أنطــوني ولســن
[ذكريات.. العمر اللي فات هي محطة استراحة فكرية انزل فيها من قطار الحاضر محاولا الأسترخاء والتجوال في شوارع وحارات ومدن وحدائق حياتي ... أثناء تجوالي أحكي للقاريء حكاية من هنا أو من هناك ، وأربطها بحكايةأخرى أو حكايات . ان اقتضى الأمر العودة الى قطار الحاضر ، سأفعل ذلك لاستمرارية التفاعل مع الحاضر ، الذي سيصبح يوما.. ذكريات .. العمر اللي فات. ] دعــونــا الآن نكمــــل الحكـــــايــــة والأن ساعة انتهائي من كتابة هذا الكلام ساورني شك لا أعرف له مبررا .. ولكنه شك مضى عليه ما يزيد على نصف قرن من الزمان .. هل كانت هناك يد خفية غير راغبة في أن أستمر بالعمل بالمصلحة فقامت باخفاء القسيمتين من كل من " الباكتين " الأبجدي والفني ، حتى انتهيت من مراجعة عمل اليوم، وعادت وأودعتهما مكانهما ؟.. واذا صدق شكي الأن .. لماذا ؟.. ومن المستفيد ؟ .. أم هي ارادة الله حتى أعمل بقسم البطاقات الذي أصبح فيما بعد مصلحة الأحوال المدنية . وأن يكون لي شرف أن أكون أول موظف مدني وضع قدمه داخل الشقق التي استأجرتها الوزارة خصيصا لنا بعمارة يوسف الجندي بشارع التحرير بالقاهرة!!.
في هذا الجزء من ذكرياتي أؤرخ بداية عمل جديد جدا من نوعه على مصر وأصبح له أهمية كبرى في ادارة شئون البلاد .. وقد بدأ يحمل اسم " قسم البطاقات الشسخصية التابع لمصلحة تحقيق الشخصية " . بعد استقلالنا في الشقق التي استؤجرت لنا في عمارة يوسف الجندي بشارع التحرير بالقاهرة بدأ العمل في مشروع بطاقات "هويات"شخصية لكل المواطنين في مصر . بدأت الوزارة " وزارة الداخلية " بتطبيقه اولا في محافظتي القاهرة والجيزة .و كان على المواطنين التوجه الى مكاتب البطاقات الشخصية والملحقة باقسام ومراكز الشرطة من حيث الوجود ضمن اطار المبنى ولا سلطة لاحد على الموظفين الا الاشراف على الحضور والانصراف .
عين ضابط شرطة برتبة " بكباشى" لادارة القسم وهو المسؤول الأول عن القسم على مستوى الجمهورية .
. . كان رحمه الله ـ شرسا في تعامله معنا جميعا دون استثناء لموظف مدني أو عسكري . كنا مجموعة شباب يعمل لأول مرة في عهد ثورة قامت للتطهير وبناء المجتمع الحر المتكافيء في الحقوق والواجبات. جميعنا وبدون استثناء كنا نعمل بحماس وهمة ونشاط من أجل مصر . 90% منا كان ملتحقا بجامعات القاهرة وعين شمس ، في مختلف الكليات النظرية . وكنت قد لبيت رغبة والدي والتحقت بكلية الحقوق جامعة القاهرة على الرغم من اننى كنت حاصلاعلى شهادة التوجيهية القسم العلمي بمجموع 59.5% مما كان يؤهلني لدراسة طب الأسنان أو الألتحاق بكلية العلوم في ذلك الوقت . أقول أننا كنا نعتبر من الرعيل الأول الذي عمل في عهد الثورة. آي أننا وبحق ، يجب أن يطلق علينا أبناء الثورة . لم نعرف التعامل أيام الملك والحكومات المختلفة ووضع الموظف تجاه كل وزارة تحكم ولا لمن الولاء أو التبعية. بل كنا نؤمن بأننا ، جميعا ، مصريون ، وأن الواجب ينادينا لبناء مصر والعمل على رفعتها ونهضتها وتقدمها لتأخذ مكانها اللائق بها في العالم . كنت في بداية العمل ولفترة طويلة المسيحي الوحيد في قسم البطاقات الشخصية بالقاهرة . أقول وبصوت عال جدا أنني لم أشعر بأنني أختلف عن الزملاء محمد السعيد امام ولا عن فاروق عطوه ولا عن عبد الوهاب عزوز خريج الأزهر ، الذي التحق بالعمل بغد ذلك بسنوات وقام بمراجعة مسرحية " يوسف الصديق " التي كتبتها عام 1963 وباللغة العربية الفصحى ، ولا عن الحاج غبد الحليم ، ولا عن آي زميل من الزملاء . وقع علي الأختيار في العمل القيادي ، منذ اليوم الأول حتى تركي الخدمة في 1 / 7 / 1971 بسبب الهجرة ، ولم أعامل معاملة مختلفة بسبب انني مسيحي . ولم أكن أعرف أبدا أن المسيحي يخنلف عم المسلم في واجباته أو حقوقه . وسوف أحدثكم في الذكريات عن العديد من المواقف التي وقفتهافي ذلك الزمان لا أظن أبدا أنني أستطيع أن أقفها حاليا اذا كنت مازلت أعيش في مصر .
أول تلك المواقف ، كان في مواجهة ذلك المدير البكباشي الذي ظن أنه مثل رئيس الجمهورية في الرتبة العسكرية وعليه ان يعامل هؤلاء الموظفين معاملة خشنة فظة لا احترام فيها لآدميتهم بغض النظر عن كونهم مدنيين . ٌطلب منا أن نعمل ساعتين اضافيتين من الساعة الخامسة بعد الظهر الى السابعة مساء . لا أجر اضافيامدفوع لنا ، ولا بدل مواصلات ولا كلمة شكر . عملنا في صمت وبذلنا كل الجهد من اجل الأنتهاء من العمل المتراكم والمتزايد مع قلة عدد الموظفين .حدث ان خرج سيادته من مكتبه قبل الساعة السابعة بدقيقتين . فلم يعجبه الوضع . أخذ يزمجر و "يشخط وينطر " فينا وكأننا عبيد في " "الأبعدية" التي ورثها من المرحوم أبوه ،فأمر بتأجيل انصرافنا نصف ساعة . أحد الزملاء من الصغيد أتذكر أسمه " أبو الفضل " طويل القامة ضخم الجسم يحب الضحك ولا يعبأ بشيء . لسوء حظنا دائما كان متواجدا أمام دفاتر الأنصراف قبل الموعد بدقائق . وكان المدير يتعمد الخروج من مكتبه في نفس اللحظة التى يتواجد فيها " أبو الفضل " فيعاقبنا سيادته بالتأجيل نصف ساعة اخرى حتى وصل موغد الأنصراف الساعة التاسعة مساء . لا أجر اضافيا مدفوع لنا ، ولا بدل مواصلات ولا احد يتكلم ، ولا يجروء ان يتكلم مع اننا ابناء ثورة قال لنا رجالها ارفع راسك يا أخي فقد مضى عهد الأستعباد . ويبدو أنه بدأ عهد الأستعباط والأستخفاف بحقوق المواطنين وبكل ماهو كان يسمى بالقوانين . جمعنا مرة ذات مساء ليعلن لنا انه سيلغي العمل بالفترة المسائية اذا انجزت كل منطقة عملها .: " انسحبت من لساني " وقلت له اننا قد انجزنا عملنا . في عنف لفظي ردَ عليَ متسائلا من أكون أنا حتى أجاوبه . وفي غلظة أيضا في صوتي رددت عليه بأنني مساعد مفتش منطقة الجيزة ، وأنا الذي أقوم بتوزيع العمل على الزملاء . في حدة أشد من الحدة الأولى ، قال لى أنه يجب عليَ ان لا أتكلم بل رئيسي المفتش هو الذي يتكلم . هدأ قليلا ووجه حديثه اليَ قائلا ، سأحضر بنفسي غدا للاطلاع على عملكم . فرددت عليه بسخرية قائلا انني كشاف ، والكشاف دائما مستعد . في الصباح دخل علينا القسم .. وقف الجميع ، ولم أقف أنا .. أخذ يبحث عني بعينيه ، فلم يرني .. اتجه الى الحائط ومسحه بأصبعه ووجد أتربة .. نادى على الساعي ومسح اصبعه في وجهه متهما اياه بالأهمال وقام بمجازاته بحسم ثلاثة ايام من راتبه . ترك الغرفة خارجا وأنا في جلستي لم أتحرك . بعد ذلك طيبت خاطر عسران الساعي ووعدته بأننا سنجمع له أيام الحسم .. وقد تم ذلك بالفعل . بعملي بوزارة الداخية وعمل شقيقي الاصغر مني صدقي ويونان بمحلات الحاج محمد ميت كيس بالحمزاوي، اصبح للاسرة دخل ثابت منتظم. بدأنا نبحث عن سكن نستقر فيه بعد ان تركنا مسكننا في 18 شارع السندوبي بشبرا. السكن الذي ولد فيه كل اخوتي واخواتي. الشارع الذي شاهد اول خطواتي واول احلامي. الشارع الذي يعش اهله في قلبي ووجداني على الرغم من ان والديّ ليسا من هذا النوع من الناس الذين يختلطون بسهولة مع الناس او الجيران.
بدأنا في البحث عن سكن فتطوع صديق الطفولة والجار ابراهيم حليم لمساعدتنا في الحصول على شقة في اول مساكن حكومية شيّدتها الدولة لمحدودي الدخل. طلب مني ابراهيم ان اذهب واختار بنفسي الشقة المناسبة لنا. توجهت الى المكتب الخاص بالاشراف على هذه المساكن ومعي خطاب من وزارة الاسكان.
اول شقة دخلتها كانت في المبنى رقم 20 ب شقة رقم 6 شارع اسكان شبرا.. ميدان فيكتوريا. الترعة البولاقية. كان الحب من اول نظرة. انتقلنا ابي وامي واخوتي وأخواتي الى الشقة وعشت فيها الى ان تزوجت في عام 1961 واستأجرت شقة في المنزل رقم 13 شارع الخلفاوي – الخلفاوي شبرا.
بعد عام من زواجي قررت الاسرة التخلي عن الشقة لي. على الرغم من صرامة القانون الخاص بالاسكان في ذلك الوقت من استحالة احلال ساكن مكان الآخر دون علم وموافقة هيئة الاسكان، الا ان العلاقة الطيبة التي بيني وبين المشرفين والحراس على تلك المساكن سهلت كل الأمور بالفعل واستطعنا ان ننقل اثاث منزلي الى الشقة، في نفس لحظة خروج اثاث منزل والدي.
هكذا بدأت حياة استمرارية بعد الزواج في المنزل نفسه الذي قضيت فيه فترة مع اسرتي قبل زواجي. مبنى مكون من 8 شقق. الطابق الارضي خُصص لدار حضانة للأطفال. الطابق الثاني تقطن عائلة ابو سامي وتقابله عائلة الست ام محمد، الطابق الثالث نحن وتقابلنا الست ام عباس. الطابق الرابع يقطن فيه ابو اشرف وعائلته وأبو فاروق وعائلته.
كنا نعيش في ذلك المبنى كأسرة واحدة. لا دين يفرقنا ولا اختلاف او خلاف بيننا. اتذكر يوم جمعة كنت اقف في بلكون شقتنا ووقع بصري على جارتنا في الشقة المقابلة واقفة في البلكون قرأت في نظرتها شيئا تريد ان تقوله لي. خشيت ان انظر اليها مرة اخرى خوفا من الاساءة اليها. لم تمض لحظات من اتخاذ قراري بالابتعاد بنظري عنها حتى شعرت بالخجل وادرت رأسي اليها وأشرت لها بيدي مستفسرا. اشارت بيدها وطلبت مني ان اذهب اليهم. اسرعت الى باب شقتهم وطرقت الباب. فتحت لي والدتها التي طلبت مني بلهفة ان اتدخل بين ابنها وشقيقته. دخلت غرفته.. والغريب في الأمر ما ان رأني حتى هدأ وأخذته الى شقتنا. كانت تلك اول مرة اتحدث فيها مع جيراننا في الشقة امقابلة بعد فترة من انتقالنا الى هذه الشقة.. ومنذ تلك اللحظة وذلك اليوم حتى الآن بالرغم من وجودي في استراليا والى الأبد اهداني القدر شقيقة اسمها فاطمة وشقيق اسمه عباش ووالدتهما الأم الجديرة بكل احترام رحمها الله.
اما الحديث عن الست ام محمد واولادها، فهو حديث عن الذكاء الحاد وتخطيط الأم السليم في تربية اولادها، وقد حصل اولادها وبناتها على أعلى الشهادات الجامعية والمراكز الوظيفية والأجتماعية.
في آخر زيارة لي لمصر عام 1991، كنت مع ابنة عمتي في احد الفنادق بمصر الجديدة، أقوم بتحويل بعض العملات الاجنبية. بينما كنت اتحدث معها اذ باحد ضباط الشرطة برتبة عقيد يلتفت الي مشيراً بيده قائلاً.. الاستاذ ولسن.. نعم الاستاذ ولسن اهلا وسهلا.. اهلا وسهلا.. تقدم نحوي مصافحا في شوق واشتياق. اللحظات التي مرت بين حديثه وتقدمه لمصافحتي قضيتها حائراً فيمن يكون هذا الضابط. لا يمكن ان يكون احد الضباط الذين عملت معهم في مصلحة الاحوال المدنية، ببساطة انه في الاربعينات.. ولا شك انهم قد احيلوا الى المعاش، في ذكاء ويده مصافحة يدي نظر إليّ وسألني الا تعرفني.. انا كامل ابن الحاجة ام محمد.. تطلعت اليه غير مصدّق وقلت له.. لقد تركتك صغيرا.. ولا شك انك في منتهي الذكاء وتتذكرني هكذا من صوتي.. ضحك والحّ عليّ ان اذهب لزيارة الحاجة والدته، لانها دائمة الحديث عنا وهي في اشد الاشتياق لرؤيتنا.
ذهبنا الى حيث ظلت الست ام محمد في شقتها بالمساكن الشعبية لزيارتها.
بعد عشرين عاما مضت على هجرتي.. لم استطع الخروج من السيارة والخوض بين باعة (الفراخ والسمك والخضار) وتزاحم الناس على البيع والشراء، والرائحة الناجمة عن ذلك والاصوات المرتفعة ما بين بائع او بائعة ينادي كل على بضاعته وبين مشتريات يفاصلن في الاسعار باصوات مرتفعة.. رأيت نفس أترحم على ايام المساكن التي كانت وبحق قطعة من اجمل أحياء القاهرة لمتوسطي الحال، بعد كل هذا الوقت بدلا من التقدم الى الافضل، وجدت كل شيء يتراجع الى الوراء.
لم استطع رؤية الحاجة ام محمد ولا سكان المنزل الطيبين ليس تعففا او تكبرا مني.. لا سمح الله.. لكن حزنا على المكان الذي احببت، والناس الذين لهم في قلبي كل الحب والاحترام..
تركت المكان وصوت شادية يجلجل في قلبي وعقلي ووجداني.. يا حبيبتي يا مصر..
(يتبع)
[ذكريات.. العمر اللي فات هي محطة استراحة فكرية انزل فيها من قطار الحاضر محاولا الأسترخاء والتجوال في شوارع وحارات ومدن وحدائق حياتي ... أثناء تجوالي أحكي للقاريء حكاية من هنا أو من هناك ، وأربطها بحكايةأخرى أو حكايات . ان اقتضى الأمر العودة الى قطار الحاضر ، سأفعل ذلك لاستمرارية التفاعل مع الحاضر ، الذي سيصبح يوما.. ذكريات .. العمر اللي فات. ] دعــونــا الآن نكمــــل الحكـــــايــــة والأن ساعة انتهائي من كتابة هذا الكلام ساورني شك لا أعرف له مبررا .. ولكنه شك مضى عليه ما يزيد على نصف قرن من الزمان .. هل كانت هناك يد خفية غير راغبة في أن أستمر بالعمل بالمصلحة فقامت باخفاء القسيمتين من كل من " الباكتين " الأبجدي والفني ، حتى انتهيت من مراجعة عمل اليوم، وعادت وأودعتهما مكانهما ؟.. واذا صدق شكي الأن .. لماذا ؟.. ومن المستفيد ؟ .. أم هي ارادة الله حتى أعمل بقسم البطاقات الذي أصبح فيما بعد مصلحة الأحوال المدنية . وأن يكون لي شرف أن أكون أول موظف مدني وضع قدمه داخل الشقق التي استأجرتها الوزارة خصيصا لنا بعمارة يوسف الجندي بشارع التحرير بالقاهرة!!.
في هذا الجزء من ذكرياتي أؤرخ بداية عمل جديد جدا من نوعه على مصر وأصبح له أهمية كبرى في ادارة شئون البلاد .. وقد بدأ يحمل اسم " قسم البطاقات الشسخصية التابع لمصلحة تحقيق الشخصية " . بعد استقلالنا في الشقق التي استؤجرت لنا في عمارة يوسف الجندي بشارع التحرير بالقاهرة بدأ العمل في مشروع بطاقات "هويات"شخصية لكل المواطنين في مصر . بدأت الوزارة " وزارة الداخلية " بتطبيقه اولا في محافظتي القاهرة والجيزة .و كان على المواطنين التوجه الى مكاتب البطاقات الشخصية والملحقة باقسام ومراكز الشرطة من حيث الوجود ضمن اطار المبنى ولا سلطة لاحد على الموظفين الا الاشراف على الحضور والانصراف .
عين ضابط شرطة برتبة " بكباشى" لادارة القسم وهو المسؤول الأول عن القسم على مستوى الجمهورية .
. . كان رحمه الله ـ شرسا في تعامله معنا جميعا دون استثناء لموظف مدني أو عسكري . كنا مجموعة شباب يعمل لأول مرة في عهد ثورة قامت للتطهير وبناء المجتمع الحر المتكافيء في الحقوق والواجبات. جميعنا وبدون استثناء كنا نعمل بحماس وهمة ونشاط من أجل مصر . 90% منا كان ملتحقا بجامعات القاهرة وعين شمس ، في مختلف الكليات النظرية . وكنت قد لبيت رغبة والدي والتحقت بكلية الحقوق جامعة القاهرة على الرغم من اننى كنت حاصلاعلى شهادة التوجيهية القسم العلمي بمجموع 59.5% مما كان يؤهلني لدراسة طب الأسنان أو الألتحاق بكلية العلوم في ذلك الوقت . أقول أننا كنا نعتبر من الرعيل الأول الذي عمل في عهد الثورة. آي أننا وبحق ، يجب أن يطلق علينا أبناء الثورة . لم نعرف التعامل أيام الملك والحكومات المختلفة ووضع الموظف تجاه كل وزارة تحكم ولا لمن الولاء أو التبعية. بل كنا نؤمن بأننا ، جميعا ، مصريون ، وأن الواجب ينادينا لبناء مصر والعمل على رفعتها ونهضتها وتقدمها لتأخذ مكانها اللائق بها في العالم . كنت في بداية العمل ولفترة طويلة المسيحي الوحيد في قسم البطاقات الشخصية بالقاهرة . أقول وبصوت عال جدا أنني لم أشعر بأنني أختلف عن الزملاء محمد السعيد امام ولا عن فاروق عطوه ولا عن عبد الوهاب عزوز خريج الأزهر ، الذي التحق بالعمل بغد ذلك بسنوات وقام بمراجعة مسرحية " يوسف الصديق " التي كتبتها عام 1963 وباللغة العربية الفصحى ، ولا عن الحاج غبد الحليم ، ولا عن آي زميل من الزملاء . وقع علي الأختيار في العمل القيادي ، منذ اليوم الأول حتى تركي الخدمة في 1 / 7 / 1971 بسبب الهجرة ، ولم أعامل معاملة مختلفة بسبب انني مسيحي . ولم أكن أعرف أبدا أن المسيحي يخنلف عم المسلم في واجباته أو حقوقه . وسوف أحدثكم في الذكريات عن العديد من المواقف التي وقفتهافي ذلك الزمان لا أظن أبدا أنني أستطيع أن أقفها حاليا اذا كنت مازلت أعيش في مصر .
أول تلك المواقف ، كان في مواجهة ذلك المدير البكباشي الذي ظن أنه مثل رئيس الجمهورية في الرتبة العسكرية وعليه ان يعامل هؤلاء الموظفين معاملة خشنة فظة لا احترام فيها لآدميتهم بغض النظر عن كونهم مدنيين . ٌطلب منا أن نعمل ساعتين اضافيتين من الساعة الخامسة بعد الظهر الى السابعة مساء . لا أجر اضافيامدفوع لنا ، ولا بدل مواصلات ولا كلمة شكر . عملنا في صمت وبذلنا كل الجهد من اجل الأنتهاء من العمل المتراكم والمتزايد مع قلة عدد الموظفين .حدث ان خرج سيادته من مكتبه قبل الساعة السابعة بدقيقتين . فلم يعجبه الوضع . أخذ يزمجر و "يشخط وينطر " فينا وكأننا عبيد في " "الأبعدية" التي ورثها من المرحوم أبوه ،فأمر بتأجيل انصرافنا نصف ساعة . أحد الزملاء من الصغيد أتذكر أسمه " أبو الفضل " طويل القامة ضخم الجسم يحب الضحك ولا يعبأ بشيء . لسوء حظنا دائما كان متواجدا أمام دفاتر الأنصراف قبل الموعد بدقائق . وكان المدير يتعمد الخروج من مكتبه في نفس اللحظة التى يتواجد فيها " أبو الفضل " فيعاقبنا سيادته بالتأجيل نصف ساعة اخرى حتى وصل موغد الأنصراف الساعة التاسعة مساء . لا أجر اضافيا مدفوع لنا ، ولا بدل مواصلات ولا احد يتكلم ، ولا يجروء ان يتكلم مع اننا ابناء ثورة قال لنا رجالها ارفع راسك يا أخي فقد مضى عهد الأستعباد . ويبدو أنه بدأ عهد الأستعباط والأستخفاف بحقوق المواطنين وبكل ماهو كان يسمى بالقوانين . جمعنا مرة ذات مساء ليعلن لنا انه سيلغي العمل بالفترة المسائية اذا انجزت كل منطقة عملها .: " انسحبت من لساني " وقلت له اننا قد انجزنا عملنا . في عنف لفظي ردَ عليَ متسائلا من أكون أنا حتى أجاوبه . وفي غلظة أيضا في صوتي رددت عليه بأنني مساعد مفتش منطقة الجيزة ، وأنا الذي أقوم بتوزيع العمل على الزملاء . في حدة أشد من الحدة الأولى ، قال لى أنه يجب عليَ ان لا أتكلم بل رئيسي المفتش هو الذي يتكلم . هدأ قليلا ووجه حديثه اليَ قائلا ، سأحضر بنفسي غدا للاطلاع على عملكم . فرددت عليه بسخرية قائلا انني كشاف ، والكشاف دائما مستعد . في الصباح دخل علينا القسم .. وقف الجميع ، ولم أقف أنا .. أخذ يبحث عني بعينيه ، فلم يرني .. اتجه الى الحائط ومسحه بأصبعه ووجد أتربة .. نادى على الساعي ومسح اصبعه في وجهه متهما اياه بالأهمال وقام بمجازاته بحسم ثلاثة ايام من راتبه . ترك الغرفة خارجا وأنا في جلستي لم أتحرك . بعد ذلك طيبت خاطر عسران الساعي ووعدته بأننا سنجمع له أيام الحسم .. وقد تم ذلك بالفعل . بعملي بوزارة الداخية وعمل شقيقي الاصغر مني صدقي ويونان بمحلات الحاج محمد ميت كيس بالحمزاوي، اصبح للاسرة دخل ثابت منتظم. بدأنا نبحث عن سكن نستقر فيه بعد ان تركنا مسكننا في 18 شارع السندوبي بشبرا. السكن الذي ولد فيه كل اخوتي واخواتي. الشارع الذي شاهد اول خطواتي واول احلامي. الشارع الذي يعش اهله في قلبي ووجداني على الرغم من ان والديّ ليسا من هذا النوع من الناس الذين يختلطون بسهولة مع الناس او الجيران.
بدأنا في البحث عن سكن فتطوع صديق الطفولة والجار ابراهيم حليم لمساعدتنا في الحصول على شقة في اول مساكن حكومية شيّدتها الدولة لمحدودي الدخل. طلب مني ابراهيم ان اذهب واختار بنفسي الشقة المناسبة لنا. توجهت الى المكتب الخاص بالاشراف على هذه المساكن ومعي خطاب من وزارة الاسكان.
اول شقة دخلتها كانت في المبنى رقم 20 ب شقة رقم 6 شارع اسكان شبرا.. ميدان فيكتوريا. الترعة البولاقية. كان الحب من اول نظرة. انتقلنا ابي وامي واخوتي وأخواتي الى الشقة وعشت فيها الى ان تزوجت في عام 1961 واستأجرت شقة في المنزل رقم 13 شارع الخلفاوي – الخلفاوي شبرا.
بعد عام من زواجي قررت الاسرة التخلي عن الشقة لي. على الرغم من صرامة القانون الخاص بالاسكان في ذلك الوقت من استحالة احلال ساكن مكان الآخر دون علم وموافقة هيئة الاسكان، الا ان العلاقة الطيبة التي بيني وبين المشرفين والحراس على تلك المساكن سهلت كل الأمور بالفعل واستطعنا ان ننقل اثاث منزلي الى الشقة، في نفس لحظة خروج اثاث منزل والدي.
هكذا بدأت حياة استمرارية بعد الزواج في المنزل نفسه الذي قضيت فيه فترة مع اسرتي قبل زواجي. مبنى مكون من 8 شقق. الطابق الارضي خُصص لدار حضانة للأطفال. الطابق الثاني تقطن عائلة ابو سامي وتقابله عائلة الست ام محمد، الطابق الثالث نحن وتقابلنا الست ام عباس. الطابق الرابع يقطن فيه ابو اشرف وعائلته وأبو فاروق وعائلته.
كنا نعيش في ذلك المبنى كأسرة واحدة. لا دين يفرقنا ولا اختلاف او خلاف بيننا. اتذكر يوم جمعة كنت اقف في بلكون شقتنا ووقع بصري على جارتنا في الشقة المقابلة واقفة في البلكون قرأت في نظرتها شيئا تريد ان تقوله لي. خشيت ان انظر اليها مرة اخرى خوفا من الاساءة اليها. لم تمض لحظات من اتخاذ قراري بالابتعاد بنظري عنها حتى شعرت بالخجل وادرت رأسي اليها وأشرت لها بيدي مستفسرا. اشارت بيدها وطلبت مني ان اذهب اليهم. اسرعت الى باب شقتهم وطرقت الباب. فتحت لي والدتها التي طلبت مني بلهفة ان اتدخل بين ابنها وشقيقته. دخلت غرفته.. والغريب في الأمر ما ان رأني حتى هدأ وأخذته الى شقتنا. كانت تلك اول مرة اتحدث فيها مع جيراننا في الشقة امقابلة بعد فترة من انتقالنا الى هذه الشقة.. ومنذ تلك اللحظة وذلك اليوم حتى الآن بالرغم من وجودي في استراليا والى الأبد اهداني القدر شقيقة اسمها فاطمة وشقيق اسمه عباش ووالدتهما الأم الجديرة بكل احترام رحمها الله.
اما الحديث عن الست ام محمد واولادها، فهو حديث عن الذكاء الحاد وتخطيط الأم السليم في تربية اولادها، وقد حصل اولادها وبناتها على أعلى الشهادات الجامعية والمراكز الوظيفية والأجتماعية.
في آخر زيارة لي لمصر عام 1991، كنت مع ابنة عمتي في احد الفنادق بمصر الجديدة، أقوم بتحويل بعض العملات الاجنبية. بينما كنت اتحدث معها اذ باحد ضباط الشرطة برتبة عقيد يلتفت الي مشيراً بيده قائلاً.. الاستاذ ولسن.. نعم الاستاذ ولسن اهلا وسهلا.. اهلا وسهلا.. تقدم نحوي مصافحا في شوق واشتياق. اللحظات التي مرت بين حديثه وتقدمه لمصافحتي قضيتها حائراً فيمن يكون هذا الضابط. لا يمكن ان يكون احد الضباط الذين عملت معهم في مصلحة الاحوال المدنية، ببساطة انه في الاربعينات.. ولا شك انهم قد احيلوا الى المعاش، في ذكاء ويده مصافحة يدي نظر إليّ وسألني الا تعرفني.. انا كامل ابن الحاجة ام محمد.. تطلعت اليه غير مصدّق وقلت له.. لقد تركتك صغيرا.. ولا شك انك في منتهي الذكاء وتتذكرني هكذا من صوتي.. ضحك والحّ عليّ ان اذهب لزيارة الحاجة والدته، لانها دائمة الحديث عنا وهي في اشد الاشتياق لرؤيتنا.
ذهبنا الى حيث ظلت الست ام محمد في شقتها بالمساكن الشعبية لزيارتها.
بعد عشرين عاما مضت على هجرتي.. لم استطع الخروج من السيارة والخوض بين باعة (الفراخ والسمك والخضار) وتزاحم الناس على البيع والشراء، والرائحة الناجمة عن ذلك والاصوات المرتفعة ما بين بائع او بائعة ينادي كل على بضاعته وبين مشتريات يفاصلن في الاسعار باصوات مرتفعة.. رأيت نفس أترحم على ايام المساكن التي كانت وبحق قطعة من اجمل أحياء القاهرة لمتوسطي الحال، بعد كل هذا الوقت بدلا من التقدم الى الافضل، وجدت كل شيء يتراجع الى الوراء.
لم استطع رؤية الحاجة ام محمد ولا سكان المنزل الطيبين ليس تعففا او تكبرا مني.. لا سمح الله.. لكن حزنا على المكان الذي احببت، والناس الذين لهم في قلبي كل الحب والاحترام..
تركت المكان وصوت شادية يجلجل في قلبي وعقلي ووجداني.. يا حبيبتي يا مصر..
(يتبع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق