صبحي غندور
سيذكر التاريخ بعلامات بارزة أنّ إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن قد تميّزت ببدء عهدها في زرع مشاعر الخوف لدى الأميركيين والعالم، ومع نهاية هذا العهد، أي بعد ثماني سنوات، بحصاد من واقع الاقتصاد المنهار وآلام الجوع لدى العديد من الأميركيين ومن شعوب العالم.
إنّه عهد "الخوف والجوع" الذي يعيش في البيت الأبيض الأميركي الآن أشهره الأخيرة. عهد هو النموذج الأسوأ ربّما للرأسمالية الأميركية المعاصرة، لكنّه كان أيضاً النموذج الأفضل للترابط الحتمي بين الاقتصاد والسياسة والأمن. فالاقتصاد الأميركي يعاني الآن من تدهور كبير ليس فقط لأسباب مالية واقتصادية بل كمحصّلة أيضاً لأجندة إدارة بوش في وجهيها الأمني والسياسي وللحروب التي تخوضها هذه الإدارة في كلٍّ من العراق وأفغانستان، وللهجة التهديدات التي استخدمتها الإدارة ضدّ الكثير من الخصوم ومن الأصدقاء أيضاً.
أجندة إدارة بوش التي استنزفت ما كانت عليه الميزانية الأميركية من فائض مالي كبير عام 2000 ووصلت بالميزانية الآن إلى حدّ عجز مالي يفوق 11 تريليون دولار (11 ألف مليار دولار).
فالحرب في العراق وحدها تكلّف الميزانية الأميركية 4 مليارات دولار أسبوعياً، والمستفيد المالي منها هو مجموعة محدودة فقط من شركات مصانع الأسلحة والنفط وكبار المتعهّدين كشركة "هالبيرتون" التي احتكرت الكثير من الالتزامات الأميركية في العراق والتي تربطها علاقات وطيدة مع نائب الرئيس الأميركي تشيني.
وحينما تُحقّق شركة نفطية واحدة في العام الماضي أرباحاً تتجاوز مبلغ الخمسين مليار دولار بينما يعاني المواطن الأميركي من ارتفاع نسبة المحروقات، وحينما تتجاوز قيمة المكافآت المالية فقط لمدراء شركات ومصارف في "وول ستريت" مبلغ الستين مليار دولار في العام 2007، فإنّ ذلك كلّه يُظهر مدى الفساد الاقتصادي الذي ساد في عهد إدارة بوش، والذي يدفع ثمنه الآن المواطن الأميركي والاقتصاد الأميركي ثمّ العالم ككل.
إنّ إدارة بوش هي المسؤولة الأولى عن ظواهر أزمة النظام الرأسمالي العالمي الآن، وهي تضع أميركا والعالم أمام احتمالات خطيرة على الصعيد الاقتصادي، كما فعلت ذلك عسكرياً وسياسياً منذ مطلع العام 2002 في نظرية "الحروب الاستباقية" وفي سياسة الانفراد بقرارات عالمية خطيرة.
إنّ "العالم الرأسمالي" يعيش اليوم ظواهر شبيهة بالتي حدثت منذ عشرين سنة مع "العالم الشيوعي" وأدّت إلى انهيار قطب نظامه الاتحاد السوفييتي. فروسيا الشيوعية كانت في أواخر الثمانينات منهمكة عسكرياً في حربها بأفغانستان وتعاني من أوضاع اقتصادية داخلية صعبة ممّا انعكس على موقعها في قيادة العالم الشيوعي وأفسح من ثمّ المجال لبدء تدحرج أحجار "الدومينو" الشيوعية الواحد تلوالآخر.
اليوم نجد أنّ قطب النظام الرأسمالي العالمي يشهد هذا المزيج المتأزّم من الأمن والاقتصاد والسياسة ومن الانعكاسات السلبية لتدهور الاقتصاد الأميركي على عموم الأسواق الاقتصادية الحرّة في العالم.
لقد شهد العالم مع سقوط "المعسكر الشيوعي" حالة من اختلال "التوازن" بين كفّتيْ النظامين الاقتصاديين العالميين اللذين كانا سائدين لأكثر من نصف قرن.
وهاهي الصيغة الاقتصادية الرأسمالية تمرّ الآن في مأزق كبير كالذي مرّت به الصيغة الاقتصادية الشيوعية، ممّا ينقل الاقتصاد العالمي من حال "اختلال التوازن" إلى حال "انعدام التوازن".
وستضطرّ الأنظمة الرأسمالية إلى مراجعات كبيرة في أفكارها وممارساتها وربّما إلى تعديل مفاهيم جوهرية في طبيعة "الاقتصاد الحر" بحيث لا يُترك "السوق" وحده كمرجعية، وإلى اعتماد التدخّل الحكومي في مراقبة حركة "السوق"، والتخطيط الاقتصادي الشامل الذي يجمع بين مسؤولية "القطاع العام" ودور "القطاع الخاص".
وهذه مفاهيم تنحو نحو صيغة "الاشتراكية الاجتماعية" التي تعتمدها الآن بعض الدول الأوروبية والتي تقوم على الجمع بين الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية، وبين "الاقتصاد الحر" من جهة، ورقابة الدولة وتخطيطها الشامل من جهة أخرى.
وقد أثبتت التطورات الاقتصادية الأخيرة في الولايات المتحدة بطلان كل التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأميركي بوش عن سلامة الاقتصاد الأميركي، وكذلك ما كان يردّده المرشّح الجمهوري جون ماكين عن صحّة الأوضاع الاقتصادية. كذلك أكّدت هذه التطوّرات سقوط مقولة "الحزب الجمهوري" بضرورة عدم تدخّل الدولة في "حركة السوق". وسيساهم ذلك بلا شك في دعم حملة "الديمقراطيين" وإمكانات فوز مرشّحهم أوباما في منصب الرئاسة الأميركية.
لكن بغضّ النظر عن انتخابات الرئاسة وعمّا سيقرّره الكونغرس الأميركي من خطّة تعويم للاقتصاد، فإنّ الولايات المتحدة دخلت نفقاً اقتصادياً مظلماً لن تخرج بسرعة كبيرة منه.
حبّذا لو أنّ مليارات الدولارات العربية التي ذهبت الآن هدراً في سوق البورصة الأميركي وفي المؤسّسات المالية الأميركية التي هي إمّا مفلسة أو مريضة الآن، قد جرى استثمارها أصلاً في مشاريع إنتاجية داخل البلاد العربية للمساهمة في تحسين الاقتصاد العربي وفي تحصينه، وفي توفير ربح مالي قائم على مشاريع صناعية وزراعية منتجة، عوضاً عن استهلاك هذه المليارات في سوق المضاربات المالية.
عالم اليوم "تعولمت" فيه مشاعر الخوف وهواجس الجوع. عالم اليوم يخشى من الغدّ بدلاً من أن يكون كل يوم جديد مبعثاً لأمل جديد في حياة أفضل.
سيذكر التاريخ بعلامات بارزة أنّ إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن قد تميّزت ببدء عهدها في زرع مشاعر الخوف لدى الأميركيين والعالم، ومع نهاية هذا العهد، أي بعد ثماني سنوات، بحصاد من واقع الاقتصاد المنهار وآلام الجوع لدى العديد من الأميركيين ومن شعوب العالم.
إنّه عهد "الخوف والجوع" الذي يعيش في البيت الأبيض الأميركي الآن أشهره الأخيرة. عهد هو النموذج الأسوأ ربّما للرأسمالية الأميركية المعاصرة، لكنّه كان أيضاً النموذج الأفضل للترابط الحتمي بين الاقتصاد والسياسة والأمن. فالاقتصاد الأميركي يعاني الآن من تدهور كبير ليس فقط لأسباب مالية واقتصادية بل كمحصّلة أيضاً لأجندة إدارة بوش في وجهيها الأمني والسياسي وللحروب التي تخوضها هذه الإدارة في كلٍّ من العراق وأفغانستان، وللهجة التهديدات التي استخدمتها الإدارة ضدّ الكثير من الخصوم ومن الأصدقاء أيضاً.
أجندة إدارة بوش التي استنزفت ما كانت عليه الميزانية الأميركية من فائض مالي كبير عام 2000 ووصلت بالميزانية الآن إلى حدّ عجز مالي يفوق 11 تريليون دولار (11 ألف مليار دولار).
فالحرب في العراق وحدها تكلّف الميزانية الأميركية 4 مليارات دولار أسبوعياً، والمستفيد المالي منها هو مجموعة محدودة فقط من شركات مصانع الأسلحة والنفط وكبار المتعهّدين كشركة "هالبيرتون" التي احتكرت الكثير من الالتزامات الأميركية في العراق والتي تربطها علاقات وطيدة مع نائب الرئيس الأميركي تشيني.
وحينما تُحقّق شركة نفطية واحدة في العام الماضي أرباحاً تتجاوز مبلغ الخمسين مليار دولار بينما يعاني المواطن الأميركي من ارتفاع نسبة المحروقات، وحينما تتجاوز قيمة المكافآت المالية فقط لمدراء شركات ومصارف في "وول ستريت" مبلغ الستين مليار دولار في العام 2007، فإنّ ذلك كلّه يُظهر مدى الفساد الاقتصادي الذي ساد في عهد إدارة بوش، والذي يدفع ثمنه الآن المواطن الأميركي والاقتصاد الأميركي ثمّ العالم ككل.
إنّ إدارة بوش هي المسؤولة الأولى عن ظواهر أزمة النظام الرأسمالي العالمي الآن، وهي تضع أميركا والعالم أمام احتمالات خطيرة على الصعيد الاقتصادي، كما فعلت ذلك عسكرياً وسياسياً منذ مطلع العام 2002 في نظرية "الحروب الاستباقية" وفي سياسة الانفراد بقرارات عالمية خطيرة.
إنّ "العالم الرأسمالي" يعيش اليوم ظواهر شبيهة بالتي حدثت منذ عشرين سنة مع "العالم الشيوعي" وأدّت إلى انهيار قطب نظامه الاتحاد السوفييتي. فروسيا الشيوعية كانت في أواخر الثمانينات منهمكة عسكرياً في حربها بأفغانستان وتعاني من أوضاع اقتصادية داخلية صعبة ممّا انعكس على موقعها في قيادة العالم الشيوعي وأفسح من ثمّ المجال لبدء تدحرج أحجار "الدومينو" الشيوعية الواحد تلوالآخر.
اليوم نجد أنّ قطب النظام الرأسمالي العالمي يشهد هذا المزيج المتأزّم من الأمن والاقتصاد والسياسة ومن الانعكاسات السلبية لتدهور الاقتصاد الأميركي على عموم الأسواق الاقتصادية الحرّة في العالم.
لقد شهد العالم مع سقوط "المعسكر الشيوعي" حالة من اختلال "التوازن" بين كفّتيْ النظامين الاقتصاديين العالميين اللذين كانا سائدين لأكثر من نصف قرن.
وهاهي الصيغة الاقتصادية الرأسمالية تمرّ الآن في مأزق كبير كالذي مرّت به الصيغة الاقتصادية الشيوعية، ممّا ينقل الاقتصاد العالمي من حال "اختلال التوازن" إلى حال "انعدام التوازن".
وستضطرّ الأنظمة الرأسمالية إلى مراجعات كبيرة في أفكارها وممارساتها وربّما إلى تعديل مفاهيم جوهرية في طبيعة "الاقتصاد الحر" بحيث لا يُترك "السوق" وحده كمرجعية، وإلى اعتماد التدخّل الحكومي في مراقبة حركة "السوق"، والتخطيط الاقتصادي الشامل الذي يجمع بين مسؤولية "القطاع العام" ودور "القطاع الخاص".
وهذه مفاهيم تنحو نحو صيغة "الاشتراكية الاجتماعية" التي تعتمدها الآن بعض الدول الأوروبية والتي تقوم على الجمع بين الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية، وبين "الاقتصاد الحر" من جهة، ورقابة الدولة وتخطيطها الشامل من جهة أخرى.
وقد أثبتت التطورات الاقتصادية الأخيرة في الولايات المتحدة بطلان كل التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأميركي بوش عن سلامة الاقتصاد الأميركي، وكذلك ما كان يردّده المرشّح الجمهوري جون ماكين عن صحّة الأوضاع الاقتصادية. كذلك أكّدت هذه التطوّرات سقوط مقولة "الحزب الجمهوري" بضرورة عدم تدخّل الدولة في "حركة السوق". وسيساهم ذلك بلا شك في دعم حملة "الديمقراطيين" وإمكانات فوز مرشّحهم أوباما في منصب الرئاسة الأميركية.
لكن بغضّ النظر عن انتخابات الرئاسة وعمّا سيقرّره الكونغرس الأميركي من خطّة تعويم للاقتصاد، فإنّ الولايات المتحدة دخلت نفقاً اقتصادياً مظلماً لن تخرج بسرعة كبيرة منه.
حبّذا لو أنّ مليارات الدولارات العربية التي ذهبت الآن هدراً في سوق البورصة الأميركي وفي المؤسّسات المالية الأميركية التي هي إمّا مفلسة أو مريضة الآن، قد جرى استثمارها أصلاً في مشاريع إنتاجية داخل البلاد العربية للمساهمة في تحسين الاقتصاد العربي وفي تحصينه، وفي توفير ربح مالي قائم على مشاريع صناعية وزراعية منتجة، عوضاً عن استهلاك هذه المليارات في سوق المضاربات المالية.
عالم اليوم "تعولمت" فيه مشاعر الخوف وهواجس الجوع. عالم اليوم يخشى من الغدّ بدلاً من أن يكون كل يوم جديد مبعثاً لأمل جديد في حياة أفضل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق