الأحد، أبريل 18، 2010

الحيرة ما بين النظامين الرئاسي والبرلماني: باكستان مثالا

د. عبدالله المدني

على الرغم من مرور اكثر من 62 عاما على قيامها ككيان مستقل، لا تزال باكستان حائرة ما بين الأخذ بالنظام البرلماني أو الأخذ بالنظام الرئاسي، علما بأن لكلا النظامين حسناته وسيئاته كما أثبتت التجارب في أكثر من مكان. ولعل أفضل دليل على حيرة باكستان هو موافقة جمعيتها الوطنية مؤخرا على إصلاح دستوري يستهدف العودة مجددا إلى النظام البرلماني، أي إلى النظام الذي يكون فيه رئيس الجمهورية مجرد صاحب منصب فخري يفتقد إلى أمضى سلاح ألا وهو سلاح حل البرلمان والدعوة إلى الإنتخابات، فيما السلطة الفعلية في يد رئيس الحكومة الذي عادة ما يكون رئيس الحزب الحائز على أكبر عدد من مقاعد البرلمان المنتخب.

وبتلك الموافقة التي شارك فيها أغلبية نواب الجمعية الوطنية، دون وجود أصوات ممانعة أو غائبة، وحظيت بإشادة مختلف القوى السياسية، وذلك في مشهد نادر الحدوث داخل دولة عرفت طوال تاريخها بالإنقسام السياسي على نفسها، تكون باكستان قد أقدمت على التعديل الثامن عشر لدستورها، علما بأن آخر مرة تم فيها تعديل دستورها كان في عام 2003 أي في عهد الرئيس السابق الجنرال برويز مشرف والذي سعى من خلال ذلك الإجراء إلى تعزيز صلاحياته كرأس للدولة، بمقدوره حل البرلمان وإقالة الحكومة كيفما شاء ومتى ما شاء.

ومن جهة أخرى فإن الإصلاح الجديد الذي شمل أكثر من تسعين مادة من مواد الدستور الحالي، وعكف على صياغته وإعداده ممثلو 14 حزبا سياسيا ممثلا في غرفتي البرلمان بما فيها حزب رئيس الجمهورية الحالي "آصف علي زرداري" الذي ستتقلص صلاحياته بصورة كبيرة وبالتالي سيتحول إلى رئيس ضعيف لا حول ولا قوة له – يقال أنه رضخ لذلك في مقابل وعد بعدم النبش في المخالفات وأعمال الفساد والإفساد التي أرتكبها في عهد حكومة زوجته الراحلة "بي نظير بوتو" – سيعيد باكستان مجددا إلى دستور عام 1973 الذي حكم بموجبه الراحل "ذوالفقار علي بوتو" بلاده كرئيس قوي للوزراء ما بين عامي 1973 و1977 فيما كان رئيس الجمهورية هو "تشودري فضل إلهي"، وذلك قبل أن يقوم الجنرال محمد ضياء الحق في عام 1977 بإنقلابه العسكري المشؤوم الذي تلاه إيقاف العمل بدستور 1973 وإعلان الأحكام العرفية، وتنصيب نفسه كرئيس للجمهورية بصلاحيات واسعة من عام 1979 وحتى تاريخ مقتله في حادث تحطم طائرته في السابع عشر من أغسطس عام 1988.

والباحث في تاريخ باكستان وتحولاتها السياسية، سيكتشف أن أول دستور لها كان ذلك المعروف بقانون حكومة الهند لعام 1935 . وقد ظل العمل ساريا بهذا الدستور إلى أن تم إنتخاب جمعية وطنية في عام 1947 من أجل صياغة دستور بديل يجسد الأهداف التي إنفصلت من أجلها البلاد عن الهند البريطانية. لكن هذه الجمعية لم تنه أعمالها إلا بعد مخاض عسير إستغرق نحو تسعة أعوام، ليولد ما عرف بدستور العام 1956 والذي لم يعش طويلا.

أما السبب فهو أن الميجور جنرال "صاحب زادة سيد إسكندرعلي ميرزا"، الذي كان قد عين كرئيس للبلاد في أغسطس 1955 ، قام بإنقلاب عسكري في أكتوبر 1958 من أجل تعزيز صلاحياته ونفوذه. وبطبيعة الحال لم يكن هذا ممكنا دون إيقاف العمل بدستور 1956 الذي إجتهد وتعب المشرعون المدنيون في صياغته ليكون نواة للدولة الديمقراطية العصرية.

وتشاء الأقدار أن يزاح "إسكندر ميرزا" بنفس الطريقة التي جاء بها. ففي نفس العام الذي قاد فيه إنقلابه، إنقلب عليه قائد جيشه والشخص الذي أوكل إليه قيادة سلطة الأحكام العرفية ألا وهو الماريشال "محمد أيوب خان" الذي أمسك زمام الأمور بيد من حديد كرئيس للجمهورية ورئيس للوزراء وقائد عام للقوات المسلحة بأفرعها الثلاثة. وهكذا لم يتم التطرق مجددا إلى موضوع الدستور إلا في عام 1960 ، وذلك حينما عين أيوب خان بنفسه لجنة من أجل صياغة مشروع دستور جديد. وقد أنهت هذه اللجنة عملها بعد عامين بتقديم ما عرف بدستور العام 1962 . لكن هذا الدستور أطيح به أيضا، بل أن الذي أطاح به هو من أقره أي الماريشال أيوب خان وذلك حينما أعلن الأحكام العرفية في البلاد في مارس 1969 وسلم السلطة إلى رئيس أركان جيشه الجنرال "آغا محمد يحيى خان" تفاديا للمزيد من المظاهرات الشعبية ضد حكمه.

وما يهمنا هنا هو التركيز على دستور العام 1973 الذي جاء بعد التجربة القاسية لإنفصال الجناح الشرقي للبلاد والذي لم يقلص مساحة باكستان وعدد سكانها وحجم ثرواتها فقط، وإنما أطاح أيضا بالفكرة التي بنى عليها القائد الأعظم "محمد علي جناح" دولته المسلمة المستقلة، وهي أن الأخيرة هي الممثلة والحامية والمجسدة الوحيدة لأحلام عموم مسلمي شبه القارة الهندية. وسبب تركيزنا على دستور 1973 هو أنه ركيزة الإصلاحات الأخيرة التي تنتظر مصادقة مجلس الشيوخ الباكستاني عليها لتكون نافذة.

يتطرق هذا الدستور، الذي كان قد دخل حيز التنفيذ إبتداء من 14 أغسطس 1973 ، إلى جملة من الأمور المفصلية مثل:

دور الإسلام كعقيدة رسمية للبلاد، و كشرط يجب توفره في كل من يشغل او يسعى إلى شغل منصبي رئاسة الجمهورية أوالحكومة. أما فيما عدا هذين المنصبين فيسمح لمعتنقي الديانات الأخرى بإشغالها.
ضرورة نشر الإسلام ومبادئه ومفاهيمه بكل الطرق والوسائل مع جعل دراسة القرآن والعلوم الإسلامية إجباريا لتشجيع وتسهيل الإلمام باللغة العربية.
بيان دور وصلاحيات الحكومة الفيدرالية وحكومات الأقاليم.
بيان صلاحيات ومواصفات رئيس الجمهورية (يجب ألا يقل عمره عن 45 وينتخب من قبل نواب الشعب لفترة لا تزيد عن خمس سنوات، ولا يزاح إلا بأصوات ثلثي نواب الشعب، وتنحصر مسئولياته في إصدار الأنظمة المحلية أثناء غياب مجلس النواب عن الإنعقاد ومنح العفو وأخذ العلم من رئيس الحكومة بتطورات الشئون الداخلية والخارجية)
بيان صلاحيات ومواصفات رئيس الحكومة (ينتخب من قبل مجلس النواب بالأغلبية، ويتمتع بصلاحيات أوسع بكثير من صلاحيات رئيس الجمهورية، ويكون هو وأعضاء حكومته مسئولين أمام مجلس النواب الذي يستطيع محاسبتهم ومساءلتهم وإستجوابهم).
توضيح دور المجلس التشريعي الفيدرالي المماثل لدور البرلمان البريطاني.
توضيح دور ومسئوليات مجلس الشيوخ كمؤسسة تشريعية تضم ممثلين عن مختلف أقاليم البلاد بأعداد متساوية، وذلك كحل لتبديد مخاوف الأقاليم من هيمنة المركز على صناعة القرار.
تأسيس مفوضية قومية للمالية من وزير المالية الإتحادي ووزراء المالية في الحكومات الإقليمية، وذلك بغرض تقديم النصح فيما يتعلق بتقسيم عائدات الدولة ما بين المركز والأقاليم.
التأكيد على بعض الحريات العامة والأهداف الحيوية مثل: حق المرأة في المشاركة السياسية وشغل أعلى المناصب في الدولة، وحماية الأقليات، وتأمين الرعاية الإجتماعية، و تطوير الحياة الإقتصادية لمختلف فئات الشعب، وتوثيق روابط باكستان بالعالم الإسلامي، والعمل على إشاعة السلام في العالم، وحظر الرق والتشغيل بالقوة، و مكافحة كافة أشكال التمييز، وتأمين سلامة المواطن وأمنه وحريته في العمل والتنقل والتجمع والتعبير والتعبد والترفيه البريء.
التأكيد على إستقلالية السلطة القضائية وتمتعها بمكانة سامية في الدولة.
.

ومما لا جدال فيه أن الإصلاحات الدستورية الأخيرة بالمضامين سالفة الذكر ستجعل – حين دخولها حيز التنفيذ – من رئيس الحكومة الحالي "يوسف رضا جيلاني" صاحب اليد العليا في باكستان. وبما أن هذا الأخير هو عضو في حزب الشعب الباكستاني الذي يتزعمه حاليا رئيس الجمهورية " آصف علي زرداري"، فإن سلطة الأخير قد لا تهتز كثيرا رغم الجدل الكبير الدائر حول مصداقيته، وذلك إنطلاقا من حقيقة النفوذ الهائل الذي يتمتع به عادة زعماء الأحزاب الباكستانية داخل كياناتهم الحزبية.
على أن بعض المحللين ينظرون إلى هذه التغييرات بشيء من القلق، على الرغم من إستحسانهم المبدئي للفكرة و تأكيدهم على أنها خطوة مطلوبة لإزالة المطبات الكثيرة والأشواك المتراكمة على طريق الديمقراطية الباكستانية الهشة، والتي تسببت فيها كما رأينا أطماع جنرالات المؤسسة العسكرية المستبدين. أما أسباب القلق فأولها الوضع الأمني الراهن في البلاد والذي يتطلب وجود رئيس قوي يملك صلاحيات إستثنائية ويتمتع بعلاقات متينة مع مختلف القوى المدنية والعسكرية، وثانيها أن الإصلاحات المذكورة تعني فيما تعني تقوية سلطة ونفوذ الأقاليم على حساب سلطة ونفوذ المركز، وهذا أمر خطير لأنه يشير ببساطة إلى إمكانية سيطرة زعماء الأقاليم على موارد أقاليمهم وتوجيهها إلى الوجهة التي يختارونها. فإذا ما علمنا أن معظم هؤلاء الزعماء المحليين لديهم مصالحهم وحساباتهم وعلاقاتهم الخاصة التي قد لا تتطابق أو تنسجم مع السياسات العامة للدولة الباكستانية ، فإن احتمال أنجراف باكستان نحو المزيد من الفوضى والإنقسام أمر وارد كما يقول هؤلاء المحللون، وبينهم أكاديميون وصحفيون بارزون من باكستان نفسها.
الأمر الآخر الذي قد يسبب حالة من الشقاق مستقبلا هو التعديل الذي يقال أن الإصلاحات الجديدة قد تطرقت إليه بخصوص تغيير إسم أكثر الولايات الباكستانية إضطرابا وهي"ولاية الحدود الشمالية الغربية" إلى ولاية "خيبر/ بشتون". حيث قالت بعض المصادر أن لحزب المهاجرين القومي المعارض، إضافة إلى أحد أجنحة حزب الشعب الحاكم تحفظات على هذه التسمية الجديدة.
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة : إبريل 2010
البريد الإلكتروني: elmadani@batelco.com.bh

الشهيد الرنتيسي يؤبن نفسه

د. فايز أبو شمالة
الإنسان كتلة من المشاعر والأحاسيس، ترق روحه في لحظات، وتعكر نفسه في أوقات، فتتجاذبه عدة عوامل متناقضة، ليميل إلى البكاء، وهو في قمة الفرح، وتراه يبتسم وسط الأحزان، نفس بشرية تتقد في شرايينها كل التناقضات، ففي قمة الاندفاع لعمل ما، تجول في النفس فكرة التوقف، وترى الإنسان في قمة الرغبة لتملك شيء يزهد فيه، إنها النفس البشرية التي يتفاعل في أحشائها مكنون الأمل والإحباط، والثقة والتردد، والإقدام والإحجام، والرغبة وعدمها، ولكنه الإنسان الذي يحسم الأمر دائماً لجهة الخير ضد الشر، ولجهة الحق ضد الباطل، ولجهة المنفعة العامة ضد التكسب الشخصي، لتذوب الروح راضية في الذي آمنت فيه، واقتنعت. هذه الحالة الإنسانية عاشها الدكتور عبد العزيز الرنتيسي وهو يحاور نفسه التي تلومه على تركه حياة الرغد، وعمله المهني الناجح، ومستقبلة المشرق بالمال، والجاه، والهناء، ليلتحق بدرب الشقاء والتعب، درب التضحية، فتحدثه نفسه:
ماذا دهاك يطيب عيشك في الحزن تشري النعيم وتمتطي صهو الصعاب
ماذا عليك إذا غدوت بلا وطــن ونعمت رغـد العيش في ظل الشباب
هذه النجوى الداخلية تراود كل إنسان، حين يتساءل بينه وبين نفسه، ما الذي حل بي؟ أما كان أجدر أن أكون بين أسرتي، وأرشف من ملذات الحياة؟ ما الذي يلزمني أن أكون في السجن، أو تحت يدي الجلاد؟ حديث نفس يطرق وجدان كل البشر، ولاسيما في تلك اللحظات التي يتوحد فيها الإنسان مع نفسه، يراجع سيرته، يتفقد خطواته القادمة؛ أين أصبت؟ أين أخفقت؟ ما جنيت؟ إلى أين تمضي حياتي؟ لحظات إنسانية محضة، لحظات تميز ذوي الإحساس عن الأغبياء الذي يسدرون في الدنيا دون تفكير، وتدبير، لذا يرد الرنتيسي على نفسه التي تلومه، ويحاورها بثقة الآمل بالغد، ويقول لها:
يا هذه، يهديك ربك، فارجعــي
القدس تصرخ، تستغيثك، فاسمعي
والجنب مني بات يجفو مضجعي
فالموت خير من حياة الخُنَّـع
ولذا فشــدي همتي وتشجعـي
يطالب الرنتيسي نفسه أن تشد همته، وأن تشجعه على مواصلة طريق الصعاب الذي أختار، ويطالب نفسه أن تكون عوناً له لا معيقاً لمساره، فهو غير راضٍ عن حياة الخنوع، ولا يطيب له أن يتمتع بسعادة فردية، طالما صار جزءاً من الكل الذي يتوجع لصراخ القدس، فكيف يعرف النوم من أرقه وجع الناس، وأحوالهم. لحظات عبر عنها المونولوج الداخل، عندما يقدم الإنسان على التضحية فتنتابه رجفة، يعطي بيد ويسأل نفسه: هل هذا العطاء في محله؟ فالحياة ثمينة، وحب البقاء غريزة، ولا يعاند الإنسان غرائزه إلا إذا أوجبه على ذلك ما هو أقوى منها، عندما تنافس غريزة البقاء أشياء أهم، وأعز، وأغلى.
ولكن نفس الرنتيسي البشرية لا تستلم، ولا تعطي صاحبها مطلق التصرف بجسده، تحاوره، وتسأله وهو المعزول في الزنزانة، مقطّع الأوصال، تحاربه مباهج الحياة، وتحول الجدران بينه وبين الأحبة، تسأله نفسه، أو تعاتبه نفسه، وتلومه ولا تشمت، قائلة:
هاأنت ترسف في القيود بلا ثمـن وغدا تموت، وتنتهي تحت التراب
وبنيك؛ واعجبي، ستتركهم لمن؟ والزوج تسلمها، فتنهشـها الذئاب
هنا؛ يسخر الرنتيسي من هذه الفلسفة، ويحسم الخلاف، أو حالة التشكك التي توسوس فيها نفسه، ويصل إلى النتيجة التي ارتضاها، والقائلة: إن العذاب والسجن، والشهادة هي نتيجة لما يقوم فيه من عمل مقاوم، وهذه طريق قد ارتضاها مقتنعاً، مؤمناً أنه صاحب رسالة، ولن يتراجع عنها، وما على نفسه إلا الصبر، فالحياة إلى زوال، وجنة الرحمن تنتظر، يقول:
إن تصبري يا نفس، حقا ترفعي
في جنة الرحمن خير المرتـع
إنّ الحياة وإنْ تَطُلْ يأتِ النعي
فإلى الزوال مآلها، لا تطمعـي
إلا بنيــل شهادة فتشفعــي
يتوحد الرنتيسي في نهاية القصيدة مع نفسه، التي استسلمت لإرادة صاحبها الذي صمم على مواصلة المشوار، فتعلن النفس اصطفافها إلى جواره، ومبايعته برضا على الحق، وتتخلى عن تشككها في خطه السياسي، ومساره الفكري، وتسير معه إلى الشهادة، وهي تقول:
إني أعيذك أن تذل إلى وثــن أو أن يعود السيف في غمد الجراب
فاقض الحياة كما تحب فلا ولن أرضى حيـاة لا تظللها الحــراب

أزمة الصواريخ السورية والتعديل في ميزان القوى

راسم عبيدات

...... لا نعرف ما هي أسباب الضجة المفتعلة أمريكياً وإسرائيليا حول تسليح سوريا لحزب الله بصواريخ سكود (دي)،فهذه الصواريخ قد تكون سلمت لحزب الله قبيل أو بعد القمة بقليل والتي جمعت الرئيسين الإيراني والسوري احمد نجاد وبشار الأسد وزعيم حزب الله السيد حسن نصر الله في العاصمة السورية قبل حوالي شهر،ولكن المستوى السياسي والعسكري في إسرائيل قبل أقل من أسبوعين سرب للصحافة الإسرائيلية معلومات بأنها ألغت ضربة جوية في اللحظة الأخيرة لوقف تزويد سوريا لحزب الله بالصواريخ التي ربما تكون محملة بالرؤوس الكيماوية،وأن تزويدها لحزب الله بتلك الصواريخ يكسر ويخل بالتوازن القائم،وأمريكا تعلن بأن تزويد سوريا لحزب الله بتلك الصواريخ سيلحق خسارة كبيرة بلبنان،وهم يعرفون جيداً بأن سماحة الشيخ حسن نصر الله في الذكرى السنوية لإستشهاد القائد الشهيد الحاج رضون (عماد مغنية) قال بشكل واضح الضاحية الجنوبية مقابل تل أبيب ومطار الحريري مقابل مطار اللد وميناء حيفا مقابل مصافي النفط اللبنانية،وهذا الخطاب لم يأتي من فراغ،ويشير بشكل واضح الى أن التفوق العسكري الإسرائيلي بامتلاك أحدث أسلحة الجو من الطائرات الأمريكية قد تم التغلب عليه من خلال تحقيق توازن الرعب والردع من خلال الصواريخ القصيرة والطويلة المدى والتي تطال كل بقعة في فلسطين التاريخية،وبالتالي فالضجة المفتعلة إسرائيليا ربما هدفت لتحريض أمريكا وأوروبا الغربية لتشديد العقوبات الدولية على ايران لمنعها من امتلاك أسلحة الدمار الشامل،او توجيه ضربة لمنشآتها النووية،ولحرف أنظار العالم عن ما تقوم به إسرائيل من عمليات تهويد وأسرلة في القدس،وتكثيف للاستيطان في الضفة الغربية وبما يخفف من الضغوط الدولية عليها في هذا الجانب،كما أن إلغاء الضربة الجوية الإسرائيلية،والذي حتماً جرى التشاور بشأنه مع أمريكا،قد يكون الدافع له الخوف من عدم ضبط إيقاعات الحرب وفق ما تريده أمريكا وإسرائيل،والتي قد يكون من ثمراتها انهيار عدد من أنظمة النظام الرسمي العربي وبالتحديد المعتدل منها،إذا ما تطورت تلك الحرب إلى حرب شاملة في المنطقة،بالإضافة إلى ما قد تلحقه ايران من ضرر بالغ في شريان الطاقة الرئيسي (البترول) الذي يزود الغرب،إذا ما تعرضت لهجوم أمريكي أو إسرائيلي.

وأياً كانت الحجج والذرائع والأهداف والمرامي الأمريكية من هذه الضجة فإنه بات من الواضح أن ميزان القوى آخذ بالتعديل لصالح قوى الممانعة والمقاومة العربية،وبالذات من بعد حرب تموز/ 2006 ،والتي لم تستطع الترسانة العسكرية الإسرائيلية أن تحقق فيها انتصاراً،رغم الدمار الهائل الذي أحدثته في الممتلكات والبنية التحتية اللبنانية،وجاءت حرب إسرائيل العدوانية في كانون أول/2008 على غزة ،والتي صمد فيها شعبنا الفلسطيني هناك،لتثبت بأن كل الأسلحة التي استخدمتها إسرائيل في الحرب المشروعة وغير المشروعة لم تجبر ولو فلسطيني واحد على أن يترك وطنه،بل سجلت المقاومة والشعب الفلسطيني صموداً أسطورياً،وبالتالي لم تكن حرب أكتوبر 1973 التحريكية آخر الحروب،ولن تكون الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل على شعبنا في القطاع آواخر عام/2008 آخر تلك الحروب،وما نشهده حالياً أنه يجري تعديل لميزان القوى على الصعيد العسكري مع إسرائيل،وهذه الفجوة تتقلص لصالح معسكر المقاومة والممانعة العربي والإسلامي،ناهيك عن أن المأزق الأمريكي في العراق وأفغانستان يتصاعد ويستنزف أمريكا بشريا واقتصادياً،والمقاومة في حالة من الصعود والتطور هناك،والمشروع الأمريكي هناك يمنى بالهزيمة شيئاً فشيئاً،وهذه من العوامل المهمة التي تمنع أمريكا من شن حرب على منشآت إيران النووية.

وفي الضجة المفتعلة أمريكياً وإسرائيليا حول تسليح سوريا لحزب الله بصواريخ كاسرة للتوازن،نجد هناك تبدل جدي وحقيقي في الموقف السوري،ويتجه نحو الجرأة وحسم الخيار، فخيار سوريا هو مع قوى المقاومة والممانعة اللبنانية والفلسطينية وإستراتيجية العلاقة مع إيران،وأن التحسن في العلاقات الأمريكية- السورية لن يكون على حساب هذه العلاقة،ولن تنجح الضغوط والمناورات والمساومات والإغراءات الأمريكية في فك عرى التحالف بين سوريا وإيران وقوى المقاومة،عدا أن القيادة السورية أصبحت على قناعة تامة بعد حرب تموز/2006،والتي ثبت فيها أنه من الممكن هزيمة إسرائيل عسكرياً،فإن استمرار المراهنة على خيار التفاوض كخيار وحيد من أجل تحرير واسترداد الجولان غير مجدي،وأنه لا بد من طرق خيار المقاومة والحل العسكري،فهزيمة حلفاء سوريا وعدم وقوفها إلى جانبهم،من شأن ذلك أن يقود سوريا الى اتفاقيات مذلة مع إسرائيل بشأن الجولان،كما حصل في الاتفاقيات التي وقعتها مصر والأردن والسلطة الفلسطينية( كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو وباريس الاقتصادية)،والتي يدفع العرب والفلسطينيون ثمنها للحظة الراهنة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وجغرافياً...الخ.

أما الخيار الآخر،خيار الصمود والمقاومة،فقد يقودها إلى تحرير واسترداد الجولان،بدون أية اشتراطات وترتيبات أمنية مذلة،وسيطرة فعلية على الهضبة المحتلة،ولنا في تجربة المقاومة اللبنانية خيار شاهد ومثال،عندما أجبرت إسرائيل على ترك الأراضي اللبنانية،وبدون أي شكل من الترتيبات الأمنية أو الاتفاقيات المذلة.

ومن هنا نقول أن تزويد سوريا لحزب الله بالصواريخ،سيشكل عامل لجم وردع لإسرائيل،والتفكير ألف مرة من العواقب والنتائج المترتبة على شنها لعدوان على لبنان وحزب الله،وبالتالي فهذه الصواريخ عامل قوة للبنان كما هي عامل قوة لسوريا.

فإسرائيل تدرك جيداً وهي تستعد للقيام بعمل عسكري ربما يستهدف أولاً حزب الله أو سوريا أو قطاع غزة،والذي تظهر تجلياته واضحة من خلال قيامها بتوزيع الكمامات الواقية من الغازات السامة على جميع مواطنيها،والمناورات الواسعة التي تقوم بها،بأن هذه الحرب لن تكون نزهة،فهي تدرك أن مئات أو ربما ألاف الصواريخ ستدك جبهتها الداخلية،وربما ليس لفترة قصيرة،والمعركة لن تكون فقط على أرض الخصم أو العدو،وإمكانيات تحقيقها للنصر ليست مضمونة،كما كانت الأمور في الحروب السابقة،وهذا ظهر بشكل جلي وواضح في حرب تموز/2006 العدوانية على لبنان،ولاحقاً في الحرب العدوانية على غزة كانون أول/2008 .

صحيح أن إسرائيل تمتلك أحدث ترسانات الأسلحة وأحدث تقنيات التكنولوجيا الحديثة،ولكن ما هو صحيح أيضاً أن هناك قوى وأحزاب عربية تمتلك إرادة المقاومة والصمود،ولديها قيادات تضحوية تمتلك الجرأة والقرار ولديها رؤيا وأهداف واضحة وموائمة بين القول والعمل،الشعار والفعل،وتعبر عن هموم الجماهير وتطلعاتها وأهدافها.

السبت، أبريل 17، 2010

ترجمة الفصل الخاص بمذكرة شرم الشيخ

د. أفنان القاسم
باريس
نحو مؤتمر بال فلسطيني (32)

الذباب أكثر أهمية من العباد!


نص يشبه آخر

في آخر الصيف، شمس شرم الشيخ جميلة، والبحر أزرق. في 4 سبتمبر 1999، انتقلت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية في ذلك الوقت، إلى المدينة الزرقاء الواقعة على خاصرة البحر الأحمر من أجل أن تقوم بدورها كعرّابة للتوقيع على اتفاق آخر وآخر بين العرفاتيين والإسرائيليين، كما قالت وسائل الإعلام، ولكن في الواقع من أجل العوم والتمتع إلى أقصى حد بذلك الذهب وذلك اللازورد اللذين يشدان الأجساد والوجوه المهددة بالتهدل. الباقي كلام فارغ، الحضور الكابوسي لمبارك، الابتسامة الخلابة لعبد الله الثاني. كل تلك الشخصيات كانت هناك لإعطاء انطباع أن الأمر جاد، وأن الشريكين باراك-عرفات (قَرَنٌ مقطور) توصلا أخيرا إلى تذليل كل الصعوبات. مع هذا الاتفاق الذي ضَمِنَهُ كل أولئك "الكبار" أعطى عرفات لنفسه مهلة جديدة ليسوس "الوضع الراهن" وقد اطمأن إلى أن أحدا لن يسأله لماذا. سيسوس أيضا عدم صبر الشعب الفلسطيني، وذلك بجعله يعتقد أن هناك معجزة بصدد التحقق. ومع ذلك، ما عدا الشمس والبحر، تمخضت شرم الشيخ فولدت فأرا... صغيرا جدا. برأس وذيل أشبه برأس وذيل الفأر الصغير جدا الآخر الذي ولدته واي بلانتيشن. الشبه هنا مذهل، لأن مذكرة شرم الشيخ تبدأ كالسطور الأولى التي اقترحها نتنياهو على عرفات أو عرفات على نتنياهو في واي بلانتيشن: "الاتفاقات اللاحقة صائرة إلى تسهيل تطبيق الاتفاق المؤقت حول الضفة الغربية وقطاع غزة الموقع في 28 سبتمبر 1995 ("الاتفاق المؤقت") واتفاقات أخرى مرتبطة به بما فيها الملاحظة من أجل مذكرة 17 يونيو 1997 (مشار إليها تحت ك "اتفاقات سابقة") كي يتمكن الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني من تحمل مسئولياتهما المتبادلة بشكل أكثر حسما بما فيها المسئوليات المتبادلة التي لها علاقة بإعادة انتشارات إضافية وبالأمن".

لنقرأ بداية اتفاق شرم الشيخ: "تلتزم حكومة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بالتطبيق الكامل والمتبادل للاتفاق المؤقت وكل الاتفاقات الأخرى التي تمت منذ سبتمبر 1993 (المسماة فيما بعد "اتفاقات سابقة") وكل الالتزامات المعلقة الناجمة عن الاتفاقات السابقة."

يثبت الإلحاح بهذه الطريقة على تطبيق الاتفاقات التي تم التوقيع عليها إلى أية درجة الريبة القائمة بين الطرفين، مع باراك العمالي أو نتنياهو الليكودي. ويثبت هذا أيضا الدرجة العظمى التي وصل إليها الشك المحلق فوق رؤوس المفاوضين من طرف وآخر فيما يخص تطبيق واحترام هذه الاتفاقات. إذا كانت هناك مسألة انسحاب لم يتم تنفيذه من طرف الإسرائيليين هناك مسألة أمن لم يتم تأمينه من طرف العرفاتيين. وتفرض مماطلة الطرف الإسرائيلي حول الوضع النهائي للأراضي الفلسطينية على الطرف العرفاتي التلويح برُهاب تغيير الوضع في هذه الأراضي نفسها وذلك بالإعلان عن دولة فلسطينية. ولهذا السبب يُخْتَتَم الاتفاقان مع نتنياهو ومع باراك حول نفس البند الوقائي.

الاتفاق مع نتنياهو أولا: "بدافع من وعيهما بضرورة خلق جو مناسب لهذه المفاوضات، يلتزم الطرفان بعدم اتخاذ إجراءات تغير الوضع في الضفة الغربية أو في غزة وذلك كما ينص عليه الإتفاق المؤقت."

والاتفاق مع باراك: "اعترافا منهما بضرورة خلق مناخ مناسب للمفاوضات، يلتزم الطرفان بعدم اتخاذ أي إجراء يغير من الوضع في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، وذلك تطبيقا للإتفاق المؤقت." مما يفرض على الطرف العرفاتي عدم الإعلان عن دولة فلسطينية من طرف واحد.

هذا ما أسميه تشابها بين الاتفاقين، وإذا ما تم التوقيع عليهما، فلأن هناك خطر الإعلان عن دولة فلسطينية، ولا تهدف كل هذه الكوميديا الرديئة التمثيل إلا لإعاقة شيء كهذا، وإن بقي ذلك في حدود الأحلام.

إذن تُمارَس سياسة اللف والدوران، فنتنياهو ليس أكثر مهارة من باراك، حتى عمالي من حزب العمل يمكنه المزايدة، إذ إن للحكام الإسرائيليين في رأسهم كلهم هذا الحلم المجنون للسيطرة، وأمامهم هناك رجل الكوفية الخالدة، الموافق على كل شيء. هو أيضا لا يتغير، تبقى استراتيجيته واحدة: التخلي، التخلي، التخلي.

الوضع الدائم:
لا يكاد الوضع النهائي للأراضي المحتلة يذكر في اتفاقيات واي ريفر، وهنا لا توجد سوى تأكيدات بليغة ليست غير كلمات لا أكثر كالمثال التالي:

"أ. في إطار تطبيق الاتفاقات السابقة، سيعود الطرفان إلى التفاوض حول الوضع الدائم بإيقاع متسارع، وسيبذلان جهدهما بعزم وتصميم للوصول إلى هدفهما المشترك الذي هو إيجاد اتفاق حول الوضع الدائم حسب جدول الأعمال الذي جرى التوقف عنده والذي يتعلق بالمسائل الخاصة العائدة إلى المفاوضين المكلفين بالوضع الدائم ومسائل أخرى ذات اهتمام مشترك.

ب. يعيد الطرفان تأكيد أنه لمن المتفاهم عليه أن المفاوضات حول الوضع الدائم ستتوصل إلى العمل بالقرارين 242 و 338 لمجلس الأمن.

ج. سيبذل الطرفان جهدهما بعزم وتصميم للتوصل إلى اتفاق-إطار حول كل المسائل المرتبطة بالوضع الدائم خلال مدة خمسة أشهر ابتداء من العودة إلى المفاوضات حول الوضع الدائم.

د. سيبرم الطرفان اتفاقا شاملا حول كل المسائل المرتبطة بالوضع الدائم في مدة عام ابتداء من العودة إلى المفاوضات حول الوضع الدائم.

ه. ستعود المفاوضات حول الوضع الدائم بعد تطبيق المرحلة الأولى من تحرير المعتقلين والمرحلة الثانية من إعادة الإنتشار الأولى والثانية اللاحقتين، وإلى أقصى أجل 31 سبتمبر 1999. لقد أبدت الولايات المتحدة في مذكرة واي ريفر إرادتها لتسهيل هذه المفاوضات."

سيعود الطرفان إلى التفاوض حول الوضع الدائم، ستتوصل المفاوضات إلى العمل بقراري 242 و 338 لمجلس الأمن، سيبرم الطرفان اتفاقا شاملا حول كل المسائل المرتبطة بالوضع الدائم، سيبذل الطرفان جهدهما بعزم وتصميم للتوصل إلى اتفاق-إطار حول كل المسائل المرتبطة بالوضع الدائم، ستعود المفاوضات حول الوضع الدائم بعد تطبيق المرحلة الأولى من تحرير المعتقلين والمرحلة الثانية من إعادة الإنتشار الأولى والثانية اللاحقتين... إنها دوما قذفة الحجر المؤجلة، من أجل لا شيء غير تعكير الماء الراكد للوضع الراهن. يفلت الصدق من أيدي المفاوضين. حتى ولو كانت هناك إرادة ونوايا حسنة، في الوضع كما يجري تقديمه حاليا لن تتوصل المفاوضات القادمة أبدا، أقول أبدا، إلى العمل بالقرارين 242 و 338 لمجلس الأمن. لهذا تم ذكر "اتفاق-إطار" وآخر "شامل". لأن لو كانت حقا هناك إرادة بناءة من طرف أو من آخر لحل نهائي لوضع الأراضي المحتلة، لماذا إذن المرور باتفاق يدعى باتفاق-إطار الذي على أي حال لن يرى النور؟ سيفرض الاتفاق الشامل محادثات صريحة حول إقامة دولة فلسطينية القدس عاصمة لها منذ البداية، دون المرور باتفاقات أخرى تكرس المماطلة وعدم اليقين. على عكس ما قيل في الفقرة ه حول ما أبداه الأمريكان لتسهيل المفاوضات، تضع الإرادة السيئة حدا لكل حل نهائي.

إذن يجري الكلام عن الوضع النهائي دون يكون ذلك حقا ودون رسم الخطوة الأولى لآلية تصل في النهاية إلى اتفاق نهائي، وإن تشابه الاتفاقات بين عرفاتيين وحكومات إسرائيل من اليسار أم اليمين لا يترك لي الهامش الذي أتمناه من أجل تحليل مفصل. لهذا السبب، سأعالج في الفصل القادم مجموع مذكرة شرم الشيخ مع التشديد على ما تفضلت حكومة باراك القيام به وما لم تتفضل في صالح "السلام الإسرائيلي"، سلام تصفوي على كل حال.

فتات، لا شيء غير فتات:
فيما يخص إعادة الانتشارات في الضفة الغربية، هناك إعادة أولى تمت بمقدار 7% في 5 سبتمبر 1999، إعادة انتشار كاذبة بما أنه بقيت في المنطقة التي تم الانسحاب منها مراقبة مشتركة إسرائيلية-فلسطينية. تمت إعادتا الانتشار في 15 نوفمبر 1999 وفي 20 يناير 2000، ولكن فيما يخص كله بكله 9,1% من الضفة الغربية، بمعنى لا شيء بالنسبة لفلسطين التاريخية.

فيما يخص المعتقلين، تم إطلاق سراح مجموعة أولى من 200 معتقل في 5 سبتمبر 1999 ومجموعة ثانية من 150 معتقل في 8 أكتوبر 1999 ومجموعة ثالثة لم يحدد عددها عشية رمضان. ويمثل كل الذين أطلق سراحهم نسبة مئوية ضئيلة بالنسبة لآلاف المعتقلين السياسيين الذين يأسنون في غياهب السجون الإسرائيلية.

فيما يخص المسار الجنوبي لطرق العبور، تم فتح طريق عبور "آمن" بين غزة والضفة الغربية في 1 أكتوبر 1999 إلا أن الطريق الشمالي الآخر لم ير النور. وب "آمن" يجب فهم أن الذين يشرفون على نقاط المراقبة الإسرائيلية هم أسياد كل إيماءة، كل حركة، كل نقل، كل انتقال، حتى انتقال ذبابة لن يُسمح له إلا بأمر صادر عن الجيش الإسرائيلي.

فيما يخص ميناء غزة، بدأ بناؤه في 1 أكتوبر 1999، ولكن بناء ميناء أو لا بناء ميناء ليس هذا هو المشكل. الأهم هو "التصور والانتقال" كما تقول المذكرة، بمعنى حق الإسرائيليين في "النظر". وبكلام آخر، وجود كاميرات مراقبة مرتبطة بالموساد مباشرة كما هو الحال في المطار. لن تمر بضاعة واحدة دون تصريح إسرائيلي، لن يمر شخص واحد، لن تمر ذبابة واحدة. من الأكيد أن للذباب أكثر أهمية من العباد في مثل هذه الاتفاقات على الطريقة العرفاتية!

فيما يخص المسائل الخاصة بالخليل، لم تُفتح طريق الشهداء، ولا طريق الحسبة، ولا موقع مقام إبراهيم، وإذا كان هناك من رابح وحيد فهم المستوطنون.

فيما يخص الأمن، هناك هذه اللازمة التي لا تتوقف عن الرجوع، "تعاون حاسم وفعلي" ضد "الإرهاب"، "الإرهاب"، "الإرهاب"... "يلتزم الطرف الفلسطيني بتحمل مسئولياته في مادة الأمن، في التعاون على الأمن، وبفروضه اليومية". يلتزم، يلتزم، يلتزم... باختصار، يطلب الإسرائيليون بوصفهم محتلين من العرفاتيين أن يحلوا في مادة القمع محلهم، تحت خطر أن يؤدي ذلك إلى حرب أهلية. الجديد: يصطف باراك العمالي (أي بهدلة للعمال!) دون لبس وبكل قحة إلى جانب نتنياهو الليكودي وذلك عندما ينسخ عن هذا ويمتلك بنوده "وعلى الخصوص الفروض التالية الناجمة عن مذكرة واي ريفر:

1. مواصلة برنامج جمع الأسلحة اللاشرعية وتقرير حول الموضوع.
2. إيقاف المشتبهين وتقرير حول الموضوع.
3. تسليم الطرف الإسرائيلي قائمة بأسماء أفراد البوليس الفلسطينيين أقصى أجل 13 سبتمبر 1999.
4. بداية فحص القائمة من طرف لجنة المتابعة والإرشاد أقصى أجل 15 أكتوبر 1999."

... تسليم أسماء أفراد البوليس وكل الباقي، هذا هو المذهل: لم يكن الغستابو يفعل مع دُمى فيشي أفضل! ولكنهم في آخر المطاف هم المهرجون أنفسهم في زمان آخر ومكان آخر.

د. أفنان القاسم: خطتي للسلام، الإتحاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، دار لارماطان، باريس 2004، ص ص 57-65.

ترجمة د. بريجيت بوردو / الكيبيك

www.parisjerusalem.net


ثلاثون عاماً يا سجين

د. فايز أبو شمالة
لم يصدق السجناء الفلسطينيون أن زميلهم السجين عمر القاسم يتجاوز العشرين عاماً خلف الأسوار سنة 1988، ولم يحسب السجناء أن الثورة الفلسطينية عاجزة عن تحرير أسراها، وأن الدولة العبرية قد صار عمرها أربعين عاماً، وهي جادة في تنفيذ أحكامها التعسفية بحق السجناء، فقد كان يوماً أسوداً في حياة السجناء ذلك اليوم الذي تجاوز فيه الشهيد عمر القاسم العشرين عاماً في سجون إسرائيل، وكانت الصدمة كبيرة عندما توفى الرجل قهراً، فكيف يكون لنا ثورة، وثوار، وقيادة سياسية وعسكرية، ويترك الأسرى عشرون عاماً في السجون؟ وهم يرددون مقولة: إن أمة تعجز عن تحرير أسراها ستعجز حتماً عن تحرير الأرض، فمن تخلَّ عن الإنسان تخلت عنه الأوطان، حتى صار سنة 2010، صار عدد الأسرى الفلسطينيين الذين أمضوا أكثر من عشرين عاماً 115 أسيراً.
لم يخطر في بال الأسرى الفلسطينيين في يوم من الأيام أن تكون مهمة الثورة الفلسطينية، ومهمة السلطة الفلسطينية هي رصد عدد السنوات التي أمضاها الأسرى في السجون، وكتابة الأشعار فيهم، والتغني ببطولاتهم، ولم يجل في خاطرهم أن تصير قضيتهم إنسانية، وأن تستدر دمع المجتمع الدولي دون أن تفك لهم قيداً، ليدخلوا موسوعة "جينز" للأرقام القاسية مثلهم مثل أطول كوفية، وأكبر سدر كنافة، وأطول ثورة في التاريخ، وأقصر فستان سياسي، يعجز عن كسر الأقفال التي صدئت، وهي تغلق بوابات الحياة عشرات السنين على نائل البرغوثي ثلاثة وثلاثين عاماً، وزميله أكرم منصور، وفؤاد الرازم، وأبي على الكيالي، ونافز حرز، وعلاء البازيان، ومخلص برغال، ووليد دقة، وأحمد أبو حصيرة.
لم يخطر في بال الأسرى الفلسطينيين أن السجين الفلسطيني سامي يونس سيدخل عامة الثمانين وهو في الأسر، لتكون وصيته لأهله بعد سبعة وعشرين عاماً خلف الأسوار هي: إن عدت إليكم جثة هامدة، فلا تستعجلوا في دفني، أدخلوني غرفتي، مددوني على سريري، ثم اتركوني قليلاً في بيتي تحت شجرة التوت، هنالك في الهواء الطلق، وطوفي بي قريتي الفلسطينية "عارة"، قبل أن تدفنوني. يا الله؛ ما أغزر دمع الرجال!
لم يخطر في بال الأسرى الفلسطينيين أن عذابهم لعشرات السنين، وأن أجمل سنوات عمرهم التي ضاعت خلف الأسوار ستأتي لشعبهم بسلطة فلسطينية بلا وطن، وحكومتين، ولكن مع بقاء سيطرة الجيش الإسرائيلي على كل شبر، وعلى مدخل كل مدينة فلسطينية، لتستجدي القيادة الفلسطينية رحمة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وتنشد تلطفها، وتترقرق لشفقتها، بأن تمن وتفرج عن عدد من الأسرى غير المطهمة أيديهم بالدم الإسرائيلي.
لم يخطر في بال الأسرى الفلسطينيين أن الضفة الغربية وغزة ستتوحدان في الاحتفال بيوم الأسير الفلسطيني، ولكن كل على طريقته، ليصير الانقسام الفلسطيني بديلاً عن الوحدة العربية التي حركت فيهم التضحية، ويصير اعتقال الأسير المحرر من السجون الإسرائيلية بعد أيام بأيدي فلسطينية تصفق في الاحتفال بيوم الأسير الفلسطيني.
لم يخطر في بال الأسرى الفلسطينيين أن حد أبطال المقاومة الفلسطينية ورموزها من عرب 1948، والذي حكمت عليه إسرائيل بسبع مرات إعدام، وتمكن ثلاث مرات من الفرار من سجونها، وقال عنه مدير المخابرات الإسرائيلية عام 1974 "الهروب الثالث لحمزة يونس جرحنا أكثر من عبور المصريين لخط بارليف". هذا الأسير المحرر، والعميد السابق في منظمة التحرير، يجوب شوارع العاصمة الجزائرية هذه الأيام، وهو يضع على صدره، وعلى ظهره شعارات تندد بفساد أجهزة السلطة، وتندد بما وصلت إليه الحالة الفلسطينية.
أغمضوا أعينكم أيها السجناء، فقد احتفلنا بيوم الأسير الفلسطيني.
ولن أنقل اقتراحكم: بأن تغطي القيادة الفلسطينية وجهها بالطرح في يوم الأسير.

صرخات أسرى في يوم الأسير

ندى الحايك خزمو

في يوم السابع عشر من نيسان من كل عام نحيي يوم الأسير الفلسطيني .. لنذكّر العالم بأسرى يقبعون خلف قضبان الزنازين، يعانون الأمرّين لا لشيء سوى لأنهم دافعوا عن كرامة هذا الوطن، وناضلوا من أجل تحقيق العدل للشعب الفلسطيني باقامة دولته الفلسطينية المستقلة.. وخلال الأيام التي تسبق هذه اليوم وأيام أخرى بعدها تكثر المهرجانات والمؤتمرات والندوات والاستنكارات والشعارات، وما أن يمر شهر نيسان حتى يعود الأسرى الى طي النسيان، فلا يتذكرهم سوى قلة بالاضافة الى عائلاتهم وذويهم الذين يعانون آلام البعد والفراق..

ورغم أننا من حين الى آخر نقرأ ما يعانيه بعض الأسرى من خلال بعض الأشخاص الذين كرسوا أنفسهم من أجل اثارة قضاياهم ، الا ان قصصاً كثيرة ما تزال غائبة لا يعلم بها أحد أو لنقل الا قلة فقط وهم عائلات هؤلاء الأسرى فقط ..

أحدى هذه القصص هي قصة الأسير عيسى الفقيه (ابو مجاهد) من سجن رامون المركزي (التفاصيل منشورة في الصفحة 41 من هذا العدد) وهي ليست بقصة غريبة عن العديد من الأسرى الذين عانوا ما عاناه ابو مجاهد، وقد فجع بوفاة والدته، وغيره فجعوا بوفاة والدهم او والدتهم أو كلاهما خلال فترة سجنهم من دون أن تتسنى لهم فرصة وداعهم أو تقبيل الأيادي الطاهرة لآباء وأمهات أنجبوا هؤلاء المناضلين، وربوهم على حب الوطن والحفاظ على كرامته..

فقدان الأم هو أسوأ ألم يمر به الانسان، فما بالك بمن فقدها وحرم من رؤيتها وهي على قيد الحياة بسبب اعتقاله ومنع الزيارات في كثير من الأحيان، أو بسبب مرضها وعجزها عن الوصول الى السجن لرؤية فلذة كبدها، والذي يفجع ويصدم في يوم زيارة بخبر وفاة والدته ليعيش أسوأ معاناة يعرفها بني البشر فلا يستطيع القول سوى حسبي الله ونعم الوكيل..

صرخة اسرى الحرية .. صرخة عيسى وغيره من الأسرى الذين يعانون معاناته ننقلها للمعنيين.. فمتى يفرج عن أسرانا ليستطيعوا العودة الى أحضان عائلاتهم، وليعيشوا معاً أسوة بباقي البشر ..

معاناة أخرى يعيشها بعض المعتقلين وفي العدد الماضي نشرنا قصة لأحد الأسرى وهو محمد طالب ابو زويد الذي انتهت مدة محكوميته والبالغة ست سنوات ونصف منذ تاريخ 16/11/2008، ورغم ذلك لم يُفرج عنه، لأن قائد الضفة الغربية في جيش الاحتلال أصدر قراراً بابعاده الى الأردن رغم حمله لجواز سفر فلسطيني ، وبما أن الأردن لديه سياسة عدم استقبال أي أسير فلسطيني مبعد حتى ولو كان بحوزته الجنسية الأردنية، فقد أُبقي محمد في السجن رغم انتهاء محكوميته.. ورغم ارساله لرسائل ونداءات الى كافة المؤسسات الفلسطينية المعنية بالأسرى لدى السلطة الوطنية الا أنه لم تكن هناك أية استجابة أو تحرك حتى على مستوى أبسط الوسائل وأسهلها، فحتى لم يتم تعيين محام له عندما استأنف في محكمة العدل العليا.. فهل السلطة عاجزة الى هذه الدرجة حتى عن تكليف محام بمتابعة قضية محمد؟! فلماذا هذا التقصير بحقه وبحق أخوة آخرين يعانون نفس معاناته، فما من أحد يقف معهم أو يحاول مساعدتهم في أبسط الأمور !! فأين وزارة الأسرى ؟ ولماذا لم تتجاوب مع قضية محمد رغم أنه ارسل لها رسالة تشرح قضيته وكذلك الأمر بالنسبة لمؤسسات أخرى، فقد تم تطنيشه وتطنيش الأسرى الآخرين الذين يعيشون نفس ظروفه .. فأي مأساة أكبر من هذه المأساة.

صرخة محمد وزملائه ننقلها الى المعنيين في سلطتنا الوطنية والى جميع المؤسسات الحقوقية والانسانية التـي تختص بقضايا الأسرى.. الى متى سيظل محمد وزملاؤه يقبعون في سجون الاحتلال ويعانون الحرمان والعذاب رغم أن هناك قراراً بالافراج عنهم .. فأي ظلم أكبر من هذا الظلم .. ألا يكفي ظلم الاحتلال لنكمل عليهم بظلمنا لهم بعدم الوقوف معهم ومساعدتهم في قضاياهم..

صرخة أخرى ننقلها عبر البيادر، رغم اننا نقلناها سابقاً عندما استشهد بعض الأخوة في سجونهم بسبب عدم توفير العلاجات اللازمة لهم ، ونستذكر منهم الأخ الزميل محمد أبو هدوان الذي قضى على فراش مستشفى الرملة وهو مكبل اليدين والرجلين من دون ان يلقى العناية الطبية اللازمة مما ادى الى استشهاده .. صرخة هؤلاء الأسرى أما آن لها أن تُسمع ؟! فالى متى سنظل نسمع أخبار استشهاد معتقلين في الأسر ونحن لا نحرك ساكناً للافراج عن كل أسير مريض ليلقى العلاج اللازم له قبل أن تستفحل حالته الصحية، ولتكون النهاية مفجعة لأهله وذويه الذين حرموا منه بسبب سجنه، وليحرموا منه للأبد بسبب استشهاده .. فأي مأساة أكبر من هذه المأساة..

وصرخات أخرى كثيرة .. فصرخة أطفال حرموا من والدتهم وهي حية بسبب أسرها .. حرموا من حنانها وحبها ومن رعايتها لهم .. لماذا لم تصل هذه الصرخات حتى الآن الى المعنيين ليعملوا المستحيل من أجل الافراج عن كل أم أسيرة.. فأي قانون في الدنيا يسمح بحرمان اطفال من أمهاتهم بالاضافة الى آبائهم .. أليست هذه مأساة ليس من بعدها مآسٍ ..

صرخات اسرانا وأسيراتنا وأطفالنا بحاجة الى وقفة ليس فقط في يوم الأسير بالشعارات والاحتفالات والمسيرات والمؤتمرات والنداءات .. هم بحاجة الى عمل وليس الى شعارات .. هم بحاجة الى الوقوف بجانبهم وليس اهمالهم واهمال عائلاتهم .. فما دامت محاكم الاحتلال لا تنصف اسرانا وأسيراتنا، فلماذا مثلاً لا نلجأ للمحاكم الدولية لمتابعة حتى ولو القضايا الانسانية لدى اسرانا.. ويمكن استخدام الكثير من القوانين الدولية وأهمها قانون حقوق الطفل .. فحتى في قضية الأطفال الذين اعتقلوا اكتفينا بالاستنكارات والشجب ولم تُثر هذه القضايا على مستوى دولي ؟! فلماذا؟!

الأسرى أمانة في أعناقنا فلنستمع الى صرخاتهم ونعمل على ايجاد الحلول لقضاياهم، وأهمها العمل على الافراج عنهم جميعاً وافراغ السجون الاسرائيلية من أسرانا وأسيراتنا.. انظروا وتعلموا كيف يسوّق الاحتلال لقضية شاليط وماذا يفعل والداه والمتابعون لقضيته، وهم كثر، من أجله .. فماذا لديهم وينقصنا حتى نقوم بواجبنا تجاه أسرانا ؟!!(البيادر)

*كاتبة وصحافية في مجلة البيادر المقدسية

في ذكرى "مذبحة قانا" الأولى 18 نيسان 1996

محمود كعوش
"أن التاريخ لا يكتبه الصمت بل الإرادة المقرونة بالكرامة"

يواصل قادة الكيان الإرهابي الصهيوني في تل أبيب إطلاق تهديداتهم وتصريحاتهم الاستفزازية الفجة والوقحة التي يتهمون فيها المقاومين الأبطال في كل من فلسطين ولبنان "بالإرهاب" ويطلقون عليهم زوراً وبهتاناً تسمية "الإرهابيين"، لمجرد أن هؤلاء يقومون بواجبهم في الدفاع عن حقوقهم المسلوبة والنضال من أجل تحرير أراضيهم المسلوبة بقوة البطش والإرهاب والنزعة التوسعية الإستيطانية. وفي الوقت الذي يصرون على المطالبة بإطلاق سراح أسراهم العسكريين لدى المقاومتين الفلسطينية واللبنانية دون قيد أو شرط أو حتى تبادل متزامن لأسرى الطرفين، نراهم يهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور، مدعين أنهم "الملائكة فوق هذه الأرض، والآخرون هم الشياطين الأشرار" متناسين أنهم يحتجزون بشكل اعتباطي وغير مبرر أكثر من عشرة آلاف أسير ومعتقل فلسطيني إضافة إلى عشرات الأسرى والمعتقلين من جنسيات عربية أخرى غالبيتهم من اللبنانيين في سجون ومعتقلات كيانهم اللقيط،، دون ما ذنب اقترفوه أو جريمة ارتكبوها سوى أنهم انتفضوا على الاحتلال الجاثم على صدورهم وطالبوا بتطبيق العدل وإحقاق الحق، اللذين يكفلهما لهم القانون الدولي وترعاهما المعاهدات والمواثيق التي أقرتها الشرعية الدولية المتمثلة بمنظمة الأمم المتحدة والمؤسسات المنبثقة عنها. وقد بلغت النزعة العدوانية عند بعض قادة هذا الكيان حد التهديد "بقصف وتدمير المقدسات الإسلامية وإسقاط السماء فوق رؤوس من يتجرأون على الإساءة للأسرى" الصهاينة لدى المقاومتين الفلسطينية واللبنانية.
هذا الكلام النافر والممجوج والمردود على أصحابه حول "الإرهاب والإرهابيين" لا شك أنه يمثل ذروة النفاق والتزوير والتزييف والكذب والتدليس وقلب الحقائق، لأنه يصدر عن ورثة عمداء وأساتذة الإرهاب الصهيوني الرسمي وغير الرسمي وأوائل عتاة التطرف والتمييز العنصري في العالم من أمثال فلادمير جابوتنسكي وديفيد بن جوريون وجولدا مائير ومناحيم بيجن واسحق شامير واسحق رابين وأرئيل شارون وموشيه دايان وشيمون بيريز وبنيامين نتانياهو وغيرهم ممن تعاقبوا على زعامة الصهيونية العالمية منذ عام 1897 والكيان العنصري الإجرامي الجاثم على صدور الفلسطينيين والعرب عامة منذ 62 عاماً من الاحتلال المتواصل لفلسطين. فهؤلاء العمداء والأساتذة والعتاة وتلامذتهم ممن اشتهروا بذكائهم السفلي وورثوا الإرهاب عنهم ورحل منهم من رحل ويحتضر منهم من يحتضر وينتظر منهم من ينتظر أجله الآتي، رضعوا جميعاً من ثديٍ شيطان رجيم واحد ومارسوا الإرهاب بذات الكيفية العنصرية ضد العرب، دون ما تمييز أو تفريق بين طفل رضيع أو امرأة أو شيخ عجوز أو فتى يافع. والمجازر والمذابح المتواصلة التي ارتكبها الإرهابيون الصهاينة القدامى منهم والجدد على حد سواء خلال الستين عاماً التي تلت اغتصاب فلسطين الحبيبة في عام 1948، بدءاً بدير ياسين وأخواتها وصولاً إلى غزة هاشم وبناتها مروراً بمدرسة البقر وصبرا وشاتيلا وقانا الأولى والثانية وكل بنات عمومتهم، تشهد على إرهاب الكيان الصهيوني قيادة وجيشاً ومستوطنين.
الآن ونحن نحيي الذكرى الرابعة عشرة لمذبحة "قانا" الأولى "في جنوب لبنان" التي شكلت محطة حزن وألم شديدين في السجل الطويل جداً للمعاناة العربية مع الإرهاب الصهيوني المتصف بالدونية والحقارة والحافل بالفاشية والوحشية والبربرية والذي مارسه الكيان العنصري بحق العرب بشتى الصنوف والألوان والأنماط التي بلغت أحياناً كثيرة حد الإبادة الجماعية التي تتنافى مع أبسط القيم الأخلاقية والمفاهيم الإنسانية التي عرفها البشر على مدار العصور الغابرة، أرى أن المناسبة تستدعي منا وقفة تأمل ضرورية نسترجع فيها الذكرى بما يسمح به المجال من التفاصيل الضرورية والهامة لاستنباط الدروس والعبر التي يمكن أن يُصار إلى ترسيخها في عقول وقلوب بناتنا وأبنائنا لتشكل جزءاً هاماً وحيوياً من الذاكرة العربية تستفيد منه الأجيال القادمة.
فيوم ارتكب الصهاينة مذبحة "قانا" الأولى في الثامن عشر من نيسان 1996، كانوا يشنون حرباً عدوانية وهمجية على لبنان أطلقوا عليها تسمية "عناقيد الغضب" واستمرت سبعة عشر يوماً "بين الحادي عشر والسابع والعشرين من ذات الشهر" اضطروا صاغرين لإنهائها بموجب اتفاق لوقف النار سعوا إليه عبر وسطائهم الدوليين والإقليميين، بعد أن عجزوا عن تحقيق أي من الأهداف التي حددوها لها في اللحظات الأولى لبدئها. وكانت تلك الحرب في حينه الرابعة من نوعها في مسلسل الحروب العدوانية الصهيونية على لبنان، بعد اجتياح جنوبه وإقامة الشريط الحدودي العازل فيه في عام 1978 وغزوه وصولاً إلى عاصمته بيروت في عام 1982 واجتياح جنوبه مرة أخرى في عام 1993. واستناداً للمصادر اللبنانية المدونة فإنتلك الحرب الظالمة استهدفت 159بلدة وقرية في جنوب لبنان وبقاعه الغربي.
وبالرجوع إلى تهديدات وتصريحات قادة الكيان الصهيوني التي سبقت وواكبت تلك الحرب والتي رصدها الإعلام العالمي بما فيه الإعلام الصهيوني فإنه قد تم تحديد ثلاثة أهداف رئيسية لها هي: الحد من عملية تآكل هيبة الجيش الصهيوني، والعمل على نزع سلاح المقاومة اللبنانية التي يتزعمها "حزب الله" أو في أقل تقدير تحجيمها وتقييد نشاطاتها العسكرية من خلال ممارسة أقصى الضغوط على الحكومتين اللبنانية والسورية لتحقيق هذا الهدف، ورفع معنويات عملاء الكيان من ضباط وجنود في "جيش لبنان الجنوبي" كانوا يعيشون حالة رعب وقلق وارتباك وخوف على المصير المتوقع لهم ولجيشهم الكرتوني، في ما لو تم التوصل إلى تسوية نهائية للوضع اللبناني في إطار تسوية للصراع الدائم بين العرب وكيان العدو جرى حديث مطول حولها بعد "مؤتمر مدريد" الذي انعقد في مطلع تسعينات القرن الماضي .
وكان قادة الكيان الصهيوني بمن فيهم رئيس حكومتهم في حينه الإرهابي شيمون بيريز ووزراء الحرب والخارجية والداخلية فيها قد أعلنوا على الملأ بأن الغاية التي ارتجوها من وراء شن تلك الحرب كانت العمل على تحقيق الأهداف الثلاثة سالفة الذكر، وصولاً إلى "تحقيق الأمن للمستوطنين اليهود في شمال فلسطين المحتلة وللجنود الصهاينة المحتلين آنذاك للشريط الحدودي المصطنع في جنوب لبنان.
ولربما أن بيريز قصد من وراء شن الحرب استعراض قوته أمام شعبه لاستعادة هيبة حكومته التي كانت تئن تحت وطأة انتقادات مكثفة وحادة من قبل مناوئيه السياسيين في الأحزاب الصهيونية الأخرى، بسبب ما قيل وقتذاك عن "خطوات خطاها باتجاه التفاهم مع بعض الأطراف العربية الرسمية"، خاصة وأنه كان يُعد العدة لانتخابات عامة في الكيان اللقيط،، لم يحصد من ورائها سوى خيبة الأمل!!
فبعيد "تفاهم تموز" الذي تم التوصل إليه بصورة غير رسمية في أعقاب الاجتياح الثاني للجنوب في عام 1993 الذي اختار له الصهاينة تسمية "عملية تصفية الحسابات"، التزم طرفا الصراع بنأي المدنيين في كل من لبنان والكيان الصهيوني عن أذى وويلات المواجهات المسلحة بينهما. والتزم الجانب اللبناني المقاوم بهذا التفاهم وتحول عن مهاجمة شمال فلسطين المحتلة ليحصر مقاومته بتطهير الجنوب من دنس القوات التي احتلته في غزو 1982 الذي عُرف صهيونياً باسم "عملية تأمين الجليل".
ومع اشتداد ساعد المقاومة اللبنانية وتنامي قوتها وتعاظم جرأتها في مقارعة قوات الاحتلال الصهيونية التي كانت تجثم على صدر جزءٍ غالٍ من جنوب لبنان، انتابت كيان العدو المُغتصب حالة من الهستيريا وفقدان الأعصاب أعادته إلى طبيعته العدوانية من جديد فقام بخرق "تفاهم تموز" من خلال استئناف مهاجمة المدنيين اللبنانيين في عمليات استفزازية محدودة، تطورت تدريجياً لتتحول في ما بعد إلى حرب عدوانية حقيقية وشاملة.
وقد استُدل المراقبون على الحالة الحرجة التي انتابت الكيان المسخ من عدد الطائرات والدبابات والآليات التي دفع بها إلى أرض المعركة وحجم ونوعية العتاد الحربي والذخيرة التي استعملها في تلك المعركة. فرغم صغر حجم القطاع الذي استهدفته الآلة الحربية الصهيونية الجهنمية في تلك الحرب وهو جنوب لبنان والبقاع الغربي، إلا أن الطائرات الحربية الصهيونية أميركية الصنع قامت بأكثر من 1500 طلعة جوية، أي بمعدل 90 طلعة في اليوم الواحد. وأطلقت الطائرات والدبابات ما يربو على 32 ألف صاروخ وقذيفة، أي بمعدل 1882 صاروخ وقذيفة في اليوم. وبإجماع المراقبين العسكريين المحايدين فإن معظم الصواريخ والقذائف التي أطلقها الجيش الصهيوني في تلك الحرب العدوانية كانت محرمة دولياً، ويدفع اللبنانيون من أرواحهم ثمناً غالياً لها حتى اليوم.
وبفعل قسوة ووحشية تلك الحرب اضطر عدد كبير من سكان الجنوب إلى مغادرة بيوتهم واللجوء إلى مقار قوات الأمم المتحدة المتواجدة في منطقتهم طلباً للحماية والأمان، ومنها مقر الكتيبة الفيجية في بلدة "قانا". لكن في اليوم الثامن للحرب، أي يوم الثامن عشر من نيسان 1996، قامت القوات الصهيونية المجرمة بمهاجمة ذلك المقر الذي كان يأوي في داخله 800 لبنانياً بوابل من القذائف والصواريخ الفتاكة مما أدى إلى حدوث مذبحة بشرية هائلة ومروعة، إلى جانب ارتكابها مجازر ومذابح أخرى عديدة في مدن وقرى لبنانية جبنوبية وبقاعية مختلفة. وقد شملت الإبادة الجماعية الصهيونية في تلك الحرب مناطق لبنانية خارج الجنوب والبقاع الغربي. وأسفرت مذبحة "قانا" عن استشهاد 250 شخص منهم 110 من "قانا" وحدها. وكان بين الشهداء عدد من الجنود اللبنانيين والسوريين ومقاتلي "حزب الله". وقد بلغ العدد الإجمالي لجرحى المذبحة 368 جريحاً، غالبيتهم من المدنيين العُزل.
وكالعادة بعد كل مجزرة أو مذبحة أو جريمة يرتكبونها بحق أبناء شعبنا العربي في هذا القطر أو ذاك، سارع الصهاينة الأشرار بعد شيوع أنباء المذبحة وتداولها في العناوين الرئيسية لوسائل الأنباء المختلفة في العالم إلى الادعاء بكل صلف ووقاحة بأن قصف مقر الكتيبة الفيجية حصل عن طريق الخطأ، ولم يكن مقصوداً"!! لكن جميع الأدلة والقرائن دحضت ادعاء الفُجار الكاذب. وعلى ما أذكر فإن الدليل الأول الذي ظهر حول تلك الجريمة النكراء كان فيلماً قام بتصويره أحد الهواة للمقر والمنطقة المحيطة به أثناء القصف بواسطة آلة تصوير فيديو أظهر في بعض لقطاته طائرة استطلاع صهيونية بدون طيار تحلق فوق المقر أثناء إمطاره بوابل من القذائف الصاروخية. وقد اعتاد الصهاينة على استخدام ذلك الطراز من الطائرات الاستطلاعية في حروبهم واعتداءاتهم العسكرية لتحديد الأماكن التي كانوا يستهدفونها بالقصف. ثم توالت بعد ذلك شهادات شهود العيان من أبناء الجنوب والعاملين في القوات التابعة للأمم المتحدة،الذين أقروا بمشاهدتهم طائرتين مروحيتين بالقرب من الموقع المنكوب.
وعندما حاول شيمون بيريز إلقاء تبعة المسؤولية على قوات الأمم المتحدة من خلال الادعاء بأنها لم تبلع حكومته أو قيادة قواته بوجود 800 مدني لبناني في المقر المستهدف، جاءه الرد سريعاً عبر تصريحات لمسؤولين في مقر الأمم المتحدة في نيويورك أكدوا فيها أنهم أخبروا تل أبيب مراراًً بوجود تسعة آلاف لاجئ مدنيلبناني في مقرات ومواقع تابعة للأمم المتحدة. كما أعلنوا على الملأ أن القوات الصهيونية الغازية وجهت نيران أسلحتها المختلفة نحو القوات الدولية والمنشآت التابعة للأمم المتحدة 242 مرة خلال الحرب، وأنهم نبَّهوها إلى اعتدائها على مقر القوات الفيجية في "قانا" أثناء القصف.
وحمّل تقرير صدر عن الأمم المتحدة بعد الحرب حكومة وجيش كيان العدو مسؤولية مذبحة "قانا"، باعتبار أن الصهاينة ارتكبوها عن سابق إصرار وترصد. وقد حاولت حكومتا واشنطن وتل أبيب عن طريق الضغط والإكراه والترغيب والترهيب إجبار الأمين العام للأمم المتحدة في حينه د. بطرس غالي على إبقاء مضمون التقرير طي الكتمان، إلا أنه أصر على القيام بالواجب الذي يفرضه عليه موقعه الدولي الرفيع فكشف عن مضمون الجزء الذي يُحّمِل الكيان الصهيوني مسؤولية تلك المذبحة. وبعد مُضي عام على ارتكاب المذبحة، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً دعت فيه كيان العدو إلى دفع تعويضات لأهالي الضحايا اللبنانيين الذين قضوا فيها، إلا أن حكام تل أبيب رفضوا الالتزام بذلك القرار. وقد أجمع المراقبون الدوليون في ما بعد على أن موقف العربي المصري د.بطرس غالي وقرار الجمعية العامة تسببا باعتراض واشنطن على التجديد لغالي مرة ثانية كأمين عام للأمم المتحدة وإصرارها على استبداله بالسويدي الإفريقي الأصل كوفي أنان.
مذبحة "قانا" كانت محطة محزنة ومؤلمة من محطات الإرهاب الصهيوني المتواصل بدم بارد ضد العرب عامة دون ما تمييز أو تفريق بين مذهب ومذهب أو دين ودين أو قطر وقطر "أو حتى عرق وعرق"، منذ الاغتصاب الكبير الذي تتصادف ذكراه الثانية والستون في الخامس عشر من شهر أيار القادم. وليس مقدراً لهذا الإرهاب الصهيوني المتكئ على دبلوماسية المدافع والقاذفات الصاروخية أن يتوقف أو ينحسر طالما أنه مترافق، بل متحالف، مع كل هذا الصمت العربي الرسمي المريب. صحيح أن الصمت العربي مرافق، أو حليف في بعض الأحيان، للإرهاب الصهيوني الذي يمارسه كيان العدو هنا وهناك في الوطن العربي وبالأخص في فلسطين ولبنان، لكن الأصح هو أن التاريخ لا يكتبه الصمت بل الإرادة المقرونة بالكرامة.

كاتب وباحث فلسطيني مقيم بالدانمرك

الجمعة، أبريل 16، 2010

ملعونة هي الدولة التي لا تحترم حرمة الموت

الياس بجاني

مرة أخرى تبين الممارسات المعيبة والوقحة والظالمة التي تطاول حقوق أهلنا اللاجئين في إسرائيل أن دولة لبنان برسمييها ومؤسساتها وسياسييها وقضائها وقرارها مشلولة ومعطلة وغائبة ومغيبة، لا بل محكومة بالكامل من قِبل حزب الله الإرهابي والأصولي وتابعة كلياً لقرارات واملاءات حكام وملالي راعيتيه سوريا وإيران.

في أيار سنة 2000 وتزامناً مع انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب قام حزب الله بشخص أمينه العام حسن نصرالله بإرهاب وتهديد أهل المنطقة الحدودية بلغة همجية وبربرية وانتقامية فدفعهم قسراً إلى هجرة بيوتهم وممتلكاتهم واللجوء إلى الدولة العبرية، وذلك من ضمن مخططه الفارسي الهدام والهادف إلى تفريغ لبنان من المسيحيين تحديداً، ومن كل معارض لمخططات دول محور الشر وتحويله إلى جمهورية إسلامية على شاكلة تلك القائمة في إيران.

ومذاك التاريخ استمر هذا الجيش الإيراني المسمى "حزب الله" الذي يحتل لبنان بمنهجية مدروسة في منع عودة أهلنا من إسرائيل ومن كافة دول الانتشار بشتى وسائل الظلم والتجني والاتهامات، وهو استعمل ولا يزال يستعمل مؤسسات الدولة كافة لهذه الغاية الشيطانية، ومن ضمنها المحكمة العسكرية التي لم تترك مواطناً واحداً من الآلاف الذي لجأوا إلى إسرائيل أو مروا منها بطريقهم إلى بلدان أخرى دون أحكام جائرة بتهم الخيانة والعمالة المفبركة.

حتى حرمة الموت لم يحترمها هذا الحزب الحامل رايات الغزوات والمذهبية والأصولية وسيوفها وسواطيرها، في حين أن الدولة اللبنانية الذليلة لم تتجاسر أو تبادر ولو مرة واحدة إلى تحمل مسؤولياتها تجاه مواطنيها الشرفاء اللاجئين في إسرائيل وأصقاع الأرض.

إلا أن أهلنا هؤلاء الأبطال، ولأنهم شرفاء وأوفياء وأنقياء ولا يخافون إلا الله جل جلاله، رفضوا الخنوع والرضوخ وقالوا لا، لن تمنعنا أي قوة مهما عظم شأنها من احتضان أرضنا المقدسة المروية بعرق ودماء وقرابين أبنائنا وأجدادنا والشهداء، وأصروا على التحدي والمواجهة رافضين أن يُدفن موتاهم بغير تراب بلداتهم وقراهم ودساكرهم.

منذ العام 2000 نُقلت عشرات النعوش من إسرائيل لأهل لنا رقدوا على رجاء القيامة. نقلت إلى لبنان بواسطة الصليب الأحمر متحدية برمزيتها الإيمانية كل وسائل الإرهاب والقمع والإذلال، ومستهزئة بكل الإجراءات والقيود والافتراءات التعسفية، ورافضة بكبرياء وعنفوان كافة نعوت التجني والتخوين المهينة، وذلك لتُدفن في أرض البشارة وليحتضن الراقدين فيها تراب وطنهم المبارك. وفي كل مرة دخل لبنان نعش من هذه النعوش التحدي والإيمان والرجاء، كان حقد حزب الله واستكباره وفوقية ممارساته وعدم احترامه لحرمة الموت هو العنوان الأبرز، فيما كان لافتاً هزال الدولة وغياب مؤسساتها.

في هذا السياق المأساوي تحمَّل بصبر وجلد القديسين ذوو الفقيدة "حنة جلاد" ابنة عين ابل البارة، وأم الشهيد البطل خليل جلاد، تحملوا كل أنواع المضايقات والعراقيل والتجنيات التي أخرت نقل نعشها من إسرائيل إلى لبنان، وهي ابنة السبعين عاماً.

رفضوا دفنها إلا في تراب عين ابل، ورفضوا الصلاة على جثمانها الطاهر بغير كنيسة سيدة البلدة. ابقوا الجثة في ثلاجة المستشفى الإسرائيلي منذ يوم السبت الفائت وأصروا بعناد على الالتزام بوصية الفقيدة التي أرادت أن تعود إلى عين ابل ولو جثة هامدة ليحتضنها ترابها المقدس.

اليوم عادت حنة جلاد الأم والجدة وأم الشهيد (الخميس 15 نيسان/2010) إلى عين ابل، عادت إلى أهلها وتاريخها ومسقط رأسها. إلا أن ظلم حزب الله وهزال الدولة اللبنانية منع عائلتها الموجودة في إسرائيل من المشاركة في مراسيم دفنها، فودّعوها على الحدود وصلوا من أجل راحة نفسها ومن أجل عودة الحريات والسلام إلى وطن الأرز.

إن الفعل الإجرامي لاستمرار معاناة أهلنا اللاجئين في إسرائيل دون جهد صادق لحل قضيتهم بما يحفظ كراماتهم وكبريائهم وعطاءاتهم ووطنيتهم هو وصمة عار على جباه كل المسؤولين في لبنان، وهو خزي يطاول كل طاقمه السياسي.

نعم وبصوت عال نقول، مبارك هذا المسمى "عدواً"، لأنه يحترم القِيم الإنسانية ويجل حرمة الموت ويلتزم بما يوصي به المتوفين من أهلنا في بلده ويعمل على مواساة ذويهم ويؤمن لهم كل مقومات الحياة الكريمة، وملعون طاقم الحكام والسياسيين في وطننا الأم لأنه يحتقر مواطنيه ويعمل على إذلالهم وحرمانهم من ابسط حقوقهم.

أن العائدين من إسرائيل داخل النعوش هم بالواقع الأحياء فيما كل أفراد طاقم الحكم والسياسة في لبنان هم الأموات.

حرام، والله حرام، وعيب وألف عيب هذا الظلم والكفر والافتراء والتجني.

يبقى أن لكل ظلم يوم يزول فيه، وهذا اليوم مهما طال فهو آت لا محالة.

نصلي من أجل راحة نفس الفقيدة ومن أجل راحة نفوس كل شهداء وطن الأرز ونختم بما جاء في رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل رومة 12/19: " لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكانا للغضب لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب"

هل حقا خُلِقَ الإِنسَانُ مِن مّآءٍ دَافِقٍ؟-1

سعيد علم الدين

قبل الخوض في خضم هذه الآية القرآنية:
تأملا وتفكيرا، تقييما وتحليلا، بحثا وتدقيقا، شرحا ونقدا، التفسير تركناه لجهابذة التأويل والتفاسير والذي ما هو سوى تبرير بتبرير،
لا بد من مقدمة تمهيدية توضيحية لهذا الأمر الفكري الخطير الذي يتحاشاه الكثيرون الكثيرون والمقدس في عيون الكثيرين الكثيرين.
ولماذا انا كعربي ومسلم أي واحد من لحم وعظم ودم وروح هذه الأمة بدل ان احمل لواء الاسلام عاليا، وادافع عن فكره وقرآنه المنزل من السماء حسب الادعاء، تراني انبري وبكل قوة لتنوير الناس ونقد الفكر الديني الشمولي من خلال كتاباتي وقناعاتي، وحقيقة ما اراه بعيني او ما انكشف لبصيرتي وما يرفض ضميري السكوت عنه.
السبب هو غيرتي ومحبتي وشعوري الإنساني العميق بحق هؤلاء المعذبين.
ان الغيرة الكبيرة جدا على دين الاسلام ونصوص القرآن وباي ثمن ومهما غلا، وتحت أي ظرف ومهما صعب، يدفع ثمنها وللاسف ليس الدين الكامل وفكره الشامل ونصوصه المقدسة، وانما هذا الانسان المسلم المعذب. يدفعها باهظة جدا من دمه وعرقه وتعبه وروحه وحياته ومجتمعه.
هذه الروح التي تتلظى!
وهذه الحياة التي تتشظى!
وهذه المجتمعات العربية والاسلامية التي تتخبط بمئات ملايينها على غير هدي حتى الحاكم والملك والرئيس والسلطان والأمير تراه يضع رأسه بين الرؤوس ويقول للفكر الديني يا قطاع الرؤوس.
والحاكم الوحيد في التاريخ الاسلامي الذي فهم الحقيقة واستطاع، رغم الصعوبات الهائلة وما تمثله دولة الخلافة للمسلمين قاطبة من هالة، الخروج من هذه الشرنقة الخانقة والسير بشعبه على الطريق العلماني الديمقراطي السليم هو الرئيس التركي العظيم كمال اتاتورك.
مع اننا لا نوافقه على بطشه بالدين والطريقة الحادة التي اتبعها في فرض العلمانية على المجتمع.
المطلوب هو قناعة رجل الدين لكي يقنع المسلمين، بان العلمانية والديمقراطية هما المحافظتان الحقيقيتان على الحرية الدينية والمنسجمتان مع روح الاسلام، وليس الدكتاتورية التي تستغل الدين خدمة لسياسة الدكتاتور. وكما يمارسها حاليا ملالي ايران.
مشكلتنا الكبرى مع الاسلام هو رفضه الحاد للآخر والغائه، وادعائه امتلاك الحقيقة الكاملة الشاملة بالقوة والتي يتم من خلالها سلب ارادة الانسان وشَلِّهِ فكريا، والهيمنة على المجتمع في شمولية تؤدي في نهاية المطاف الى الانهيار. تماما كما انهارت كل الامبرطوريات والدول الاسلامية واخرها الخلافة العثمانية التي كانت اخر امبراطورية اسلامية عظيمة امتدت من افريقيا الى اسيا واوروبا.
نحن لا نلهو، ولا نعبث، ولا نتسلى، عندما نكتب حول هذه القضية الحساسة جدا، والعاطفية جدا، والخطرة جدا جدا في المجتمعات العربية والاسلامية. فهي من المحرمات والمقدسات التي من يقترب من خطوطها الحمراء او يتعرض لها بانتقاد يصبح كالفدائي الحامل دمه على كفه.
لا يعرف من سيطلق فتوى هدر الدم وبكل بساطة ضده. كما تم هدر دماء الكثيرين من المفكرين المسلمين عبر التاريخ وحتى هذا اليوم.
ولكن هل يجب ان تحرمنا المحرمات من قول كلمة الحق؟
بالطبع لا! والا فهي على باطل وفي ضلال قاتل!
فالهدف السامي في الاصلاح، هو الذي يفرض نفسه علينا لهداية الناس الى الطريق المستقيم في بناء الأمم ونهضة المجتمعات، كما فرض نفسه على من سبقنا ومن يناضل معنا ويقارع بالفكر الحر والقلم المجد، وليس بالمسدس القاتل والخنجر الذابح والحزام الناسف.
ولا يوجد استبداد بالاقتناع والقلم والفكر، وانما فقط بالارهاب والمخابرات وادوات القتل.
الاصلاح الحقيقي يتم بالدخول الى جوهر الامور وتسمية الأشياء بأسمائها وليس باللف والدوران حولها، كالقطة تدور بلسانها حول صحن الحساء الساخن!
الاسلام كدين هو فكر وعقيدة وايمان بالغيب مبني على القرآن المنزل من السماء كآيات إلهية لهداية البشرية بشتى الوسائل ومنها العسكرية الجهادية كما هو معروف ومنذ انطلاقته في الجزيرة العربية وحروب الردة اكبر شاهد، ومن ثم للدول والشعوب المجاورة.
أي ما سمي بالفتوحات الاسلامية.
ومن الاسئلة التي ستطرح نفسها علينا ايضا في هذه الحالة :
هل حقا القرآن منزل من السماء ككلام مقدس من الله لا يعتريه الشك والباطل وصالح لكل زمان ومكان حسب الادعاء؟
ورسالة الهية سماوية موجه الى العالم اجمع لأسلمته تدعي امتلاك الحقيقة الكاملة الشاملة يحمل شعلتها المسلمون منذ 14 قرنا.
والنتيجة ظاهرة للعيان في شعوب غارقة في الجهل والتخلف والتاخر والتناحر والتمزق.
لماذا اذن نكون نحن العرب والمسلمون حملة شعلة هذه الرسالة الإلهية، وخير امة اخرجت للناس حسب القرآن، في مؤخرة شعوب الكرة الأرضية؟
ومن يتحمل هنا المسؤولية؟
الله المتفرج ام الانسان المنفلج!
واين دور صاحب الرسالة من كل ما يجري؟
هل يجب ان نسعد بواقعنا المزري لا تبارينا فيه تأخرا وتخلفا وشرذمة وتقهقرا وحروبا الا بعض شعوب ودول القارة الافريقية البائسة.
حتى ان الشعب الكوري، مع احترامنا له، الذي لم يكن له دور يذكر في التاريخ. اين نحن اصحاب الأمجاد والفتوحات التاريخية منه اليوم؟
الا يوجد سبب جوهري لتأخرنا؟ بالتأكيد!
ما الحكمة في ان نَهْجُرَ اوطاننا بالملايين، ونقتلع من جذورنا، ونصبح نحن شذاذ الآفاق، ونحلم بالعيش في الدول التي اعتبرناها تاريخيا ودينيا وتقليديا: كافرة ومشركة واستعمارية وامبريالية وعدوانية وحاقدة وزارعة وداعمة للصهيونية في الاستيلاء على فلسطين؟
هل هذا مدعاة للفخر!
الا يوجد سببب جوهري لهجرتنا وما آلت اليه اوضاعنا اليائسة في بلادنا؟ بالتاكيد!
وهذا ما نحن بصدده في هذه المقالة التي نحاول من خلالها القاء الضوء على العنوان المرتبط بنصوص وآيات قرآنية.
الآيات والنصوص يا صديقي:
لا تجوع ولا تعطش ولا تهاجر ولا تعاني ولا تهان، انما الانسان هو الذي يجوع ويعطش ويعاني ويهاجر ويهان!
فما نفع الآيات إذن اذا كانت عاجزة عن اشباع الانسان واسعاده لكي لا يهاجر من وطنه ويبقى في بلاده.
وعندما ارى المشكلة في الفكر الديني المهيمن بطريقة خانقة على المجتمعات العربية والاسلامية منذ الولادة وحتى الممات، فلا بد تاليا ان يتحمل الفكر الديني المسؤولية بالذات.
ليس الهدف ابدا الغاء الفكر الديني والذي استطاع من خلال متطرفيه الغاء الشهيد المصري فرج فودة وذبح الصحفي السوداني محمد طه، وتفجير السيدة بنازير بوتو، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ والكثيرين غيرهم، انما الهدف نقد هذا الفكر لكي يكتشف اخطائه، ويعود عن غروره، ويعرف حدوده، ويعترف صامتا بانه لا يملك الحقيقة الكاملة والمطلقة. وبالتالي لا يحق له الهيمنة على المجتمع وخنقه.
ولو لم تتحرر اوروبا عبر الفلاسفة والمفكرين ورجال السياسة المستنيرين من الفكر الكنسي البابوي المطلق، لما زالت تتخبط في ظلام القرون الوسطى.
وتحرر اوروبا من الهيمنة الدينية المسيحية لم يلغ الدين ابدا، بل ساهم بتقدم المجتمعات وازدهارها ورخائها وفي افادة كبيرة جدا للكنيسة التي تتمتع الان باختراعات العلماء التي سجنتهم في السابق او نفتهم او قتلتهم.
المطلوب تحرير المجتمعات العربية من هيمنة الفكر الاسلامي ووصايته عليها، لإصلاحه وليس لإلغائه ابدا!
فالانسان بحاجة للدين كحاجته للخبز.
ولكن هذا يتم من خلال الحرية وليس بقمع الانسان واستعباده بالنصوص الدينية.
الانسان يحصل على حقوقه من خلال العمل الفكري التنويري الشجاع وليس من خلال القمع والتحريم والتجريم والإلغاء.
وعن ماذا يكتب الإنسان عندما يرى الجهالة قد غمرت مئات الملايين بالأطنان؟
ايكتب عن الحب والهيام، والوان العشق والحنان، والغرق مع الملايين العزيزة في الغرام الذي تحول الى ادمان ما بعده الا الطوفان؟
ام يهب كما الفرسان لنزع الغشاوة التي اعمت الابصار، وأهامت الأرواح، وسلبت القلوب، وغيبت العقول، واصمت الآذان. يتبع!

في يوم تشيع شهيد معركة الأمعاء على الجعفري

عطا مناع

هناك في سجون دولة الاحتلال الإسرائيلي المقامة على ارض فلسطين يقبع الآلاف الأسرى الفلسطينيين والعرب الذين يتعرضون لأبشع أنواع المعاملة من قبل إدارة السجون التي تستخدم سياسة ممنهجة للنيل من عزيمتهم وإيمانهم بقضيتهم.

وينتمي القابعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي لنخبة المليون اسيرة وأسير فلسطيني وعربي ذاقوا الم العذاب والقمع والحرمان على مدى سنوات الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967 ، وقدموا مئات الشهداء في معركة الحفاظ على الكرامة الإنسانية والوطنية التي ما زالت فصولها مائلة أمامنا.

في يوم الأسير الفلسطيني الذي أقرة المجلس الوطني الفلسطيني كتعبير عن استمرار شعبنا في مقاومته للاحتلال والكفاح المشروع لنيل أسرانا وأسيراتنا حريتهم عبر النضال ضد الظلم وسيطرة محاولات المحتل للنيل من حرية شعبنا وكرامته لا زال أسرانا يتعرضون لصنوف شتى من التضييق وامتهان الكرامة الوطنية حيث قدموا الشهداء في معارك الجوع البطولية.

لم يكن من السهل على الحركة الفلسطينية الأسيرة اتخاذ قرار الإضراب عن الطعام، ولكن حركتنا الأسير اعتمدت مقتنعة شعار "نعم لألام الجوع لا لألام الركوع"، وقد كلفها هذا الشعار خسائر لا تعوض بفقدان العشرات من قادتها الذين قادوا معركة الكرامة والحرية.

من حقهم علينا ونحن نحي يوم الأسير الفلسطيني استحضارهم وإبراز بطولاتهم وكأنها ألان، فمثل عبد القادر أبو الفحم وراسم حلاوة وعلي الجعفري واسحق مزاغة وحسين عبيدات لا تطويهم الذاكرة، فهم قادة الشعب الذين قاوموا بإرادتهم حتى الرمق الأخير متسلحين بشعارهم المقدس نعم لألام الجوع ر لألام الركوع.

في عام 1981 استخدمت إدارة السجون أبشع الوسائل لكسر إرادة اسرى سجن نفحة الصحراوي لحملهم على فك إضرابهم عن الطعام الذين خاضوه احتجاجاً على ظروف المعتقل الصحراوي القاسية الذي يبعد 200 كم عن مدينة القدس المحتلة، والذي بني خصيصاً لقيادات الحركة الأسيرة بهدف إخضاعهم للموت التدريجي والبطيء في سجن يعتبر غوانتنامو الأمريكي فندقاً مقارنة بة.

لقد جن جنون مصلحة السجون التي اعتبرت إضراب نفحة تحدياً غير مسبوق لدولة الاحتلال، وبهدف إحباط الإضراب استخدموا كل الوسائل المتوفرة، كانوا ينقلوا الأسرى من العيادة لإجبارهم على تناول الطعام بطريقة همجية، وكان الأسرى يرفضون تناول الحليب فيعمد الطبيب بمساعد الشرطة على فتح فم الأسير المتعب جراء الإضراب بكماشة ووضع بربيج"الزوندا" في فمه أو أنفة ومحاولة إيصال الحليب عبر محقن إلى معدة الأسير بهدف كسر الإضراب، وقد تعرض غالبية أسرى نفحة المضربين عن الطعام لهذه العملية الخطيرة ومنهم الأسيران راسم حلاوة من مخيم جباليا وعلي الجعفري من مخيم الدهيشة.

كان طبيب السجن مدرك خطورة العملية لإمكانية دخول الحليب إلى الرئتين ما يشكل خطراً على حياة الأسرى، وكان يتعامل بوحشية حتماً ستؤدي إلى الوفاة، وهذا ما جرى لحلاوة والجعفري اللذان اعدما بقرار من السجان الإسرائيلي الإضراب الذي هزم في معركة الإرادة معركة نعم لألام الجوع لا لألام الركوع، لقد اعدما في اليوم التاسع من الإضراب.

ولم تكتفي دولة الاحتلال بقتل حلاوة والجعفري بل حجزت جثمانهما في مقابر الأرقام إلى جانب المئات من الشهداء الفلسطينيين والعرب كعقاب لهم على انتمائهم لقضيتهم وتقدمهم للصفوف في معركة التحرر الوطني.

بعد 13 عشر عاما من الاحتجاز في مقابر الأرقام سلمت دولة الاحتلال الإسرائيلي رفات الشهيد على الجعفري إلى ذوية، واذكر أن سكان مخيم الدهيشة والمحافظة لم يفارقوا منزل الشهيد الجعفري لأيام حتى وصل الرفات ليلاً، وقتها استقبل الجعفري بالطريقة التي يستحق، وشاركت في استقالة ووداعة كل شرائح المجتمع التي حملت الرفات الذي لف بالعلم الفلسطيني، وبعد إتمام مراسيم الوداع السريع انطلق موكب التشيع سيراً على الأقدام إلى مقبرة بلال ابن رباح.

لماذا نستحضر الجعفري بعد هذه السنوات؟ وهل من حقنا أن نقلق راحته في قبره؟ هل نستعين بة ورفاقة من كوكبة الشهداء على سنواتنا العجاف؟ نحن الذين قررنا أن ننسى رغم فوضى الشعار الذي نتشدق بة بمناسبة وبغير مناسبة، ولو قدر لنا السؤال لقال اتركوني ولا تقلقوا راحتي في قبري فانا لا انتمي إلى عالمكم، فعالمي مفعم بالأمل والتواصل مع أبناء جنسي من الذين فضلوا الآلام الجوع حتى الموت على الركوع.

لو قدر للجعفري وغيرة من المضحين من اجل الحرية العودة لأشاحوا بوجوههم عنا، كانوا سيضحكوا مطولاً على حالتنا، كانوا سيرفضوننا ويلعنونا نحن الفلسطينيون الجدد في الضفة وغزة.

لو قدر لهم العودة لإعادة العربة على السكة، وصاحوا بأعلى الصوت ...الدم الفلسطيني خطُ احمر... والوحدة الوطنية هي الصخرة التي تتحطم عليها الأجندات الانقلابية والانقسامية وهي وحدها القادرة على كشف الوجه البشع للحالة الراهنة، وهي وحدها التي تمتلك قوة إسقاط الورقة عن عورة الفساد وعراب المرحلة الذي تخلى عن موقعة، عراب المرحلة الذي قاد جماهير شعبة في الوطن والمنفى وهرب كما فئران السفينة بحثاً عن مصالحة التي لا تستوي مع طبقتة التي استخدمها حطباً لنزواتة ولا زال.

من المجدي أن نعترف أننا أبناء مرحلة موقف اللاموقف، وفي مرحلة موقف اللاموقف تأخذ الأشياء الشكل الرمادي الفاقد الملامح وتغيب الحقيقة ويتم السطو على الذاكرة، وتتداخل الصور، وتطفو ورقة التوت على السطح، لكن للحقيقة قوة تفرض نفسها على اللاموقف، الحقيقة تتخذ شكل البشر والحجارة واسري وشهداء بعضهم في القبور والبعض الأخر ما زال ينتظر.

يا ليتهم قسموا

د. فايز أبو شمالة
يتفلسف بعض الكتاب العرب والفلسطينيين، ويرددون خلف بعض السياسيين: بأن الفلسطينيين أفضل شعب ضيع الفرص التي سنحت له، وكلما لاحت لهم فرصة أضاعوها بتشددهم. هذا الكلام يتساوق مع الرواية الإسرائيلية، ويدعي بأن غباء العرب السياسي أوقعهم في ورطة الرفض، وساعد إسرائيل على التملص من الضغط الدولي، وأوقع العرب في ورطة تضييع الفرص، ويسوقون رفض العرب قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين الصادر عن الأمم المتحدة سنة 1947، نموذجاً للضعف العربي، والفشل السياسي. ولكن المدقق في حقيقة الموقف العربي والفلسطيني يجد مصداقية للرفض، ويكتشف أن العرب أغبياء لو وافقوا على قرار التقسيم الذي يعطي اليهود أكثر من نصف فلسطين، وهم لا يمتلكون بالحيلة، والسرقة، والتآمر، وفق الوثائق الدولية، سوى 6% فقط من أراضي فلسطين، ويكتشف أن شعار "يا ليتهم قسموا" الذي أطلقته المرأة العسقلانية أثناء الهجرة، لم يكن صائباً كما يدعي البعض .
قد يقول أحد الخبثاء: لقد ضيع التشدد في حينه فرصة قيام الدولة الفلسطينية، ومكن إسرائيل من السيطرة على 78% من أرض فلسطين. وهنا أقول: لم تكن تلك فرصة، وإنما كانت قرصنة يهودية أسهمت الخيانة في تمريرها، وساعد الضعف العربي على تطويرها، ولاسيما أنها تزامنت مع استيراد الخوف والفزع من اليهود، وترافقت مع القصور في العمل المقاوم الذي يتناسب مع رفض قرار التقسيم، فكانت الفرص الضائعة هي عدم الإعداد الجديد لمواجه العصابات اليهودية التي اغتصبت فلسطين تحت بصر العرب، وسمعهم.
لقد دللت الأحداث المتتالية بعد ذلك على أن الموافقة على قرار التقسيم أو عدم الموافقة ما كانت ستغير المخطط اليهودي، وما كانت ستجنب الفلسطينيين العدوان الإسرائيلي، والدليل؛ موافقة الفلسطينيين والعرب على نتائج الحرب، وسكوتهم على دولة إسرائيل التي قامت على ثلاثة أرباع فلسطين. فلو كان هدف اليهود دولة وفق قرار التقسيم، لاكتفوا، وحمدوا "إلياهو" ربهم، ولكنهم واصلوا عدوانهم على غزة سنة 1956، وهاجموا الضفة الغربية، واحتلوا باقي فلسطين، وأجزاء من دول عربية أخرى سنة 1967.
قضية الصراع مع اليهود لا علاقة لها بالفرص الضائعة، فقد وافق الفلسطينيون على اتفاقية أوسلو وهي أردأ اتفاقية يمكن أن يقبل فيها فلسطيني، فهل رضت إسرائيل، واكتفت بذلك، وحرصت على تطبيق الاتفاقية التي لم ترد في حلم اليهود سنة 1947، أم ظلت الدولة العبرية تدفع في اتجاه تنفيذ مخططها القائم على تدمير الإنسان، وتواصل الاستيطان، حتى ضجر، وانفجر رأس من وقع الاتفاق مع اليهود، وقلبه انفطر.

في ذكرى يوم الأسير الفلسطيني

راسم عبيدات

.....أعداد الأسرى الفلسطينيين في زنازين وأقسام عزل سجون الاحتلال تزداد،وأعداد قائمة عمداء الأسرى تزداد،وأعداد شهداء الحركة الأسيرة يزدادون،ومع حلول ذكرى يوم الأسير،القمع بحق الحركة الأسيرة يبلغ ذروته،والهدف واضح تدمير البنى والهياكل التنظيمية للحركة الأسيرة وكسر إرادتها وتدمير معنوياتها،من أجل خلق حركة أسيرة مطواعة،حركة أسيرة مفرغة من محتواها الوطني والنضالي،حركة تعظم وتقدم المصالح الخاصة على المصالح العامة.

ويبدو أن إدارة مصلحة السجون وأجهزتها الأمنية،لا تقرأ التاريخ ولا تجارب الحركة الأسيرة الفلسطينية جيداً،فهذه الحركة الأسيرة العملاقة،قدمت تجارب رائدة في النضال والتضحيات على مذبح حقوقها ومنجزاتها ومكتسباتها،تستحق أن توثق وتعمم كتجارب عالمية،يسترشد فيها كل المناضلين من أجل الحرية،تلك التجارب دفعت ثمنها الحركة الأسيرة الفلسطينية دماء وشهداء وعزل وتعذيب وقمع ومعانيات،فكان أول شهداء معارك الأمعاء الخاوية الشهيد عبد القادر أبو الفحم في إضراب سجن عسقلان،أوائل آيار 1970،ومن بعد ذلك استشهد كل من المناضلين راسم حلاوة وعلي الجعفري في إضراب سجن نفحة/ 14/7/1980،وليتبعهما في الشهادة المناضل أنيس دوله في 31/8/1980 ومن ثم المناضل اسحق مراغة الذي استشهد على خلفية إضراب سجن نفحة(سجن الموت) في 16/11/1983،أما الشهيد حسين عبيدات فقد استشهد في الإضراب الشامل الذي نفذته الحركة الأسيرة في 27/9/1992،حيث استشهد في 14/10/1992 في سجن عسقلان،ولم تقتصر القائمة على ذلك العدد،بل تبعهم شهداء آخرون والقائمة تطول وتزداد يوماً بعد يوم.

حركة أسيرة عملاقة عمرها ثلاثة وأربعين عاماً،لديها الكثير من التجارب والخبرات المتراكمة،وخاضت كل أشكال النضال المطلبي الجزئية والإستراتيجية منها ضد إدارات مصلحة السجون الإسرائيلية،وهذه الإدارات القمعية لن تهزمها مهما أتيت من جبروت وقوة وبطش وظلم وممارسات وإجراءات قمعية وفاشية،ولن تنجح رغم كل سوداوية المرحلة من كسر إرادتها وسحق معنوياتها،والحركة الأسيرة لجأت مجدداً الى خيار الإضراب ومعارك الأمعاء الخاوية كحق مشروع وخيار نضالي وكفاحي،بعد أن استنفذت كل الطرق والوسائل في حواراتها مع إدارات مصلحة السجون الإسرائيلية،تلك الإدارات التي تراهن على أنها ستخوض معركة كسر عظم مع الحركة الأسيرة الفلسطينية،معركة تريد لها أن تلحق هزيمة قاصمة بالحركة الأسيرة الفلسطينية،بانية حساباتها الخاطئة على فشل إضراب 15/8/2004،وما نتج عنه من تداعيات لجهة تعزيز سيطرتها على السجون والمعتقلات،وسحب العديد من المنجزات والمكتسبات التي حققنها الحركة الأسيرة وعمدها الأسرى بالدماء والتضحيات،وكذلك فهي تعتقد بأن حالة الانقسام الفلسطيني،يمكن لها أن تستفيد منها في هجمتها على قلاع الأسر،ولكن هي لم تعي وتدرك بأن الحركة الأسيرة استوعبت التجربة والمعركة جيداً،لماذا وأين أخفقت في تلك المعركة؟،وهي تخوض هذه المعركة متسلحة بكل مقومات الصمود والمجابهة من عدالة القضية والمطالب وعمق الإنتماء وصلابة الإرادة وقوة المعنويات وتراص ووحدة الصفوف،ناهيك عن الثقة العالية بأن جماهير شعبها وقواه وأحزابه ومؤسساته في الخارج لن تخذلهم أبداً،وستكون المدافع الرئيس عن حقوقهم ومطالبهم عبر حركة جماهيرية ضاغطة وواسعة من اعتصامات ومظاهرات ومهرجانات وندوات ومحاضرات،تركز على ما تتعرض له من ممارسات وإجراءات قمعية وإذلالية،ممارسات محكومة ومجبولة بالحقد والعنجهية على شعبنا وأسرانا،ليس إلا أنهم فلسطينيون وطالب حق وحرية،ولا يسامون على مبادئهم،ولا يتخلون عن حقوقهم.

في ذكرى يوم الأسير،الأسير المناضل نائل البرغوثي عميد الحركة الأسيرة،والذي دخل عامه الاعتقالي الثالث والثلاثون مكلالاً بأكاليل العز والغار،يقول بأن هذه المعركة هي معركة الحسم،معركة الدفاع عن تاريخ وتراث ووجود وحقوق ومنجزات ومكتسبات الحركة الأسيرة،معركة لا مجال فيها للهزيمة والانكسار،معركة بحاجة إلى مواقف الرجال الرجال،القابضين على مبادئهم كالقابض على الجمر،في وقت تخلى فيه الكثيرون عن مبادئهم وقيمهم،وظنوا واهمين بأن هذا هو زمن المغانم لا زمن المغارم.

والقائد الفلسطيني أحمد سعدات من عزله"يطالب كافة الفصائل والقوى وجماهير شعبنا بتحرك عملي ومتواصل لتشكيل أداة ضغط على الصعيد الفلسطيني الداخلي لإغلاق ملف الانقسام وأمام التضحيات الكبيرة التي يتسابق شعبنا لتقديمها في كافة المواقع بصمود أسطوري،فإن الواجب والمسؤولية على الجميع الارتقاء لمستوى هذه البطولات وصون دماء وتضحيات شعبنا عبر خطوات عملية في مسيرة الحوار التي يجب إطلاقها من جديد بروح ومسؤولية وطنية عاليه،تليق وحجم التضحيات الفلسطينية لشعبنا الذي يرفض الاحتلال ويدافع عن كرامته وحريته وحقه" .

أما القائد مروان البرغوثي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح،فقد قال في مقابلة صحفية له من سجن هداريم وعبر محاميه خضر شقيرات"أنه مؤمن بشكل مطلق بأن شعبنا سينتصر على أبشع وأطول احتلال في التاريخ،وإننا على موعد قريب مع الحرية والاستقلال،وأضاف"أن المصالحة الوطنية ضرورة لشعبنا كما هو الماء والهواء ودعا الأخوة في حركة حماس إلى توقيع الوثيقة المصرية،ودعا الجميع للعودة إلى وثيقة الأسرى والتمسك بها،وأضاف أيضاً سندفع قدماً بالمصالحة الوطنية".

أما الأسير القائد القسامي عبدالله البرغوثي صاحب الحكم الأعلى عالمياً 67 مؤبد فقد قال لجلاديه في المحكمة"بأنه سيخرج من السجن وسيعود الى صفوف المقاومة،و"شاليط" لن يخرج سالماً،إذا لم ننل حريتنا كأسرى فلسطينيين.

في ذكرى يوم الأسير أمهات وزوجات الأسرى وكل أهاليهم،يطالبون فصائل وقوى شعبنا بأن يترفعوا ويتخلوا عن خلافاتهم،وأن يتوحدوا خلف مطالب الحركة الأسيرة،وهم يرون بأن المدخل الهام والأساس لذلك هو إنهاء الانقسام،فهو صمام الوحدة والانتصار وتقصير عمر الاحتلال.وقضية أسرانا يجب أن تصبح كالماء والهواء بالنسبة لنا كفلسطينيين،وعلينا أن لا نترك محفلاً أو مؤسسة أو منظمة أو هيئة دولية،إلا وننقل لها معانيات وعذابات أسرانا،ويجب العمل على إعداد مذكرة قانونية تفصيلية،توثق لكل الانتهاكات بحق أسرانا في مراكز التحقيق وسجون ومعتقلات الاحتلال،ورفعها إلى المحكمة الدولية من أجل جلب قادة العدو ممن يرتكبون جرائم بحق أسرانا تمهيداً لمحاكمتهم كمجرمي حرب،وليس هذا فقط بل لا بد من العمل على تدويل قضية أسرانا وطرحها على الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن،وأيضاً الطرف الفلسطيني المفاوض عليه أن يتمترس لا أن يصر فقط، بأن من جملة الاشتراطات للعودة للمفاوضات تحرير قسم جوهري من أسرانا القدماء،مع وضع جدول زمني ملزم لتحرير كل أسرى شعبنا من سجون الاحتلال ومعتقلاته.

الخميس، أبريل 15، 2010

المقاومة الشعبية شعار الإجماع الوطني

سامي الأخرس
من المتعارف عليه في العرف الثوري والكفاحي والنضالي لدى الشعوب المُحتلة أو المظلومة البحث عن السبل الأنجع والخيارات الفضل لتحقيق أهدافها في التحرير مما يقع عليها من ظلم واحتلال، وعدوان، وهو أحد الحقوق التي كفلتها التشريعات الدولية، وكذلك الأديان السماوية، حيث أن الإنسان خُلق حرًا، وبإرادة حرة.
ولذلك فإن الثورات العالمية لم تتبنى نظرية كفاحية أو تحررية واحدة، في معركتها التحررية، بل نسجت نظريتها الكفاحية والنضالية وفقًا للعديد من الاعتبارات المتعلقة بطبيعة العدو، وقدراته، وإمكانياته، وكذلك القدرات والإمكانيات الذاتية والموضوعية للقوة المناضلة، أو الشعب المحتل، وهذا لا يعتبر بدعة بل هو حقيقة ممارسة في التاريخ الثوري والنضالي.
والثورة الفلسطينية من الثورات الفريدة في التاريخ الثوري التي استطاعت أن تنسج أساليب ثورية ونضالية تتلاءم تكتيكيًا مع المراحل النضالية والسياسية، حيث طرحت الثورة الفلسطينية العديد من الشعارات ومارستها على أرض المعركة؟، فمنها ما اثبت نجاعته وحقق أهدافه، ومنها ما تم انتقاده والتعديل من تكتيكاته، وهذا ليس إخفاقًا بل هو إعادة تصويب للمسار النضالي – الكفاحي، وهو بحد ذاته يعتبر انجازًا وتعبيرًا قويًا على قدرات التصويب للعملية الكفاحية، مما يعني أن الثورة ذات عقيدة قابلة للتطوير والتصويب والتغيير، وهو شيء ذو دلالات إيجابية على التخطيط الجيد والسليم المتوافق مع الحالة النضالية.
ففي احد المراحل طرحت ثورتنا الفلسطينية شعار" ملاحقة العدو في كل مكان" وقد حقق هذا الشعار نجاحًا كبيرًا في فرض القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية، والعبور بها من بؤرة الدعاية الصهيونية كقضية إنسانية لآلاف اللاجئين إلى قضية وطنية لشعب اقتلع من أرضه، وسلبت دياره، وتم بعد ذلك تجاوز هذا الشعار بعدما حقق أهدافه، لتطرح الثورة الفلسطينية العديد من الأساليب المتنوعة في مسيرتها النضالية ومنها على سبيل المثال وليس الحصر تصفية الرموز المتواطئة مع الاحتلال عربيًا ومحليًا، وضرب المصالح الإسرائيلية الحيوية .... إلخ.
ورغم ذلك كانت كل هذه الأساليب ليست بديلًا لشعار الكفاح المسلح، ومهاجمة العدو في فلسطين المحتلة، وخوض جولات قاسية معه سواء على الساحة الفلسطينية الداخلية، أو في ساحات المواجهة الخارجية كلبنان، والأردن. إلى أن استخدمت الثورة الفلسطينية السلاح الشعبي الذي احدث صدى عالمي بعدالة القضية الفلسطينية كما حدث في انتفاضة 1987م والتي استطاعت أن تصعد بالقضية الفلسطينية إلى مصاف التعاطف الشعبي العالمي الذي كان ينحاز للدعاية الصهيونية، والإعلام الصهيوني، وكذلك لجوء الثورة الفلسطينية في مرحلة سابقة لأسلوب العمل الاستشهادي في قلب الكيان الإسرائيلي، والذي أحدث جدلًا واسعًا على الساحة الفلسطينية والعالمية، وطرح العديد من التساؤلات عن جدوى وأهمية هذا الأسلوب وضروراته الوطنية، خاصة في ظل الترويج الدعائي الإسرائيلي باستهداف المدنيين، بالرغم من أن المجتمع الإسرائيلي مجتمع عسكري التكوين والعقيدة، ورغم ذلك فإنه اعتبر أحد الأساليب الكفاحية لمواجهة العدو، وأحد أدوات العمل العسكري التي لجأ إليها الشعب الفلسطيني في مقاومته للمحتل الإسرائيلي.
وبغض النظر عن هذا الجدل السابق فإن أي ثورة في العالم تغير من تكتيكها العسكري والمسلح حسب المرحلة والزمان والميدان، وهو كما أسلفنا قوة وليس ضعفًا بالنسبة لي شعب مقاوم.
الإسهاب في الموضوع وتناول أبعاد القضية الأساسية لموضوع مقالنا ضرورة ملحة لفهم الواقعية الثورية والسياسية التي تنطوي على أي تكتيك قتالي تتبناه أي ثورة كانت، سواء ثورتنا الفلسطينية أو غيرها، وهو ليس بالشيء المستنسخ أو المبتكر، بل أحد بديهيات العمل الثوري الناجح.
أما فيما يتعلق بشعار المقاومة الشعبية الذي طرحته حركة فتح أخيرًا والذي تزامن مع إعلان حركة حماس لضرورة وقف إطلاق الصواريخ من قطاع غزة، وسماح إسرائيل بإدخال بعض السلع كالملابس والأحذية والأخشاب والألمونيوم، باعتقادي ليس مصادفة تزامنت بآن واحد، بل هو نتاج تحركات سياسية ما لم تتضح بعد، ولم تحدد معالمها، سوى ببعض التسريبات هنا وهناك بأن وفدًا من الحكومة المقالة في غزة التقى مسئولين إسرائيليين، وإن حدث فهو ليس مستغربًا في ظل حالة الحراك السياسي البطء منذ عام ونيف، هذا الحراك الذي حددت خطواته من تصريحات البيت الأبيض الداعية للمفاوضات، مع الإعلان بين الفينة والأخرى عن عمليات تجميد الاستيطان، وتدخل قطر في عملية المصالحة الفلسطينية، وكذلك إعلان حماس عن ضرورة وقف إطلاق الصواريخ لأنها تضر بالمصلحة الوطنية.
كل هذه التحولات والمناوشات – إن جازت التسمية- تأتي ضمن الشعار العريض الذي طرحته حركة فتح في هذا الوقت بالذات، ومشاركتها فيه من خلال اعتقال عباس زكي في مقاومة شعبية أو سلمية كما يحلو للبعض تسميتها، وهو شعار كما وسبق طرحت ليس بالمبتكر أو المبتدع وإنما هو فعلًا ممارس على الأرض منذ زمن بمسيرات " بلعين" ضد الجدار العنصري، ومورس في العديد من المناسبات الوطنية – ولا يزال- ولكنه طرح في هذه الآونة حسب اعتقادي كحل وسطي بين الفرقاء في حكومة رام الله والرئاسة الفلسطينية، وحكومة غزة وحركة حماس، وجاء بصورة مبهمة متدرجة لامتصاص ردات الفعل للعناصر الأكثر تمسكًا بالبندقية والعمل الفدائي وخاصة في الأجنحة العسكرية في قطاع غزة، التي لا زالت تقبض على بنادقها في حدود المسموح لها من هامش للحركة داخل مدن قطاع غزة كالعملية البطولية التي نفذتها سرايا القدس" استدراج الأغبياء".
إذن فكل المؤشرات السياسية على الأرض تؤكد أن شعار " المقاومة الشعبية" المطروح هو شعار قائم بذاته، ومنطقي بطرحه في ظل التوازنات الموجودة على الأرض، وليس إبداعًا من طارحيه، ولكنه إعادة صياغة لخلق حالة من التوافق، ألقة بكرته في مرمى حركة فتح بما إنها صاحبة المشروع السلمي، والأكثر دفاعًا وجرأة عنه، وبذلك لا يمثل حرجًا للحركة أمام الرأي العام الفلسطيني بشكل عام، وبين عناصرها بشكل خاص، بما أن الجميع يدرك أن فتح طرحت مشروعها السلمي منذ عام 1973م، ولا حرج من تبنيها لشعار" المقاومة الشعبية" التي تنضوي تحت رايته جميع الفصائل الفلسطينية دون الإعلان عن ذلك جهرًا، وهو ما يُجسد فعليًا بموافقة الفصائل الفلسطينية على وقف إطلاق الصواريخ من قطاع غزة، واقتصار المقاومة المسلحة على داخل الأراضي الفلسطينية أي بحالة الدفاع فقط، وليس الهجوم، والهدف منها امتصاص ردات الفعل الداخلية من خلال طرح شعار المصالح الوطنية، ومبدأ الربح والخسارة الذي طرح سابقًا في عهد الراحل ياسر عرفات، وبعض الشعارات المقاومة التي تتقنها جيدًا فصائلنا الفلسطينية في المهرجانات الجماهيرية، والإعلام المرئي والمسموع، وحرب البيانات. كل ذلك يأتي مع توافق إسرائيلي كامل من خلال التسهيلات المفاجئة التي بدأت تنتهجا إسرائيل مع قطاع غزة في التخفيف من حدة حصارها القاتل، وكذلك يتوقع أيضًا أن هناك مباركة مصرية وسورية على هذه الخطوات.
الحتمية الواقعية التي أخلص إليها أن شعار" المقاومة الشعبية" أحد الشعارات التي فرضتها الحالة السياسية الراهنة، وأكاد أجزم إنها حالة توافقية أجمعت عليها أطياف العمل الفصائلي الفلسطيني تحت لواء تبني حركة فتح لذلك الشعار مع ممارسة لكافة القوى الوطنية بما فيها القوى الإسلامية التي تسعي لتهيئة المناخ المناسب لتمرير ذلك، والتمكن من لجم أي محاولات للإحراج أمام الجماهير الفلسطينية وعناصرها.

الفلسطينيون ليسوا شعب الجبارين

د. فايز أبو شمالة
شعب الجبارين كان وثنياً عندما جاء النبي موسى برسالة التوحيد، فإن صدقنا بأن الفلسطينيين هم شعب الجبارين، فمعنى ذلك أن اليهود هم من سلالة أتباع النبي موسى، واليهود هم امتداد التاريخ العبري على أرض إسرائيل، وأننا نصدق بنقاء العرق، ومعنى ذلك أن يهود اليوم الغاصبين لفلسطين ليسوا تجمع عنصري، جاءوا من كل أصقاع الأرض، وبعضهم امتداد لليهود الذين عاشوا في دولة الخزر لعدة قرون قبل أن يتفرقوا في أنحاء أوروبا، وإن صدقنا بأن يهود اليوم هم امتداد للعبرانيين، ولهم التواصل مع اليهود القدماء، فمعنى ذلك؛ أن لهم حق العودة إلى أرض الآباء!.
نحن الفلسطينيين لسنا من سلالة الجبارين الذي تواجهوا في ساح الوغى مع العبرانيين، قبل أن يهزموا، ويسيطر على البلاد اليهود، نحن الفلسطينيين تزاوج التاريخ الإسلامي مع الجغرافيا العربية، ونحن امتداد للحضارة التي امتزجت من المغرب حتى العراق. وإن ادعى أحدهم: أن في هذا الكلام تبرير للفكرة الإسرائيلية التي تقول: الفلسطينيون عرب، وأمامهم أرض العرب الواسعة، والممتدة من المحيط إلى الخليج، اذهبوا، واسكنوا فيها، ولا تزاحموننا، فأنتم لستم لاجئين عن أرض فلسطين طالما جذوركم تمتد إلى هناك.
لمثل هذه الإدعاء أقول: إن وصلنا إلى هذا المستوى من النقاش، والإقناع بالحجة التاريخية، فمعنى ذلك أن الوجود الإسرائيلي قد انتهي عن هذه الديار، وذلك لأن إسرائيل فرضت نفسها بالقوة العسكرية أولاً، وليس بالحجج التاريخية والدينية التي كانت مبرراً، وثانياً: لأن الواقع الذي كان قائماً، ولما يزل، يقول: بأن فلسطين قلب بلاد العرب والمسلمين.
أما بالنسبة لشعب الجبارين الذي ورد ذكرهم في الكتب، فالبحث العلمي يجزم بأنهم قد غيروا جلدهم، وتأقلموا مع التطور الحاصل على سكان البلاد، ودخلوا في الدين الإسلامي، وتكلموا العربية، وصار وجدانهم متواصل مع أخوانهم في العقيدة واللغة والتاريخ المشترك.
ومن يصر على أن الفلسطينيين هم شعب الجبارين، أو أنهم الكنعانيون، فمعنى ذلك أن لنا جيران في شمال فلسطين هم الفينيقيون، ولنا علاقة جوار في الجنوب مع الفراعنة، ولنا احتكاك مع الشرق بالعمونيين في الأردن، والأموريين في سوريا، والأشوريين في الشرق. فهل يقبل من يطلق على الفلسطينيين شعب الجبارين هذا التمزيق، ويقول بعد ذلك: إن قضية فلسطين هي قضية العرب الأولى، فإن كانت قضية العرب فالحق يقضي أن تكون فلسطين عربية، وليست أرض الجبارين، أو الكنعانيين، لئلا نبرر للآخرين القول: أرض العبرانيين، وأرض الفينيقيين، وأرض الفراعنة، ورجال البيد، وأهل اليمن البعيد!.

سؤال كيف النهوض

صبحي غندور
مباركٌ هو كل جهد حصل ويحصل في العقود الثلاثة الماضية، على امتداد الأرض العربية وخارجها، من أجل إعادة نهضة الأمَّة العربية بعدما جرى فيها من انحدار وتراجع وكبوات على مختلف الأصعدة والمستويات.

لكن رغم كثرة الجهود التي حدثت والكتابات عن أهمية "مشروع النهضة"، فإنّ واقع الحال العربي ازداد تدهوراً ولم يخرج "المشروع النهضوي" بعدُ من حيّز التنظير إلى حال التطبيق العملي. ولعلّ السبب في ذلك لا يعود إلى كثرة التحدّيات وسوء الظروف فقط، بل إلى عدم التوافق العربي بعدُ على الأسس الفكرية لهذا المشروع النهضوي المنشود، وأيضاً، وهذا هو الأهم، إلى عدم توفّر الأطر التنظيمية السليمة لتحقيق المشروع ومتابعة تنفيذه.

وقد يكون السبب أيضاً هو في طغيان "السياسي" على "الفكري" والتنظيمي" في الجهود التي تُبذل من أجل مشروع نهضوي.

إنّ السؤال المهم الذي يتمّ تجاوزه في مسألة "المشروع النهضوي"، هو: "كيف"، بينما يحصل التركيز على أسئلة: أين؟ ماذا؟ ولماذا، وهي أسئلة تحصر المشروع في الجانب النظري ولا تُغيّر من واقع الحال العربي. وقد تجاوز "مركز دراسات الوحدة العربية"، الذي يُشرف عليه الدكتور خير الدين حسيب، هذه المعضلة مؤخّراً من خلال إصدر كتاب "المشروع النهضوي العربي" والذي تضمّن في فصله الأخير إجابة عن سؤال: "كيف" من خلال أفكار عن "آليات لتحقيق المشروع"، وهذا جهدٌ مشكورٌ طبعاً.

لكن حبّذا لو جرى الفرز أيضاً في هذا المشروع/الكتاب بين "الفكري" و"السياسي" و"التنظيمي" بحيث تكون الأولوية لبناء أرضية فكرية مشتركة ثمّ التعامل مع الجانب السياسي تبعاً لاختلاف الظروف والأمكنة.

كذلك، حبّذا لو أنّ المشروع/الكتاب قد خصّص فصلاً عن "الجيل العربي الجديد". هذا الجيل المعني أولاً وأخيراً بأيِّ "مشروع نهضوي". فهو جيل تنفيذ هذا "المشروع" وهو جيل حصاد نتائجه. فحتّى يحدث التغيير للأفضل، تكون المراهنة دائماً على الأجيال الشّابة ودورها الفاعل في صناعة المستقبل. فأيُّ جيلٍ عربي جديد هو الذّي نأمل منه إحداث التغيير؟

إنَّ " الجيل القديم" في أيّ مجتمع هو بمثابة خزّان المعرفة والخبرة الذي يستقي منه "الجيل الجديد" ما يحتاجه من فكر يؤطّر حركته ويرشد عمله. فيصبح "الجيل القديم" مسؤولاً عن صياغة "الفكر" بينما يتولّى "الجيل الجديد" صناعة "العمل والحركة" لتنفيذ الأهداف المرجوّة.

هنا يظهر التلازم الحتمي بين الفكر والحركة في أي عمليّة تغيير، كما تتّضح أيضاً المسؤوليّة المشتركة للأجيال المختلفة. فلا "الجيل القديم" معفيّ من مسؤوليّة المستقبل ولا "الجيل الجديد" براء من مسؤوليّة الحاضر. كلاهما يتحمّلان معاً مسؤوليّة مشتركة عن الحاضر والمستقبل معاً. وبمقدار الضّخ الصحيح والسليم للأفكار، تكون الحركة صحيحة وسليمة من قبل الجيل الجديد نحو مستقبل أفضل.

المشكلة الآن في الواقع العربي الرّاهن هي أنّ معظم "الجيل القديم" يحمل أفكاراً مليئة بالشوائب والحالات الذهنيّة المرَضيّة الموروثة الّتي كانت في السابق مسؤولة عن تدهور أوضاع المجتمعات العربيّة وتراكم التّخلّف السياسي والاجتماعي والثقافي في مؤسّساتها المختلفة.

فالمفاهيم المتداولة الآن في المجتمعات العربيّة هي التي تصنع فكر الجيل الجديد وهي التي ترشد حركته. لذلك نرى الشّباب العربي يتمزّق بين تطرّف في السّلبيّة واللامبالاة، وبين تطرّف في أطر فئويّة بأشكال طائفيّة أو مذهبيّة بعضها استباح العنف بأقصى معانيه وأشكاله.

وحينما يبحث بعض الشّباب العربي المعاصر عن أطر فاعلة للحركة، فلا يجدون أمامهم إلاّ جماعات تزيد في أفكارها وممارساتها من حال الانقسام بالمجتمع أو قد يدفع بعضها بالعناصر الشّابة إلى عنف مسلّح ضدّ "الآخر" غير المنتمي لهذه الجماعة أو طائفتها أو مذهبها!

فالمفاهيم الّتي تحرّك الجيل العربي الجديد الآن، هي مفاهيم تضع الّلوم على "الآخر" في كلّ أسباب المشاكل والسلبيّات، ولا تحمل أي "أجندة عمل" سوى مواجهة "الآخر". وهي بذلك مفاهيم تهدم ولا تبني، تفرّق ولا توحّد، وتجعل القريب غريباً والصّديق عدوّاً!.. فيصبح الهمّ الأوّل للجيل العربي الجديد هو كيفيّة التمايز عن "الآخر" لا البحث معه عن كلمة سواء.

مشكلة الشّباب العربي المعاصر أنّه لم يعش حقبات زمنيّة عاشها من سبقه من أجيال أخرى معاصرة، كانت الأمّة العربيّة فيها موحّدةً في مشاعرها وأهدافها وحركتها رغم انقسامها السياسي على مستوى الحكومات. مراحل زمنيّة كان الفرز فيها بالمجتمع يقوم على اتجاهات فكريّة وسياسيّة، لا على أسس طائفيّة أو مذهبيّة أو حتّى إقليميّة. لكن سوء الممارسات والتجارب الماضية، إضافة إلى العطب في البناء الدّاخلي والتآمر الخارجي، أدّى كلّه للإساءة إلى المفاهيم نفسها، فاُستبدل الانتماء القومي والوطني بالهويّات الطّائفيّة والمذهبيّة والمناطقيّة، وأضحى العرب في كل وادٍ تقسيميٍّ يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون!.

فهي فرصة هامّة، بل هي مسؤوليّة واجبة حينما نتعامل مع سؤال: "كيف النهوض؟"، أن نسعى لإصلاح الجيل العربي الجديد المعاصر من أجل بناء "نهضة عربية شاملة" ومستقبل جديد أفضل له.

صحيحٌ أنّ هناك خصوصيات يتّصف بها كلُّ بلد عربي، لكن هناك أيضاً مشاكل مشتركة بين أقطار الأمَّة العربية، وهي مشاكل تنعكس سلباً على الخصوصيات الوطنية ومصائرها. لذلك توجد الآن حاجة ماسَّة لخطاب عربي نهضوي مشترك، كما الحاجة للخطاب الوطني التوحيدي داخل الأوطان نفسها.

إنّ الحديث عن "نهضة عربية" مطلوبة يعني القناعة بأنَّ العرب هم أمَّة واحدة تتألف الآن من أقطار متعدّدة لكنّها تشكّل فيما بينها امتداداً جغرافياً وحضارياً واحداً وتتكامل فيها الموارد والطاقات. والمتضرّرون من هذه "النهضة" المنشودة هم حتماً من غير العرب ممّن يعملون، في الماضي وفي الحاضر، على تجزئة الأمَّة العربية وتشجيع الانقسامات فيها حفاظاً على مصالحهم في المنطقة.

إنّ "الكلّ العربي" هو مكوَّن أصلاً من "أجزاء" مترابطة ومتكاملة. فالعروبة لا تلغي، ولا تتناقض، مع الانتماءات العائلية أو القبلية أو الوطنية أو الأصول الإثنية، بل هي تحدّدها في إطار علاقة الجزء مع الكل.

إنّ القومية هي تعبير يرتبط بمسألة الهويّة لجماعات وأوطان وأمم، وهي تحمل سمات ومضامين ثقافية تميّز جماعة أو أمّة عن أخرى، لكنّها (أي القومية) لا تعني نهجاً سياسياً أو نظاماً للحكم أو مضموناً عَقَديّاً/أيديولوجياً. لذلك من الخطأ مثلاً الحديث عن "فكر قومي" مقابل "فكر ديني"، بل يمكن القول "فكر علماني" و"فكر ديني"، تماماً كالمقابلة بين "فكر محافظ" و"فكر ليبرالي"، و"فكر اشتراكي" مقابل "فكر رأسمالي".. وكلّها عناوين لمسائل ترتبط بنمط فكري وسياسي تصلح الدعوة إليه في أيِّ بلدٍ أو أمّة، في حين يجب أن يختصّ تعبير "الفكر القومي" فقط بمسألة الهويّة كإطار أو كوعاء ثقافي. ولذلك أيضاً، يكون تعبير "العروبة" هو الأدقّ والأشمل حينما يتمّ الحديث عن القومية العربية حتى لا تختلط مسألة الهويّة الثقافية المشتركة بين العرب مع قضايا المناهج والأيديولوجيات المتنوّعة داخل الفكر العربي ووسط المفكّرين العرب.

كذلك من المهم التمييز بين أهمّية دور الدين في المجتمع وبين عدم زجّه في مهام الدولة وسلطاتها.

إنّ السعي للنهضة يوجب أيضاً الالتزام برفض أسلوب العنف في العمل السياسي وباختيار نهج الدعوة السلميّة والوسائل الديمقراطيّة لتحقيقها.

من أجل ذلك، تتطلّب النهضة العربيّة النهوض أولاً بواقع ودور المفكّرين والمثقّفين العرب الّذين يعتقدون بالانتماء للعروبة الحضاريّة، وعندها تتكافأ صوابية الأهداف مع سلامة الأساليب ونزاهة القيادات.

الاستراتيجية الدفاعية هي استراتيجية السلام

د. فيليب سالم

مرة أخرى، تجتمع اليوم هيئة الحوار الوطني برئاسة رئيس الجمهورية للبحث في الاستراتيجية الدفاعية للبنان. واللبنانيون يعرفون، كما يعرف أقطاب هيئة الحوار، ان لبنان اليوم لا يمتلك قرار الحرب والسلم، كما لا يمتلك القدرة على تنفيذ استراتيجية دفاعية قد يتفق عليها في هيئة الحوار. لكننا نكتب هذا المقال لإيماننا بان اللبنانيين لا يزالون قادرين على حماية بلدهم وتجنب بعض الحروب التي تهدد بتدميره مجدداً، اذا هم اتفقوا على صنع ديبلوماسية ذكية تخرج لبنان تدريجا من قبضة العنف والحرب. ديبلوماسية تهدف إلى السلام. ديبلوماسية تبني استراتيجية السلام. اما "شبعنا" حروباً؟ اما آن الوقت للسلام عندنا؟ ولماذا ينعم غيرنا بالسلام والاستقرار ويعيش شعبنا من حرب إلى حرب؟ وهل هناك ارض في الأرض شهدت ما شهدته هذه الارض؟ ان أرضنا تتوق اليوم إلى السلام.
تبدأ هذه الاستراتيجية باتخاذ الحكم في لبنان قرارا مهما وشجاعا وتاريخيا، الا وهو قرار السلام. هذا يعني انه لا يكفي التمسك باتفاق الهدنة المعقود بيننا وبين إسرائيل، والتمسك بقرارات الشرعية الدولية، وقرارات الشرعية العربية، بل يجب ايضا ان ينتقل لبنان من صفة "متفرج" على صنع عملية السلام في الشرق، الى صفة شريك فاعل فيها. ويكون ذلك عندما يبدي لبنان استعداده للتفاوض مع إسرائيل، وبالتنسيق الكامل مع سوريا وبالدعم الكامل منها. انه لمن الخطأ التكتيكي والاستراتيجي ان يقدم لبنان وحده دون سوريا على مفاوضات مع إسرائيل. نحن نصر على ان تكون هذه المفاوضات ونحن جنبا الى جنب مع سوريا. ولا بـأس اذا كان الوفد المفاوض وفدا واحدا من سوريين ولبنانيين. خوفنا ان لم نكن موجودين إلى طاولة المفاوضات ان تنتهي هذه المفاوضات على حسابنا. وان نرث منها حروباً اخرى. فكما تعمل سوريا، وبكل قواها، للوصول الى التفاوض مع اسرائيل عبر تركيا او عبر الولايات المتحدة، بغية الوصول الى السلام واسترجاع الارض، كذلك يجب ان نعمل نحن ايضا للوصول الى السلام والارض. وكم مرة سأل اللبنانيون لماذا يحق لسوريا التفاوض ولا يحق ذلك للبنان؟ وقد يقول قائل، ان المشكلة تكمن عند غيرنا اذ ان اسرائيل ذاتها قد لا تريد السلام. وقد يكون هذا الكلام صحيحاً، لكن التزامنا السلام سيعطي الديبلوماسية اللبنانية زخما كبيراً ودعماً دولياً. يجب ان يتعلم لبنان الديبلوماسية الذكية من سوريا. فهي حليفة لايران وهي في حوار شامل وعميق مع الغرب. وهي رمز الممانعة والصمود في وجه اسرائيل وهي تبذل كل جهد للتفاوض معها.
ان القرارات الحاسمة في التاريخ يتخذها رجال يتصفون بالشجاعة والرؤيا البعيدة ونحن لا نفتقر الى هذا النوع من الرجال. من هذا المنطلق نتقدم من رئيس الجمهورية، وهو رمز البلاد وهو الرجل الذي نعنيه والذي يثق به معظم اللبنانيين، ونطلب منه بكل محبة واحترام الارتقاء من مرحلة التوافقية الى مرحلة القيادة. من رئيس توافقي الى رئيس قائد. من رئيس يحافظ على التوازن بين فريقين سياسيين الى رئيس يحافظ على لبنان. ان خلاص لبنان لا يتم بالتوافق وحده، بل بالقيادة الشجاعة والحكيمة.
وفي صلب استراتيجية السلام التي نطالب بها، السلام مع سوريا. فالسلام مع سوريا لن يكون فقط بإنهاء العداء لها بل بإرساء قواعد جديدة للتعامل معها بصدق واحترام. ونرجو أن تكون سوريا قد تعلمت من اخطائها في لبنان واصبحت تعرف الفارق الكبير بين حليف مستفيد منها وحليف صديق لها؛ وتعرف ايضا ان استقلال لبنان وسيادته وحريته (وهذا شعار لا يخص فريقا سياسيا واحداً فقط) هو بالنسبة إلينا "ثالوث مقدس متساو في الجوهر وغير منقسم".
ومن منطلق الصدق والاحترام هناك قضية اكثر الحاحاً من اية قضية اخرى عالقة بين لبنان وسوريا، وهي قضية "السلاح الفلسطيني خارج المخيمات". في هذا الجو العاصف والمتلبد في الشرق، صاروخ واحد "مجهول الهوية" قد يشعل حرباً مدمرة على لبنان. نحن لا نريد ان نقدم ذريعة لإسرائيل للاعتداء على لبنان. قد يكون الصاروخ "مجهول الهوية" الا ان اللبنانيين يعرفون جيدا هوية هذه الصواريخ ومن يطلقها، كما يعرفون ايضا لماذا لم ينفذ قرار "نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات" الذي اتفق عليه في هيئة الحوار. نحن نريد حواراً في العمق مع سوريا بالنسبة الى هذه القضية وان نطلب منها ضبط هذا السلاح خطوة اولى كي يتمكن لبنان من عبور هذه المرحلة الدقيقة والخطرة، ومن بعدها، مساعدتنا على نزعه.
وان كنا لم نتمكن من نزع "السلاح الفلسطيني خارج المخيمات"، فكيف يمكننا "نزع سلاح المقاومة"؟ ان عملية نزع هذا السلاح في رأينا، عملية تتخطى هيئة الحوار الوطني، كما تتخطى لبنان. انها تتطلب تسوية دولية وإقليمية. ان مفهومنا للسيادة يعني حصرية السلاح في يد الدولة وحدها لا غيرها، وان وجود السلاح خارجها يلغي تلقائيا شرعيتها، الا اننا نؤمن في الوقت عينه بان "العبور الى الدولة" يمر بمراحل عدة. فالمرحلة التي نحن فيها الان، ليست مرحلة "نزع السلاح" بل مرحلة ضبط هذا السلاح واخضاعه لقرار الشرعية اللبنانية. ان المرحلة التي نمر فيها تفرض علينا كلنا: دولة وشعبا ومقاومة الالتفاف حول الدولة ومؤسساتها، وان يكون قرار استعمال السلاح، سلاح الجيش وسلاح المقاومة في عهدة الحكومة اللبنانية، حيث للمقاومة وزراء يمثلونها. قد تكون "أحادية" السلاح غير ممكنة اليوم، لكن "أحادية" القرار يجب ان تكون واجباً وطنياً. ان اللحمة التي نتوخاها بين الدولة والمقاومة هي الحماية الحقيقية للبنان وللمقاومة معا في هذه المرحلة من تاريخ لبنان. في هذه اللحمة لا تنفرد المقاومة بقرار الحرب، ولا تقوم بعمل قد يعتبره العدو الإسرائيلي مبرراً لشن حرب على لبنان، كما حدث في حرب تموز 2006.
خمس وثلاثون سنة ولبنان يتأرجح بين الموت والحياة. خمس وثلاثون سنة مات فيها الكثيرون من أهلنا، وهاجر فيها الكثيرون. خمس وثلاثون سنة، ويبقى لبنان وحده مصلوباً في هذا الشرق. انها اللحظة التاريخية للقرارات التاريخية. وها قد تعلمنا من التاريخ ان اللحظات التاريخية قد تصنع رجالا تاريخيين. وهل هناك من رجال تاريخيين بيننا، لينقلونا من ثقافة الدمار الى ثقافة البناء، من ثقافة العنف الى ثقافة الحضارة، من ثقافة الحرب الى ثقافة السلام؟ لقد ضاقت الأرض بقبورنا.
هذا وطن انزله الله من سمائه وأعطاه شيئا من مجده. هل نستحقه؟ لا، ولكن عار علينا ان نراه يموت ويندثر. وكي يبقى لنا ولأولادنا وللأجيال القادمة وللعالم كله تعالوا نبن معا السلام. اليوم وليس غداً، تعالوا نصنع استراتيجية السلام. هذه، في رأينا هي استراتيجية الدفاع عن لبنان.
"طوبى للذين يصنعون السلام" وطوبى للذين لا يزالون يؤمنون بقيامة لبنان.

المعقول واللامعقول عند جوليان فروند

تقديم وترجمة زهير الخويلدي

"إن الكثير من الازدراءات تصدر عن السفاهة المنتشرة جدا حتى داخل الأوساط العلمية والتي تتمثل في النظر إلى الفكر على أنه مأوى المعقول والى الفعل على أنه مأوى اللامعقول. بينما اللاعقلانية هي أيضا تجري في هذه الدائرة وتلك..." جوليان فروند[1]

تقديم:

أصبحت صفة اللامعقول تهمة تستعمل في الصراع الإيديولوجي بين الأفراد وتلصق بها جميع الصفات السلبية ولذلك وظفت كمطية للإقصاء والتهميش الذي يتعرض له المناوئين والمنتقدين والمخالفين، أما كلمة المعقول فهي ترمز إلى الواقعي والحقيقي والمنطقي والموضوعي وترتبط بالعلم والمعرفة المنظمة وتحوز على قدر كبير من القيمة الإبستيمولوجية والصلاحية الأكسيولوجية. غير أن المعضلة لا تكمن في الحدين كل على جهة بل في تحديد المعايير التي بواسطتها يتم التمييز بين الطرفين ورسم الخطوط التي تفرق بين مجال الخيال والظن والعبث والوهم والفانتازيا ومجال التطابق والوحدة والكلي والحق والنظام. فهل تكفي لام النفي لنجزم بوجود تنافر بين المعقول واللامعقول؟ والى أي مدى يتقدم الفكر العقلاني بتحطيم الفكر اللاعقلاني؟ أليست الفلسفة هي حركة استكشاف متواصلة للمناطق التي لم تصلها تجربة العقلنة بعد والتي مازلنا نسميها إلى حد الآن أرض اللامعقول مثل الأسطورة والدين والتصوف؟ ألا تحتوي هذه الدوائر على قدر مخصوص من العقلانية مايزال مطمورا في رمزيتها ومنطقها الفريد؟ فهل يمكن أن نعتبر اللامعقول هو الآخر الذي ينهل منه المعقول ويمثل شرط امكانه؟

يحاول جوليان فروند في هذا النص المقتطف من كتابه الفلسفة الفلسفية أن يجيب عن هذه الاستفسارات.

النص المترجم:

"على ضوء هذه الاعتبارات نكون قد تسلحنا نسبيا بغية تقييم طبيعة العقل ومناقشة التعارض بين المعقول واللامعقول. إذ منذ اللحظة التي يكون فيها العقل ملكة معرفية فإنه يقطن الإنسان من حيث هو موهوب بالقدرة على المعرفة ولا أن يعرف حقيقة الموضوع ، والحق أن المشكل يتعقد عندما يكون موضوع المعرفة هو الإنسان نفسه بوصفه ذات عارفة. بعبارة أخرى لا يكون العالم مفكر فيه إلا إذا كنا نحن الذين فكرنا فيه. فهل سيصبح هو على هذا النحو؟ نحن لا نعرف عنه شيئا. وكل ما نقدر على معرفته هو أنه من الممكن جعله شيئا معقولا. وهذا هو أس العقل. فهو ليس البتة في متناول الوعي البسيط، من حيث أن هذا الأخير يتمثل في الإحساس الغامض على الأرجح بأن يكون حاضرا إلينا قبالة ما يجري في الواقع بالمعنى الذي يكون فيه إدراكنا مغمورا بالذكريات والانتظار.

إن العقل على العكس هو البعد النشيط الذي يحاول أن ينظم ويوجه الوعي الذي يخصنا وذلك بإنشاء الانسجام في أفكارنا والتساوق في حركاتنا. هكذا يكون حركة عقلانية للفهم أو التفسير وتحكم معقول في الوجهة. وماهو جوهري ليس أن يكون التموضع في العلاقة أمر صحيحا بل أن الوجود يبذل الجهد من أجل بلورة علاقات مقصدها التوجيه نظريا وعمليا. إن المعقول يتمثل إذن في تطبيق الفكر من أجل تحقيق الانسجام الداخلي بكل المقاييس الممكنة بين الفكر والتنوع المجهول للواقع. ببدو أنه من غير المتاح الحصول على توافق وتطابق فعليين بين الفكر والواقع لما نفترض مسافة لامنقاسة بين مفاهيمنا المتناهية (آلات ذهنية للتوافق) والانبثاقprofusion المجهول للواقع. على خلاف ذلك يتعلق الأمر بمجهود لا يكتمل أبدا ويظل محل إعادة دائما بسبب الحركات والتدخلات ذاتها للناس في مجرى الأشياء والمفاجئات السعيدة أو الكارثية التي تحدث باستمرار في الحياة التلقائية والظواهر الطبيعية.

يتمثل المعقول في المساءلة المستمرة للتوجيه الذي يخصنا بغية مصالحة اهتمامنا بالاكتشافات التي يتم إنتاجها. عندئذ ثمة أخطاء دائما ممكنة في القيادة. إذا كان الانسجام في أحكامنا والتساوق في حركاتنا غير معطيين على الإطلاق بل هما أثر الوعي المنظم بواسطة العقل – وهذا هو ما نسميه الروح- فإننا لا نقدر على فرضه بشكل عابر من الخارج، وعلى سبيل المثال رسم فصل جذري بين المعارف طالما أن الحدود تكون داخلية بالنسبة إلى حركة المعرفة ذاتها. ويتمثل خطأ المذهب العقلاني من حيث هو خليط بين المذهب العلمي والمذهب الأخلاقي في أنه يعتقد أن الحد ليس داخليا بل خارجيا ، بحيث يكفي بلوغ العلم والأخلاق مختلف الأنشطة السياسية والدينية والقضائية وغيرها حتى نجعل منها أنشطة عقلانية وتبعا لذلك نجعل عقلانيا كل ماهو واقعي. بيد أن العقلاني ليس محدودا في العلم وحده لأن التجربة والتراث والحكمة تتضمن مجهودا في العقلنة بنفس عنوان التوقع واليوتوبيا أو الاستشراف.

إن منظري الفهم في العلوم الإنسانية يعتبرون هذه الأخيرة منهجا عقلانيا في التوضيح بنفس العنوان الذي للتفسير السببي. انه ليس البتة لاعقلانيا أو يجب إذن أن نسحب من فيبر وسيمل صفة الباحيثين العلميين. إن الفهم هو حركة من العقل في خدمة المعرفة العالية وأيضا مساير بأكبر قدر ممكن مع الواقع.

على هذا النحو لقد كان فهم العقلانية على أنها منتوج العقل التنظيمي بغية جعل الواقع معقولا شغل الأساطير والسحر والكونيات والأمثولات مثل أمثولة الكهف لأفلاطون وفي الشعر وفي التصوف. إن العقل يبذل بتعتعة أو بأخرى مجهودا في كل هذه الحالات بغية انجاز تماسك في الواقع المعطى.

من هذا المنظور تظل الفيثاغورية نموذجية بالنسبة لكل التاريخ اللاحق للفكر البشري بما أنها قد جمعت في أفكارها توضيح العالم بأكثر صرامة ممكنة بفضل العدد والحساب والاعتراف بالسر الذي تم إعطاؤه من طرف التصوف الصوتي.

أيضا ربما ارتكبت العقلانية الحديثة خطآ مزدوجا عندما شبهت اللااختزالية المرتبطة بالمعرفة باللاعقلانية التي تعشش في الواقع، من جهة أخرى لقد أرادت تطهير العقل من الإثم الذي تسببت فيه كل من الأساطير والأديان. إن العقلانية ليست واحدية ولا متجانسة لأنها تتضمن درجات. لقد قلنا سلفا أن العلم وبأكثر تحديد الرياضيات تشكل الصورة الأكثر جلاء للعقلانية، والعلوم الإنسانية تضل في مرحلة متأخرة لكن دون أن تفقد الصواب بالرغم من ذلك، وتحوز الأساطير والأديان والشعر على درجات أقل بالمقارنة مع كل عقلانية علمية دون أن تكون أدنى مشروعية بالنظر إلى صنع العقل.

منذ اللحظة التي تكون فيها العقلانية متداخلة مع المعرفة فإن اللامعقول يتكون أيضا. انه يدل على التنافس بين مختلف أشكال المعرفة والمجالات التي تطبق فيها، وكل واحدة تهتم باللامعقوليات التي تقاوم إرادتها المهيمنة. إن الكثير من الازدراءات تصدر عن السفاهة المنتشرة جدا حتى داخل الأوساط العلمية والتي تتمثل في النظر إلى الفكر على أنه مأوى المعقول والى الفعل على أنه مأوى اللامعقول. بينما اللاعقلانية هي أيضا تجري في هذه الدائرة وتلك، إذا ما اعتبرناها الفكر الإيديولوجي والتصديق الحزبي والتأملات الاعتقادية.

ثمة العديد من المفكرين الذين يشعرون بعمق بتخوفات لامعقولة أكثر من الحكمة اليقظة عند العامة. من وجهة نظر سوسيولوجيا المفاهيم لا يمكننا أن نتحدث عن الصدفة إذا كان اللفظ لامعقول قد أصبح دارجا في عصر انتشار العقلانية الحديثة. لقد وجدت دلالة خلافية تقلل من الثقة تحت سياق الظلامية،وان أشكال المعرفة هي التي قد تقاوم إرادتها التسلطية.

إن ما تسعى العقلانية للدفاع عليه ليس العقل بل مفهوم خصوصي له طابع علمي وأخلاقي ، كما لو أن الأخلاق ، إذا ما تمكنا من تأسيسها علميا،تم استدعاؤها لكي توجه كل النشاطات البشرية الأخرى بالنظر إلى نوعية الهدف النبيل والحصة من العقل اللتان تتضمنهما. لو ننظر من زاوية العقلانية الحديثة فإن الجمل التي أنا بصدد كتابتها تشكل تقريظا للامعقول. لكن المذهب العقلاني ليس البتة معفى من اللامعقول، بمعنى أنه هو نفسه التي جعله يندفع بقوة.

مرة أخرى يجب العودة إلى كانط بوصفه قد مثل المثبت الأساسي للأسكاتولوجيا الحديثة تحت مصطلح مملكة الغايات المستقلة عن التبعية التي قد تنتجها التجربة في الأخلاق وبحرمان العقل العملي من امتيازه في السلطة التشريعية الكونية. بما أن الإنسانية لم تتمكن من تحقيق أهدافها فإنها يمكن أن تسمى إنسانية متحضرة وفق التمييز الذي تنجزه فكرة التاريخ الكوني الا أنها ليست إنسانية متخلقة. وتبعا لذلك لا نستكمل الأخلاق الآن وهنا عن طريق استقامة سلوكنا الخاص باحترام القواعد والعادات ، وإنما بالبحث عن تحقيق مملكة الغايات في المستقبل غير المحدد.

إن المذهب العقلاني مابعد الكانطي قد حول أيضا الأخلاقية برمتها عبر هذا الإسقاط لمملكة الغايات، ولما أصبحت التنظيمات السياسية والثقافية تطمح إلى احتكار الكرامة الأخلاقية في السياق الذي يجعلها في خدمة التحرر الشامل والمساواة التامة والعدل التكاملي والسلم الدائم والسعادة الفردية والجماعية المحصلة. ماهو هام على الأقل هو أن تكون الأفعال التجريبية التي ترنو إليها خائرة القوى ومغشوشة ومنافقة وغير نزيهة أو حتى ماكرة بشكل صريح، ومنذ اللحظة التي تعلن فيها بصريحات الكلام عن غاياتها الحميمة فإنها تكون أفعالا أخلاقية إلى أقصى نقطة. أفلا يتعلق الأمر بلاعقلانية معينة تسخر من التوافق العقلاني للمعنى المنتشر عبر الكلمات وتساوق الحركات؟

لنعود إلى الوجه المزدوج للعقلانية: الأول نظري ويتمثل في انسجام الأفكار والآخر عملي ويتمثل في تساوق الحركات. في الحالة الأولى نكون مهتمين بما نسميه عموما المنطق، منطق الحساب ومنطق اللغة أو منطق الخطاب. في موضع يفيد اللفظ الإغريقي لوغوس في الآن نفسه العقل والحساب والخطاب. كل منطق يفترض لغة وهذا ما يدل على كلمات منظمة في خطاب أو أيضا على نداء تربوي قد لا يتقيد بتفضيل صوت أو صرخات متقطعة وإنما يمفصل ما يريد لأن يعبر عنه وفق ترتيب.

إن الوظيفة الأساسية للكلام هي تسمية الأشياء بواسطة الرموز (الأعداد والكلمات أو الرسوم)، المعرفة من قيل الآخرين بوصفها تشير إلى سمات عديدة من الواقع. هذا التعيين هو بلا ريب جائز في المنطلق ولكن الاعتراف من طرف الآخرين للدلالة المقررة في الرموز يسهل ليس فقط التواصل بين الكائنات، بل وأيضا يشيد الترتيب الذي يتعالى الجواز الأصلي. إن الاعتراف هو فلسفيا سلاح ضد الجواز. إن أرسطو لم يقم سوى صورنة مبادئ انسجام الخطاب المتبلور سلفا بشكل مستقل عن تنوع اللغات ، حيث هذبها المناطقة فيما بعد أو فرقوا بدقة بينها. انه بهذا المعنى قد تحدث ديكارت عن المنطق بوصفه فن في حسن قيادة العقل الخاص به". ولم يكف هوبس عن تكرار ذلك. وبالفعل فإن العقل واللغة كذلك هما متشاركان من حيث الجوهر. إن الوعي ليس إذن عقلا في حد ذاته بل انه يصبح كذلك من حيث هو وعي متكلم ومنظم في لسان.

من هذا المنظور إن اللامعقول هو اللامنطقي الذي يهين عقلانية اللسان الدارج. لكن إننا لا نستطيع أن نؤول هذه الملاحظات في معنى اسماني،نظر لأن الألفاظ تعود في كل مرة إلى الوقائع الجزئية التي تعينها، وأيضا بإجراء تمييزات بين الأشياء التي هي أيضا تمييزات في الأفكار والمفاهيم. إن فكرة ما أو مفهوم غير مترجم إلى لفظ ينقطعان عن أن يصيرا وظيفيان بشكل عقلي. لقد أصبح المنطق بواسطة قوة الأشياء سلطة في التواصل العقلاني وآلة موجهة نحو إفحام الآخرين، ولكن ذلك متوقف على الصرامة التي يتضمنها في مبادئه التكوينية.

إذا كان العقل غير مفصول عن اللسان فإنه ليس في خدمة المنطق بل إن هذا الأخير ليس سوى الدرجة العليا للانسجام العقلاني ولكن مقطوع عن الفاعلية والتأثرية. وعندما أصبح آلة لفن الإفحام فإن الانسجام الذي كونه قد صار في خدمة العلاقات المختلفة بين الناس بغية إمدادهم بمسحة من العقلانية. انه من البديهي أن علاقات أخرى قد وجدت قبل بلورة المنطق في صورة السفسطة والجدل وأساليب أخرى من الإقناع. بعبارة أخرى لقد وقع استعادة العقلانية المنطقية عن طريق أنشطة متنوعة من أجل استخدامها كضمان.

لقد وقع تنويع المنطق العام إلى منطقيات جزئية بغية إعطاء انسجام ظاهري في الغالب إلى الخطابات التي ينتجها الفاعلون في الأنشطة البشرية المتنوعة. انه بهذا المعنى نتكلم عن المنطق في الخطاب السياسي والاقتصادي أو أيضا في التاريخ أو أيضا عن منطق التبادل ومنطق الهيمنة ومنطق الهيئة.

بيد أن كل إبداع هو تحطيمي لترتيب وفي نفس الوقت انه يشيد لترتيب آخر. إن عبقرية ماكيافيلي تجعلنا نفهم أن الإبداع يمكن أن يكون بشكل مقصود بدعة. ان المنافقين يعترفون بنجاعة النفاق. لذلك ادمج العقل المنطق في حيله بفضل تقنيات سميت نفسية حيث زادت القدرة الهائلة للميديات في نجاعتها. إن المبدأ هو بسيط. بالنظر الى أن التضايف بين اللسان والفكر والى أن الخلط في اللسان هو متضايف مع تيهان الروح فإن ما نسميه منذ اليوم معالجة الأرواح هو واحدة من الطرق التي تشوه الدلالة الشائعة للكلمات بغية المزيد من ادخل الاضطراب على منطق التناقض وتبعا لذلك على المقاومة التي تمنحها المنابع المتنوعة للعقلانية، سواء تعلق الأمر بالتجربة أو بالتراث والنقد، بفضل تراكم في المعلومات مراقبة تقريبا أو مراقبة، والتي هي في حد ذاتها وسيلة غير معلمة وفي النهاية تدفع إلى التخلي عن القدرة على التمييز.إن العقلانية هي مختنقة من عقلنة أداتية بشكل محض."[2]

فماهو المنهج الذي ستستعمله هذه العقلنة؟ وهل يمكن اعتباره منهجا عقلانيا؟

المرجع:

Julien Freund, Philosophie philosophique, Editions la découverte, Paris, 1990.



كاتب فلسفي