الياس بجاني
مؤسف جداً حال الضياع والارتباك الذي وصل إليه قادة وسياسيو تجمع 14 آذار، وبشكل خاص فريقه المسيحي بكافة تلاوينه. فهؤلاء مع باقي أطياف هذا التجمع السيادي والاستقلالي خاضوا الانتخابات النيابية الأخيرة متضامنين متكاتفين على أساس دعم مشروع الدولة في مواجهة مشروع دويلة حزب الله مع وعود وعهود في مقدمها حصر السلاح وقرار الحرب والسلم بالدولة الشرعية وبسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية. صدقهم الشعب ومنحهم ثقته وأوصلهم بأغلبية جيدة إلى مجلس النواب، فماذا كانت النتيجة؟
بعد الانتخابات مباشرة تفكك التجمع وأصبح أقلية ولم يتمكن من الإيفاء بما وعد. تراجع ورضخ بسرعة قياسية لإرهاب وبلطجة سوريا وإيران ولعنتريات وتهديدات جماعات المرتزقة التابعة لهما في لبنان التي يقودها حزب الله. وافقوا أو أجبروا لا فرق على الدخول في حكومة وجودهم فيها صوري وأعطوا حزب الله الثلث المعطل وشرعوا سلاحه ودويلته.
وقد أصبح معلوماً للجميع أنه حتى البيان الوزاري للحكومة العتيدة هذه كان تم التوافق على خطوطه العريضة في القمة السورية السعودية.
بالطبع هذا لا يعني أن الفريق المسيحي في 8 آذار الذي يقوده صورياً العماد ميشال عون هو الذي انتصر أو لا سمح الله هو على حق وطروحاته لبنانية أو حتى فيها ولو رائحة للوفاء والسيادة والحرية والاستقلال. لا وألف لا فهذا الفريق هو سبب المأساة أصلاً وهو المسؤول بالكامل عن الحال المذري التي وصلت إليه الدولة ومؤسساتها لأنه ارتضى التبعية المطلقة للمحور السوري الإيراني وكان خلال الخمسة أشهر الماضية في أثناء أزمة تشكيل الحكومة غطاء مموهاً لمطالب وشروط حزب الله، ومتراساً لمشاريع دولتي محور الشر تحت عنوان كاذب هو الدفاع عن حقوق المسيحيين، وقد انتهى عون بكارثة وخيبة بعد أن عيّن له السوري وزراءه.
لا نقول إن مسيحيي 14 آذار قد خانوا لا سمح الله الوطن أو تخلوا عن الثوابت، لا بل هم حاولوا وبكل إمكانياتهم الالتزام بوعودهم الانتخابية وبخط بكركي وطروحات سيدها، لكنهم للأسف فشلوا بسبب انتقال حليفهم النائب وليد جنبلاط مع كتلته إلى القاطع السوري تائباً ومستغفراً وإعلانه الحرب الضروس عليهم، وبنتيجة قبول تيار المستقبل حليفهم الأخر والقوي بمقررات القمة السورية السعودية لجهة سلاح حزب الله والثلث المعطل، فأصبحوا أقلية غير قادرة على الوقوف في وجه الجميع بعدما أمسوا عملياً أقلية نيابية.
من هنا فإن بقاء مسيحيي 14 آذار في الحكومة بعد أن أصبحوا أقلية نيابية هو الخطأ والخطيئة في آن لأنهم إن اعترفوا أو أنكروا لا فرق ومهما اجتهدوا في التبرير وتدوير الزوايا فهم شركاء في "معاهدة قاهرة" جديدة تشرعن كيان حزب الله وسلاحه وسلطته وتقبل صاغرة بتسلطه "وسلبطته" على الحكومة بالكامل. أما بدعة التحفظ على البند المتعلق بحزب الله والقبول بباقي بنود البيان فهذا لعب مكشوف على الكلام ليس إلا ومحاولة مستنكرة للاستخفاف بعقول وذكاء وذاكرة اللبنانيين عموماً والمسيحيين تحديداً.
كان من الواجب الوطني والأخلاقي عليهم رفض المشاركة في الحكومة والبقاء في المعارضة. أوليس هم من كان ينادي بأن على الأكثرية أن تحكم والأقلية تعارض؟ أوليس هم من وقف وراء غبطة البطريرك صفير عندما قال إن وجود الأكثرية والأقلية في نفس الحكومة هو كحال عربة يشدها حصانان؟ أليسوا هم الآن أقلية؟
صحيح أن البيان الوزاري الحالي هو أفضل من بيانات الحكومات السابقة غير أن الجوهر لم يتبدل إلا في ورود مفردات منمقة وملتبسة وغير محددة وفي بعض الأحيان متعارضة ومتناقضة وتقول الشيء وعكسه، فمثلاً جاء في الفقرة 17: "ستولي الحكومة اهتمامها بتسهيل عودة اللبنانيين الموجودين في إسرائيل بما يتوافق مع القوانين المرعية الإجراء". وعندما نعلم عملياً أن القوانين المرعية الإجراء تعتبر أهلنا هؤلاء خونة ومتعاونين فذلك يعني بوضوح أن الحكومة لا تريد عودتهم وإن جازف وعاد أحدهم فإلى السجن والمحاكمة مباشرة.� �
كما أن البيان اغفل ذكر القرار الدولي رقم 1559 الذي لم ينفذ بعد أهم بنوده وهو بند تجريد كل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية من سلاحها وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها بواسطة قواها الذاتية، علماً أنه من الناحية القانونية لا صلاحية لا للبنان ولا لحكومته إلغاء هذا القرار. صلاحية الإلغاء من عدمه محصورة فقط بمجلس الأمن وهو لا يزال يتابع مهام تنفيذه ويعتبر أنه لم ينفذ بالكامل بعد.
إن الجوهر في البيان الحكومي بقي على قديمه وحزب الله لا يزال مشرعناً فيه كياناً مسلحاً ومستقلاً. أما إدعاء البعض الصبياني بأن كلمة "مقاومة" لا تعني حزب الله وقد تنطبق أيضاً على غيره من الأحزاب والجماعات فهذا والله هراء وسخف وخداع للذات وليس للآخرين.
يفلسف بعضهم المشاركة بضرورة عدم الغياب وترك الحكم والساحة للآخرين وبحاجة الناس للخدمات وبلزوم البقاء في مواقع القرار "وفشروا يحرجونا تا يخرجونا". بالتأكيد هذه أمور مهمة لكنها غير كافية لتبرير دخولهم "بأرجلهم" إلى المصيدة.
نذّكِر إن كان للتذكِير من فائدة بأنه طوال حقبة الاحتلال السوري البغيضة كان معظم هؤلاء اللاهثين اليوم لدخول جنة الحكومة إما في السجون والمعتقلات والمنافي، أو في الإقامة الجبرية الطوعية، ولكن رغم ذلك كبرت ثورة الأرز وتمددت وعظمت وتمكنت من أخراج المحتل السوري مما يبين أن النضال الصادق والدؤوب يمكن ممارسته من أي موقع كان وتحت أي ظرف كان وليس بالضرورة من داخل حكومة هي عملياً وواقعاً حكومة حزب الله وبامتياز.
يشار هنا إلى أنه ورغم كل التنازلات المخيفة والخطيرة لدويلة حزب الله التي طاولت حتى ورقة التوت فهي غير كافية طبقاً للشيخ نعيم قاسم الذي قال: "إن "سلاح حزب الله ليس مطروحًا في الحكومة ولا على طاولة الحوار، لأن المطروح هو الإستراتيجية الدفاعية، فعندما تناقش الإستراتيجية تناقش الأمور التي ترتبط بها"، وإن "المطلوب من القوى السياسية المختلفة في مواقعها أن تبحث عن القواسم المشتركة، وتنطلق منها ليشكّل الإسلام مع العروبة حالة تفاعل وتكامل وتعاون، من أجل نصرة قضايانا المشتركة".( لبنان الآن، الأربعاء 25 تشرين الثاني 2009). فهل من يسمع ويتعظ ويراجع مواقفه؟
نتمنى على مسيحيي 14 آذار الاستقالة وممارسة دورهم في المعارضة كما تقتضي الأصول الديموقراطية، إلا أننا متأكدون من أنهم لن يفعلوا ذلك، أما جوابنا الإيماني على كل الحجج والتفسيرات الملتبسة التي يسوّقون لها للبقاء في الحكومة رغم عدم موافقتهم على بندها السادس المتعلق بحزب الله فنستعيره من رسالة القديس بولس الرسول الأولى لأهل كورنتوس:
"لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكأس الشيطان ولا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة الشيطان".
ومن عنده أذنان صاغيتان فليسمع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق