السبت، فبراير 16، 2008

من قتل «الغوغاء» في شوارع مار مخايل؟

أسعد أبو خليل
الأخبار

من قتل الغوغاء في شوارع الضاحية الجنوبية؟ من أطلق الرصاص على هؤلاء الرعاع؟ من سمح للحثالة بتلويث شوارع العاصمة بدمائهم؟ من المسؤول عن استقبال هؤلاء بصدورهم لرصاص الجيش الوطني الذي حقق إجماعاً غير مسبوق عندما دمّر مخيّماً آهلاً بالسكّان؟ من سمح لهؤلاء الغوغاء بالتظاهر ومن المعلوم أن التظاهرات الحضارية هي تلك التي تنطلق من قريطم فقط وتأتي ممهورة بختم جريدة «النهار» الرسمي. صدر تحقيق رسمي في حادث إطلاق الرصاص على مدنيّين، لكنه لم يشرح شيئاً، ولم يأتِ بجديد.
كاد أن يقول إن اللبنانيين يحبّون بعضهم بعضاً، على طريقة قول صائب سلام الشهير بأنه يخشى على اللبنانيّين من الاختناق لكثرة العناق «إذا ما تركهم الغريب» ـــــ كان هذا قبل أسابيع من اختناق مئات من اللبنانيين واللبنانيات من العناق في حرب الجبل. (بالمناسبة، هل هناك علاقة بين تسديد آل الحريري لديون المقاصد وبين التغيير الجذري في مواقف تمّام سلام أم أنها مرة أخرى «صاءبت»؟)
كاد التحقيق الرسمي في قتل المدنيين في الضاحية الجنوبية أن يقول إن ثمانية من اللبنانيين ماتوا بسبب الثلوج والأعاصير وبسبب التعليق على الأسلاك الكهربائية التي يريد رئيس الحكومة اللبنانية أن يُعلم اللبنانيين واللبنانيات أنها من أفعال طائفة واحدة لا غير. وفؤاد السنيورة بات خبيراً في العلاقات بين الطوائف عندما انكبّ على دراسة سيرة أبي مصعب الزرقاوي في السرايا الحكومية قبل أيام فقط من تحويله إلى مصلى ـــــ في سابقة لم يرتكبها قبله حتى عتاة الطائفيين في تاريخ لبنان المعاصر.
تسويغ القتل
لكن الملاحظ أنّ الخطاب السياسي في لبنان أهّل وسوّغ لعمليّة القتل في شوارع الضاحية، ولعمليّة نسيان الضحايا، حتّى لا نقول السخرية من موتهم. فقد سارعت جوقة 14 آذار الى إصدار الحكم في بيان رسمي قرأه ممثل القوات اللبنانية التي لم تكرّس تاريخها إلا للحرص على حياة اللبنانيين واللبنانيّات (بالإضافة إلى حرص شديد على علاقة التبعيّة لإسرائيل). البيان أدان الضحايا لأنهم انتموا إلى طائفة الغوغائيين.
وسام سعادة أطلق عبارة أخرى في جريدة «السفير»: ظنّ أنّه يحسن تسلّم الأمانة من خطب يبدو أنّه حفظها عن ظهر قلب لجبران تويني وبيار الجميّل (الجدّ أو الحفيد لا فرق، وهو أعلمنا أخيراً أن بيار الجميل الجدّ كان فخوراً بعروبته ـــــ كذا) عن نظرية التفوّق الجيني بين الطوائف، إذ إنه يستعمل كلمة «الدهماء»، والتي على ما يفيدنا ابن منظور في لسان العرب، تُستعمل في واحد من معانيها للإشارة إلى النياق. هو يتذاكى طبعاً، وسيصرّ أنه استعملها في معنى السواد الأعظم.
والتذاكي دارج بين اليساريين التائبين (على أعتاب قصر قريطم)، كما يتذاكى عماد فوزي الشعيبي في تحليلاته في العلاقات الدولية (وهو معروف في تحليل التذاكي على أثر صدور القرار 1559، إذ إنه شدّد على أن مجلس الأمن لم يكن يتحدث عن سوريا). واحد من إعلاميّي آل من «يحسب أن ماله أخلده» رأى أن الضحايا من «الزعران». أوصاف أكثر تهذيباً وصفتهم بـ«المشاغبين». والكلام عن النوعية والكميّة لا يقتصر على فريق واحد: فوئام وهّاب أكّد لتلفزيون «الجديد» أن المسيحيّين هم «قيمة وليسوا كميّة». إذ إن غير المسيحيّين هم كمّ فقط، أراد أن يقول.
وكان صدام حسين (من لاحظ أن الإعلام السعودي أصبح مهذباً جداً نحوه إن لم يكن متعاطفاً في إشاراته إلى الطاغية لأنهم يحتاجون إليه لأغراض التحريض المذهبي. ولهذا وصفه قائد المرابطون ـــــ فرع عائلة الحريري بأنه «شهيد»)، وهو اليوم لبنة أساسية في الخطة الأميركية ـــــ الإسرائيلية ـــــ السعودية ـــــ الدحلانية للمنطقة، يشير إلى معارضيه خصوصاً إثر الانتفاضة الشعبانية بـ«الغوغاء». كان لا يحتاج إلى تشريح للغة الكوديّة المستعملة.
عرف مستمعوه ماذا يُقصد بالعبارة، كما فهم جمهور طلابي ذات مرة ماذا عنى خطيب من نوّاب الفريق الحاكم بـ«الغنم» في إشارة إلى طائفة من الطوائف.
واستيراد خطاب صدام حسين شائع هذه الأيام، والكل يتحدث عن «الصفوية». (هل يعلم من يستخدم تعبير «الصفويّة» كسُبّة أن الحكم الصفوي (الذي فرض التشيّع بالقهر) سبق إنشاء جمهوريّة الخميني التسلّطيّة، وأن الدولة الصفويّة كانت رائدة في زمانها في تقدّمها وأن مدينة أصفهان ـــــ التي قد تكون ابتكرت قبل قرون مجمّع التسوّق المفتوح على طريقة «بفرلي هلز» ـــــ كانت بديعة عالمياً، ويروي زائر أوروبي لها أن المدينة تضمنت في عام 1666، 162 جامعاً و48 مدرسة و182 خاناً و273 حماماً عاماً؟).
التمييز العنصري
لفهم أبعاد وسياق عبارات الغوغاء والرعاع والدهماء، عليك أن تعود إلى تاريخ العلاقات بين البيض والسود في هذه البلاد. فالمستعمر الأجنبي أنشأ لبنان على أساس فصل وتمييز طائفي مستقى من تجارب الفصل والتمييز العنصري في المجتمعات الغربية.
وبناءً عليه، هناك طائفة متفوقة جينياً، وهناك طائفة، أو طوائف متدنيّة في تكوينها الجيني. هذا كان في صلب فلسفة وعد بلفور، إذ إن بلفور (الذي كان معادياً للساميّة، مثله مثل الكثير من غلاة الصهاينة في الغرب) أفتى بأن «تقرير المصير العددي» لم يكن في قاعدة قرار إنشاء الدولة اليهودية. وحق تقرير المصير العددي تناقض مع إنشاء الجمهورية اللبنانية، ومع اتفاق الطائف.
تفاهمت قيادات الطوائف والأنظمة العربية التسلطيّة الراعية على أن المواطنيّة ليست مقبولة في لبنان ـــــ مثلها مثل العلمانية التي لا ترد على الشفاه وهي تُذكر لماماً في بيانات الحزب الشيوعي اللبناني، مع أن الياس الهراوي حاول أن يسنَّ قانوناً للزواج المدني في لبنان، لكن رفيق الحريري وزعماء الإكليروس السنّي والشيعي والماروني منعوه ـــــ وإن كانت ضرورية من أجل تحقيق الديموقراطية الحقّة.
وبنيان النظام اللبناني تطلّب منذ بداية عملية الخلق الأعوج تسويغاً (مستقبليّاً) لصيغة تضع الطوائف في تراتبيّة هرميّة، من الأكثر تفوّقاً جينيّاً، إلى الأحقر، وهكذا دواليك. وعليه، كانت الطوائف الدنيا، أو كان مطلوباً منها، أن توفّر لإثبات المواطنية وللحصول على شرف الجنسية اللبنانية، خادماتٍٍ للمنازل قبل استيراد الرقيق الآسيوي إلى الشرق الأوسط.
والغجر هم في أدنى سلّم التراتبية الهرمية، وإن كانوا غيرَ مرغوبات في البيوت، وذلك بسبب انتشار التصوير النمطي عنهنّ، وعن المُشاع عن نزوع الغجر الوهمي نحو «سرقة الأطفال».
ولا يزال هذا الربط شائعاً في الشرق وفي الغرب على حدٍّ سواء. ويأتي الأكراد بعد الغجر، وكلمة «كردي» لا تزال تستعمل للتحقير في بلد ثورة الأرز والبطاطا بكزبرة. ويأتي الفلسطينيّون بعد العلويّين، ثم يأتي الشيعة بعد العلويين، وهلّم جرّا.يودّعون شهداء «الأحد الأسود» في الضاحية الجنوبيّة (وائل حمزة - إي بي أي)
وهناك من يقول إن أفقر اللبنانيين هم اليوم من السنّة (وهناك أيضاً فقراء من الموارنة، مثلما كان معادو الساميّة ينفون وجود فقراء من اليهود)، وهذا ليس بعيداً عن الصحة.
لكن ينسى هؤلاء أن تعريف الطبقة الحديث (لم يعرّف كارل ماركس «الطبقة» بصورة منهجيّة. فهو بدأ ذلك في الفصل 52 من «رأس المال» لكنه توقّف بعد صفحة ونصف الصفحة، لعلّه توقّع أن يكمل مصطفى علوش الفصل له، وخصوصاً أن اليساريّين التائبين مقتنعون (ومقتنعات) أن كارل ماركس كان سينضوي في فريق الحريري لو عاد حيّاً، وخصوصاً أنه احتقر البروليتاريا الرثة واعتبر الفلاحين مثل «كيس البطاطس») لا يعتمد على متغيّر الدخل فقط، بل هناك متغيّر «الهيبة الاجتماعية» أو ما يُسمّى بلغة علم الاجتماع «المكانة الاجتماعية»، وهي لا تتطابق كليّاً مع الدخل كما افترضت الماركسية الأرثوذكسية (أو الماركسية الميكانيكيّة، والماركسيّة البكداشيّة ما هي إلا نموذج مبتذل للماركسيّة الميكانيكيّة).
وقد يتغيّر الدخل الاقتصادي، ولا تتغيّر المكانة الاجتماعية على ما هي الحال عليه بالنسبة إلى السود (من أوساط الطبقة المتوسطة والعليا) في هذه البلاد. وتصيب العنصريّة حتى أصحاب المليارات مثل أوبرا ونفري، التي أقفل بوجهها مرة باب أحد المحال التجارية. وقد حاول عالم الاجتماع الأميركي سي. رايت. ميلز أن يطوّر تحليلاً للنخبة الحاكمة في البلاد عبر الاعتماد على مزيج من تحليل ماركس وماكس فيبر (وفيبر على ما يصرّح ثوّار الأرز كان معادياً لمقاومة إسرائيل ومن محبّذي سياحة الدعارة التي أصيبت بالضرر نتيجة إصرار بعض المخرّبين على مواجهة إسرائيل مع أن دموع السنيورة كانت ستتكفل بتحرير الجنوب والرغيف) في كتابه الهام «نخبة السلطة».
وقد برز هذا التشديد على عنصر المكانة الاجتماعية بوضوح بعد اغتيال المتظاهرين في مار مخايل، إذ إن رئيس الحكومة اللبنانية، مقلّد حميد كرزاي العربي، قدّم التعازي بوفاتهم إلى الشيخ عبد الأمير قبلان، ولحقه عدد من السياسيين. وقائد الجيش، الذي تولى ترشيحه للرئاسة وزراء الخارجية العرب إذ إن لبنان دخل مرحلة السيادة المتطوّرة في عصر البوشية، قدم التعازي لزعيمي حزب الله وحركة أمل إذ إن الضحايا يمتّون إلى طائفتهم فقط، لا لغيرهم من اللبنانيّين واللبنانيّات. فالضحايا عندما ينتمون إلى الغوغاء، خلافاً لرفيق الحريري مثلاً، لا يمتّون إلى الوطن بصلة، بل هم مختصّون بالطائفة التي إليها وحدها ينتمون.
وهذا يفسّر التجاهل السياسي والقضائي للأخبار الدوريّة عن انتحار خادمات آسيويات ومقتل عمال سوريين (والذين واللواتي يتعرضون ويتعرضن للسخرية في صفحة الجرائم في «المستقبل» بعد وفاتهم. لكن الرفيق السابق الياس زهرا ـــــ قائد اليساريّين التائبين ـــــ أخبرنا أن «المستقبل» هي جريدة «اليسار الحقيقي»). فأعضاء الطائفة المُحقَّرة هم مثلهم مثل أي جالية أجنبية.
ووليد جنبلاط، وتلميذه النجيب وائل أبو فاعور، يلاحقان أمر تملّك هؤلاء الشيعة (اللاجئون والطارئون) للأراضي في لبنان، مثلما يلاحق البطريرك الماروني (صاحب الشعار «الوطني» الشهير: «فلينتخب المسلمون الممثّلين المسلمين، ولينتخب المسيحيّون الممثّلين المسيحيّين»، لكن مجد مسخ الوطن أُعطي له، فلنصمت ولنتوقف عن المطالبة بالوثائق المتعلقة بالاتفاقية السرية في عام 1946 بين الحركة الصهيونية والبطريركية المارونية ولنتوقف عن المطالبة بإجراء تحقيق في ما جرى لأسعد الشدياق الذي كان الإكليروس يبوّل عليه كما فعل سجّانو أنور السادات) أمر تملك العرب (وخصوصاً الفلسطينيين) للأراضي في لبنان.
وترصد جريدة «النهار» الأمر بدقة وحرص شديد على الفرز والشحن الطائفي. وهي أفادت القراء بعد قتل الغوغاء في مار مخايل بأن الضابط المسؤول في الجيش هو من طائفة الغوغاء نفسها، فاقتضى التنويه. كادت الجريدة (التي قالت إبان الحرب بأن أهل الضاحية يتوالدون «كالفئران» ـــــ تُراجع مذكرات مي ضاهر يعقوب في هذا الصدد) أن تقول «غوغاء يكسّر بعضه». المفتي محمد علي الجوزو، المشغول كعادته بالتوفيق بين المذاهب الإسلامية والطوائف، نوّه ببيروت لأنها عاملت «هؤلاء» الطارئين معاملة حسنة، مثلما يعامل اللبنانيون واللبنانيات الخادمات السريلانكيات معاملة حسنة أيضاً.
وعندما قرأ سعد الحريري جملة «بيروت خط أحمر» (بعد أن شكّلها له هاني حمود، وهو يساري سابق أيضاً) عنى بها الغزاة من الغوغاء الوافدين من الجنوب والبقاع، إذ يجب أن يقفوا عند حدّهم. ومن غير «محسوبك» سعد يستطيع أن يوقفهم عند حدّهم، وخصوصاً إذا ما استعان بالجوزو، الذي يبدو أنه استقال رسميّاً من خليّة حمد؟وصاحَبَ مقتل الأبرياء من المتظاهرين سعارٌ طائفيّ حادّ.
أصوات قيادات 14 آذار، وهم جهابذة في علم الديموقراطية وخصوصاً نائلة معوّض التي اعتبرت حافظ الأسد ـــــ الذي تتهمه اليوم باغتيال زوجها ـــــ «عظيماً من عظماء تاريخ أمتنا»، وأحمد فتفت الذي كان يصف حافظ الأسد بـ«السد المنيع والحصن الكبير»، بالإضافة إلى باسم السبع الذي مشى طاووسيّاً في مسيرة «تأييد ومبايعة» لبشار الأسد جنباً إلى جنب مع رستم غزالة، تتعامل مع الحدث من باب نظريات فهم وشروح الديموقراطية.
فهم يتساءلون ببراءة شديدة: هل تسمح الديموقراطية بحرق الدواليب والاعتصام؟
الجواب هو: طبعاً. فالاعتصام هو سمة من سمات الاعتراض، وكانت أسلوباً متبعاً في حركة الحقوق المدنية في أميركا، والتي تُعدّ نموذجاً من النضال السلمي. لكن ميشال المر، عرّاب المرحلة الإسرائيلية قبل أن يتحول إلى عرّاب المرحلة السورية، وهو اليوم عرّاب مرحلة «ما بين المرحلتين»، يفيد بأن أهل المتن لا يتظاهرون لأن التظاهر «غير حضاري» ـــــ والكل ينشد الحضارة في بلد الأرز، والسفير الأميركي هو مرجع في أصول الحضارة لأن الكل في لبنان، في المعارضة وفي الموالاة، ينشد آراء وتأييد الرجل الأبيض، ويتسابق الجميع للاستشهاد بمقالة (لا تتضمن جديداً) في مطبوعة غربية فقط لأنها مكتوبة من الرجل الأبيض.
والديموقراطيات الغربية تشهد تظاهرات واعتصامات وحرقاً للدواليب. ولم يكن صدفة أن نيكولا ساركوزي وصف من قام بأعمال شغب في فرنسا بـ«الحثالة» لأن هذا يضرب على وتر العنصريّة الدفين، مثلما يستعمل عتاة العنصرية الطائفية في لبنان مصطلحات «الدهماء» و«الغوغاء» و«الهمج» و«الرعاع». لكن لبنان ليس «الماوماو» كما يردّد سمير فرنجية دائماً، ويستعمل أحياناً أسماء دول أفريقية أخرى من باب التنويع والتشكيل. والحكمة تكمن في التوكيد على التفوّق الجيني لبعض العرب، أو لبعض لبنان، إذا ما توخّينا الدقة، أو لبعض الطوائف في لبنان.
وسجعان القزي، الذي نتذكره في إعلام القوات اللبنانيّة (الذي كان يُدار «بتنسيق» إسرائيلي أثناء الحرب) أكد في برنامج تلفزيوني أن «الميزة» المارونية لن تنتقل إلى طوائف أخرى مهما صدحت تلك الطوائف بشعارات السيادة والاستقلال. ونيّال من له تعويض في واحدة من كسّارات نقولا فتوش. هكذا يُبنى الوطن: كسّارة، كسّارة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:

ليست هناك تعليقات: