وحدة من مصلحة الاحوال المدنية للقيام باصدار بطاقات للمقيمين في تلك المناطق من بدو وغجر، في حالة عدم وجود شهادات ميلاد لهم على طبيب الوحدة الصحية القيام «بتسنين» اي تحديد سن المواطن او المواطنة. بناء عليه تصدر لجنة او وحدة الأحوال المدنية شهادة ميلاد بعدها تصدر بطاقة (هوية) شخصية او عائلية حسب الحالة الاجتماعية. وبهذا يكون كل انسان يعيش في تلك المناطق مصريا يتمتع بالجنسية المصرية.
اما عمل الوحدة الطبية البيطرية، كان يدل على عبقرية فذة في محاربة التهريب بجميع اشكاله وأهمها تهريب المخدرات.
يعمد المهربون في تلك المناطق الى ترك الجمال بما تحمل تعبر نقاط المراقبة والحدود فان ضُبط الجمل فيؤخذ بما حمل ولا احد يعرف صاحبه. اما العمل الجديد فكان الطبيب البيطري (وكان احد ضباط الجيش المصري) عليه ان يضع عن طريق الكي بالنار أرقاما وحروفا على رقبة الجمل للتعرف على صاحبه في حالة ضبط الجمل محملاً بالمخدرات او اي ممنوعات.
ذهبت على رأس البعثة او الوحدة الخاصة بالمصلحة (الاحوال المدنية). وصلنا مدينة العريش.. ذهبنا الى اللوكاندة التي سنلتقي فيها مع افراد الوحدة السابقة والتي انتهت مهمتها يوم وصولنا.
ما ان خطت اقدامنا عتبة اللوكاندة حتى بدأت أشم حولي رائحة تدبيرات واتفاقيات وهمسات ما بين الفريق الذي معي والفريق المسافر في الغد.
بعد فترة زمنية قصيرة لم نكن قد دخلنا غرف نومنا لوضع امتعتنا بها بدأت الرائحة تقترب وبدأ الزملاء يخبروني كل على حده، في ما يدور حولي وبعيدا عني.
اخبرني أولهم قصة مفادها ان احد الزملاء المسافرين في اليوم الثاني يريد نقوداً لشراء ما يحتاج من بضاعة من العريش على ان يرسل له ما سيأخذه منه من نقود ساعة وصوله القاهرة بالتلغراف.. اي ان المدة ستكون قصيرة جداً وتعود النقود اليه، وسألته:
- وماذا فعلت؟
- أرجأت الحديث معه الى حين اخذ رأيك.
- لا تدفع لاحد اي نقود ولا تشتري من أحد اي شيء دون علمي.
(يتبع)
الأربعاء، ديسمبر 02، 2009
ذكريات.. العمر اللي فات أولا في مصر :9
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق