اسعد ابو خليل
الاخبار
الاخبار
كنت في المدرسة الثانويّة في بيروت عندما رأيته للمرة الأولى. في طفولتي وحداثتي كنت أسمع عنه الكثير. لم تكن العائلة ودودة نحوه، إذ إن عمّي ناجي، الذي كان ناشطاً في حركة القوميين العرب في الخمسينات والستينات في صور، ترك الدراسة والتحق بوديع حداد وجورج حبش في الأردن بعد تأسيسهما عيادة متخصصة في معالجة الفقراء في المخيمات.
كان هذا قبل أن يصبح تدمير مخيم فلسطيني مناسبة للاحتفال الوطني في لبنان. لكن الاثنين أقنعاه بالعودة الى الدراسة. إلا أنّ «شلة» حبش ووديع حداد مثّلت «عشرة السوء» لبعض العائلة في صور، لأنها جعلت من ابنها مهووساً بهمّ تحرير فلسطين.
كنت أسمع أن حبش وحداد عقدا اجتماعات في منزل جدّي في مدينة صور، وكانت الفكرة ساحرة لي. كنت أسمع أن حبش جلس على هذا الكرسي يوماً ما، وأن حدّاد غادر غاضباً من ذاك الباب يوماً آخر. وكنت أسأل باهتمام عن حبش. بدا مختلفاً في الصحافة.
كانت الصحافة، حتى اليمينية منها مثل جريدة «النهار»، تتعامل معه باحترام شديد. هو لم يعشق صورته ولا صوته، ولا كان يتدرّب على الخطابة أمام المرآة. بدا طبيعياً، حتى تحت الأضواء، وقد تجنّبها. لم تستهوِه، وما قام به من مقابلات صحافية كان من باب الواجب، وأحياناً كثيرة بإصرار من القيّمين على الاعلام في الجبهة.
كلّ ملم من فلسطين
وكان تأثيره كبيراً جداً على الكثيرين والكثيرات ـــــ كان هذا قبل صدور فتاوى «تفيد» أن المرأة عورة ــــــ في العالم العربي. بعد انشقاقات وتحولات الحركة، ناصر عمّي نايف حواتمه الذي لم يكن له أن يستمر في تنظيمه من دون دعم مباشر من ياسر عرفات، الذي لم يكن يرى أو يتنسّم انشقاقاً أو حركة تصحيحية لبنانية أو فلسطينية من دون أن يباركَها أو يدعمها بالمال والسلاح.
كلّ ملم من فلسطين
وكان تأثيره كبيراً جداً على الكثيرين والكثيرات ـــــ كان هذا قبل صدور فتاوى «تفيد» أن المرأة عورة ــــــ في العالم العربي. بعد انشقاقات وتحولات الحركة، ناصر عمّي نايف حواتمه الذي لم يكن له أن يستمر في تنظيمه من دون دعم مباشر من ياسر عرفات، الذي لم يكن يرى أو يتنسّم انشقاقاً أو حركة تصحيحية لبنانية أو فلسطينية من دون أن يباركَها أو يدعمها بالمال والسلاح.
«الخردقة» كنا نسميها في لبنان آنذاك. كان هناك مسؤول في منظمة العمل الشيوعي يحمل معه قائمة بدكاكين متنوعة (وبعضها ذا منحى ديني وطائفي في زمن سادت فيه الحركات العلمانية) أسّسها عرفات على الساحة اللبنانية. لكنني قرأت للحكيم خطاباً آنذاك، ربما في عام 1973 وأنا ابن الثالثة عشرة، تحدث فيه عن «تحرير كل ملم مربع من فلسطين».
كل ملم من فلسطين؟ استهوتني الفكرة ببساطتها وبطموحها، وخصوصاً أنني كنت قد بدأت بتتبّع حملة الجبهة الديموقراطية، بالنيابة عن عرفات، للترويج لفكرة الدولة في 22% من فلسطين. السعي في المقابل كان من أجل تحرير كل فلسطين من «المية للميّة» كما كان هتاف للجبهة يقول. كانت العبارة كافية، إضافةً الى ما وصلني من أعداد من مجلة «الهدف» كانت تبشّر بحركة ثورية واعدة وخلاّقة. وكان إعلام «الهدف»، الذي أسّسه الفذ غسان كنفاني، مبدعاً في استعمال الصوت والصورة، وخصوصاً المُلصق. كان ذلك زمن المُلصقات الثورية ــــــ لا نتحدث هنا عن ملصقات العائلة الثريّة في مدينة بيروت التي تهين ذوقي الفنّي على الأقلّ، حتى لا أتحدث باسم غيري.
كنت آنذاك أنام تحت ملصق يحمل اسم مناضل نيكاراغوي مات من أجل فلسطين. من يتذكر بعد باتريك أورغويللو؟ هناك من يتذكرك، يا باتريك. ليلى خالد ــــــ الحق يُقال ــــــ تذكركَ دائماً وبالخير، عندما لا تكون مشغولة بالحديث عن رفيق الحريري في إعلام الحريري.
أعيش اليوم، يا للحظ العاثر، في زمن محمد دحلان وفؤاد السنيورة وحميد كرزاي. نعيش في زمن يعتذر فيه عباس زكي بالنيابة عن ضحايا صبرا وشاتيلا وعين الرمانة وتل الزعتر من الشعب اللبناني. أي إن الضحية تعتذر من القاتل.
كنا ننتظر أن يقلّد عباس زكي، سفير آل الحريري في المخيمات الفلسطينية، وسام حيفا ويافا على صدر سمير جعجع وجورج عدوان.
آه، كم يحنّ «فؤادي»، كما تقول الأغنية، إلى الحرب الباردة. أين أنت يا بريجنيف، بالرغم من كل علّاتك ومساوئِك وستالينيّتك. على الأقلّ، كان هناك أمل بانتصار الاشتراكية وأفكار عصر التنوير والعلمانيّة. لكن، عندما تمعن في التفكير «البريء عن الهوى» كما كان الكنْدي يقول، تلوم الاتحاد السوفياتي لأن التجربة الخائبة التي قادها هي التي أدّت دور القابلة لولادة عالم الأحادية القاسي، وهي التجربة التي وصمت كل الفكر الاشتراكي برمّته.
كانت منظمة الأمم المتحدة على الأقل أكثر ديموقراطية، بين نجيب الله وحميد كرزاي، كيف يمكن أن تفضّل كرزاي، وخصوصا إذا كنت من أنصار المساواة بين الجنسين.
حبش في عزّه الثوري مثّل أملاً زاهياً وبرّاقاً. وعندما تستمع إليه يخطب في الناس، تدرك أنه يعني ما يقول، اتفقت معه أم اختلفت. وذلك على عكس ياسر عرفات الذي كان يقول ما لا يعني، ويضمر ما لا يعلن، وينطق بما لا يريد أن يقول. كان حبش يبدو صادقاً لأنه كان بالفعل صادقاً. تسأل عنه والكل يقول لك: إنه كما يبدو من بعيد ـــــ على عكس الكثير من الثوريين والمثقفين. ليس هناك من «أوساخ» عنه في حياته الخاصة. مثّل، منذ أيام الدراسة في الجامعة الأميركية، نمطاً من الزهد الثوري لم نعهده في حركة فتح بعد صعود عرفات الذي، وإن كان زاهداً في حياته الشخصية، استعمل الفساد والمال النفطي للتأثير على سياسات فتح وعلى غيرها من التنظيمات الفلسطينية ــــــ كان له مبعوث في كل تنظيم فلسطيني (مثل ياسر عبد ربه في الجبهة الديموقراطية أو بسام أبو شريف في الجبهة الشعبية وسمير غوشة في جبهة النضال أو أبو العباس في جبهة التحرير الفلسطينية إلخ) للتخريب، ولإجهاض إمكانات الثورة الفلسطينية. الزهد الثوري، كما رأينا في تجربة الحركة الوطنية اللبنانية عملة نادرة جداً.
أكثر من لقاء
كنت كما أسلفتُ في الثانوية العامة في عام 1978. مرّ عليّ «عزيز» على درّاجته النارية. أيقظني من النوم بعد منتصف الليل، وقال باسماً إنّ هناك من «يجب» أن نراه.
أكثر من لقاء
كنت كما أسلفتُ في الثانوية العامة في عام 1978. مرّ عليّ «عزيز» على درّاجته النارية. أيقظني من النوم بعد منتصف الليل، وقال باسماً إنّ هناك من «يجب» أن نراه.
هناك في منزل في شارع الحمراء ــــــ سيبقى في مخيّلتي ما حييت ــــــ رأيت الزعيم الحقيقي للثورة الفلسطينية (ولانطلاقة جنينيّة للثورة اللبنانية قبل أن يُجهضها التدخل العسكري للنظام السوري باتفاق ضمني مع الولايات المتحدة وإسرائيل).
وكان عرفات وأبو جهاد ضدّ عملية التثوير اللبناني. كان جالساً بهدوء يحتسي كأساً من الويسكي، وكانت زوجته معه. لم يهزّني لقاء، لا بعده ولا قبله كما هزّني لقياه. تراه عن قريب وتُعجب به أكثر. تُفاجأ بتواضعه وهدوئه. تسألُ نفسَك: أهذا هو الرجل بعينه الذي شغل الدنيا (قبل أن ينعته وضّاح شرارة بالإرهاب)، والذي كانت الدولة الصهيونية تخطف الطائرات للعثور عليه؟ كم بدا متماسكاً في شخصه وفي سلاسته.
لا أزال أذكر سيارة الداتسون الصغيرة التي كان يتنقّل فيها في لبنان. كنت دائماً أقول في نفسي: هي بالكاد تتسع له، لكنها تتفق مع شخصيته البعيدة عن «البهورة». ثم ترى مواكب أبو الزعيم أو إبراهيم قليلات أو غيرهما الكثيرين من متطفّلي الثورة.
كنت أحاول أن أتحدث معه من دون أن أبدو مرتبكاً، لكني لاحظت أنني كنت أحدّق إليه أكثر مما يجب. ثم أثار أثناء تسلسل الحديث مسألةً محددة معي. كنا في مدرسة «الآي. سي» (المزعجة في نخبويتها الطبقية المقيتة مثلها مثل الجامعة الأميركية) نعدّ معرضاً للكتاب العربي. وكنت ولا أزال من المؤمنين بعزل حزب الكتائب اللبنانية بعد مجزرة عين الرمانة (أصبح ضحايا المجزرة قتلة في الإعلام الحريري اللبناني)، ورفضت أن يتضمن المعرض أيّ منشورات من أحزاب اليمين الفاشي في الحرب اللبنانية.
وكان أن عارضني طالبٌ يمينيّ فوضّحت له من دون مواربة أنني ـــــ ومن أنا ـــــ سأرفض تضمين أي منشورات أو مطبوعات كتائبية لأن عزل الكتائب سارٍ في المدرسة، هكذا قرّرت. وكنت حازماً جازماً في ذلك. واتفق أن والد الطالب المذكور كان طبيب أسنان لـ«الحكيم» فاشتكى الطالب لوالده، والوالد اشتكى لحبش. فدعاني حبش للتروّي ولاتّباع شيء من اللين في التعاطي مع الطالب المذكور (وهو اليوم طبيب في هذه البلاد). أخجل عندما أذكر ردّ فعلي تجاه رجاء الحكيم المهذّب. كم كان ردّ فعلي يتّسم بغرور الصبا. قلت له جازماً: لا «وساطة» في الثورة وأمورها، إذ إن الطالب المذكور هو «انعزالي».
لا يزال الصديق أمثل يذكّرني برد فعل حبش، إذ إنني رويت له تفاصيل اللقاء في اليوم التالي. فهو قال مهدّئاً: «ما فيناش نقول عنه وطني، وما فيناش نقول عنه انعزالي». تكاد وجنتاي تحمرّان وأنا أتذكر الحديث. كان هذا اللقاء الأول. ازدادت قناعتي بمثاليّة الرجل، وإن كنت قد ندمت فيما بعد على ردّ فعلي، إذ إنني ظهرت كأنني أعطي درساً للثوري العظيم.
التقيته عدة مرّات بعد ذلك، ولم ينقص إعجابي به عبر السنوات بالرغم من تحوّلاتي السياسيّة (وهي غير تلك التحوّلات التي تؤدي بالستالينيّين البكداشييّن العرب نحو الحريرية الوهابية البوشيّة). كان منفتحاً واسع الصدر. يتقبل النقد بسهولة وصراحة.
في آخر لقاء قبل بضع سنوات، تمنّى عليّ الرفاق قبل اللقاء أن لا أُثقل عليه بالنقد أو بالأسئلة، إذ إنه أصبح سريع الانفعال والتأثّر. كان هذا واضحاً. لم يكن الرجل هو نفسه ذلك الذي لقيت في تلك الشقة في شارع الحمراء. لكنني لم أستطع إلّا أن أشاطره نقدي لتجربة الجبهة الشعبية. ألم تهمل الجبهة قضية المرأة؟ ألم تهمل قضية العلمانية؟ ألم تهمل قضية التعاطي الحازم مع اليمين العرفاتي؟ ألم تخطئ في إهمال مشروع هانوي عربية؟ كان متقبّلاً جداً لنقدي وبرحابة صبر عهدتها به، وزاد بما معناه أننا حاولنا وفشلنا، وأن الدور اليوم هو لغيرنا ــــــ كان يعني حماس وحزب الله والإسلاميين.
أزعجني جوابه وإن لم أقل له ذلك. كيف يسلّم هذا الزعيم اليساري العريق بسيادة الحركات الدينية من دون اعتراض أو تحفظ، قلت في قرارة نفسي. لماذا هذا الرضوخ لمنطق الحركات الدينية التي تناقضت مع كل شعارات مرحلة الصعود اليساري الثوري العربي؟ شعر بما كان يدور في خلدي، فأضاف مؤكداً «فشلنا».
هناك الكثير ليُقال عن الرجل، في حقّه. هو مثّل مرحلة الثوريّة العربيّة. هل كان جورج حبش آخر ثوري عربي، أم أول ثوري عربي؟ قد تستطيع أن تحكم على تجربة الرجل ودوره، لكن لا يمكن إنكار تمثيله لنموذج نادر من الزعامة ومن الثوريّة العربية. كان نزيهاً ومندفعاً منذ أيام الدراسة الجامعيّة حتى آخر أيامه. سأل عن أهل غزة وهو يحتضر. يكفيه فخراً أنه مات فقيراً ــــــ في الوقت الذي اغتيل فيه زهير محسن، زعيم دكّان فلسطيني ضارّ أنشأه النظام السوري، خارج شقته الفخمة في «كان» في فرنسا.
العمل الجماهيري الدؤوب
التقيت قبل سنتين في مدينة غربية رفيقاً فلسطينياً عمل لسنوات سكرتيراً خاصاً للحكيم. سألته: أليس هناك ما أزعجك أو ما أثار استياءك منه خلال كل تلك السنوات التي عملتَ فيها معه وعن قرب شديد؟ أبداً، أجاب واثقاً. على العكس. هذا رجل كلما ازددت قرباً منه ازداد إعجابك به، هو قال لي. ليس هناك من يستطيع أن يروي خبراً واحداً عن فساد الرجل على أي صعيد. كان من طينة المناضلين الذين أخذوا النضال على محمل الجد، والذين ما فصلوا أبداً بين الحيّز الخاص والعام في النضال. كان يعيش كما كان يبشر، وبناءً على المبادئ نفسها.
تُراجع شعارات جورج حبش وتتذكّر ما قرأت عنه أو ما خبرت منه أو عنه. في فترة الخمسينات، أنشأ حبش حركة شبه فاشية. كان في دور المنتقم. فهو من منطقة في فلسطين هُجّر أهلها بقوة السلاح من جانب عصابات الصهيونية تحت قيادة إسحق رابين (أخفى رابين دوره في حملة التهجير العرقي في اللد والرملة في النسخة الإنكليزية من مذكراته لكنها موجودة في النسخة العبرية ــــــ جورج بكاسيني يروي في كتابه عن رفيق الحريري شدة انزعاج الحريري عندما بلغه خبر اغتيال رابين: حلم «الربيع» التطبيعي زال في ذلك اليوم). وفي تجربة حركة القوميين العرب، نجحت الحركة في أكثر من دولة عربية، حتى في الخليج، في تثوير وتغيير الأوضاع، لكنها أخفقت عندما تحوّلت الى ذراع للنظام الناصري، لا أكثر. (يُراجع كتاب جمال الباروت عن الحركة وإن كانت روايته قريبة جداً من سردية نايف حواتمه).
وكان يمكن أن تمثّل تجربة الجبهة بعد «التحوّل» المصطنع نحو الماركسية ـــــــ اللينينية دفعة نوعية هامة لليسار الثوري حول العالم، وخصوصاً أن حبش ورفاقه كانوا ينوون رسم مسار يساري ماركس مستقل عن الاتحاد السوفياتي وعن الصين (يُراجع كتاب وليد قزيحا عن مخاض تحوّل الحركة). كان حبش يتحدث عن نمط يسار آسيوي. طبعاً، هناك من شكّك منذ البداية، وقال، عن حق إلى حدّ ما، إن محسن ابراهيم وجورج حبش لم يكونا مقتنعيْن تماماً بعملية التحوّل الماركسي. كانا قوميّيْن حتى العظم، يُقال، وعملية التحوّل كانت مفروضة من القاعدة ومن الظروف التي سادت في العالم العربي بعد حرب 1967. لكن بعض شعارات حبش في تلك المرحلة لم ولن يمرّ عليها الزمن.
ضرورة تحرير كل ملم من فلسطين لم تضعف، مهما تغير ميزان القوى العسكري. لم تبدُ إسرائيل عاجزة كما بدت في حرب العدوان الإسرائيلي على لبنان، عندما كان سعد الحريري يلوذ باستراتيجية 14 آذار الدفاعية التي تعتمد على دبلوماسية الرئيس القبرصي، إضافةً الى اعتمادها على غزو باسم السبع لقلوب الجماهير لخفة ظلّه. إن فكرة هزيمة اسرائيل ككيان عنصري ليست مستحيلة، كما لم تكن هزيمة الكيان العنصري في جنوب أفريقيا مستحيلة، مهما حاولت اسرائيل والمنطق العرفاتي أن يقنعونا بأن اسرائيل باقية على صدورنا شئنا أم أبينا. وفكرة الدولة الديموقراطية العلمانية على كل أرض فلسطين هي البديل الطبيعي للكيان الصهيوني، لا ميثاق حماس الذي جعل الحاج أمين الحسيني أكثر «عصريّة» بالمقارنة.
شعارات جورج حبش لم يعف عليها الزمن. ألم يكن محقاً في نظرية هانوي العربية، وفي نظرية مرور عملية تحرير فلسطين في كل المدن العربية (كم كانت جريدة «النهار» خبيثة عندما حوّرت في خطاب لأبي أياد لتركّز على ذكر مدينة جونية، لإعطاء الخطاب منحى طائفياً كان أبو أياد أبعد ما يكون عنه).
أقلام الغرب والعرب في إعلام آل سعود ستشمت بموت حبش. نحن في زمن الجنرال ديفيد بتريوس (في الوقت الذي بثت فيه محطة الجزيرة تقريراًَ موجزاً عن حياة جورج حبش، كانت العربية تبث تقريراً طويلاً عن... الجنرال ديفيد بتريوس وهو يجول في شارع في بغداد «من دون خوذة أو سترة واقية»، كما هتف المراسل الذي بدا كالمرافق الشخصي للجنرال الأميركي).
وبالرغم من أن تجربة الجبهة الشعبية شابها الكثير من الأخطاء والعثرات والتخبّطات وحتى الفساد (مثل تجربة أبو أحمد يونس، أو تلك الجولة في الإمارات العربية من أجل جمع التبرعات التي أدت الى إطلاق انشقاق في الجبهة وإصدار ذلك الكرّاس الشهير «الفضيحة»)، إلا أن حبش استطاع أن يمثّل تجربة فريدة في العمل السياسي العربي، منذ إطلالته حتى استقالته ــــــ والاستقالة نادرة مثل الانتحار في الحياة السياسية العربية).
لم يكن يعبد نفسه، ولم يكن يريد أن يمسك بكل زمام الأمور، كما فعل نايف حواتمة الذي عانى في حياته السياسية من عقدة جورج حبش. لم يفهم حواتمه سرّ العلاقة الحميمة التي كانت تربط بين الحكيم وبين الجماهير.
من لم يرَ حبش بين الناس في المخيمات فاته مشهد فريد ومؤثر، وخصوصاً في أيام عزّه الثوري. كنتَ ترى الشيوخ والمسنّين والمسنّات في لقاءاته الجماهيرية. كان يمسك بالجمهور مثل أم كلثوم. ثم تقارنه بذلك المتحذلق الزئبقي، عرفات.
هناك من كان يقول إن مسيحية جورج حبش هي التي حالت بينه وبين قيادة منظمة التحرير. لم أتفق يوماً مع هذا الرأي، وخصوصاً أننا لم نكن قد ولجنا في مرحلة التحريض المذهبي وعصر تحويل السرايا الحكومية إلى مقر عمليات «زرقاوي» في توجّهاته. المانع كان صدق حبش وإخلاصه، لا مسيحيته. لم يكن له أن ينافس أو ينازع ياسر عرفات في الخداع والمناورة والنفاق والكذب واللعب على الحبال والمراوغة والتمثيل. كنت ترى عرفات على المنصّة، وتتبيّن فيه صفات الممثل، مثله مثل السادات، وهو مشى على خطاه بمباركة الملك فهد. لم يستسغ حبش تلك الألاعيب.
وهناك من يقول إن حبش كان حازماً تنظيمياً في تجربة حركة القوميين العرب، لكنّ دور وديع حداد كان مؤثّراً. والصداقة بين الاثنين ــــــ مثل صداقة عبد الناصر المدمّرة مع عبد الحكيم عامر ــــــ كانت في أبعادها مستلّة من مأساة إغريقية.
تحمّل حبش الكثير من حماسة حداد ونشاطه. لم يكن من أنصار «العمليات الخارجية» منذ البداية. وعندما قرر قطع العلاقة التنظيمية مع حداد في 1971، كان القرار صعباً جداً عليه شخصياً. أقام حداد علاقة مع المخابرات السوفياتية، كما كان يسرّ لرفاقه السابقين في الجبهة. كان يبدو أحياناً مغلوباً على أمره. حبش كان من أنصار «العمل الجماهيري الدؤوب».طبعاً، من الضروري الكتابة عن دور جورج حبش في التاريخ العربي المعاصر، ويجب أن تكون الكتابة عنه بعيدة عن العاطفة المحضة، مهماً كانت.
فحبش أخطأ كثيراً في تجربة «جبهة الرفض» الرائدة ــــــ والرفض هو غير الممانعة الخانعة ـــــ عندما سمح لنظام صدام حسين بالسيطرة على المنظمات الفلسطينية الرافضة واستعمالها لغاياته، ولضرب الحركة الوطنية الفلسطينية بعضها ببعض، كما فعل النظام السوري. لكن للرجل ميزات تفتقدها اليوم، ويزداد تقديرك لها. نحن اليوم في زمن يزعم فيه فريد مكاري (في كتاب جورج بكاسيني عن رفيق الحريري الذي صمّمت غلافه شركة «ساتشي وساتشي») ـــــ فريد مكاري يا محسنين ومحسنات ـــــ أنه أنشأ هو ورفيق الحريري فصيلاً لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، في الوقت الذي نعلم فيه اليوم أن «قائد» جزّاري مخيم صبرا وشاتيلا كان ضيفاً مكرّماً في قصر للحريري في جنبف. تقرأ ذلك ويزداد حنينك لزمن جورج حبش.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق