صبحي غندور
يعيش لبنان اليوم ظروفاً مشابهة إلى حدٍّ ما لما كان عليه منذ نصف قرن من الزمن، وتحديداً في العام 1958، حينما تصارعت في لبنان قوى محلّية مدعومة من جهات خارجية، كان أقطابها آنذاك أميركا/أيزنهاور ومصر/عبد الناصر.
ففي تلك الفترة شهد لبنان أحداثاً أمنية واسعة كانت شرارتها قضايا سياسية داخلية لكن جوهرها كمن في الصراع الدائر في المنطقة بين نهجين؛ أحدهما أميركي أقام "حلف أيزنهاور" وضغط على لبنان ليكون في فلكه، والآخر عربي/ناصري كان يقود تيّار القومية العربية ويدعو إلى التحرّر من الاستعمار وسياسة الأحلاف الأجنبية.
وقد انقسم لبنان حينها بين كتلتين إحداهما مع الرئيس الحاكم آنذاك كميل شمعون وما خلفه من دعم أميركي كبير وصل إلى حد إنزال جنود أميركيين على الشواطئ اللبنانية، والثانية كتلة معارضة حظيت بدعم مصر عبد الناصر.
قائد الجيش اللبناني في تلك الحقبة الزمنية كان اللواء فؤاد شهاب الذي تصرّف بحكمة كبيرة ورفض استخدام الجيش لقمع الثائرين على حكم الرئيس شمعون، فحافظ بالتالي على وحدة المؤسّسة العسكرية وعلى وجودها ودورها الوطني التوحيدي للمرحلة المقبلة.
وانتهت أحداث العام 1958 بتوافق أميركي/مصري على اختيار اللواء شهاب ليكون رئيساً للجمهورية وعلى صيغة "لا غالب ولا مغلوب" كمحصلة للتوافق الأقليمي والدولي على تحييد لبنان في صراعات المنطقة.
وقد حاول اللواء شهاب، عقب تسلّمه مسؤولية رئاسة الجمهورية، بناء الدولة اللبنانية الحديثة ومؤسساتها المدنية التي كانت معدومة منذ الاستقلال اللبناني في العام 1943، كما حاول إحداث تحوّل اجتماعي ينقل لبنان من حالة "المزرعة" إلى حال "الوطن"، لكنّ ذلك كلّه اصطدم بالتركيبة الدستورية الطائفية التي قام عليها لبنان، وبالقوى السياسية الطائفية التي لم تجد مصلحةً لها في التخلّي عن "الطائفية السياسية" ومفهوم الإقطاعيات الطائفية والمذهبية والمناطقية داخل "المزرعة الواحدة".
اليوم، يمرّ لبنان بظروف أصعب ممّا كانت عليه الأوضاع في العام 1958. فصحيح أنّ الانقسام فيه هو أيضاً بين كتلتين خرجتا من تطوّرات السنوات الأخيرة عقب صدور القرار الدولي 1559 وما تبعه من أحداث أمنية وسياسية خطيرة، وصحيح أنّ هناك قوى إقليمية ودولية تقف وراء كل كتلة، وبأنّ هناك تبايناً كبيراً بين من راهن على الدعم الأميركي وبين من اختار نهج المقاومة في لبنان والمنطقة، صحيحٌ ذلك كلّه لكن حجم الانقسامات الداخلية هو أخطر بكثير ممّا كانت عليه منذ نصف قرن. كذلك هو العامل الإسرائيلي الذي لم يكن فاعلاً في أحداث العام 1958 بينما الآن هو أساس في المعضلات اللبنانية بعدما احتلّت إسرائيل لبنان وعاصمته في العام 1982.
كذلك على المستوى الداخلي، فإن آثار الحرب الأهلية التي اشتعلت في العام 1975، وتداعيات أحداث السنوات الثلاث الماضية، حوّلت "لبنان المزرعة الواحدة" إلى "لبنان المزارع المتصارعة"، وتراجعت المؤسسات المدنية المشتركة وضعفت الدولة اللبنانية بكامل قطاعاتها باستثناء المؤسسة العسكرية التي جرى إعادة بنائها على أسس وطنية سليمة عقب "اتفاق الطائف" في العام 1989 حيث كان لسوريا وللعماد إميل لحود دور بارز في ذلك البناء.
لكن الامتحان الكبير لدور الجيش اللبناني الجديد كان عقب اغتيال المرحوم رفيق الحريري حيث استطاع قائده آنذاك العماد ميشال سليمان النجاح في تكرار التجربة الشهابية في ظلّ ظروف أخطر وأصعب، ولمدّة زمنية أطول، ووسط تحدّيات جديدة لم تكن قائمة منذ نصف قرن أبرزها تحدّي العدوان الإسرائيلي ودور جماعات الإرهاب المسلّح.
وقد ثبتت صوابية السياسة الحكيمة التي قادها العماد ميشال سليمان، وتوافق عليه اللبنانيون والعالم كلّه ليكون رئيساً للبنان الذي ما زال منقسماً على نفسه رغم كل مظاهر المصالحات والحوارات والصيغ الأجرائية المتفق عليها.
فكثير من الأمور لم يتمّ حسمها بعد في الإطارين الداخلي والخارجي، وما زالت معظم القوى الوطنية التوحيدية اللاطائفية مغيّبة عن تقرير مصير الوطن ومستقبل مؤسّساته، فالتمثيل في هيئات "الحوار الوطني" بقي محصوراً حتى الآن بمعايير تمثيل سياسي لطوائف ومذاهب، وبعضه يحتكر حتى التمثيل المذهبي لكل لبنان!.
وهناك حالات خطيرة في الانقسامات السائدة داخل كل منطقة وبين أبناء كل طائفة، وهي حالات لا يمكن أن تشكّل أرضية صالحة لبناء مستقبل أفضل أو لتسهيل برنامج رئيس الجمهورية الذي أعلنه في خطاب القسم الدستوري.
فالخوف هنا أن تتكرّر أيضاً سلبيات الفترة الشهابية في مطلع عقد الستينات حيث انتصرت إرادة أصحاب "المزارع الطائفية السياسية" على إرادة نهج بناء الدولة الحديثة الذي عمل له اللواء شهاب. فالطائفيون لا يبنون دولة وطنية لاطائفية. والمواطنة السليمة تكون حيث الدولة السليمة ومفهوم الولاء الوطني الواحد. كذلك هي هوية لبنان العربية، فكيف تنتصر هذه الهوية العربية ويتمّ الحفاظ عليها إذا ما استمرّت سياسة عزل التيار العروبي؟!
فالحديث عن "الوطنية اللبنانية" يتكرّر الآن حينما يكون الأمر في مواجهة سوريا، لا تعبيراً عن نهج وطني لبناني يرفض الانقسامات الطائفية والمذهبية. والحديث عن "عروبة لبنان" أصبح مستخدماً لدى الكثيرين في مواجهة إيران فقط وليس عن قناعة بنهج عروبي مخلص لهوية لبنان العربية.
فالوطنية والعروبة (وكذلك الدين) هي ثلاثية مهمّة جداً لكل بلد عربي، وهي عناصر مطلوب التمسك بها في مواجهة الساعين لشرذمة الأوطان العربية وتشويه دور الدين فيها. وهذه "الثلاثية" هي عوامل جمع وتوحّد، فلا يجب أن تكون مصدر تفرّق وانقسام، ولا يجوز استخدام بعضها ضدّ بعضها الآخر.
وعادةً ما تكون الرؤية لأيّ رئيس منتخب من خلال ما يطرحه من برنامج لفترة حكمه، أمّا في حالة الرئيس العماد ميشال سليمان فإنّ المعيار ليس فقط ما طرحه من برنامج في خطاب القسم الدستوري، بل الأهم هو ما في سجلّ هذا الرئيس من مواقف عملية كانت خير شهادة له حينما كان يقود المؤسسة العسكرية في أحلك ظروف أمنية وسياسية خلال السنوات الثلاث الماضية التي امتزجت فيها جملة تحدّيات؛ كان أبرزها تسلّم زمام كل الأمور الأمنية بعد انسحاب القوات السورية من لبنان، وتحدّي الحفاظ على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي في ظلّ صراعات سياسية عنيفة شهدها لبنان بعد اغتيال المرحوم رفيق الحريري، ثمّ التحدّي العسكري الكبير الذي تجسّد في مخاطر العدوان الإسرائيلي الغاشم عام 2006، ثمّ الإرهاب المستتر بأسماء مختلفة في أماكن عديدة من لبنان وآخر مظاهره ما تعرّضت له قافلة الجنود اللبنانيين في طرابلس.
لقد حافظ الرئيس ميشال سليمان على الحرّيات العامّة وهو في موقع قائد المؤسسة العسكرية التي بقيت وحدها مسؤولة عن الوطن والمواطن طيلة السنوات الثلاث الماضية، وأثبت بالتجربة العملية حرصه على النظام الديمقراطي في لبنان وعلى الحرّيات العامّة فيه.
لقد كان الرئيس اللبناني، من خلال موقعه السابق كقائد للجيش، في امتحان عملي كبير لمدى قدرته على قيادة هذا الوطن والحفاظ عليه موحّداً مستقرّاً ومستقلاً. وقد أثبتت السنوات الثلاث الماضية أنّه القائد "الحكيم" الجدير لمسيرة وطنية يأملها اللبنانيون اليوم نحو هدف الأمن والاستقرار والعدالة وبناء مستقبل أفضل للأجيال الجديدة.
الخميس، أكتوبر 16، 2008
"الشهابية" تتجدّد في لبنان
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق