صبحي غندور
تشكّل ألأمة العربية أهمّ موقعٍ استراتيجي في العالم من حيث انتشارها على مداخل قارّتي آسيا وأفريقيا ومجاورتها لمعظم القارّة الأوروبية. أيضاً، المنطقة العربية هي أرض الثروات الطبيعية ومصادر الطاقة الدولية وأهمّها النفط الذي يعتمد عليه الاقتصاد العالمي منذ عقودٍ طويلة. كذلك، فإنَّ المنطقة العربية هي أرض الرسالات السماوية ومهبط الرسل وموقع الأماكن المقدّسة لكلّ الطوائف الدينية السماوية. وفي هذا الإطار، هناك خصوصية علاقة ما بين الثقافة العربية والعالم الإسلامي ككلّ، وهناك تسليم بالمرجعية العربية لدى عامّة المسلمين في العالم ممّا يجعل العرب المسلمين قادة ومرجعية لغير العرب من المسلمين في بقاع الأرض رغم أنّ عدد العرب لا يتجاوز نسبة خمس عدد سكان العالم الإسلامي.
إذن، التحكّم والسيطرة على المنطقة العربية من قبل أيّة جهةٍ خارجية يعني تحكّماً وسيطرةً على موقعٍ استراتيجي هام، وعلى أهمّ مصادر الثروات الطبيعية، وعلى مواقع ومراكز مرجعياتٍ دينية هامّة.
إنّ الأوروبيين خاضوا حروبهم الاستعمارية ضدّ المنطقة لأكثر من مائتي سنة باسم "الحروب الصليبية" وبحجّة وجود المراكز الدينية المسيحية في المنطقة العربية ..
والدولة العثمانية حافظت على سيطرتها على المنطقة العربية باسم "الخلافة الإسلامية" لأكثر من أربعمائة سنة ..
والحركة الصهيونية نجحت من خلال عملها لأكثر من مائة عام في تأسيس دولة إسرائيل واستمرارها على أرض فلسطين بحجّة وجود المراكز الدينية اليهودية فيها ..
إنّ القوى الكبرى تتعامل مع هذه المنطقة كوحدةٍ متكاملة مستهدفة وفي إطار خطّة استراتيجية واحدة لكلّ أجزاء المنطقة، بينما يتوزّع أبناء الأمّة العربية على أكثر من عشرين دولة وفق ترتيباتٍ دولية حدثت بين القوى الأوروبية الكبرى في مطلع القرن العشرين بحيث باتت الدول العربية (بهيأتها الحالية) أمراً واقعاً يزداد ترسّخاً يوماً بعد يوم.
ولقد أدّى هذا الواقع الانقسامي، وما يزال، إلى بعثرة الطاقات العربية (المادية والبشرية) وإلى صعوبة تأمين قوّة عربية فاعلة لمواجهة التحدّيات الخارجية أو للقيام بدورٍ إقليمي مؤثّر تجاه الأزمات المحلية، بل أدّى أيضاً لوجود عجزٍ أمني ذاتي لا يمكّن من التعامل مع ما يطرأ من أزماتٍ وصراعات داخل المنطقة ويبرّر الاستعانة بقوًى أمنية خارجية قادرة على حلّ هذه الصراعات ..
اليوم، تعيش الأمّة العربية أوضاعاً مشابهة لما كانت عليه منذ مائة عام، وهي تدخل مرحلة شبيهة بما حصل عقب الحرب العالمية الأولى من دخول عدّة بلدان عربية في مرحلة "الوصاية" الدولية.
فلِمَ أدركت دول أوروبا الغربية أهمية اتحادها، رغم ما هي عليه من تباين عرقي وثقافي واجتماعي ومن تاريخٍ مليء بالحروب والصراعات الدموية، ولم يتوصّل العرب من جانبهم إلى إدراك ذلك بعد؟!
لِمَ نجحت هذه الدول الأوروبية في تطوير صيغ التعاون فيما بينها على مدار الستين سنة الماضية، بينما عجزت جامعة الدولة العربية عن فعل ذلك رغم العمر الزمني المشترك بين هاتين التجربتين؟! ألا يؤكّد ذلك أنّ المشكلة هي في انعدام القرار السياسي أو في سوء استخدام هذا القرار وليس في توفّر الظروف المناسبة أو الإمكانات المتاحة؟! فما يربط بين الدول العربية هو أكبر بكثير من عوامل الربط بين دول الاتحاد الأوروبي.
فتصحيح أخطاء الماضي لا يكون بالتخلّي عن هدف التعاون والتكامل الاتحادي الذي يحافظ على الخصوصيات الوطنية لكلّ بلدٍ عربي (كما في التجربة الأوروبية)، بل في إصلاح الإعطاب في الجسم السياسي العربي وفي مؤسّسات الإدارة وفي هيئات التخطيط والتشريع والرقابة، مع ضرورة الإصرار على هدف التكامل العربي مهما تنوّعت الأساليب وتعدّدت الأخطاء.
أيضاً، من دروس التجربة الاتحادية الأوروبية، أنَّ هذه الدول تحكمها مؤسسات سياسية ديمقراطية وتُخضع قرار الاتحاد فيما بينها إلى الإرادة الشعبية في كلّ بلد فلا تفرض خيار الوحدة بالقوة، ولا يضمّ الكبير القوي في أوروبا... الصغير الضعيف فيها.. فهل يدرك العرب أيضاً هذه الدروس من تاريخهم وتاريخ تجارب الشعوب الأخرى؟!
كذلك، تتشابه الآن مسؤولية جماعات الفكر والثقافة والدعوة مع تلك التي عايشت فترة مطلع القرن الماضي، والتي انبرى بعضها يدافع عن "التحديث الأوروبي" القادم للمنطقة، بينما راح بعضها الآخر يبرّر سلبيات الحقبة العثمانية ويعيش حلم يقظة بالعودة لعصور "الخلافة الإسلامية". قلّة قليلة فقط هي التي خرجت تواجه المأزقين: مأزق الماضي العثماني ومآزق الحاضر الاستعماري الأوروبي .. قلّة كان من أبرز أعلامها الأفغاني وعبده والكواكبي وبن نبي وآخرون، الذين طالبوا جميعاً بإصلاح الفكر والذات العربية والإسلامية كمدخل وحيد لبناء مستقبلٍ أفضل .. وقد اشتركوا جميعاً في ضرورة التعامل مع مشكلة الاستبداد المعشّشة في الأفراد والجماعات، وطالبوا بتحرير الفكر من القوالب الجامدة وباعتماد مرجعية العقل في فهم أمور الدنيا والفقه معاً .. هؤلاء وغيرهم طالبوا أيضاً بالتخلّص من العادات والتقاليد الخاطئة التي حرمت المرأة من حقوقها المدنية والاجتماعية.
لكن فكر هذه الثلّة من الإصلاحيين العرب والمسلمين بقي أسير الكتب ولم يتحوّل إلى حركة تغيير شعبية شاملة، وبقي المجتمع العربي أسير التطرّف نحو التحديث الغربي أو التطرّف في العودة إلى الماضي السلفي.
أيضاً، تتكرّر اليوم أخطاء القرن الماضي، من حيث الاشتراك العربي في وصف الواقع الحاضر لكن مع عدم الاتفاق على مشروع عربيٍ مشترك للمستقبل. ففي هذه الأيام يكثر المحلّلون السياسيون لحاضر الأمَّة، ويكثر أيضاً المتمترسون القابعون في ماضي هذه الأمّة، لكن يقلّ عدد المُعدّين لمستقبلٍ أفضل لهذه الأمّة .
لعلّ أبرز السمات المطلوبة لهذا المشروع المستقبلي ضرورة تبنّي الخلاصات التي أدركها الأوروبيون عقب الحرب العالمية الثانية وبدأوا معها ومن خلالها مسيرة الاتحاد الديمقراطي الأوروبي، وبأن يكون منطلق هذا "المشروع المستقبلي العربي" تلك الخلاصات التي وضعها دعاة النهضة والإصلاح في المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الأولى.
ولن يشهد هذا "المشروع المستقبلي العربي" النور ما لم يحصل إصلاح ونهضة في واقع حال جماعات الفكر السياسي والدعوة الدينية ومؤسسات المجتمع المدني العربي، وفي المنظمات السياسية التي تطرح نفسها كأدوات للتغيير أو كبدائل لما هو قائم حالياً في الواقع العربي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق