الثلاثاء، فبراير 26، 2008

قطار منطلق بلا هدف ويطلق الصفير الحاد ..


نبيل عودة

لم تفاجئني الردود السياسية العنيفة ، واطلاق صافرات قطاراتنا السياسية المنطلقة بلا توقف الى لا مكان ولا هدف . بات المنظر مالوفا وتقليديا . وبغض النظر عن الموضوع الجديد او المستجد ،الذي جعل قاطرتنا المندفعة تزيد من تسارعها وصفيرها الحاد . . بل ما قيمة الموضوع الذي يشحنها بالمزيد من الوقود والتسارع وقوة الصفير ؟ .. الشكل اختلط بالمضمون حتى صار الفصل بينهما ، لمن يحاول ... خيانة وتخاذل!!
الانطلاق بصفير حاد هو االقاعدة وليس الشواذ. هو المألوف وليس غير المألوف .
نحن امام احتمالين لا ثالث لهما ، اما اننا أصبحنا على يقين بالانتصار الحاسم والكامل على الأعداء ، اسوة بنصر حزب الله الألهي ، او اننا أصبحنا ، جاهلين ، وجهلة القرن الحادي والعشرين بجدارة ... نعتمد كشيوعيين من النوع الرسمي اللبناني والاسرائيلي ، وقوميين من أتباع نظام القمع في سوريا ، والباكين يتما على نظام صدام ومقابره الجماعية ، والمقيم بعضهم ، قسرا... في عاصمة المخابرات الأمريكية في الخليج ، نعتمد على سياسات السنة الالهية والانتصارات الخارقة ، بوحي من ملالي قم .. والنموذج في لبنان يفلق الحجر.
بالطبع انا لا اتحدث عن لبنان ،رغم ان مصائبنا مصدرها واحد ... انما عن الأوهام السياسية التي يعيشها من يظنون أنفسهم المقررين في سياسة واعلام الجماهير العربية في اسرائيل ، حتى لو قادونا الى خراب جديد للبصرة. او الى خروج جديد من الأندلس ، نبكيه من جديد ستة أو سبعة قرون كاملة ، حتى لا نشعر بالفراغ والملل، والحاجة الى آفاق جديدة وهواء نظيف وبدايات جديدة .
لا اريد ان اطيل مقدمة مقالي التي فرضت نفسها علي . وندخل بالموضوع الجديد – القديم ، أو القديم الجديد ، أنا لا أعرف الفرق؟

اشتد انطلاق القطار وصفيره الحاد اثر نشر صحيفة " هآرتس " خبرا كنت أتوقع ان يلفت أنظار سياسيينا من رتبة عريف حتى رتبة فريق . أما " المشير" فقد غادر الوطن " قسرا " وترك المنافسة على أشدها بين المطالبين بالمنصب الشاغر. وأصبح مشيرا للجزيرة ... وعليه ليس مستهجنا أن يعلو صراخ المنافسين ، فنحن العرب نتحول بجدارة الى ظاهرة صوتية ، وهذا ليس اكتشافا علميا جديدا ، بل واقع مأساوي يلحق بواقع الجماهير العربية في اسرائيل مآسي سابقة ومآسي قادمة ، والقادمة سرعان ما تصبح سابقة .. وهكذا دواليك... اذ ان قادتنا أقفلوا علينا الصندوق لنبقى طوع بنانهم ، عربة كارو توصلهم للكنيست ... آه ما أكبر أوهامهم !!
خبر " هآرتس " مثير حقا للنقاش والاهتمام ، ويتعلق باصدار هيئة تعرف باسم " المجلس الصهيوني في اسرائيل " ، وهو جسم تابع للمنظمة الصهيونية العالمية ، ما يمكن وصفه بوثيقة " تصور مستقبلي " للعلاقة بين المواطنين العرب في اسرائيل ودولة اسرائيل ، ويمكن القول انها وثيقة مضادة لوثيقة سبق وان صدرت برعاية لجنة المتابعة العربية اسرائيل ، واثارت في وقته نقاشا حادا في الشارع اليهودي بالأساس ، ثم تبعتها و" ثيقة حيفا " وسبقتهما وثيقتان أخريان من منظمة " عدالة " ومركز" مساواة " ويبدو لي انه ما عدا انتباه النشطاء السياسيين العرب من المستويات " العليا " لوثيقة لجنة المتابعة ، واختلفوا عليها كما هو متبع ومتوقع ، فهي لم تثر أي ردود فعل أو انتباه مميز في الشارع العربي في اسرائيل . وقد يتبين ان جماهيرنا لم تسمع بها حتى اليوم ،أي بعد نسيانها من معديها . وهذا ليس مستهجنا حين نعرف انه رغم الزعيق والرفض الكامل والشامل من أحزابنا للخدمة المدنية مثلا ، الا انه تبين ان أكثر من 60% من المواطنين العرب في اسرائيل لم يسمعوا بالموضوع . ورغم ذلك التأييد للخدمة المدنية كان صفعة مدوية لسياسة الرفض ، اذ تبين في استطلاع قام به بروفسور سامي سموحة والدكتور نهاد علي من جامعة حيفا ، ان 75% من المواطنين العرب يؤيدون ، بشكل أو بآخر ، الخدمة المدنية التطوعية ، والتي لا علاقة لها بما يشيعه كذبا المعارضون ، انها نافذة للخدمة العسكرية.


الوثيقة ( الصهيونية ) طرحت مسودة رؤية اساسية للعلاقة بين الدولة والمواطنين العرب الفلسطينيين في اسرائيل ، تعتمد على خطوط عريضة اساسية، هي ان يحافظ الجمهور العربي على الاخلاص الكامل لدولة اسرائيل ، وان يدين الأعمال الارهابية ، وان يقوم بالخدمة المدنية ، ومقابل ذلك يحظى الوسط العربي على استقلال ذاتي ثقافي وميزانيات كاملة حسب نسبة العرب في اسرائيل.
واشار معد الوثيقة موشيه بن عطار ( يشغل منصب مدير عام المجلس الصهيوني في اسرائيل ) بأن هذه هي أول وثيقة يعدها جسم صهيوني ، حول العرب في اسرائيل. وقال في تصريح لصحيفة " هآرتس" ان نقطة الانطلاق هي الحفاظ على أكثرية يهودية في دولة اسرائيل لفترة طويلة ، والاهتمام بالأقلية العربية ، باعتبار ان دولة اسرائيل هي دولة الشعب اليهودي ولكنها ملزمة باقرار المساواة في الحقوق والواجبات لكل مواطنيها.
واضاف ان الوثيقة تشكل مسودة صياغتها غير كاملة، تطرح 13 موضوعا للبحث في العلاقات بين الدولة والجمهور العربي، ، ومن ضمنها واجب الدولة لأقرار المساواة في الحقوق والواجبات لمواطنيها ، وبينها بند يدعو الدولة الى تشجيع انضمام الشباب العرب الى الخدمة المدنية ، وهو الموضوع الذي يثير خلافا واسعا ، وتعارضة القيادات العربية ... ومن معرفة أكشف لكم ان بعضهم يؤيدون ويخافون من المجاهرة ، وتحظى الخدمة المدنية بتأييد أكثرية المواطنين..

تدعو المسودة التي أعدها بن عطار لأن يحصل العرب على استقلال ذاتي ثقافي من أجل الحفاظ على هويتهم اللسانية الثقافية والقومية ، وان تقدم الدولة للعرب في اسرائيل ميزانيات مساوية لنسبتهم في الدولة ، وجاء أيضا انه يجب تعزيز مكانة المراة العربية ، والعمل على خلق جيل من القيادات العربية . ويدعو الى تجميع البدو في النقب ببلدات سكن دائمة .

المسودة ستطرح للنقاش في مؤسسات الوكالة اليهودية ، وفي اللجنة التنفيذية الصهيونية ، بهدف صياغة سياسة للمؤسسات الصهيونية حول موضوع العلاقات بين دولة اسرائيل والأقلية العربية .
ويذكر ان المنظمة الصهيونية في اسرائيل هي جسم أقيم في عام 1970 كذراع للنشاط الرئيسي للمنظمة الصهيونية العالمية ، وبهدف تقوية الأسس الصهيونية في المجتمع الاسرائيلي ، واللجنة ليست لها مكانة رسمية ملزمة في اسرائيل . انما هي هيئة مستقلة تماما. ومع ذلك من العبث تجاهل قدرتها على التدخل بتخطيط السياسة الاسرائيلية.

الموضوع أولا يستحق الانتباه وليس الصراخ واطلاق الصفير المزعج. يستحق النقاش العميق ورؤية الجوانب السلبية والايجابية في هذا الطرح غير العادي في اسرائيل.
الوثيقة تعترف بشكل غير مباشر بما كانت تنكره الحركة الصهيونية من وجود تمييز عنصري ضد الأقلية العربية. ولأول مرة تقر بضرورة الأعتراف بالحقوق الكاملة للمواطنين العرب ، وواضح انني لست من الغباء لأقول ان صيغة الحقوق الكاملة هي صيغة مطلقة ، والغاء التمييز هو عملية لا تنتهي بقرار حكومي ، انما عبر مسافة هائلة من التغييرات في المفاهيم والميزانيات والقوانين . ومع ذلك سيبقى تمييزا في الكثير من القضايا التي تتعلق بالأمن والتأهيل العلمي والتقني الهائل داخل الجيش ، خاصة في مجال " الهايتك " والتكنلوجيات الدقيقة ، وفي التمثيل السياسي والدبلوماسي وفي قضايا الأرض ، لأنهم مهما أنصفونا ، لن نحصل على كامل ما نستحقة .
الوثيقة تعترف ان الأقلية العربية ليست مؤقتة في وطنها ، انما مواطنون يستحقون استقلالا ذاتيا ثقافيا ( اوتونوميا ثقافية ) وحفاظا على لغتهم وهويتهم القومية .
الوثيقة تعترف بحق المواطنين العرب بالمساواة في الميزانيات حسب نسبتهم في الدولة .
الوثيقة ترى ضرورة تعزيز مكانة المراة العربية .
هذا ما نشر من ايجابيات في الوثيقة الصهيونية . وهي لمن لا يعلم من القيادات العربية ومطلقي صفير القطارات ، بعض المطالب التي شكلت سببا للتصادم الدموي مع السلطة في مناسبات مختلفة.
بالطبع صيغة الاخلاص للدولة غير مريحة للأذن القومجية .. وصيغة رفض الارهاب تجعلنا نفرمل بسرعة ، قبل ان نرد بصفير القطارات المزعج.
وهذان الموضوعان احتلا مساحة جوهر الهجوم على الوثيقة.
تعالوا نضع النقاط فوق الحروف .. الدمقراطية الاسرائيلية رغم ضيقها النسبي مع الجماهير العربية ، ما زالت تمدنا بمساحة واسعة للتعبير الحر عن الرأي والنقد .. بل والتحريض المنفلت أيضا !!
هل انتم ضد الاخلاص للدولة التي تحملون جنسيتها ؟
وهل باستطاعة أي تنظيم سياسي أو اجتماعي او صحيفة ، ان تقوم بدون الالتزام بهذه القاعدة الأساسية ؟
هل تقدر احزابنا على خوض معارك انتخابات الكنيست والسلطات المحلية ونقابة العمال ونقابة المعلمين ونقابة المحامين بشعارات ترفض الاخلاص للدولة وقوانينها ؟
هل يستطيع أعضاء الكنيست العرب ، ليصبحوا أعضاء في الكنيست ، ان يتملصوا من القسم القانوني بالاخلاص لدولة اسرائيل وقوانينها والدفاع عنها ؟
وهل وجود نائب رئيس كنيست عربي ، وفي ظروف معينة ، نظريا على الأقل .. قد يصبح قائما بأعمال رئيس الدولة ، هل يمكن ذلك برفض الاخلاص للدولة ؟
لا اتحدث الآن عن التمييز العنصري وعدم المساواة ، وحرمان الأقلية العربية من العديد من حقوقها المشروعة .
لا اتحدث الآن عن الجرائم التي لن نغفر لمرتكبيها ، والتي ارتكبت ضد ابناء شعبنا ، ليس في اكتوبر (2000) فقط ، أو في يوم الأرض الأول ( 1976 ) أو مقتل الشباب العرب الخمسة ( 1961 ) وليس أيضا مجزرة كفرقاسم ( 1956) ، انما جرائم ارتكبت على مدار تاريخ الدولة .. وهناك قتل أبشع من تسبيب الموت المباشر ،مثل مصادرة الأرض ، وهدم المنازل وعدم الاعتراف ببعض القرى ، ووضع التعليم العربي الصعب ، ووضع السلطات المحلية ، والبطالة الواسعة ، والاستغلال البشع في سوق العمل وخاصة وضع المراة العربية ، والحرمان من الميزانيات المناسبة ومن مناطق التطوير ، ومن المراكز الصناعية ... والقائمة طويلة .
بدل قبول الاخلاص للدولة ، ولو شكليا ، فمكره أخوك لا بطل .. هناك احتمال آخرمطروح ، ان نغادر الوطن قسرا الى بلاد الرمال على شواطئ الخليج الدافئة ، لأن الأحباء في دمشق لا يريدون استقبالنا ، يكفيهم ما عندهم .. والأردن تشترط عدم القيام بأي نشاط سياسي ( قومي ) . وعليه ، لكم أعزائي حرية الخيار السياسي .. بمنتهى الحرية والدمقراطية .. ابحثوا عن امراء يستقبلونكم بقصورهم !!
انا اخترت النضال هنا في وطني من أجل حقوقي القومية واليومية ، من أجل المساوة الكاملة في حقوقي كمواطن وكانسان.
ان ما تطرحه هذه الوثيقة ليس أمرا عاديا ، هناك سلبيات بالطبع ، نحن ندين كل عمليات الارهاب ونؤمن ان الارهاب لا ينتمي الى قومية أو دين ، بل هو شر من أي طرف يجيء ، وندين ارهاب اسرائيل كما ندين الأرهاب على المواطنين في اسرائيل أيضا. ولكننا لن ندين نضال شعبنا الفلسطيني من أجل التحرر وبناء دولته المستقلة الى جانب دولة اسرائيل . او نضال شعوب أخرى بغض النظر عن دينها وهويتها القومية. ما نرفضه هو ارتكاب الحماقات ضد المواطنين العزل ومن أي طرف كان.
بدل اطلاق الصافرات المزعجة ، هل حاول أحدكم طرح نقاش عقلاني مع معد الوثيقة ، ام ان مجرد تعبير " صهيوني " يسد الطريق على تفكيرنا السليم ؟!
هل من يستطيع ان يقول لي ما هو غير الصهيوني في هذه الدولة التي نحمل جنسيتها ، ونوصل ممثلين عن جماهيرنا الى برلمانها. ونعمل في اقتصادها ، ونحصل على ضماناتها الاجتماعية وتأميناتها الطبية ، وننفذ سياساتها التعليمية رغم انها لا تتلاءم مع تطلعاتنا ، ونتمتع بدمقراطيتها ، حين نجد الدمقراطية وسائر التأمينات والضمانات غائبة قسرا من دول أشقائنا العرب ... ويسود واقع معيشي مأساوي للجماهير العربية في العالم العربي ؟!
مجرد سؤال بسيط وربما صبياني ، هل يتوهم أحد منا ان اسرائيل ستعلن انتهاء ارتباطها بالصهيونية ؟! وهل ينتظر البعض تلك المناسبة ليبدأ في التعاطي مع السلطة حول حقوقنا؟!
هل انطلاقا من الفهم المشوه الذي نمارسه في سياستنا ، يجب ان نرفض ، كما هو متبع في الواقع ، أي محاولة ولو صغيرة ، لاقرار بعض الحقوق في المساواة ، بل ونهاجمها بكل حدة ، وبلا تفكير؟!
لا اتجاهل واقعنا الصعب . واقع مأساوي في الكثير من وجوهه ، ولكن اطرحوا بديلا يجعلنا نرى طريقا تقودنا الى ما تصبو اليه نفوسنا. ، من مساواة واقرار بالحقوق واستقلال ذاتي ثقافي والحفاظ على لغتنا وهويتنا وتطوير أوجه التعليم بكل مراحله ، وتنشيط الحياة الاقتصادية في مجتمعنا عبر الاستثمارات وفتح المناطق الصناعية وتطوير مسطحات بلداتنا التي تعاني من حصار واختناق.
هل من بديل غير التعامل مع الواقع السياسي الذي نعيشه؟!
الا اذا كنتم تحلمون بالانتصارات الألهية ، التي ستجر المأساة من جديد على لبنان وفلسطين والشعوب العربية .
بالطبع لم اتجاهل طرح موضوع " الخدمة المدنية " ، التي تشترطها الوثيقة أيضا ضمن رؤيتها المستقبلية للعلاقة بين الدولة والمواطنين العرب ، فهل سنظل نعارض الخدمة لمؤسستنا البلدية والأجتماعية والتعليمية والثقافية والصحية ، والبيئية وسلامة السير لأبنائنا وغيرها من الخدمات المدنية ، واكرر " الخدمة المدنية " دون أي تلميح أو علاقة بخدمة لها طابع عسكري ، الا اذا اعتبرنا ان عملنا في الاقتصاد الاسرائيلي ، في الصناعة والزراعة والخدمات ، ذات جانب عسكري ايضا يجب الامتناع عنه ؟!
أعتقد ان الوثيقة تستحق النقاش . طروحاتها غير مسلم بها كما هي ، ولكنها تطرح رؤية جديدة وغير تقليدية يجب الانتباه لها اذا كنا حقا نعتبر انفسنا سياسيين يهمنا مستقبل شعبنا وحقوقه ورفاهيته ، ولسنا مجرد قطار منطلق بلا توقف وبلا هدف ، ويطلق الصفير الحاد!!

نبيل عودة – كاتب واعلامي فلسطيني -الناصرة
nabiloudeh@gmail.com

ليست هناك تعليقات: