زهير الخويلدي
" يجب أن نقاوم أي تضييق لفضاء التجربة ...علينا أن نعيد فتح الماضي وأن نبعث إمكانياته المجهضة والمبتورة...علينا أن نجعل توقعاتنا أكثر تحديدا وتجربتنا أقل تحديدا" بول ريكور
مجددا والعالم يتطلع إلى سنة إدارية جديدة 1430 هجري و2009 ميلادي تدور رحى الدمار الشامل و تندلع الحرب المروعة في القلب النابض لجبهة الممانعة العربية ويكون العنوان هو القضاء على حركة حماس والمحيط الجيوسياسي هو أرض غزة الشهيدة ومرة أخرى يواجه العرب هذا التحدي بخلافاتهم وانقساماتهم المعهودة ويقف العالم موقف الفرجة رغم حجم الكارثة الإنسانية والعدد الكبير من الأرواح المزهوقة ظلما والأجساد المخترقة تجريحا وتنكيلا.
منذ فجر السبت 27 ديسمبر إلى حد كتابة هذه الأسطر والحملة البربرية متواصلة والكل يرفض وقف إطلاق النار والنظام العربي الرسمي يتلكأ في رفع الحصار وفتح المعابر والرئيس الأمريكي الجديد لم يتفوه بكلمة واحدة وإسرائيل ترفض المقترح الأوروبي بوقف الحملة والدخول في هدنة إنسانية والعرب منقسمون حول مسألة انعقاد القمة ومكانها وجدولة أعمالها وعدد الضحايا في ارتفاع وقد بلغ مئات الشهداء وآلاف الجرحى حالات نسبة مرتفعة منهم حرجة جدا.
إن العنجهية الإسرائيلية وصلت إلى حد قصف دور العبادة والمساجد والمؤسسات التعليمية من مدارس وجامعات وسيارات الإسعاف والحارات المكتضة بالسكان والمستشفيات ومقرات السيادة والمباني الأمنية ومقر المجلس التشريعي والى حد منع سفن الإغاثة المحملة بالمساعدات والمواد الطبية وربما تشن الهجوم البري الذي تسنده بالقصف الجوي والبحري عن طريق الطائرات والصواريخ والمدفعية والدبابات.
الهدف العسكري من الحملة هو الإجهاز على القاعدة اللوجستية للمقاومة وتصفية الفصائل المسلحة وإجبارها على رفع رايات الاستسلام واعتقال رموزها وكوادرها أما الهدف السياسي فهو الإطاحة بالحكومة الشرعية التي تقودها حماس وإخراج رئيس الوزراء المقال اسماعيل هنية والوزراء والنواب المنتخبين من المعادلة السياسية والضغط على بقية الهيئات السياسية من أجل الانخراط في مسار السلام الذي بدأ من مدريد وأوسلو من أجل إكمال مشروع الاستسلام والانبطاح.
في الواقع استغل حكام الكيان الغاصب الفراغ السياسي في البيت الأبيض ومرحلة انتقال الرئاسة من بوش الجمهوري إلى أوباما الديمقراطي كأحسن ما يكون وقاموا بفعلتهم الشنعاء بعد تلقي الضوء الأخضر من بعض الدول الفاعلة في المحيط قصد حسم الموقف مع مطلقي" الصواريخ العبثية" ومناهضي مشروع أوسلو والمعطلين لأية اتفاقية حول الحل الشامل للصراع العربي الإسرائيلي والعمل على إغلاق ملف القدس وحق العودة والحدود وفكرة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة إلى الأبد.
لقد أفشلت بسالة المقاومة ورجال القسام هذه المطامع وأربكت مخططات العدو في القصف المركز واستهداف القلاع الآمنة والمراكز الحساسة والشخصيات المؤثرة ولم تنفع الغارات الجوية وتحليقات الطائرات والقوة المدفعية المتربصة عن بعد والصواريخ التي يقع إطلاقها من السفن الرابضة في عرض البحر ولم تشل إرادة الغزاويين في الثبات والاستماتة على العرض والأرض.
والحق أن الصمود الذي أثبته السكان الذين يبلغ عددهم المليون ونصف كان بطوليا وأنهم بإصرارهم على رفض الابتزاز ورفعهم لللاءات الشهيرة في وجه المشروع الصهيوأمريكي رسموا ملحمة وتحولوا في المخيلة الشعبية إلى أسطورة في التحدي والمقاومة وأنهم واصلوا حياتهم العادية في ظل قطع الكهرباء والحرمان من الدواء والغذاء وغلق المعابر وتكاثر التحرشات والتهديدات وتمثلت خطة المقاومة في إخلاء الجوار وإفراغ الأهداف وبناء أهداف تمويهية وفي الاحتماء بالملاجئ والأنفاق والتقليل من الحركة والنشاط الميداني والاعتماد على شبكة اتصالات محلية والمحافظة على نجاعتها وسلامتها والتعويل على إطلاق الصواريخ تجاه المدن والمستوطنات التي تستطيع الوصول إليها وتهيئة الناس إلى حرب الشوارع عند حدوث الاجتياح البري والعمل على دفن الشهداء ومداواة الجرحى وإغاثة العائلات المتضررة وتوزيع المواد التموينية بشكل دوري.
الأنظمة العربية التي ظلت إلى حد الآن مقيدة وعاجزة عن أخذ زمام المبادرة ومصاب بجرثومة التطبيع وتفادي معاداة الكيان الصهيوني ربما شاركت بصمتها هذا في العدوان على غزة وربما تتورط أكثر عندما تمنع جماهير الشعب من التعبير عن غضبها وتقمع أشكال التضامن السلمي مع الفلسطينيين ولا تمارس ضغوطا على إسرائيل حتى تسمح للسفن المحملة بالمساعدات لكي تصل إلى المحتاجين.
إن ما يحدث في غزة هو امتحان حقيقي لنبض الشارع العربي من أجل إعادة تحريك مؤسسات المجتمع المدني العربي المعطلة بحكم النزعة الشمولية وعقلية إعادة الإنتاج والتوريث وهو إطار مناسب لإعادة الاعتبار إلى ثقافة المقاومة والتوجه نحو المطالبة بالإصلاح والتغيير الاجتماعي من أجل النهوض من حالة الاحتباس الحراري السياسي وهشاشة عظام الباريدغم الديمقراطي في الوسط العربي.
إن العرب يستطيعون أن يفعلوا الكثير على مستوى السياسة والاقتصاد والثقافة والإعلام لو توحدوا ولو تسلحوا بإرادة رد العدوان على غزة وأن يوقفوا المشروع الصهيوني عند حده لو توصلوا إلى تفاهمات جدية مع إيران وتخلصوا من داء التشرذم والانبطاح واستفادوا من التجربة التركية في التنمية والتوظيف التقدمي للشراكة مع الغرب والمواءمة الممكنة بين الإسلام والعلمانية.
بيد أن هذه القلعة الغزاوية قد كانت شوكت في حنجرة النظام العربي الفاسد ومشاريع الشرق الأوسط الجديد ولذلك فقد أقلقت الأنظمة الشمولية في المنطقة وأزعجت النظام الصهيوني ومجلس الحكم في رام الله وطالب الجميع بالقضاء على تجربة التسيير الشعبي الذاتي من أجل وئدها في المهد وقبل أن ينتشر النموذج في الجوار المتعطش هو بدوره إلى الإصلاح وتدوير عجلة التاريخ.
إن غزة تتعرض ولا تزال إلى ضغوطات كبيرة عسكرية وبرزت بوصفها ضحية اللانظام العالمي الجديد وفي قبضة كماشة الإيديولوجيات المغلقة من صهيونية ورجعية وسمسرة امبريالية وتحالف مع الرأسمال العالمي ولكن قدرها أن تأبى وتمتنع وترفض لوحدها جميع المشاريع الاختراقية وتبعثر بمفردها أوراق جلاديها وهاهي الآن تنهض من حطام دمارها وترفع رأس عزتها عاليا من وسط تعطي للعالم درسا في الكرامة والشموخ وتقدم الغالي والنفيس من أجل التشبث بالحياة وإرادة البقاء.
فما معنى أن يتحرك العرب والمسلمون في الوقت الضائع وبعد أن أكمل الروح الثقيل فعلته الشنيعة؟ ألم يكن من الواجب أن يهب صناع القرار في حضارة اقرأ في اللحظات الأولى للمعركة لمساعدة القلعة الغزاوية على الصمود ومواجهة آلة الحرب الصهيونية؟ وأليس من الإنساني الآن وبعد مرور مدة بطول الدهر أن يعملوا على إيقاف هذا العدوان وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الناس في غزة؟ ؟ ألم تحن الساعة لتوفير حماية دولية للسكان العرب والمسلمين في فلسطين من كل أذى وابادة؟ ألا ينبغي لمجلس الأمن أن يجتمع في أقرب وقت ممكن ويستصدر على الفور قرارا بإدانة إسرائيل وتعليق العمليات الهمجية ضد الأبرياء العزل حتى يتمكن أصحاب القلوب الطيبة من إطفاء نار المحرقة الملتهبة في غزة؟
كاتب فلسفي
الأحد، يناير 04، 2009
القلعة الغزاوية في مواجهة آلة الحرب الهمجية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق