السبت، أكتوبر 31، 2009

هل أنا مُطَبِّعٌ مع إسرائيل؟

د. فايز أبو شمالة
ضمن مسابقة الحملة الأهلية لاحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية أنجزت دراسة أدبية تحت عنوان "أورشليم" القدس بين وجدانين، عمدت خلالها إلى ترجمة ونشر عدة قصائد من الشعر العبري الذي قيل في مدينة القدس، وقارنت بين الشعر العبري وبين ما قيل في القدس من الشعر الفلسطيني في أكثر من مجال، وقد خطر في بالي وأنا أقوم بترجمة القصائد من العبرية إلى العربية أن أكون قد أسهم في التطبيع، ونشر الثقافة الإسرائيلية، وإدخال الفكر اليهودي إلى بيوت العرب، ولكنني وثقت أننا كأمة عربية بحاجة إلى مثل هذا اللون من جلاء الوجدان العبري، وإلا؛ كيف سنعرف أولئك القوم الذين نلتقي بهم في ساح الوغى، ويفرضون حصارهم علينا في غزة؟ وكيف سنعدُّ أنفسنا لمن لا نعرفه؟
شخصياً لن أدفن رأس المعرفة في كومة الشعارات التي بهت مضمونها، لأننا أحوج إلى معرفة اليهودي في إسرائيل كما يجب أن نعرفه، لا كما يريد لنا أن نعرفه، وهذا هو الفرق بين الترجمة عن العبرية التي تخدم سياسة التطبيع، والترجمة عن العبرية التي تكشف سوءة المطبعين، وعلى سبيل المثال، أرسل لي الشاعر اليهودي "سامي شلوم شتريت" ديوان شعره الذي طرزه بعبارات السلام، ووضع على رأسه إكليلاً أبيض، حتى راحت حمامة السلام تبني عشها بين صفحات الديوان، ولكن من يتبصر في الحمامة يكتشف أن لها مخالب من الكراهية ومنقار من الأحقاد، وهذا ما سيدركه القارئ العربي عندما يطلع على إحدى القصائد التي كتبها للفلسطينيين، ويقول فيها:
في منتصف الليل على عربة القمامة المحلية: قطط تولول بلغة البشر
ضمن قطيعين من هنا وهناك، بسيوف مُشْهرة
عيونهما تتأجج، وفي رؤوسهما أسنان بارزة قاسية
على عربة القمامة المحلية
بينهم سنتيمتر واحد من الرعب
يعلنون بضجيج صارخ: أن المخيمات جاهزة للحرب
وأنا أولول لهم بلغتهم،
ما لي ولكم يا أيها الأنذال، يا أيها المنحطّون،
سأرمي أنا قمامتي، واسفكوا أنتم دمكم من فضلكم
لدى مرور عربة القمامة المحلية
يظهر من النص حقيقة رؤية اليهودي لغير اليهود، ولاسيما للفلسطينيين الذين يتفاوض معهم، فهو سيعرض على العرب ما لديه من تسويات سياسية، ومن إغراءات مادية شخصية لكل متكسب نفعاً لدى اليهود، وسيقبل سلطة فلسطينية على بعض الأراضي المحتلة، وسيترك قادتها يتقاتلون على ما سيلقيه اليهودي إليهم من بقايا العظم، ليسفكون دم بعضهم، ويعلو مواؤهم، فهم عرب: متوحشون شرسون فوضويون تافهون منحطون أنذال أذلاء، والعرب مجموعة من القتلة تعيش على الزبالة.
فهل هذا هو التطبيع الثقافي، أم هذا فضح لوجدان اليهود الذين سعوا لتغليف حقيقتهم بحرير السلام؟ ألا يجب أن يعرف قادة العرب السياسيون، ولاسيما الفلسطينيين مع من هم يتفاوضون؟ ألا يحق للشعوب العربية أن تعرف من هو جارهم الجديد الذي يبيع عليهم السلام في سلال من ياسمين بعد أن ارتوى من دماء فلسطين؟!
fshamala@yahoo.com

الشيخُ والصبيّةُ، ومنظمة التحرير الفلسطينية

د. فايز أبو شمالة
جاءني عبر البريد الإلكتروني قصيدة بعنوان الشيخ والصبية، يقول مطلع القصيدة:
الشيخ يصبو والصَبيّة تلعبُ
والقلـبُ رغـم تماســكٍ يتقـلّبُ
الصدر منه مبشرٌ ومرحـبٌ
والصـــدرُ منها لا غرابة أرحبُ
جَمْعُ النقيضِ مع النقضِ تماثلٌ
فــي الرأي أو في رغـبة تتوثَّبُ
هي في ربيع العمر زهرُ يانعُ
رطبُ الحواشي والأمــاني أرطبُ
قالت: خريفك مورقُ بمعارفٍ
ينبوعها فيضُ ومنها أشـــربُ
قرأت القصيدة بتمعنٍ، وأعجبت من صياغتها السلسة، وتركيبتها اللغوية البسيطة، وجمال صورها الفنية، ولكن أكثر ما أعجبني فيها؛ كان فكرتها التي تخالف المألوف، وهذا ما أورد على خاطري العلاقة المشوّه بين شيخوخة منظمة التحرير الفلسطينية ومجمل مؤسسات السلطة الفلسطينية من جهة، وبين صبا الشعب الفلسطيني الذي يتجدد مع نسائم حزن الأسرى في المساء، ومع قطر ندى الشهداء كل صباح، ويتوالد على كل حاجز إسرائيلي يهين الشعب على مرأى ومسمع من قوات الأمن الفلسطينية. وعجبت كيف يحافظ الفلسطيني على شبابه مع كل فعل مقاوم، ليدفن في آخر النهار رأسه، وطاقته الإبداعية في حجر المؤسسة الفلسطينية الحاكمة التي شابت، وشاخت، وشاخ مسئولوها، وشاخ عملها، وسلوكها، وأداؤها، وصارت هرمة بمعنى الكلمة، وهي ليست بحاجة إلى تغيير أعضاء، وتنفس صناعي، وتغذية بالمحلول، وإنما بحاجة إلى ميلاد جديد بعد هذا الحمل المضني بالانقسام. ليواصل الشاعر الحوار بين منطق منظمة التحرير وبين إرادة الشعب الفلسطيني بالأبيات التالية:
قال: الرُبا ذبلت وسافر طيرها
قالت: عصافير الهوى لا تهرب
جفت حقولي والتوت أغصانها
قالت: فإني كالســحابة أسكب
للحب سلطان سأكسر سيفــه
قالت: فسـلطان الهوى لا يغلب
للحب أحكام سأمحو نصــها
قالت: فأحكام الهــوى لا تكتب
للحب مشوار طويـــل متعب
قالت: مشاوير الهوى لا تتعـب
رغم التباين بين الصبا والشيخوخة، والتناقض بين رغبة الشباب وعجز المشيب، والمسافة البعيدة بين النار التي تشب في قلب الشعب وجبال الثلج التي جثمت على أنفاس القيادة، وشلت قدرتها، فإن كرامة الشعب الفلسطيني تأتي كل ليلة إلى سرير منظمة التحرير الفلسطينية بأبهى زينة، وأصدق شهوة للمقاومة، تراوده عن نفسها، ليقول الشاعر:
وأتته في خطواتها ميعُ الصّبا
والثغرُ منها باسمُ مستعذبُ
بأناملٍ حمراء تطوي شعرها
لتريه وجهاً فيه سرٌ طيبُ
ركنت عباءتها ومالت نحوه
يا شيخ، إني للعذوبة ملعبُ
ولكن عضلات منظمة التحرير الفلسطينية لا تقوى على اللعب، لينام الشعب الفلسطيني في حضن الممثل الشرعي والوحيد بحسرته، ودموعه، وهو يدفن صباه في المرآة المعلقة على الحائط، ينظر إلى شبابه، وإلى شعره الأسود، وأنفاسه المنتظمة بالحب، والجراح، ويلتفت إلى السرير، فيرى أمامه عجوزاً فاقع الصلع، مجعد القسمات، فاقد البصر، والسمع، لا تحركه رياح التضحية لوقفة شموخ، ولا يثيره عطر الرغبة في مواجهة الظلم، يلهث، وتتناثر كلماته بلا أصداء، وهو يقول:
إني بقاع الحيرة الكبرى أغوصُ
وأنطوي، أين السبيلُ لأهربُ؟
fshamala@yahoo.com

نافذة على قطاعي ألنفط وألغاز لدولة قطر

أ. د. إميل قسطندي خوري
(مستشار إداري وخبير إقتصادي)

تعتبر دولة قطر من ألدول ألغنية بالنفط ألخام وألغاز ألطبيعي ألمسال من حيث ألكميات ألتجارية commercial quantities وألطاقة الإنتاجية production capacity. تنقسم حقول قطر ألمنتجة للنفط ألخام إلى قسمين رئيسيين: ألحقول ألبرية وألحقول ألبحرية. أهم ألحقول ألبرية هو حقل دخان الذي تم اكتشاف النفط فيه بين عامي 1939 و 1940. يتكون هذا الحقل من ثلاثة مكامن للنفط ألخام ومكمن للغاز غير ألمصاحب. بدأ إستخراج وإنتاج النفط ألخام من حقل دخان عام 1947 وتم تصدير أول شحنة من إنتاجه عام 1949. أما ألحقول ألبحرية فهي تشمل حقل ميدان محزم وحقل بو الحنين. يقع هذان ألحقلان في ألمياه الإقليمية ألقطرية وينتجان ثلاثة أنواع من ألطاقة: ألنفط ألخام وألغاز ألمصاحب وألمكثفات. أكتشف حقل ميدان محزم عام 1963، أما حقل بو الحنين فقد تم إكتشافه عام 1964 وأصبح تابعا لدولة قطر منذ عام 1969. وهنالك حقول بحرية أخرى مثل حقل ألشاهين وألخليج وألكركرة وألعد ألشرقي. أكتشف حقل ألشاهين عام 1992 ولكن ألبداية ألفعلية لإنتاج ألنفط ألخام من هذا ألحقل كانت عام 1994. وأكتشف حقل ألخليج عام 1991 بينما أكتشف حقل ألكركرة في سبعينيات ألقرن ألماضي. أما حقل ألعد ألشرقي (ألذي يقع على بعد حوالي 85 كم من ألساحل ألشرقي لقطر) فقد تم إكتشافه عام 1960 ولكن إنتاجه من ألنفط ألخام بدأ فعلياً عام 1964. ويعدّ حقل ألعد ألشرقي ألحقل ألبترولي ألثاني من حيث الإكتشاف في قطر والأول على صعيد ألمياه الإقليمية للدولة.

تعتبر شركة "قطر للبترول" من أكبر ألشركات ألعاملة في مجال إستخراج وإنتاج ألنفط ألخام في قطر. من أهم إنجازات شركة "قطر للبترول" نذكر مثلاً إنتاج ألجازولين ألخالي من ألرصاص، وإستعمال ألتكنولوجيا ألصديقة للبيئة، والإهتمام ألجاد بحل مشكلة ألنفايات ألصلبة وألسائلة بكافة أنواعها، وتحسين بيئة ألعمل وجودة ألهواء، وحماية ألطبيعةpreserving the environment من خلال دعم الأنشطة الوطنية ألمتعددة لرعاية ألبيئة (مثل ألمشاريع ألتي تعنى بتشجير مناطق الإمتياز في حقل دخان ومدينة مسيعيد ألصناعية ورأس لفان) وتطوير البنية الأساسية لهذه ألمناطق وإقامة ألمحميات ألبحرية وألبرية وترميم ألمواقع ألتراثية وألساحلية، بالإضافة إلى دعم الأنشطة ألخيرية (كالمراكز ألمتخصصة بذوي الإحتياجات ألخاصة) والأنشطة ألثقافية ألتي تقوم بها ألمراكز غير ألحكومية (كمركز أصدقاء ألبيئة مثلاً)، ناهيك عن دعم ألبحوث وألدراسات ألعلمية ألتي تعنى بتنمية ألموارد ألطبيعية natural resources والمساهمة الفاعلة في إصدار ألدراسات وألمطبوعات ومواد ألتوعية وألتثقيف ألبيئي environmental culturalization.

وفي مجال ألتسويق ألعالمي world-wide marketing للغاز الطبيعي ألمسال، تعمل دولة قطر بنشاط ملحوظ على تصدير هذا ألنوع من ألغاز إلى عدة دول مثل اليابان والهند وكوريا الجنوبية وإسبانيا وإيطاليا وبريطانيا وألولايات ألمتحدة الأميركية، وذلك من خلال إبرام عقود بيع وشراء طويلة الأجل long-term contracts. وقد قامت قطر بإجراء توسيعات كبيرة expansions لإقامة وحدات أكبر وأفضل لانتاج الغاز الطبيعي ألمسال، كما قامت بتوقيع عدة إتفاقياتagreements مع شركات نفط عالمية كبرى (مثل شركة كونوكو فيليبس وشركة إكسون موبيل) لتزويد ألسوقين الأميركي وألسوق البريطاني بحوالي 15 مليون طن سنوياً. ويذكر أن دولة قطر تصدر نحو 15 مليون طن سنوياً إلى اليابان وكوريا الجنوبية وأسبانيا والولايات المتحدة. أما صادراتها إلى الهند وأيطاليا فقد بلغت 7.5 مليون طن و 3.5 مليون طن سنوياً على ألتوالي.

تمتلك دولة قطر حزمة كبيرة من ألمقومات لجذب الإستثمارات الأجنبية. من أبرز هذه ألمقومات نذكر مثلا الإستقرار السياسي والإجتماعي للدولة socio-political stability، وتوفر مجموعة من عوامل الإنتاج factors of production أللوجستية التي تقدم مزايا نسبية للصناعات ذات الإستهلاك ألكبير للطاقة energy-intensive consumption إذ يتواجد لدى قطر أكبر حقل منفرد للغاز غير ألمصاحب في ألعالم، وتكوين جغرافي فريد من نوعه (كشبه جزيرة peninsula) ما يضيف لقطر ميزة وجود منافذ بحرية وسواحل ممتدة عبر مياه ألخليج، وتبني قطر لسياسة إقتصاد ألسوق الحر free market economy وذلك من خلال سن ألقوانين وألتشريعات legislations ألتي تدعم هذا ألتوجه الإقتصادي ألمفتوح على كافة دول العالم مثل توفير ألحوافز وألتسهيلات ألمناسبة ألتي من شأنها رفع هوامش ربحية ألشركات return on investmentعلى ألمشروعات ألتي تقام فيها، بالإضافة إلى عدم فرض أية أعباء جمركية أو قيود قانونية على ألقيام بأعمال تجارية business concerns أو إجراء معاملات وتحويلات مالية إلى خارج ألبلاد. كما أن هنالك ألعديد من الإمتيازات والإعفاءات ألعامة ألتي تمنحها قطر للمستثمر الأجنبي. فعلى صعيد الأمتيازات مثلاً، توفر قطر للمستثمرين الأجانب حرية دخول رأس ألمال وخروجه من وإلى البلاد، وحرية تحويل ألعملات الأجنبية foreign currency exchange، بالإضافة إلى الحفاظ على أسعار صرف العملات ثابتة ومستقرة. أما الإعفاءات waiversفهي تتيح للمستثمرين الأجانب أن يستوردوا كل ما يحتاجونه في إنشاء أو تشغيل أو التوسع في مشروعاتهم الإستثمارية investment projects، وإعفاء رؤوس أموالهم ألمستثمرة في قطر من ضريبة ألدخل income tax لمدة لا تزيد عن عشر سنوات من تاريخ ألبدء في تشغيل مشاريعهم، وإعفاء ألآلات وألمعدات ألمستوردة ألتي تلزمهم لإنشاء مشروعاتهم من ألرسوم ألجمركية customs tariffs، بالإضافة إلى منحهم حزمة من الإعفاءات الجمركية على واردات ألمشاريع ألصناعية من ألمواد الأولية وألمواد النصف مصنعة أللازمة للإنتاج بشرط أن لا يوجد لهذه ألمواد مثيل في الأسواق المحلية domestic markets.

وفي إطار ألتوجه الإستراتيجيstrategic direction ألحصيف ألذي تنتهجه دولة قطر لإستقطاب الإستثمارات الأجنبية للمشاركة بدور أكثر فاعلية في عملية تنويع مصادر ألدخل ألقومي national income (GNP)، حظيت ألبنى التحتية من طرق ومرافق وموانئ ووسائل إتصال بنصيب وافر من أولويات ألدولة. كما أن قطر تسمح باستيراد ألعمالة labor force أللازمة لتشغيل ألمشروعات ألقائمة على أراضيها من جميع دول ألعالم. ومن خلال قانون الإستثمار الأجنبي، تسمح قطر للمستثمر الأجنبي foreign investor بالإستثمار في جميع القطاعات الإقتصادية ألوطنية بشرط: (1) أن يكون له شريك قطري لا تقل مساهمته عن 51% من رأس المال، (2) أن تكون ألشركة ألمراد تأسيسها تابعة لأحكام قانون ألشركات ألتجارية. ويجيز ألقانون ألقطري للأشخاص غير ألقطريين بإستثمار أموالهم دون شركاء قطريين في مجالات الإنتاج ألمادي (كالصناعة وألزراعة وألتعدين) وألسياحة ومقاولات الأعمال بشرط أن تقام هذه الإستثمارات لغايات ألتنمية الإقتصادية economic development أو لتحقيق منافع عامة public benefits. أما في مجالات ألبنوك وشركات ألتأمين وشراء ألعقارات property acquisition فإنه يُحظر على الأجانب الإستثمار فيها. ويجيز القانون ألقطري أيضاً للأشخاص غير ألقطريين بإستيراد ألمواد أللازمة لمشاريعهم الإقتصادية ألتنموية بشرط أن لا تتوافر مثل هذه ألمواد في الأسواق ألمحلية. وتلتزم قطر ايضاً بعدم فرض أية قيود على إستثمار رأس المال الأجنبي فيها، وذلك رغبة منها في دعم التوجه الإستثماري الأجنبي في البلاد وتوفير فرص متكافئة من المنافسة competitiveness بين رؤوس الأموال الأجنبية ومثيلاتها من الأموال ألقطرية.
_____________________
الاستاذ الدكتور اميل قسطندي خوري
(مستشار اداري وخبير اقتصادي)
Email: dekh@myway.com
عمان- المملكة الاردنية الهاشمية

علاقات عامة لنصرة القدس

نقولا ناصر

لا يمكن طبعا إلا الإشادة بأي جهد ينصر القدس المحتلة، جهادا أو مالا أو قولا وهو أضعف الإيمان، وفي هذا السياق العام تندرج رعاية العاهل المغربي محمد السادس لملتقى القدس الدولي الذي احتضنته الرباط يومي الأربعاء والخميس الماضيين، لكن هذا الملتقى يذكر مرة أخرى بأن نصرة القدس على المستوى الرسمي عربيا وإسلاميا تكتفي هذه الأيام باستغلال مناسبات مماثلة للعلاقات العامة تكفي المؤمنين شر القتال من جهة، وتغطي على العجز الرسمي من جهة ثانية، وتساهم في امتصاص النقمة الشعبية على انعدام الفعل الرسمي من جهة ثالثة.
لذلك فإن المراقب -- ناهيك عن عرب فلسطين مسلميهم ومسيحييهم من أهل القدس وما بارك الله حولها -- لا يسعه إلا الاتفاق مع منسق اللجنة المغربية لمساندة كفاح الشعب الفلسطيني خالد السفياني الذي اعتبر الملتقى منتدى "لإجراء الحوارات وليس لاتخاذ القرارات" وطالب باجتماع لجنة القدس المنبثقة عن منظمة المؤتمر الإسلامي "لاتخاذ قرارات عملية لحماية القدس والمقدسيين"، وربما كان يأس السفياني من مؤسسة القمة العربية والإسلامية السبب وراء عدم مطالبته بانعقاد إحدى المؤسستين، بعد أن أشبعت قضية القدس حوارا حد التخمة دون أن يتمخض عن هذه الحوارات قرار واحد في الأقل يلتزم بتنفيذ واحد فقط من ركام القرارات الدولية والإسلامية والعربية والفلسطينية الخاصة بالقدس التي يتراكم الغبار عليها، دون حاجة إلى اتخاذ أي قرار جديد.

وإذا كان انعدام الفعل على الأرض لم يترك لقيادة التفاوض الفلسطيني في منظمة "التحرير" الفلسطينية مهمة سوى عدم تفويت حضور أي مناسبة علاقات عامة كمسوغ لمشاركة الرئاسة برام الله في الملتقى، فإن المراقب لا يسعه إلا التساؤل مستنكرا عن السبب الذي يدفع محمود عباس ومعه أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى ووزير خارجية السنغال ماديكي نيانغ الذي ترأس بلاده قمة منظمة المؤتمر الإسلامي وممثل الأمين العام للأمم المتحدة روبرت سري ونائب رئيس الوزراء التركي ووزراء خارجية المغرب والأردن ومصر وماليزيا وروسيا واسبانيا إلى المشاركة في الملتقى للحوار بينما لا يجدون وقتا في الظاهر لعقد اجتماع رسمي يتخذ قرارا عمليا واحدا يغني عن سلسلة من الملتقيات المماثلة.

إن من يراجع البلاغة الخطابية للرسميين العرب في الملتقى يتوهم أن المنطقة مقبلة على منعطف حاسم حول القدس، التي وصفها ممثل فلسطين في الملتقى محمود عباس، على سبيل المثال، بأنها أصبحت "عنوان المواجهة وموضوعها ومضمونها" وأن استمرار الوضع الراهن فيها يهدد باندلاع "حرب دينية"، وكمثال آخر وصفها وزير الخارجية الأردني ناصر جودة بأنها "خط أحمر" يمثل المساس به "تحديا مباشرا للأردن وأمنه وثوابته" ليخلص إلى القول إنه "لا سلام إقليميا ولا استقرار إذا لم تكن القدس هي العنوان، إلخ.

ألم يكن أجدى للدول التي شاركت في الملتقى على مستوى وزراء الخارجية أو على مستوى أرفع أو أدنى أن تعقد اجتماعا رسميا لممثليها في الرباط "يقرر" في الأقل إنشاء صندوق طوارئ يضعون فيه مساهمات أولية رمزية لإغاثة المتضررين من الانتهاكات الإسرائيلية الأخيرة ل"القانون الدولي" في المدينة المقدسة، ليتركوا "الحوار" للقيادات الدينية والسياسية غير الرسمية المشاركة في الملتقى؟

وهذا أضعف الإيمان، إذ لا أحد لا من عرب فلسطين ولا من شعوبهم يتوقع منهم "إنقاذ" القدس بعامة، ولا "القدس الشرقية العربية" التي قلصها "الاستيطان الإسرائيلي .. إلى أقل من 12 في المائة"، كما قال عبد الكريم العلوي المدغري مدير عام وكالة "بيت مال القدس" التي يرأسها العاهل المغربي والتي نظمت الملتقى بالتعاون مع "مؤسسة ياسر عرفات" الفلسطينية وتنسيق مع وزارة الشؤون الخارجية والتعاون المغربية. وكان العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني قد بادر إلى تأسيس هذه الوكالة عام 1998.

وبالرغم ن أهمية هذه المبادرة المغربية، التي ينبغي الاقتداء بها في كل بلد عربي وإسلامي، فإن الخمسين مليون درهم مغربي (حوالي نصف مليون دولار أميركي) التي أمر بها الملك محمد السادس مؤخرا لإعادة بناء كلية "الزراعة" في القدس، طبعا ضمن ال"12%" المتبقية من شرقي المدينة، هي مثال على عدم جدوى وعدم واقعية هذه المبادرة ومثيلاتها، إذ لم يبق الاحتلال الاستيطاني للمدينة أي أرض زراعية داخلها أو في محيطها يمكن أن تشجع أبناءها على دراسة الزراعة. ولو افترضنا جدلا التحاق بعض أبناء القدس للدراسة فيها فإن خريجيها لن تتاح لهم أي فرصة لتطبيق ما سيدرسونه في الضفة الغربية الفلسطينية لنهر الأردن حيث تتوفر مساحات شاسعة للزراعة، لثلاثة أسباب رئيسية الأول عزل القدس وسكانها عن الضفة مباشرة بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، والثاني أن المساحات الصالحة للزراعة في الضفة تقع ضمن المنطقة "ج" الخاضعة لسيطرة الاحتلال الكاملة حسب ذلك الاتفاق، وهي معظم مساحة الضفة التي تسيطر المستعمرات الاستيطانية اليهودية على حوالي "42%" منها والتي لم يترك الاحتلال إلا حوالي "17%" منها لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني داخل المدن حيث لا زراعة، والثالث أن الاحتلال بقرار من الحاكم العسكري منع إنشاء أي مؤسسة جامعية للتعليم الزراعي وبالتالي لن يفسح أي مجال لخريجيها بالعمل لا في القدس ولا خارجها.

قال أحد الخبراء مؤخرا إن كل سكان الضفة الغربية لن يكفوا لخدمة الحجاج والسياح الدين سيتدفقون على القدس لو تحررت، ومقاربة قضية القدس من باب التحرير هي وحدها التي يمكنها أن تعطي معنى وجدوى وواقعية للمبادرة المغربية ومثيلاتها، حتى تخرج مثل هذه المبادرات حسنة النية من شبهة كونها مجرد علاقات عامة تعفي أصحابها من مسؤولياتهم الإسلامية والعربية تجاه القدس.

لكن كل الكلمات التي ألقاها الرسميون في الرباط أكدت على مقاربة معاكسة تماما، تلخصت في التهرب من مسؤوليتهم المفترضة بمناشدة "المجتمع الدولي" التحرك من أجل "حث أطراف النزاع على التحلي بالواقعية والحكمة" و"اعتماد التفاوض والحوار باعتبارهما السبيل الأمثل لتطبيق الشرعية الدولية"، كما جاء في رسالة العاهل المغربي المضيف للملتقى إلى المشاركين فيه، لأن "فرصة السلام ما زالت قائمة" كما قال ضيفه محمود عباس، متناسين جميعهم أن الوضع الراهن في المدينة ليس إلا نتيجة لهذا النهج الذي يريح كواهل أصحابه من أعباء المسؤولية ليلقيها على عاتق المجتمع الدولي المسؤول أصلا وحتى الآن عن الوصول إلى هذا الوضع تحت مظلة وهم السلام وعمليته التي يضغط المجتمع إياه اليوم من أجل استئنافها، ومن أجل ذلك دعوا جميعهم من المضيف الملكي إلى أمين عام الأمم المتحدة بان كي-مون إلى دعم رئاسة عباس باعتباره رجل هذا النهج فلسطينيا.

لقد تزامن انعقاد الملتقى مع عرض مشروع قانون للقراءة الثانية على كنيست دولة الاحتلال الإسرائيلي يقترح تعديل القانون الأساسي لهذه الدولة لإعلان القدس عاصمة موحدة لكل "الشعب اليهودي" وليس فقط ل"دولة إسرائيل". وطالما أن الجهد العربي والإسلامي لنصرة القدس ما زال يدور في إطار العلاقات العامة، فإن المراقب يتساءل عما يمنع ملتقى القدس أو أمثاله من إعلان المدينة عاصمة "موحدة" و"موحدة" – بفتح الحاء وكسرها على التوالي -- للعرب والمسلمين، وبخاصة أن أي إعلان كهذا يصدر عن منتدى غير رسمي كملتقى القدس لن يلزم الرسميين العرب والمسلمين بأية أعباء حقيقية يحرصون جميعا على أن لا تتجاوز العلاقات العامة!

* كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*

هل يمكن أن يقود الطغاة معسكر " الممانعة "؟

صالح النعامي

حكي أن مؤذناً في أحد المساجد خرج لصلاة الصبح متأخراً وقد طلعت الشمس من مشرقها، فلما استهجن الناس صنيعه، قال مبرراً " أنا حضرت حسب الموعد، ولكن الشمس خرجت اليوم مبكراً ". حال هذا المؤذن حال بعض نجوم الفضائيات من الكتاب العرب المستعدين للي نواميس الطبيعة وقوانين الكون الثابتة، ولديهم القدرة على الافتراء على كل شئ من أجل أن يتجنبوا طرح الأسئلة الهامة والمصيرية، فيأبون تسمية الأسماء بمسمياتها الحقيقية، ولديهم ولع في خوض المعارك الوهمية، فيلوكون شعارات فارغة، ويحولون الكلمات إلى توابيت جوفاء تشحن وتفرغ بالطريقة التي يخططون لها، شعارات تغتال الحقائق، فيكسب القاموس كل لحظة كلمة، لكن الواقع يخسر تبعاً لذلك حقيقة. ومن الشعارات الجوفاء، الشعار المضلل الذي يصور العالم العربي وكأنه مقسوم إلى فسطاطي " إعتدال " و " ممانعة "، وهو تصوير فيه الكثير من المبالغة. وإن كانت الدول الدول العربية المنضوية تحت لواء " الإعتدال " هي الدول التي تتساوق مع المشروع الصهيوأمريكي، فإنه يتوجب إعادة تعريف " الممانعة "، ووضع معايير حقيقية لعضوية ناديها. أن أي دولة تدار من قبل نظام ديكتاتوري قمعي لا يمكن أن تكون ممانعة، فالديكتاتورية والطغيان هو أخطر داء يمكن أن يصيب جهاز المناعة لأي شعب أو أمة. فوجود مثل هذه الأنظمة هو الذي يوفر البيئة الخصبة لاستغوال أمريكا وإسرائيل، فهدف الديكتاتور الأسمى هو الحفاظ على كرسيه، وهو مستعد لقبول كل شئ من أجل بقاءه في الحكم. النظام الممانع هو النظام هو الذي يصون حقوق مواطنيه، لا يعتقلهم ولا يعذبهم، ولا يحاربهم في أرزاقهم دون جريرة ارتكبوها إلا لتبنيهم آراء لا تروق للطغاة. الطغاة عبيد لكراسيهم، والعبيد لا يحررون أوطاناً ولا يعزون أمة.

من يسوم شعبه صنوف العذاب لن ينتصر لحرمات شعب فلسطين التي تنتهك، فهذه الأمور لا تدخل في نطاق أولوياته، وكل ما يعني هؤلاء الأقزام هو العمل على عدم انتقال عدوى التمرد على واقع الذل إلى شعوبهم.

لقد حاكمت أمريكا وبريطانيا ليبيا ونظامها لمجرد أن مواطنين أمريكيين وبريطانيين قتلوا في حادت تحطم طائرة، في حين يسقط عشرات الآلاف من أبناء العروبة ولا يعني هذا شيئاً لأصحاب القرار من " الممانعين " و " المعتدلين ".

بعض نجوم الفضائيات لديهم فن إخراج الأسد من ذيل الغزال، وهم ذاتهم الذين يحرصون على رفع صور الطغاة في المظاهرات المنددة بإسرائيل خوفاً من غضبهم ولإعطائهم الإحساس بأنهم شئ، وهم غير ذلك.

إن كان ثمة أحد يغيظه ما تقوم به إسرائيل ضد فلسطين والفلسطينيين، فإن عليه أن يتحرك ضد مواطن التردي الكبير في واقع الأمة وهي الإستبداد والديكتاتورية التي تقتل روح الإنتماء وتطفئ العزائم. فقط الأمة الهزيلة تنبت الطواغيت، والشعوب القابلة للاستضعاف هي التي توجد الحكام المستكبرين، فالبعوض يولد في المستنقعات والغربان تحط على الجثث الميتة، والنمل يتجمع على هياكل الصراصير، كما يقول أحد المفكرين العرب.

ومن أسف أن تصنيف " الاعتدال والممانعة " لا يلقى اهتماماً لدى الصهاينة، فهاهو المفكر الإسرائيلي دورون نبو يقول " لو أن الشعب الفلسطيني انتمى لأمة غير الأمة العربية لما تجرأت إسرائيل على قمعه بهذا الشكل الوحشي ". وها هو الجنرال شلومو غازيت رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الأسبق يقول معلقاً على عقد القمم العربية " لو حدث مرة إن اقتنعت إسرائيل أن الدول العربية صادقة في عدائها لإسرائيل وجادة في نصرتها للشعب الفلسطيني لوافقت منذ زمن بعيد على الانسحاب من الأراضي الفلسطيني التي أحتلت عام 67 ". أن تحرير فلسطين يمر في ممر قصري وهام وهو تحرير الشعوب العربية من الطغيان والاستبداد، فعلى المثقفين العرب أن يخوضوا معركة تحرير شعوبهم من الطغاة " المعتدلين " و " الممانعين "، ويتوقفوا عن الحديث عن فلسطين، ويدعونا من البلاغة اللفظية الفارغة، فكما يقول الفيلسوف البريطاني برتراند راسل فإن البلاغة تتناسب عكسياً مع المنطق السليم.

فالبلاغة الفارغة جعلت الشعارات تتجسد في نقيضها تماماً. وبإسم الحرية للشعب، ألغيت الحريات الأساسية للشعوب وبإسم الأمن أنشأوا أجهزة الرعب والبطش، وباسم الثورة على الفساد أخذوا يقطعون لسان كل من ينتقد الفساد.

لن يكتب لهذه الأمة الغلبة في مواجهة إسرائيل وغيرها إلا بعد أن يتعافى جهازها المناعي الذي انهار بفعل واقع البؤس والقمع.

ارجعوا للتاريخ وانفضوا التراب عن صفحاته المشرقة والمظلمة على حد سواء ستجدون أن أمتنا لم تحقق أي انتصار على عدو خارجي في ظل وجود طغاة صغار متآمرين.

مهرجان الشقاقي الملاحظات والدلالات

حسام الدجني

رحم الله شهيدنا ومعلمنا وقائدنا ومفكرنا الشهيد فتحي الشقاقي وكل شهداء الثورة الفلسطينية في ذكرى استشهاده، والتي كان لها شكل مختلف عن سابقاتها من المناسبات، حيث خرجت غزة هاشم عن بكرة أبيها لتبايع الله ثم تبايع منهج المقاومة لأنه هو السبيل للتحرير واسترداد الحقوق المسلوبة من احتلال لا يفهم إلا لغة واحدة هي لغة الحراب.

مهرجان الشقاقي يأتي هذا العام والانقسام أصبح قاب قوسين أو أدنى، حيث إرهاصات زوال الانقسام بين شطري الوطن الواحد تلوح في الأفق، ليس لحساب المصالحة والوحدة بل ليتجسد الانفصال بين قطاع غزة المحاصر والضفة الغربية المحتلة، وذلك على خلفية المرسوم الرئاسي للسيد محمود عباس وتداعياته على النظام السياسي الفلسطيني.

مهرجان الشقاقي يأتي في وقت حرج تمر به القضية الفلسطينية، فهناك منهجان في الساحة الفلسطينية، المنهج الأول يحكم الضفة الغربية وتمثله حركة فتح، ويرى هذا المنهج أن المفاوضات خيار استراتيجي للحصول على الحقوق والثوابت، ترافقها المقاومة السلمية، ويرفض هذا المنهج خيار عسكرة الانتفاضة، ويخضع إلى ابتزاز سياسي، وينسق أمنياً مع الاحتلال الصهيوني لضرب خلايا المقاومة العاملة في الضفة الغربية من حماس والجهاد الإسلامي وغيرها.
أما المنهج الثاني ويحكم قطاع غزة ويمثله حركة حماس ويرى أن المقاومة هي الخيار الاستراتيجي لاسترداد الحقوق والحفاظ على الثوابت، ولكنه يعاني من مأزق المزاوجة بين المقاومة والعمل السياسي بعد دخوله المعترك السياسي.

جسد مهرجان الشقاقي ثقافة المقاومة التي يحياها قطاع غزة وتزداد شعبيتها يوماً بعد يوم، ولكن دون مجاملة قد يحمل مهرجان الشقاقي مجموعة من الملاحظات التي يتمنى كل غيور على منهج المقاومة أن يعمل على تحقيقها وهي:
نحن نعيش في مرحلة حرجة تحتاج إلى تكاتف كل الجهود لحماية ودعم منهج المقاومة والتحرير في مواجهة منهج الاستسلام والتفريط، لذا أطرح بعض التساؤلات المشروعة:
• أين باقي فصائل المقاومة من هذا الاحتفال؟
• لماذا لم نتعامل على أن المشاركة في هكذا احتفالات على أنها استفتاء لمشروع المقاومة الذي سلكه الشقاقي والياسين وأبو مصطفى وعرفات وغيرهم؟
• المجتمع الدولي وإسرائيل ومعهم بعض دول الإقليم يسهرون الليالي لضرب مشروع المقاومة في الشرق الأوسط، فماذا نحن فاعلين في مواجهة هذا الخطر؟
• "أكلت يوم أكل الثور الأبيض" مثل نأخذ منه عبرة واحدة انه إذا لم تتحد جهود فصائل المقاومة ومن يناصرهم، فسيذوب المشروع وستذوب المقاومة.

لا يكفي حديث القادة والنخب عن المقاومة والتحرير وعن العمليات الاستشهادية وعن ضرب الصواريخ، وعلى الأرض تربية وتعبئة حزبية مقيتة، كفى .. نحن الآن نعيش مرحلة حرجة من مراحل النضال الفلسطيني، فيجب على فصائل المقاومة العمل على توحيد الجهود وتعزيز ثقافة المحبة والتسامح والعطاء، ونشر قيم الإسلام العظيم، وتركيز الجهود في إنضاج مشروع التحرير، والعمل على تعرية كل المندسين والطارئين على قضيتنا العادلة، وتوجيه البوصلة نحو إسرائيل، لأنها هي العدو الرئيسي لفتح ولحماس وهي من اغتالت الدكتور فتحي الشقاقي...

نتمنى ان تكون ذكرى استشهاد الفارس فتحي الشقاقي، ذكرى وحدة تعيد فتح وحماس والجهاد والشعبية والكل الوطني الفلسطيني لمربع مقاومة المحتل، فعدونا كما أسلفنا لا يعرف إلا لغة الحراب.

كاتب وباحث فلسطيني
Hossam555@hotmail.com

الجمعة، أكتوبر 30، 2009

متى سنحترم حزب الله؟

سعيد علم الدين
زار البارحة عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب علي عمّار وزير الداخلية والبلديات في حكومة تصريف الأعمال زياد بارود على رأس وفدٍ من "حزب الله" أطلعه فيه على الحملة الأهلية المزمع إطلاقها تحت عنوان "النظام من الإيمان"، مؤكدا "ضرورة بسط الدولة سيطرتها وتعزيز الأمن في الضاحية وضرورة تعاون الأهالي مع القوى الأمنية".
هيهات ان يكون لهذا الكلام المعسول ذرة من الصحة والصدق والمصداقية والإيمان. كيف لا والكلام عند جماعة الحرس الثوري الإيراني من نصر الله الى عمار وجر ليس عليه جمرك.
وعلى سيرة الجمرك!
هل يدفع الحزب المتسلط على الدولة ومصلحة الجمارك جمرك على الصواريخ والأسلحة والبضائع المختلفة التي يهربها من ايران عبر الشقيقة الكبرى لهدم النظام؟
الشعب اللبناني لن تنطلي عليه هذه الخدع والأكاذيب والبروباغندا الاعلامية، وسيحترم حزب الله وسيصدق هذا الكلام المعسول فقط عندما يُقْرَنُ القول بالفعل.
والأفعال في هذا الصدد هي تسليم سلاح الحزب وباقي الميليشيات الى الدولة اللبنانية وضم عناصرها للجيش حسب الدستور وكما فعلت باقي الميليشيات وأمراء الحرب في التسعينيات بعد اتفاق الطائف الذي انهى الحرب الفوضوية وليست الأهلية.
فاللبنانيون هم ضحايا المؤامرات الخبيثة المتكالبة عليهم، وما زالوا على يد هذا الحزب المغامر المقامر بهم رهائن وضحية.
أي عندما يحترم حزب الله الدستور اللبناني وينفذ جميع بنوده كباقي اللبنانيين، وان لا يكون فوق النظام والقانون، عندها فقط سنحترم حزب الله ونعتبره لبناني ويعمل لمصلحة دولته وشعبه اللبناني .
وهكذا فقط ممكن ان تصبح الدولة أميرة برَّها وبَحرها وجوَّها وسماءها، وسيدة دارها، ومدبرة أمرها، وصاحبة قرارها، وتستطيع فرض "النظام من الإيمان" والاستقرار على ديارها، وبسط سلطة القانون على كامل أراضيها، واستعادة كامل هيبتها، وتفعيل مؤسساتها، وتطبيق ديمقراطيتها الفاعلة لمحاسبة الفساد والمفسدين في أرضها.
خاصة وان حزب الله قد تربى من تداعيات نصره الإلهي وأدمى يديه ولن يطلق طلقة واحدة على اسرائيل لتحرير قرية الغجر ومزارع شبعا، التي تحولت بعد حرب تموز الى جولان نائم آخر. عدا ان اسرائيل المدججة بأسلحتها المدمرة والتي تتصاعد تهديداتها بين فترة وأخرى للبنان تنتظر غلطة الشاطر حسن لتفتك وتدمر وتحرق وتحاصر وتحتل من جديد.
ولماذا يسكت بطل الامة نصر الله سكوت الأموات عندما يستجدي سيده رئيس النظام السوري بشار الاسد علنا المفاوضات مع العدو الإسرائيلي؟
وما يحق لسوريا وفلسطين، لماذا لا يحق للبنان ايضا؟
وعندما يطالب النظام السوري باستعادة الجولان بالمفاوضات فمن حق لبنان ان يطالب باستعادة اراضيه المحتلة بالمفاوضات ايضا.
واسرائيل هنا وكما رأينا بعد حرب تموز هي التي استجدت التفاوض مع لبنان لحل المشاكل العالقة. والدولة اللبنانية وبالأخص دولة الرئيس الكبير فؤاد السنيورة هو الذي كان يرفض عروض اسرائيل المتكررة. بينما كان حزب الله في الوقت عينه يتفاوض مع اسرائيل من وراء منديل عبر الوسيط الألماني في موضوع الأسرى.
كلام النائب على عمار المعسول هو فقط لتجميل صورة الحزب المكسورة والمحطمة، كصور الشهداء الأبرار، التي كسرها وحطمها أمام أعين العالمين وجميع العرب واللبنانيين وبالأخص البيروتيين بعد السابع من أيار، الذي ارتكبه هذا الحزب الغدار بوحشية توصف ودون وازع واخلاق وقيم ودين وانذار، لإخراج جيش الاحتلال الاستكباري الأمريكي من عائشة بكار، وقطع دابر الفتنة الكبرى التي أشعلتها يدي المرشد خامنئي بالمنشار.
ولأن هذا الكلام المعسول هو ايضا لتخدير الرأي العام والمغرر بهم من السذج والعوام جماهير الحزب المقاوم فقط لعدم قيامة الدولة اللبنانية السيدة الديمقراطية العربية المستقلة ومؤسساتها الشرعية الدستورية.
ولأن هذه الدويلة المزروعة من قبل ملالي ايران في قلب النظام هي نقيضه وتعمل جاهدة على تقويضه بعد التجربة المرة المريرة وبالعين المجردة الدامعة الباكية على مقتل برئ تحت عين الشمس على يد ميليشيات هذه الدويلة المنافقة، وعلى مرأى من كل اللبنانيين تدعم ذلك الوقائع والتواريخ والشواهد والقرائن والبراهين وما ارتكبه هذا الحزب الدخيل من جرائم وبشائع واعمال خطف واغتيال هو وحلفائه بحق المواطنين المسالمين لتحرير القدس من الصليبيين.
ولأن هذه الدويلة القابعة بالإرهاب والقوة والتسلط والقمع على صدر اللبنانيين هي التي تعمل ومنذ عام 2005 على تقويض هذا النظام. فهي التي تحركشت بإسرائيل فدمرت الأخرى لبنان، وهي التي أغلقت البرلمان أكثر من سنة ونصف، وهي التي عطلت انتخاب رئيسا للبلاد اكثر من نصف سنة، وهي التي احتلت بيروت العزلاء وحاولت احتلال الجبل وسلحت وشجعت ما يسمى سرايا الدفاع عن المئاومة للقيام بتعديات على المواطنين الآمنين، وهي التي حمت وما زالت تحمي كل الميليشيات اللبنانية الفلسطيسورية كالقيادة العامة وفتح الانتفاضة وغيرها، وهي التي تحولت الى سرطان وبائي خبيث يعمل وبتوجيه وتمويل ايراني على شراء بعض ضعاف النفوس من اللبنانيين وشل المؤسسات الدستورية اللبنانية لكي ينهار النظام وينهار معه الإيمان.
ولأن دويلة ولاية الفقيه الإيرانية في لبنان لو تحترم هذا "النظام من الإيمان" لقبلت بنتيجة الانتخابات وتركت الفائزين يشكلون الحكومة بحرية وحسب فلسفة هذا النظام الديمقراطي الحر وفي كل دول العالم: أي أكثرية تحكم ومعارضة تعارض. وكما هي الحال في لبنان منذ العشرينيات.
وعندما تجلس الأكثرية والأقلية في الحكومة والبرلمان، عندها وعلى الديمقراطية والنظام البرلماني والمحاسبة والشفافية السلام.
ولهذا وسياقا على ما اسلفنا اذا رفعت ميليشيات هذا الحزب شعار النظام اللبناني الديمقراطي من الإيمان، وكأنها تعترف بأن دويلة حزب الله الميليشاوية المسلحة بالصواريخ القابعة على صدر هذا النظام من الكفر.
والإيمان والكفر لا يلتقيان الا في نظام ملالي ايران. ومنذ ايام قال الإصلاحي الإيراني الشيخ مهدي كروبي رئيس البرلمان الإيراني السابق أن "ايران ليست دولة اسلامية".
فماذا يعني ذلك سوى استغلال اسم دين الاسلام الوسطي المعتدل للهيمنة على العالم العربي؟
وماذا يعني ذلك سوى استغلال الإيمان والمؤمنين لقمع الشعب وقتل المتظاهرين المسالمين بأيدي حرس نظام الكفر في ايران؟
وكما هو معروف لكل اللبنانيين ففي مناطق نفوذ الدويلة ان كان في البقاع او الضاحية او الجنوب لا تستطيع القوى الأمنية النظامية الشرعية اللبنانية القيام بأي عمل لوقف التعديات على الأملاك العامة، أو القبض على أي مطلوب للعدالة، أو ملاحقة أي مجرم او قاتل او لص او حرامي او سارق او نشال او محتال إلا بعد أخذ الإذن من ميليشيات دويلة حزب الله.
فما هو هذا الكفر بالنظام عندما يدجل النائب عمار على اللبنانيين بالقول "النظام من الايمان"؟
وفقط في مناطق نفوذ الدويلة تتعرض أفراد وضباط القوى الأمنية النظامية الشرعية اللبنانية وبالأخص قوى الأمن الداخلي الى الضرب والإهانة والشتم وتكسير سياراتهم ومنعهم من تطبيق القانون وأحيانا التعرض لهم من دون سبب.
وفقط في مناطق نفوذ الدويلة وحلفائها من الميليشيات تنغل جواسيس اسرائيل وتفخخ السيارات للاغتيالات وتتكاثر المربعات الخارجة على سلطة الدولة ومعها الزعران والمجرمين الخارجين عن سلطة النظام.
ودليلنا على فوضى دويلة حزب الله ما حدث في "حي ماضي" في بيروت تزامنا مع كلام النائب عمار حيث وقع عند الخامسة من عصر الخميس 29 اكتوبر إشكال عند جسر الصفير تطور كالعادة في مناطق نفوذ الحزب إلى إطلاق نار.
وعلى الفور تدخلت مجموعة من أمن "حزب الله" وطوّقت مكان الإشكال حيث ساد توتر شديد أفضى تدخلاً عاجلا من اللجنة الأمنية المشتركة بين دويلة "أمل" ودويلة "حزب الله" ترافق ذلك مع تدخل لقوة منزوعة السلاح من الجيش اللبناني، وتم فضّ الإشكال حسب نظرية الأمن بالتراضي دون تسليم أيّ من المشاركين في إطلاق النار والمخلين بالنظام إلى الجيش اللبناني.
حقا يا علي عمار إذا كان النظام من الإيمان فدويلة حزب الله من الكفر!
ولن نحترم هذا الحزب الخارج عن القانون والنظام، ولن نحترم كلامه ، الا عندما يحترم عقول اللبنانيين، وينصاع لنظامهم، وينفذ بنود دستورهم، وبالاخص الطائف.
وإلا فهو دويلة ايران في قلب دولة لبنان!

من وين أجيب هويه ..؟؟

راسم عبيدات

......الاحتلال الإسرائيلي يتعامل مع كل أبناء شعبنا على أنهم قنابل مؤقتة،وهذا الاستهداف لا يفرق بين صغير وكبير،بين طفلة بعمر الورود أو شيخ طاعن في السن،وليس هذا فقط،بل هذا الاحتلال بشع ومتوحش ومتجرد من كل معاني الإنسانية ويساهم في قتل تلك الإنسانية،ولعل من يسمع حكاية الطفلة "جمانة" بنت الأسير علاء أبو جزر من مدينة رفح،يدرك هول وحجم المأساة التي يعيشها شعبنا الفلسطيني،ويدرك لماذا أطفالنا يكبرون قبل أوانهم ولا يعيشون طفولتهم،وكذلك فمأساة ومعاناة الطفلة جمانة هي تجسيد لمأساة ومعاناة الكثيرين من أطفال شعبنا وبالذات أطفال الأسرى منهم،فالطفلة جمانة في الصف الثالث الابتدائي من سكان رفح والتي كانت بعمر الورود وقت اعتقال والدها حيث لم تتجاوز الست سنوات،ولم يقف القدر عند اعتقال والدها علاء أبو جزر،بل طال القدر الحضن الدافىء الذي سيعوضها عن غياب والدها فتوفيت أمها جراء حزنها على زوجها الأسير وعانت جمانة معاناة حولت قلبها الطفولي الى قلب بأواخر الستينات.فهي تحرم من زيارة والدها الأسير لكونها لا تحمل هوية،ولكم أن تتخيلوا كم هذا الاحتلال حاقد ومشبع بالعنصرية والمعاداة لكل معاني الإنسانية،فأي خطر ستشكله طفلة بعمر الورود على أمن دولة الاحتلال من خلال زيارتها لوالدها،وخصوصاً إذا ما علمنا أن كل الزيارات للأسرى تتم من خلف الزجاج ومن خلال الحديث بالهاتف المراقب والذي يعد على الأسير وزائريه من الأهل الأنفاس ويمنعهم من التعبير بشكل حر عن مشاعرهم وعواطفهم،ويحرم الأطفال ليس من احتضان آبائهم بل مجرد لمسهم.

ومثل هذه المأساة تتكرر ليس مع أطفال الأسرى،بل مع أبائهم وأمهاتهم،فأمهات وآباء تجاوزت أعمارهم السبعين عاماً،يحرمون من زيارة أبنائهم،تحت هاجس وذريعة الأمن،وتصورا أن أسير فلسطيني منذ ستة عشر عام محروم من زيارة الأهل تحت هذا البند والعنوان،وليس هذا فقط،بل أباء وأمهات حرموا ويحرمون من زيارة أبنائهم في السجن،لأن الاحتلال يدعي أن عليهم إثبات أبوتهم وأمومتهم لأبنائهم الأسرى،رغم كل الأوراق الثبوتية التي تثبت صلة القرابة بأبنائهم الأسرى.

ومن معاناة الطفلة جمانة ومعانيات أطفال كل أسرى شعبنا،نريد أن نسأل كل كل ما يسمى بدعاة حقوق الإنسان والمتشدقين بالدفاع عن حقوق الطفل،أليس حرمان أطفال بعمر الورود من طفولتهم،ومن احتضان أبائهم وأمهاتهم،جرائم ترتقي الى مستوى جرائم الحرب،أم أن الانتقائية وازدواجية المعايير تطال حتى الأطفال أنفسهم يا أبناء الغرب"المحترمين"،ونحن وأطفالنا مجرد نجس شرقي.؟

إن مأساة ومعاناة الطفلة جمانة،يجب أن تكون درساً وحافزاً للطرف الفلسطيني المفاوض والسلطة الفلسطينية وكل ألوان الطيف السياسي الفلسطيني،وكذلك الفصائل الآسرة للجندي الإسرائيلي "شاليط"،بأن ملف الأسرى يجب أن يغلق،قبل أي توقيع للاتفاقيات مع الاحتلال،فهذا الملف جرح نازف في الجسد الفلسطيني،وعلى درجة عالية من الأهمية،فهناك الكثير من الأسرى،دخلوا سجون الاحتلال،وتركوا خلفهم أطفالهم والذين كبروا وتزوجوا وخلفوا أطفال،أي أصبح أبائهم في سجون الاحتلال أجداداً،ناهيك عن العديد من الأسرى الذين رحل أبائهم وأمهاتهم عن هذه الدنيا دون أن يتمكنوا من إلقاء نظرة الوداع عليهم أو احتضانهم،وهل المطلوب الانتظار حتى يتحول أسرانا في سجون الاحتلال وزنازينه ( قبور الأحياء) من شهداء مع وقف التنفيذ الى شهداء فعليين؟ فشهداء الحركة الأسيرة جاوزا 196 أسيراً،وهناك العشرات من الحالات المرضية من الأسرى والذين يعانون من أمراض عديدة وخطيرة،و مضى على وجودهم في الأسر ردحاً من الزمن،إذا لم يجري إطلاق سراحهم من بوابة صفقة التبادل فقط،فإنهم سيتحولون الى شهداء فعليين،وهؤلاء يجب أن يكونوا على رأس سلم أولويات الفصائل الآسرة ل"شاليط"،فالثورة التي تترك أبناءها في الأسر ثلاثين عاماً ونيف،لا تستحق الاحترام وهي ملزمة بانتهاج كل السبل والوسائل من أجل تأمين إطلاق سراحهم،ونريد في هذا الجانب فصائل وسلطة لديها وعد صادق،كالوعد الذي وعده به سماحة الشيخ حسن نصر الله زعيم حزب الله أهالي الأسرى اللبنانيين،بأن الحزب لن يتخلى عن أي أسير لبناني في سجون الاحتلال،وصدق وعد الشيخ حسن وتحرر كل الأسرى اللبنانيين،بمن فيهم عميد الأسرى العرب سابقاً سمير القنطار،والذي لولا وجود حزب كحزب الله اللبناني،فعلى الأغلب كان سيبقى في سجون الاحتلال الإسرائيلي،وليتحول من شهيد مع وقف التنفيذ الى شهيد فعلي.

وأسرانا البواسل في سجون الاحتلال،والذين تجاوز رقم الذين قضوا في سجون الاحتلال منهم عشرين عاماً فما فوق (108 )،بحاجة إلى وعد صادق كوعد الشيخ حسن نصر الله،وهذا مسؤولية السلطة والفصائل معاً،وهذا أيضاً يتطلب من حماس والفصائل الآسرة ل"شاليط"،أن تصر وتتمسك بشروطها لصفقة التبادل،فهناك العشرات بل المئات من هؤلاء الأسرى بوابتهم للحرية فقط،من خلال صفقة التبادل،وشروط الاحتلال ومعاييره وتقسيماته وتصنيفاته للأسرى،يجب أن تكسر،وخصوصاً لجهة أسرى القدس والداخل الفلسطيني- مناطق الثمانية وأربعين- ،فهذه المعايير التي كسرت في أكثر من عملية تبادل كان أكبرها عملية النورس التي نفذتها الجبهة الشعبية القيادة العامة في آيار 1985،ممكن تكرارها والبناء عليها في الصفقة الحالية،أما القول بأن صفقات آحادية الجانب أو بوادر حسن نية،يمكن لها أن تكسر مثل هذه الشروط والتقسيمات والتصنيفات الإسرائيلية،فهذا ضرب من الخيال ونوع من أنواع"الفنتازيا" ،فالأسير الذي قضى عشرين أو ثلاثين عام،ويحرم من مجرد الخروج مكبل اليدين والقدمين لساعة أو أقل من أجل إلقاء نظرة وداع على والده أو والدته المتوفي/ه، لا يمكن وفي ظل عقلية إسرائيلية مشبعة بالحقد والكراهية والعنصرية والتطرف،أن يطلق سراحه في صفقات إفراج أحادية،فالأسير سامي يونس من الداخل الفلسطيني،والذي مضى على وجوده في سجون الاحتلال أكثر من ربع قرن،وأقترب عمره من الثمانين عام،لم توافق إسرائيل على إطلاق سراحه،فكيف بأسرى آخرين من أمثال يحى السنوار وعباس السيد وعبد الله البرغوثي وابراهيم حامد واحمد سعدات ومروان البرغوثي وعاهد أبو غلمه ومجدي الريماوي وباسل الأسمر وحمدي قرعان ومروان البرغوثي واحمد المغربي وغيرهم المئات من أسرى شعبنا الفلسطيني،ممن تعتبرهم وتصفهم إسرائيل ب "الملطخة أيديهم بالدماء"،أو أسرى القدس والداخل؟.

ومن هنا نقول من الضروري أن نعيد البسمة والفرحة للطفلة جمانة ابنة الأسير علاء أبو جزر ولمئات أطفال أسرى شعبنا والذين،حرموا من عطف وحنان أبائهم لعشرات السنين،وكلمات الطفلة جمانة،يجب أن تجعلنا كشعب وفصائل وسلطة مطالبين،بأن نضاعف جهودنا وعلى كل المستويات وأن نستخدم كل الوسائل والسبل،من أجل تأمين إطلاق سراح أسرانا من سجون الاحتلال الإسرائيلي،وهذه الطفلة التي تتساءل بألم وحرقة؟ لماذا يعيش كل الأطفال مع أبائهم إلا أنا؟،ألا يكفي أنني حرمت من والدتي؟ العيد يمر ودمعي على خدي والغيرة تظهر من خلال كلمة مكتوبة لتقول جمانة من خلالها: أشتاق لأجري وأرتمي في حضن والدي مثل أبناء عمي عندما يذهبون الى آبائهم فيحملونهم على أكتافهم ويحتضنونهم وأنا أنظر إليهم بألم وحسرة.

كلمات الطفلة جمانة فيها من العبر والمعاني العميقة،ما يوجه أكثر من رسالة ،ليس فقط لهذا العالم الظالم الذي يناصر الجلاد على الضحية،بل لسلطتنا وفصائلنا وأحزابنا،بأن أسرانا يستحقون منا العمل ومن ثم العمل،من أجل تأمين إطلاق سراحهم.

الخميس، أكتوبر 29، 2009

ولد أو بنت

د. فايز أبو شمالة
لطالما فرحوا قديماً بقدوم طفل ذكر، ولطالما رقصوا له وغنوا، إنه الولد الذَّكرُ والذَّكرُ والبقاء، إنه الولد الذي سيحارب ويواجه الأعداء، وهو الذي سيرعى الأغنام، وهو الذي سيبني البيت للعائلة، والولد هو الذي سيحرث، وسيزرع، وسيحصد، ويوقد النار، والولد هو الذي سيستقبل الضيوف، وقد يبدأ العمل مبكر جداً، فيجمع الحطب، بالتالي فهو أداة إنتاج مبكرة، ومصدر خير، وهو رأس المال الذي لا يستثمر فيه الأب مدخراته، وإمكانياته، وإنما يرتد عليه ربحاً. لذا كان الفرح بقدوم الولد هو فرح للرزق القادم، وللأمن، والحماية، والكرامة، والجاه والبقاء. وكانت التهنئة للأب بقدوم الولد تعني التهنئة له بإنشاء مصنع جديد، أو تأسيس شركة ربحية، أو الحصول على درجة وظيفية هامة.
لما سبق كان وجه الأب يسود إن قيل له: أن المولود أنثى، فالأنثى تعني المصيبة لأهلها، وتجلب عليهم الكارثة، فهي الضعيفة في عالم القوة والعنف، والصلابة والصحراء والغابة والحقل، وهي القاصرة، والعاجزة، والتي قد تفترس من وحش بشري، أو تؤخذ في السبي، ولطالما كان أبو البنات ضعيفاً هزيلاً كسيراً أمام المجتمع، لأنه لا يملك وسائل الإنتاج، ومصادر الرزق المتعددة، حتى قال العرب: همُّ البنات حتى الممات.
في القرن الواحد والعشرين يجب أن تختلف النظرة للولد والبنت، فالولد لم يعد مصدر رزق، ولا هو وسيلة إنتاج، وبدل أن يفيد والديه في سن مبكرة صار الولد يستنزف والديه حتى سن متقدمة، فهو يحتاج إلى التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي، ثم المصروف الجامعي، وبعد الجامعة فالولد يحتاج إلى متطلبات الحياة التي يجب أن يوفرها الوالدان، وعلى الأب بعد ذلك أن يوفر الشقة لأبنه أسوة بأبناء الآخرين، وعلى الأب أن يسهم في زواج ابنه، وبعض الآباء يصرف على ابنه حتى بعد الزواج، لينام الابن حتى الظهر، يأكل، ويدخل الحمام. ولا أمل فيه لوالده إلا أن يقرأ سورة الفاتحة على روحه بعد موته!.
في القرن الواحد والعشرين صارت البنت أخف وطأة من الولد، فهي الأكثر حناناً، والأقل تكلفة، والأقل طلباً، وطمعاً، وعدوانية من الولد، بل صارت مصدر إنتاج، وصارت تنافس في الوظيفة، وتؤدي الأعمال الدقيقة التي يعجز عنها الولد، ولا خوف عليها في القرن الواحد والعشرين وهي تمشي ليلاً في الشارع المنار بالكهرباء.
ومع كل ذلك، فما زال مخزون الوجدان العربي يطرب للمولود الذكر أكثر من الأنثى حتى في القرن الواحد والعشرين. فمتى يدرك الإنسان حقيقة المتغيرات؟!.
fshamala@yahoo.com

مــشـروع النــهــضــة الـعـربــيــة الـكـبـرى

هــيـثــم البـوســعــيــدي

مشروع النهضة العربية مشروع قديم تمتد جذوره إلى ما يقارب الـ 200 عاما حيث برز هذا المفهوم بقوة مع نشأت الدولة الحديثة في مصر في عهد محمد علي حاكم مصر آنذاك، بحيث تمكن هذا الرجل من تشكيل دولة جديدة مغايرة في الأنظمة والقوانين عن نمط الدولة العثمانية التقليدية التي أغرقت معظم الدول العربية في براثن الجهل ومستنقعات التخلف طوال حكم امتد لأربعة قرون ماضية، كما أنها لم تقدم أي انجاز علمي يذكر أو نبوغ فلسفي يخدم البشرية جمعاء طوال الفترات الماضية لتستحق في النهاية لقب " رجل أوروبا المريض"، ولكــن للأسف فإن الدولة الواعدة في مصر سقطت عبر فترات لاحقة بين مخالب الإستعمار وخضعت لكل مطالبه وشروطه واستفزازاته.

أما المقصود من مشروع النهضة العربية كما يؤكده فلاسفة ومروجي هذا الفكر أنها عملية واسعة ومهمة كبرى وحركة فكرية ونشاط عقلي يهدف لاخراج العالم العربي من مستنقعات الظلام والجهل إلى مشاعل التنوير والحرية والسعي الدؤوب نحو الإلتحاق بحركة العلم وتحقيق قفزات كبيرة في جميع المستويات والأصعدة الفكرية والمعرفية والإجتماعية حتى نقف على عتبة التغيير الحقيقي فنكون بذلك مؤثرين وفاعلين في حركة الحياة ومسار العلم وبذلك سنصل في نهاية المطاف لاحتلال الريادة بين أوطان وشعوب الكرة الارضية.

أما الموجة الأولى لهذا المشروع الضخم ظهرت بشكل واضح مع هجرة بعض المثقفون العرب للعالم الغربي عبر عقود متعددة والتي كانت من أجل التعرف على عالم الغرب عن قرب والاقتراب من إدراك المسببات الرئيسة لهذا التقدم والتطور، فأسماء مثل محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وطـه حسين ذهبوا إلى الغرب في بعثات علمية وتعرفوا على التطور الحاصل في مجالات الفكر والأدب والعلم ومن ثم عادوا إلى بلدانهم وقد أصابتهم حمى الانبهار بما يحدث هناك في الغرب.

وفي نفس الوقت تكونت لديهم ردة فعل متابنية لما يجري هناك بعيدا عن أوطانهم ورغبة عارمة في التغيير والتحديث والتطوير، ومن هنا ظهرت الشرارة الأولى لهذا النهضة التي كانت بالأساس عملية احتكاك بين عالم متخلف وعالم متقدم أعقبتها تأثيرات نفسية وثقافية وفكرية وإجتماعية وحضارية جعلت العالم العربي بكل شعوبه ودوله ومجتمعاته يلهث وراء مشاريع التحديث والتطوير حتى هذه اللحظة دون أن يجني من هذا اللهاث التأثير العميق والتغيير الجذري في كافة المستويات والمجالات.

كما إن أسباب أخرى دفعت باتجاه ظهور مسمى النهضة بشكل قوي على الساحة العربية فمن قوى التنوير والاستعمار والانتداب وتصاعد الحركات الثقافية وتعدد الترجمات وشعور عام بحالات التخلف وتفشي صور الانحطاط المستشرية في الجسد العربي وتعدد مظاهر الحنق والغضب ضد المستعمر، مهد الطريق نحو ظهور جملة من الأفكار والشعارات التي صبت في بوتقة النهضة العربية مثل أفكار القومية العربية وأفكار العدالة وأفكار المساواة وأفكار التحرر وأفكار الثورة.

وفيما بعد تشكلت حركات وجهات أصبحت تنادي بهذه الشعارات بدون وعي فكري أو تخطيط منظم أو رؤية تصاعدية فلم تكن تسير هذه الشعارات الفضفاضة ضمن مشروع نهضوي عملاق أو استراتيجية شمولية تهدف إلى نقل الأمة والبلدان العربية من أدنى درجات الانحطاط إلى أسمى درجات التقدم، مع إن هذه الأفكار والمبادئ ساعدت الكثير من الحركات والشعوب العربية في جهود التحرر والانعتاق من قيود المستعمر وامتلاك مقاليد الحكم وزمام السلطات، ومكنتها أيضا من تحقيق جزء من الاستقلال الوطني والتنمية البشرية والاقتصادية والثقافية، بالإضافة إلى أن بعض الأنظمة العربية تبنت أحلام النهضة العربية كحلم " الوحدة " الذي تصدعت قواعده بمرور الزمان نتيجة تكاثر الأزمات وتعدد الإنشقاقات وانخفاض الحس القومي وتعاظم تأثير القوى الخارجية واطراد الخلافات والمآسي العربية لنصل في نهاية المطاف إلى ما يسمى اليوم "بمفهوم الدولة العربية الحديثة" بكل ما تحمله من سلبيات وتناقضات ومشاكل وأزمات معقدة.

وكنتيجة طبيعية لذلك فقد تخلت كثير من الأنظمة والقيادات العربية بفعل ظروف متابينة عن أحلام وطموحات النهضة العربية، فأصبحت فقط مشغولة بما يحدث في نطاق المجتمع والوطن المنتميه إليه فيما يمكن تسميته بحالة الإنكفاء على الذات والإنشغال بالهموم الداخلية.


وما سبق يؤكد أن تلك الأفكار بقت مجرد أفكار وشعارات تراوح مكانها ولم تكن فعل جاد ولا عمل حثيث ولا مطلب ضروري نحو تطوير شمولي وتحديث جذري للمجتمعات والدول العربية من القاعدة إلى قمة الهرم في كافة المجالات الفكرية والأدبية والسياسية والعلمية والقانونية، فعند البحث عن الأسباب الجذرية لهذه الأوضاع والظروف نكتشف حقيقة مهمة في مسيرة النهضة العربية، وهي أن علماء ومفكرين النهضة الأوائل لم يكونوا يمتلكون رؤية حقيقة لتطبيق شعارات وأفكار ومبادئ النهضة بحيث يمكن ترجمة نتائجها على أرض الواقع.

فعلى سبيل المثال لم يكن يهدف المشروع المزعوم إلى إصلاح ديني حقيقي ولم يكن يسعى لتطوير الثقافة العربية والوصول إلى صيغة تفاهم بين الحاضر والماضي فيما ما يمكن تسميته "بالمصالحة مع الماضي"، وهذه المسائل تعد من أخطر المسائل وأعقد القضايا لــذا كان من الصعب على مفكري النهضة الأوائل أن يواجهوا تلك القضايا الحساسة وجها لوجه في ظل مجتمعات متزمتة وأنظمة حكم بليدة وأوطان ضائعة منتهكة تعيش في أوضاع قهرية وظروف صعبة جدا.

كما أن الدولة العربية الحديثة لم تحتضن بين أركانها مشاريع متكاملة، إنما كانت مشاريعها عبارة عن أعمال بنائية ومجهودات تنموية ناقصة غير منظمة، فعند مراجعة الواقع العربي يتضح غياب التخطيط المنهجي في عملية تطبيق مبادئ وأفكار النهضة، ومنها أن الدولة كانت في بداياتها واقعة بين نموذجان للاقتباس وغير قادرة على السير على نهج أحدهما فأما الاقتباس من التجربة الغربية أو الانغماس في نموذج التجربة الإسلامية التقليدية، وهنا وقعت في إشكالية التخبط والعشوائية والأزدواجية في نواحي الحكم والسياسة والإقتصاد وإدارة المجتمع والتعامل مع الغرب لنصبح أمام أوطان تعاني أزمة في مواكبة مفاهيم الحداثة وبرامج التنمية بشتى أشكالها.

أضف إلى ذلك أن الدولة الحديثة ورثت كمية كبيرة من الأمراض المزمنة القادمة من الماضي السحيق ولم تستطع إيجاد العلاج الشافي لاستئصال هذه الإمراض من الجذور، فظهرت كل تلك الأمراض واضحة في الممارسات الفردية والسلوكيات المجتمعية من أعلى قمة في هرم السلطة حتى المواطن البسيط، إضافة إلى ذلك فإن الدولة العربية الحديثة خاضت حروب متباينة في الداخل والخارج من أجل إثبات الوجود وصناعة الاستقرار السياسي في ظل وجود قوى استعمارية وكيانات دخيلة عملت جاهدة لتحطيم بنية المجتمعات وخلخلة الأنظمة العربية الحديثة.

ومن ابرز هذه الكيانات " الكيان اليهودي" الذي مثل وجوده في الجسد العربي ضربة قاصمة لمشاريع النهضة العربية لأنه وجه ميزانيات وجهود الكيانات العربية الحديثة نحو مقاومة هذا المشروع الدخيل وخصوصا لدى الدول العربية الرئيسة في المنطقة، كما أن الدولة العربية الحديثة لم تستطع احتواء التفاعلات الناتجة عن ظاهرة الصحوة الاسلامية وتوظيفها بالشكل المطلوب لايقاظ الروح النهضوية العربية، وقيادة موجة جديدة في مشروع النهضة العربية الكبرى.

وما سبق ذكره يؤكد فشل الدولة العربية الحديثة في اشعال نيران المشروع النهضوي من جديد، وهذا بطبيعة الحال يؤدي بنا للاعتراف أن الدولة الحديثة عجزت عن توفير شروط النهضة العربية الكاملة وفقدت المرتكزات التي تقوم عليها متطلبات الحداثة وضرورات العصرنة، فالأحصائيات تشير إلى تدني عربي واضح في مجالات الصناعة والتوظيف والصحة والمشاركة السياسية والنمو الاقتصادي، بل إن الوضع الراهن في الساحة العربية أدى إلى ما يمكن تسميته بغياب التواصل الفكري الفعال بين فئات المجتمع ومكونات الدولة في الوطن الواحد بحيث أصبحت هناك حلقة مفقودة بين أهل السلطة والمثقفيين ورجال الدين وشرائح المجتمع الآخرى، هذا أدى بصورة مباشرة إلى انتصار الأصولية الفكرية التي أصبحت تـحتكر الحقيقة وتقمع الرأي المخالف مهما كان منبعه.

أخيرا يحق لنا أن نتسائل: هل بإستطاعة المجتمعات والدول العربية خلق حلقة جديدة من مشروع النهضة العربية في ظل فوضى الانقسام العربي وتكالب الأزمات العربية وذوبان مشروع النهضة في فضاءات العولمة ؟

في حقيقة الأمر نحن بحاجة لخطوات هامة وجهود حثيثة حتى يتمهد الطريق نحو انتهاج دروب النهضة وأهمها احداث زلزال قوي في ذاكرة العقل العربي واعصار مروع في قلوب قيادات الأوطان والمجتمعات العربية، لكن من بمقدوره احداث الزلزال وافتعال الاعصار؟

فنتائج تلك الكوارث الخلاقة ستحطم الجمود الذهني وستبدد الخمول الفكري وستجتث أشكال الهوان وأشجار الخوف الغائرة في القلوب منذ قرون سحيقة، وسندفع بالعديد من الأفكار النيرة نحو اتجاهات التنفيذ ومسارات التطبيق، وأولى هذه الأفكار السعي المخلص نحو ظهور فكر جديد ينفض الغبار عن التراث الديني والثقافة العربية التقليدية وليس ذلك معناه أن نمزج التراث بالحداثة أنما نسعى لتنقيح وغربلة التراث لتكوين فكر نقدي قادر على تدشين نهضة جديدة لا تقل أهمية عن نهضة القرن التاسع عشر، بل يحمل ضمن خططه وبرامجه رغبة جادة لإعادة قراءة التاريخ العربي بكل تفاصيله ومآسيه ويسعى من أجل التركيز على بناء الانسان العربي لاستئصال أمراضه المزمنة وآفاته التاريخية وإعطاء فرصة للعقل العربي للتفكير والانطلاق والتحليق عاليا لمسافات بعيدة.

أما الحكومات العربية فهي القيادات الرئيسة لهذا المشروع التوحيدي في عوالم التنفيذ، بينما تتبنى النخب الفكرية القيادة الرئيسة لهذا المشروع في عوالم التفكير والمعتقدات وهذا يستوجب على أنظمة الحكم العربي الاحساس بمقدار المسؤلية العظيمة وحجم المهمة الملقاة على عاتق الحكام والأنظمة العربية، ومن جانب آخر يتوجب على فئة المفكرين والمثقفين أن تتحلى بقدر من المرونة والواقعية الفكرية ليتسنى للمجموع العربي التوصل إلى اتفاق على أساس فكري ومصلحي مشترك .

كما أن هذا المشروع لن يفلح ولن يستقيم إلا إذا كان يحمل في مكوناته بذور الحل لموضوعات معقدة كالخلافات المذهبية والانشقاقات العرقية وحلحلة موضوع الهوية من أجل الاشتغال الجاد على توحيد الأمة العربية ووحدة المفتت والتركيز على الهوية الجامعة التي تجمع ولا تشتت لأنها مطلب ضروري ومبدأ أساسي تتكامل بواسطتها خصوصيات الوطن والدين والمذهب والأصول العرقية والإثنية، والأهم أن يكون المشروع قادر على توليد مجتمعات مدنية متمدنة مؤهلة حرة ديموقراطية تقبل التعددية وتكسر حواجز العنصرية المقيتة وتطفأ نيران النعرات القبلية والطائفية البغيضة وتسعى لترسيخ مبادئ المعرفة وتثبيت أصول الفكر الحر مع وجود سلطة مستنيرة تمكن المجتمع وشرائحه المختلفة من العمل الجاد والتعاون المثمر وتؤهله للقيام بالمهمة المنشودة والرسالة الحضارية.

وأخيرا فإن نجاح مشروع النهضة العربية الكبرى يتوقف على مبدأ " مركزية النهضة" حتى تكون نتائج المشروع ذات جدوى أكبر وتأثير أعمق، والوطن العربي الواعد الذي سيتمكن من تنفيذ مبادئ وافكار النهضة على أسس سليمة وقواعد متينة بفضل جهود نظامه وبسالة مجتمعه وتضحيات أفراده هو من يستطيع قيادة المشروع النهضوي العربي وتغذية نموه في كافة الأوطان العربية بل هو المصدر الوحيد والقائد المعنوي لكل أحلام الوحدة المنتظرة وأمنيات النهوض العربي.

كي لا ننسى: الذكرى الثالثة والخمسون لمذبحة كفر قاسم

محمود كعوش

كما هو حالي مع جميع المناسبات القومية والوطنية والمحطات العربية التاريخية الهامة ، أتوقف في مثل هذا التوقيت من كل عام مع ذكرى مذبحة كفر قاسم التي ارتكبها الإسرائليون قبل ثلاثة وخمسين عاماً كي لا ننسى ولكي نثَّبت في ذاكرة الأجيال القادمة الحسين الوطني والقومي .

مذبحة كفر قاسم النكراء راح ضحيتها 49 مواطنا من قرية كفر قاسم في المثلث الفلسطيني ، حيث كانت القرية في ذلك الحين تقع على الخط الأخضر بين إسرائيل والمملكة الأردنية الهاشمية. ففي 29 تشرين الأول من العام 1956 قام حرس الحدود الإسرائيلي بقتل 49 مدنيا عربيا بينهم نساء و23 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 8 - 17 سنة .

يومها أعلنت قيادة الجيش الإسرائيلي المرابطة على الحدود الإسرائيلية الأردنية نظام حظر التجول في القرى العربية داخل إسرائيل والمتاخمة للحدود، وهي: كفر قاسم، وكفر برا، وجلجولية، والطيبة، وقلنسوة، وبير السكة، وإبثان. أوكلت مهمة حظر التجول على وحدة حرس الحدود بقيادة الرائد شموئيل ملينكي، على أن يتلقى هذا الأوامر مباشرة من قائد كتيبة الجيش المرابطة على الحدود يسخار شدمي. أعطيت الأوامر أن يكون منع التجول من الساعة الخامسة مساء حتى السادسة صباحا. وطلب شدمي من ملينكي أن يكون تنفيذ منع التجول حازمًا، لا باعتقال المخالفين وإنما بإطلاق النار! وقال له: "من الأفضل أن يكون قتلى على أن تكون تعقيدات الاعتقال... ولا أريد عواطف..."، ملينكي جمع قواته وأصدر الأوامر الواضحة بتنفيذ منع التجول دون اعتقالات وقال إنّه "من المرغوب فيه أن يسقط بضعة قتلى".

وزعت المجموعات على القرى العربية في المثلث، واتجهت مجموعة بقيادة الملازم جبريئل دهان إلى قرية كفر قاسم. وزع هذا مجموعته إلى أربع زمر. رابطت إحداها عند المدخل الغربي للبلدة. في الساعة 16:30 من اليوم نفسه استدعى رقيب من حرس الحدود مختار كفر قاسم وديع أحمد صرصور وأبلغه بقرار منع التجول وطلب منه إبلاغ الأهالي. قال المختار إن هناك 400 شخص يعملون خارج القرية ولم يعودوا بعد ولن تكفي نصف ساعة لإبلاغهم. فوعد الرقيب أن يدع العائدين يمرون على مسؤوليته ومسؤولية الحكومة.

في الخامسة مساء بدأت المذبحة طرف القرية الغربي حيث رابطت وحدة العريف شلوم عوفر فسقط 43 شهيدًا، وفي الطرف الشمالي سقط 3 شهداء، وفي داخل القرية سقط شهيدان. أما في القرى الأخرى سقط صبي عمره 11 سنة شهيدًا في الطيبة. كان من بين الشهداء في كفر قاسم 10 أطفال و 9 نساء. كان إطلاق النار داخل القرية كثيفا وأصاب تقريبا كل بيت. حاولت الحكومة إخفاء الموضوع ولكن الأنباء عن المجزرة بدأت تتسرب، فأصدرت الحكومة الإسرائيلية بيانا يفيد بإقامة لجنة تحقيق.

توصلت اللجنة إلى قرار بتحويل قائد وحدة حرس الحدود وعدد من مرؤوسيه إلى المحاكمة العسكرية. استطاع عضوا الكنيست توفيق طوبي ومئبر فلنر اختراق الحصار المفروض على المنطقة يوم 20/11/1956 ونقلا الأخبار إلى الصحافي أوري أفنيري.

استمرت محاكمة منفذي المجزرة حوالي عامين. في 16/10/1958 صدرت بحقهم الأحكام التالية: حكم على الرائد شوئل ملينكي بالسجن مدة 17 عاما وعلى جبريئل دهان وشلوم عوفر بالسجن 15 عاما بتهمة الاشتراك بقتل 43 عربيا، بينما حكم على الجنود الآخرين السجن لمدة 8 سنوات بتهمة قتل 22 عربيا. لم تبق العقوبات على حالها. قررت محكمة الاستئنافات تخفيفها: ملينكي- 14 عاما، دهان- 10 أعوام، عوفر- 9 أعوام. جاء بعد ذلك قائد الأركان وخفض الأحكام إلى 10 أعوام لملينكي، و8 لعوفر و4 أعوام لسائر القتلة. ثم جاء دور رئيس الدولة الذي خفض الحكم إلى 5 أعوام لكل من ملينكي وعوفر ودهان. ثم قامت لجنة تسريح المسجونين وأمرت بتخفيض الثلث من مدة كل من المحكومين. وهكذا أطلق سراح آخرهم في مطلع عام 1960. أما العقيد يسخار شدمي، صاحب الأمر الأول في المذبحة فقد قدم للمحاكمة في مطلع 1959 وكانت عقوبته التوبيخ ودفع غرامة مقدارها قرش إسرائيلي واحد.ومن الجدير بالذكر أن المذبحة ارتكبت في اليوم الأول للعدوان الثلاثي على مصر.

كاتب وباحث فلسطين

الجهاد وفتح علاقة تاريخية مظفرة بدماء الشهداء

محمد داود

في سابقة تاريخية من العلاقات بين حركتي فتح والجهاد الإسلامي والمتميزة منذ زمن بعيد تعود جذورها الأولى إلى سنوات نشأة تنظيم الجهاد في أواخر السبعينات عندما بدأ الاستقطاب بين الطلبة في الجامعات المصرية لتشكيل نواة العمل على أساس هذا التصور، ثم قام البعض بالتعبير عن الرغبة الملحة بدخول ساحة المواجهة العسكرية مع الاحتلال الإسرائيلي من خلال تشكيل خلايا حركة الجهاد الإسلامي عام1980، كخيار بديل عن التيار الإسلامي الكبير "تنظيم الإخوان المسلمين" ، الذي أفرغ من خيرة أفراده عام 1957 وتشكيلهم لحركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح، نتيجة الخلافات التي دبت مع الناصرية، وانشغالهم في هموم التربية والإصلاح؛ فبرزت من ناحية أخرى شخصية المؤسس لحركة الجهاد الإسلامي الدكتور "فتحي الشقاقي"، الذي يعتبر المسؤول العسكري للحركة والشيخ عبد العزيز عودة الزعيم الروحي لها.

فمنذ البداية رفض أقطاب الجهاد أطروحات الإسلام التقليدي الداعية إلى حل مشاكل المجتمع من خلال العمل الإصلاحي التدريجي وأمنوا بالإسلام الجهادي وبالكفاح المسلح كخيار إستراتيجي لنشاطهم الهادف إلى إبادة إسرائيل، فهي تبنت عام 1986 عدداً من العمليات العسكرية ضد الاحتلال. ومزجت بين الدين والوطنية الفلسطينية من خلال علاقتها مع حركة فتح، وحملت الأخوان المسلمين مسؤولية ما أصاب الشاب المسلم من تقاعس في النضال من أجل تحرير فلسطين .

هذا و تعرضت حركة الجهاد الإسلامي إلى محاولات انشقاق في صفوفها كما الفصائل الفلسطينية الأخرى التي تأخذ من دمشق مقراً لها وهي غير منضوية في إطار "م.ت.ف"، لاسيما قبيل أتفاق أوسلو، أما حركة الجهاد فانقسمت بين مؤيد ومعارض وقد ارتبطت أسماء المنشقين عنها بأسماء قيادات الانشقاق ومن أبرزهم : "الأسود والتميمي وأبو سمرة والشقاقي" لكن الحركة بقيت متحدة ومتراصة بعد نشأة السلطة الوطنية الفلسطينية وما قدمه الرئيس الشهيد "ياسرعرفات" من عروض سخية على حركة قيادات الجهاد بكافة فروعها الداخل والخارج وذلك للانخراط في المجلس الوطني ومنظمة التحرير الفلسطينية وفي داخل السلطة الوطنية الفلسطينية وأجهزتها الأمنية في مرحلة متقدمة، ثم تطورت إلى علاقات من بناء الثقة والتبادل والتعاون والدعم السياسي والمادي والعسكري واللوجستي. وهذا لايعني أنها تقبل بإقامة دولة ديمقراطية علمانية في فلسطين لأنها تأتي منافية للنظرة الإسلامية للتاريخ، وقد برز التعارض بين مواقف حركة الجهاد والمنظمة حول الخطط السياسية المطروحة .

فبدأت العلاقة تأخذ لغة التصعيد في الآونة الأخيرة وتعود الأسباب الرئيسة لذلك إلى التقارب والانسجام الحمساوي الجهادي على مستوى القيادة المركزية من جهة، ومن جهة ثانية الدعم الإيراني لكل منهما وفرض الأجندة الإيرانية السورية على القرار والعلاقات الفلسطينية الداخلية، وبهذا التقارب الذي أنعكس سلباً على العلاقة الفتحاوية الجهادية فبرزت العديد من التصريحات التي تكيل الانتقادات والاتهامات اللاذعة للسلطة الفلسطينية بسبب رفضها للمفاوضات التي تجريها السلطة الفلسطينية مع إسرائيل وما نتج عنه من تفاهمات، وتحميل ألأجهزة الأمنية الفلسطينية المسؤولية عن توقيف أفراد من الجهاد، لكن الطرفين متفهمان لطبيعة هذه الاتصالات مما بقى حدة الخلاف بسيطة وتحت السيطرة، على النقيض من حماس لم تسعى إلى تحدي السلطة الفلسطينية وحركة فتح في المعترك السياسي الفلسطيني.

فكان العمل الميداني عنوان التقارب بين كلا الحركتين "فتح والجهاد"، وتجمعهم ساحات الرباط إذ سجلت الحركتين الكثير من العمليات الفدائية المشتركة رغم انشداد أفراد تنظيم الجهاد إلى تجربة الثورة الإسلامية في إيران، وعلى الرغم من أن الجهاد حركة سنية، تمزج بين القومية الإسلامية الفلسطينية مع تعاليم آية الله الخميني، لكنها استطاعت أن تبني لها علاقة حسنة مع جميع التنظيمات وتحظى بقبول شعبي؛ رغم سيل الاتهامات بأنها ذات فكر شيعي، وكان هذا الاتهام عامل الفيصل بين حركتي الجهاد وحماس، أدى إلى سحب وتراجع حركة الجهاد الإسلامي عن سيطرتها على عدد من مساجد القطاع لصالح حركة حماس وهذا يعود إلى تركيز الجهاد على العمل العسكري بدلاً من النشاط السياسي والإعلامي.

لقد كان التقارب الفتحاوي الجهادي له مسارات وأشكالاً متنوعة في العمل الفدائي المشترك إذ قدمت الحركتين الآف من الشهداء والجرحى والأسرى والمعتقلين لإيمانهم بالكفاح المسلح، كإستراتيجية للعمل السياسي المشترك، وهناك عدد لابأس به من العمليات الفدائية النوعية المشتركة والمظفرة بدماء كلا الفصيلين "فتح والجهاد" لم نتمكن من استعراضهم هنا.

كما تمكنت من تسجيل عدد من الروايات التي تؤكد وتثني على هذه الصداقة الحميمة بين عناصر وقيادات فتح والجهاد في مناطق قطاع غزة، برزت جلها عقب سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، من أبرزها قيام عدد كبير من عناصر الأجهزة الأمنية وحركة فتح إلى تسليم عتادهم وسلاحهم إلى جناح حركة الجهاد الإسلامي "سرايا القدس"، وهناك عدد كبير من كتائب شهداء الأقصى انخرطوا للعمل في صفوف "سرايا القدس" وشاركوا أفراد الجهاد في الرباط والتصدي للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وفي المهمات الفدائية وإطلاق الصواريخ المحلية، ويودون لهم في المناسبات المختلفة، وبرزت هذه العلاقة جلية أثناء إحياء ليلة القدر في عدد من مساجد القطاع.

لذلك فإن العلاقة الحميمة والتاريخية لا يمكن تفسد أو أن تزول بذلة لسان أو بالتقاء مصالح شخصية عند طرف ما، وتبقى فتح والجهاد عنوان الإخوة ورمز التكافل الوطني والنضالي.

كاتب وباحث

أيُّ هَمٍّ نُتابع؟

خولة عليان
عضو اللجنة المركزية لحزب الشعب الفلسطيني

حين يتشظى الوطن، وتُستعبد النفس، ويُغتصب العقل، وتُشلّ الإرادة، وتُحتجز القلوب والضمائر، في عُلب محكمة الإغلاق، بفعل فاعلٍ هنا او هناك، ويكون الصراخ داخل إطار مغلق، وتَعجز الحناجر عن طلبِ لقمة العيش والعدالة والحرية وتُنتهك الحريات، وتُغلق المؤسسات ما بين قطاع غزة والضفة والقدس الشرقية، لا لشيء الا لأنها تسعى للدفاع عن حقوق الانسان، وحين تُهدم البيوت ويفترش الأطفال والنساء والشيوخ قارعة الطريق ويُصبح الوطن شظايا المصالح الخاصة وتتعدد مظاهر الاضطهاد، ويُحشر المواطن بين أنياب الاحتلال والانقسام فاعلم /ي انك/كِ تعيش/ي في أرض كانت تسمى فلسطين!

ما أكثر الهموم التي أمست تعشعش فوق وداخل رأس المواطن.. فأي همٍّ هو الأولى في المتابعة ، هل هو خطر الانقسام والتشتت، ام هو خطر الاحتلال والجدار والاستيطان أم هو خطر تهويد القدس والمقدسات؟ أم هي لقمة العيش والبطالة والفقر والجوع؟! كل هذه الأسئلة وغيرها تَدُّق بقوة رأس المواطن في ظل غيابٍ واضح لهيئات تمثيلية حقيقية تحمل هذه الهموم وتخوض بها شعاب التعقيدات.

فهل من الطبيعي أن يبقى الحال على ما هو أم أننا فقدنا بوصلة التحرك؟ فمن حق كل مواطن والحال هذا ،ان يسأل، بل أن يكسر جدار الصمت وأغلفة الحصار، فهذه حياته وحياتنا، فإلى متى نبقى أسرى التخلف والانقسام والاحتلال؟

القدس تستصرخ الجميع، وكذا الأمر بالنسبة لعذابات أهل غزة، وعذابات أهل الضفة الذين تصادر أراضيهم يومياً بفعل الاستيطان والجدار ، فهل استراح البعض كون ان هناك مجموعة من الاجانب تتحرك ضد انتهاكات الاحتلال المختلفة في القدس والضفة وغزة، على أهمية واحترام ذلك خاصة واننا نشاهد يومياً المناضلة الاوروبية الانسانية لويزا مارغانتيني ورفاقها يتصدون لآلة القهر الاسرائيلية في الضفة وغزة والقدس؟ فهي وللعلم فقط تسير على خطى راشيل كوري وعشرات المتضامنين الأجانب؟! ونحن ما زلنا نتساءل هل ستكون الانتخابات دون غزة، وان كانت كذلك هل ستكون في الضفة دون القدس؟! أليس الأجدر بنا ان نعيد الاعتبار لأنفسنا ونضالنا وهويتنا الوطنية الموحدة ، ونرص الصفوف ونوحد المواقف احتراماً واجلالا لتضحيات شعبنا وعذابات اسرانا واسيراتنا، ولانقاذ أنفسنا ومستقبل اطفالنا.

هذه صرخة خارج اطار الغرف المغلقة، لعلها تصل آذان كل من هو معني وخاصة الاخوة في حركتي فتح وحماس، كي لا نبقى نردد هنا كانت فلسطين؟! . أغيثونا .. اغيثونا.. فهل من مجيب!!

يأس عباس، ومقتل حماس

د. فايز أبو شمالة
لو صح ما يقال عن يأس السيد عباس من الواقع الدولي والعربي والفلسطيني، فمعنى ذلك أن الفلسطينيين على طريق المصالحة الحقيقية، ولاسيما إذا صدقنا بعض ما نقله المراسل السياسي لصحيفة 'يديعوت أحرونوت" حين قال: بأنّ السيد عبّاس قال للسيد "أوباما": أنّه يائس من هذا الوضع. وأن مصادر مقربة جداً من ديوان نتنياهو تقول: أنّ عبّاس يعوّل على أوباما في أن يتدخل شخصياً لإلزام الإسرائيليين بالبدء في المفاوضات بين الطرفين. ويتضح من المصادر الإسرائيلية أنّ مكالمتين قد جرتا بين أوباما وعبّاس، وكانتا صعبتين للغاية، حيث قال عبّاس: أنا لا أعرف ماذا يريد الأمريكيون مني؟ إنّكم لا تريدونني أن أذهب إلى الانتخابات، كما تطلبون منّي عدم تشكيل حكومة وحدة وطنية، وتضغطون عليّ لعدم التوقيع على اتفاق مصالحة مع حركة حماس، وفي الوقت نفسه منحتم "نتنياهو" الدعم الكامل لكي يواصل عملية بناء وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، ويتساءل عبّاس: على ماذا تريدون منّي أن أتفاوض مع الإسرائيليين؛ على أنّ القدس الموحدة هي العاصمة الأبدية للشعب اليهودي؟. وزادت الصحيفة العبرية، نقلاً عن مصادر سياسية في تل أبيب أنّ محمود عبّاس، الذي كان ثائراً خلال المحادثتين، قال لأوباما: أننّي لا أقدر أن واصل المسيرة على هذا النحو؛ أنّكم أيها الأمريكيون والإسرائيليون وحركة حماس تحشرونني في الزاوية، ولم تتركوا لي مجالاً للمناورة، وبالتالي فنحن في السلطة الفلسطينية وصلنا إلى حد اليأس.
لو صح بعض هذا الكلام؛ فمعنى ذلك أن السلطة الفلسطينية قد اتعظت من تجربتها التفاوضية العبثية، وهي في طريقها إلى كسر أصعب حاجز يحول دون المصالحة الفلسطينية؛ ومعنى ذلك؛ أن الوضع الفلسطيني بات أقرب إلى التلاقي على برنامج سياسي يحظي بالإجماع، ولعل أول بنوده ستكون التخلص من شروط الرباعية التي ظلت كالرسن تشد مسيرة العمل الوطني إلى الهاوية، ومعنى ذلك أن ضمير السيد عباس الوطني طفق يخفق بين أضلاعه، وسيبدأ عملياً الخطوة الفلسطينية الأولى، والتي تتمثل في إطلاق سراح رجال المقاومة الفلسطينيين من سجون السلطة الفلسطينية، وقطع كافة الاتصالات مع الإسرائيليين، وإغلاق ملف التنسيق الأمني، والتوجه فوراً إلى غزة للقاء قادة الفصائل الفلسطينية لتنسيق أول خطوات العمل الفلسطيني المشترك، والتي تتمثل في إطلاق يد الجماهير الفلسطينية للتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي وفق تجربتها العريقة في المقاومة.
لو صح ما سبق من كلام، فإن السيد عابس لا يحتاج إلى الإعلان عن موعد انتخابات رئاسية، وتشريعية كي تعطيه الشرعية، لأنه سيكون قد انتزع شرعية المقاومة بالفعل المقاوم، وخطف راية الجهاد من يد الحركات الإسلامية، وغلّق دونهم أبواب الجماهير، وتركهم يلهثون خلفه، وهو يخطو أولى خطوات العمل الميداني الضامن لعروبة القدس، وقلع المستوطنات، وحل قضية اللاجئين حلاً عادلاً وفق القرارات الدولية، وقيام الدولة المستقلة كاملة السيادة على ما يتحرر من أرض فلسطين.
fshamala@yahoo.com

ما لديكارت وما على الديكارتية - الجزء الثاني

زهير الخويلدي

1- ميتافيزيقا الذاتية :

"ليس المهم أن نمتلك عقلا حسنا بل الأهم هو أن نحسن استخدامه"

قطع ديكارت الطريق أمام الميتافيزيقا الكلاسيكية الموروثة عن الفلسفة اليونانية والميراث المسيحي وأسس ميتافيزيقا الذاتية التي تنطلق من التفكير إلى الوجود وتكتشف الإنسان من جهة أسباب العقل وعن طريق التأمل الميتافيزيقي وتثبت وجود الأنا من حيث هو جوهر مفكر ويكون بذلك الكوجيتو هو شرط أول للمعرفة واليقين الأول الذي يسمح بظهور يقينيات أخرى.

يعرف ديكارت الميتافيزيقا على أنها أساس كل البحوث والمعارف لاسيما وأنها "العلم الذي يبحث في أسس المعرفة والأشياء بهدف الوصول إلى المبادئ الأولى والعلل القصوى". أما البحث الذي يحرك مكتشف الكوجيتو فهو بحث ميتافيزيقي يشبه فيه الفلسفة بالشجرة تكون جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفيزياء والفروع التي تخرج من هذا الجذع هي مختلف العلوم الأخرى وهي الطب والميكانيكا والأخلاق." وقد ذكر ذلك في مقدمة كتاب مبادئ الفلسفة الذي ألفه سنة 1644 ميلادي.

تبحث التأملات الميتافيزيقية في كيفية الوصول إلى فكرة الكوجيتو عن طريق الشك وتحاول إثبات وجود الله وتعتمد نظرية الحقائق الأبدية وتفصل الخطاب في علاقة النفس بالجسم. فماهي مبررات خوض تجربة الشك؟ وكيف مثل الكوجيتو نقطة أرخميدس؟

إن الذي قاد ديكارت نحو الخروج من التقليد والابتعاد عن الانقياد الأعمى لعلوم ومعارف القدماء هو الأزمة الروحية التي عاشها والتي كانت بفعل أزمة الحضارة التي كانت تعيشها أوروبا في عصره والتي قادته إلى اكتشاف أن كل الحقائق المعروضة أمامه ليست سوى رمالا متحركة وطبقات متكلسة من الآراء. في هذا الإطار نراه يعلن الثورة ويطلب العلم اليقيني بقوله:"لابد لي مرة في حياتي من الشروع الجدي في إطلاق نفسي من الأسس إذا كنت أريد أن أقيم في العلوم شيئا وطيدا مستقرا."( التأمل الأول)

إن دراسة ديكارت في المدرسة اليسوعية لافليش على يد أفضل الأساتذة لم تمنعه من الإعراض عن الجو الكهنوتي والانتفاض باحثا عن المعرفة الراسخة وكل ماهو نافع في الحياة.

السبب الثاني الذي دفع ديكارت إلى خوض تجربة الشك هو مزامنته لثورة علمية كان قد فجرها كل من كوبرنيك وغاليلي وكبلر في مجال علم الفلك والفيزياء وكانت قد غيرت مكانة الأرض في الكون وبدلت نظرة الإنسان إلى نفسه وعلاقته بالعالم المحيط به.

يبلغ الشك أوجه عندما يضع ديكارت بين قوسين الحقائق الرياضية والمنطقية وتترك الساحة للشيطان الماكر يصول ويجول كما يشاء ويضلل ويخدع مثلما يريد، لكن في هذه النقطة يستيقظ التفكير وينتبه إلى حقيقة مفاده أنه يتضاعف بقدر تقوي درجة الشك وطالما أن المعدوم لا شك ولا يفكر يستخلص أن الشك هو نمط من التفكير وأن فعل التفكير تجربة يقوم بها كائن موجود وتكون النتيجة: أنا أشك أنا أفكر أذن أنا موجود. هنا يقع إثبات الكوجيتو ويبرز الأنا أفكر بمثابة الأرض الصلبة التي يقف عليها الإنسان دون أن تميد به ودون أن يكون نفسا ناطقا أو حيوانا عاقلا وإنما جوهرا مفكرا في موقع متصل ومتعال على الجسم بما هو جوهر ممتد. في هذا السياق يصرح ديكارت:" وأنا واجد هنا أن الفكر هو الصفة التي تخصني وأنه وحده لا ينفصل عني. أنا كائن وأنا موجود: هذا أمر يقيني ولكن إلى متى؟ أنا موجود مادمت أفكر فقد حصل أني متى انقطعت عن التفكير تماما انقطعت عن الوجود بتاتا."( التأملات). لقد عرض ديكارت مراحل الشك التي أفضت إلى الاكتشاف الميتافيزيقي للكوجيتو على النحو التالي:

- خوض في تجربة الشك والصعود عبر درجات مختلفة نحو تعليق كل شيء.

- اكتشاف الكوجيتو

- البرهنة على وجود الله

- التأكد من وجود حقائق واضحة ومتميزة.

- إدراك طبيعة الجسم بماهو امتداد.

- استعادة الثقة بوجود العالم الخارجي.

ثمة ربط جوهري بين وجود الأنا والتفكير من حيث الصفة المميزة لها عن بقية الكائنات ، ولكن لا يقصد بالأنا الذات المجردة التي تعبر عن جميع الذوات وإنما الأنا الشخصي و:ان الحداثة تريد أن تؤكد على أهمية البحث الشخصي عن الحقيقة والتثبت الفردي من وجود اليقين عن طريق التفكير الذاتي لاسيما وأن التفكير بالإنابة غير ممكن وكما يقول هيجل في دروس حول فلسفة التاريخ:"كل إنسان ينبغي أن يفكر لذاته ولا أحد قادر على أن يفكر للآخر".

كما توجد قيمة مزدوجة من هذا الاكتشاف: أولا إثبات ليقين أول يخرج الإنسان من دوامة الشك، الثاني هو أثبات الذات كشرط أول للمعرفة، وبالتالي يكون المشروع الديكارتي مشروعا انسانويا يقوم على التعالي الأنطولوجي للذات العارفة وعلى المماهاة بين الفكر والوعي والفصل الجذري بين طبيعة الفكر وطبيعة الامتداد. لكن ماهي علاقة النفس بالجسم عند ديكارت؟ وبأي معنى تصور تجربة إثبات الإنية؟

أكد ديكارت آن النتيجة التي أعقبت اكتشاف الكوجيتو هي التمييز الجذري بين النفس بوصفها الجوهر المفكر والجسم بوصفه الجوهر الممتد ووضح أن الجسم لا يمكن إدراكه حقيقة عن طريق الحواس وأي عضو آخر منه وإنما بواسطة فعل الفكر نفسه الذي يتوصل إلى معرفة الامتداد بوصفه جوهر الطبيعة. كما يقسم الأحاسيس والادراكات إلى نوعين: الكيفيات الحسية التي تأتي من الجسم ورؤية الذهن للطبيعة العقلية التي تشكل ماهية وأساس وجود الشيء الخارجي.

يترتب عن هذا القول تأكيد الثنائية في مستوى طبيعة الذات:

- النفس وتدرك بطريقة حدسية "في لمحة من لمحات الذهن وليس قياسا أو استدلالا" وتحضر في أي فعل من أفعال التفكير والإرادة والحرية والشعور بالكرامة. في القسم الرابع من مقال عن المنهج يقول ديكارت:" إنني في شكي هذا مدرك وجودي ووجودي متضمن في فكري وفكري حاضر بنفسه حضورا مباشرا ولو فرضنا أن شيطانا ماكرا يضللني في كل شيء فهو لا يستطيع أن يمنعني من التوقف عن التصديق ولا أن يمنعني من أن ذاتي موجودة حين أفكر."

ان النفس هي من الأشياء الواضحة والمتميزة وبالتاي هي موجدة ومتعالية على الجسم وهي جوهر فكري خالص ويقول بشأنها ديكارت:"فأنا أعلم نفسي الآن موجودا مفكرا ولا أعلم بعد إذ كنت شيئا آخر غير هذا الوجود المفكر". ومعرفة النفس أيسر من معرفة الجسم لأن وجود الفكر اشد ثباتا من وجود الجسم:"إني أعرف الفكر بالفكر نفسه أما الأجسام فليس بمقدورنا إدراكها إلا في الفكر وبالفكر، فمعرفتي بالنفس معرفة مباشرة ويقينية وليس يعرف الجسم إلا بالظن والتخمين". ( مبادئ الفلسفة الباب الأول).

- الجسم هو كتلة من الأعضاء تحكم قوانين دقيقة وهو آلة وجوهر ممتد ويستدل ديكارت على أن فكرة الامتداد هي جوهر الأجسام بمثال الشمع الذي تختفي ملامحه عند الاحتراق ما عدى بقعة من الامتداد الأبيض هي جوهره.

لكن إذا كان ديكارت يميز النفس عن الجسم في الميتافيزيقا فانه في المستوى النفسي والفزيولوجي يقر باتحادهما وخاصة في كتاب المبادئ في الجزء السادس حيث يقدم جملة من الأسباب المعقولة وهي: أن الحواس هي التي تدفع الإنسان إلى أدراك مادة ممتدة طولا وعرضا وعمقا وبما أن الله هو الذي أظهر لنا مباشرة فكرة هذه المادة فإننا نتصورها كشيء مغاير له وللعقل. لكن كيف ندرك أن النفس والجسم هما متحدان؟

هذا الاتحاد يتم ملاحظته عندما ندرك حدوث الألم أو الإحساس باللذة وغيره من الإحساسات ونحكم أنها لا تصدر عن النفس لوحدها بل عند مخالطتها لشيء ممتد ومتحرك هو الجسم. أن الانفعال هو أمارة على الاشتراك بين النفس والجسم لأنه ينتج الحزن والخوف والكره ويصدر عن الموضوعات الخارجية.

كما يمكن أن النفس والجسم مرتبطان عن طريق الدورة الدموية حيث يلعب القلب دور مركز الحرارة التي تدفع بالدم في العروق وهناك يختلف مع هارفي الذي يفسر حركة دقات القلب بالدوران الدموي. يطبق ديكارت هنا نظريته الآلية mecanisme على ماهية الإنسان ويشبهه بالآلة التي تشتغل وتتحرك حسب قوانين الطبيعة ويكون القلب هو السبب الرئيسي في حركتها.

من هذا المنطلق إن الإنية موجودة حتى لو فرضنا أن الجسم غير موجود لن النفس هي ما به يكون الأنا أنا وهي تستمر في الوجود طالما امتلكت وعيا وخاضت تجربة التفكير وعادت إلى ذاتها.

إن الصعوبات التي تظهر على النسق الديكارتي ناتجة عن التأويل المعطى للأنا أفكر لاسيما وأنه لا ينحصر في ديكارت ولا يتعلق فقط بالفرد المتعين في التاريخ ولا إنسان القرن السابع عشر وإنما يشمل كل كائن مفكر في أي عصر وفي أي ثقافة ومهما كان عرقه أو دينه أو لغته. فكيف احتاج ديكارت الى مسألة الضمان الإلهي من أجل ترسيخ ديمومة الإنية عبر الزمان؟

2- البرهنة على وجود الله:

"يكفي للبرهنة على وجود الله أن تكون ضرورة وجوده متضمنة في المعنى الذي لدينا عنه"

إن التحليلات التي قام بها ديكارت تتفق على نقطة أساسية وهي أن اليقين غير ممكن إذا لم يرتكز على وجود الله لأن وجود الذات الإلهية هو الضامن للمعرفة والوجود معا وهو بديهية تساعد على البرهنة ولا تحتاج إلى برهان لأنها واضحة وحاضرة بشكل فطري في الذهن. ينهض ديكارت للبرهنة على وجود الله انطلاقا من الأفكار القطرية الواضحة والمتميزة التي تيقن من وجودها بعد اكتشاف الكوجيتو. والحق أننا نجد من بين هذه الأفكار فكرة الكمال وهي فكرة من المستحيل أن تكون من إنتاج الذهن البشري لأنه محدود ومتناه. من هذا المنطلق ينبغي أن يكون هناك كائنا مطلقا هو الذي وضع هذه الفكرة في ذهن الإنسان ونستخلص من ذلك أن الله موجود وهو مصدر الكمال. الدليل الثاني هو الذي ذكره في مقال عن المنهج ويسمى الدليل الأنطولوجي أين يؤكد فيه أن الله إذا كان كائنا كاملا فينبغي أن يؤكد صفات الكمال ولما كان الوجود هو أحد أوجه الكمال فوجب أن يكون الله موجودا حينئذ، وفي موضع آخر يرى ديكارت أن صفات الله الأخرى مثل الطيبة والخلود تضمن صدق الحقائق البديهية ووجود العالم المادي الخارجي وصرامة الاستدلال الرياضي. الدليل الثالث هو السببية ويتمثل البحث عن سبب فكرة الكائن الكامل اللامتناهي وذلك بالبحث عن سبب وجوده هو الذي يفكر في الكائن الكامل اللامتناهي.

هنا يرى أن الإنسان يفكر ويعرف ما في نفسه من كمال ونقص ويشك ويخطىء ويريد أن يتجنب ذلك معا ولكنه متيقن من شيء واحد وهو أن الكائن المفكر ليس سبب وجوده بل ينبغي أن يكون هناك كائن كامل يستمد منه صفة الوجود في لحظة وعن طريق القدرة اللامتناهية، في هذا السياق:"أنا موجود الآن وأعرف أني لست سبب وجودي ولست بالأولى سبب بقائي في الوجود وانتقالي منى اللحظة الحاضرة الى لحظة تالية وعلى ذلك فلست سبب انتقالي من اللحظة الماضية إلى اللحظة الحاضرة. ولابد من سبب وأن يكون هذا السبب سبب وجوده ذاته وبقائه في الوجود معا أي أن يكون سبب ذاته. هذا هو الكائن الكامل ذاته الذي أفكر فيه بحيث لا يكون مفتقرا في وجوده إلى سبب ولا عاجزا عن البقاء بذاته في الوجود فهو إذن قادر على ايجادي وحفظي. هو الخالق الحافظ." وفي السياق نفسه يصرح:" نحن نعلم أننا لسنا حاصلين على قوة تكفل لنا الاستمرار في الوجود أو تحفظنا فيه لحظة واحدة وأن القادر على إبقائنا خارج ذاته وعلى حفظنا لهو يحفظ ذاته بالضرورة أو لهو بالأحرى لا يفتقر لمن يحفظه وانه هو الله."

هذا الدليل يستنبطه ديكارت من الرياضيات إذ يرى أن المعرفة الواضحة والمتميزة للأجسام يجب أن تكون المعرفة الرياضية وانطلاقا منها يمكن البحث عن حقيقة أسمى من العلم الرياضي تكون أصل اليقين وأساسه. في هذا الإطار يرى ديكارت في التأمل الخامس أنه يمكن التفكير في الله وفي موضوع وجوده على نحو مماثل التفكير الرياضي والوصول بمقتضى ذلك إلى التفكير في يقين مماثل لليقين الرياضي. فكيف انعكس إثبات وجود الله على يقين وجود حقائق أبدية؟

3- نظرية الحقائق الأبدية:

"القدرة على حسن الحكم والتمييز بين الخطأ والصواب هي أعدل الأشياء قسمة بين الناس"

يعرض ديكارت في مقدمة كتاب المبادئ نظرية ميتافيزيقية في الحقائق الأبدية والتي تختلف عن المبادئ الأولية لاسيما وأنها مبادئ موضوعية توجد خارج الفكر وفي الواقع وليست ذاتية. يميز ديكارت بين ثلاثة أنواع من الحقائق الأبدية الأولى في المنطق وهي البديهيات axiomes ، والحقيقة البديهية هي قضية انطلاقا منها يمكن أن نستخلص منها قضايا بديهية أخرى ولكنها قضايا منطقية وأفكار عقيمة.

النوع الثاني من الحقائق مستمد من الرياضيات ويسمى المعاني المشتركة notions communes وهي نافعة طالما أن المنهج الرياضي يقيني ومادامت الحقائق التي يصل إليها واضحة ومتميزة. إن العقل يدرك هذه البديهيات والمعاني المشتركة إدراكا مباشرا بواسطة الحدس ويعبر عنها وفق أشكال رمزية.

النوع الثالث هو من النوع الذي يصعب على الفكر الوصول إليه مباشرة نتيجة الأحكام المسبقة المتأتية من الحواس والعادة والخيال ولذلك ينبغي عليه أن يعيش تجربة التأمل الميتافيزيقي ويقوم الذهن بانقلاب جذري ضد الثقافة السائدة من أجل إدراكها لكونها مبادئ أولى. يقول كتاب مقال عن المنهج:" انه صحيح أن نقوم بحروب عوض جهود في هذه الصعوبات التي تمنعنا من الوصول إلى الحقيقة."

لكن ديكارت يرى أن هذه الحقائق الأبدية ضرورية أي أنها ليست مستقلة عن الله في قيمتها وحقيقتها بل هي مخلوقة بحرية من طرف الله. لكن لماذا تتعلق هذه الحقائق الأبدية بالإله الحر؟

يؤكد ديكارت في إحدى رسائله:" أن الله عمل عجائب ثلاث: الخلق والحرية والسيد المسيح" وفي رسائل سنة 1630 يقرر أن العقل الإلهي لا يخضع لتلك الحقائق مثلما تخضع لها العقول البشرية ومع ذلك فان هذه الحقائق ليست جزءا من ذاته وليست موضوعات خارجة عنه ومفروضة عليه ، إنها لا تصدر عنه ولا تنبعث منه لأن الذي صدر إنما صادر بالضرورة فهو مرتبط ضرورة بالذي صدر عنه وهو ما يمتنع تصوره في الله الذي لأي خضع لشيء ولا يرتبط بشيء وان يخضع لمشيئته كل شيء.

من البين إذن أن ديكارت يتحدث عن الحقائق كماهيات وطبائع ثابتة يتقبلها العقل ويرى أنها غير مستقلة عن الله ولا يخضع لها بل يريدها ويخلقها، حول هذا الموضوع يصرح ديكارت:"إن الله لا يعرفها لأنها حقائق ثابتة بل إنها حقائق ثابتة لأن الله يعرفها". لكن كيف تخضع الحقائق الأبدية لمشيئة الله؟

انه مماثل لخضوع المخلوقات للخالق، فالله خلق هذه الحقائق بكونه أرادها وفهمها منذ الأزل وهو يريد ويفهم ويعلم في نفس الوقت وبنفس المعنى في وحدة مطلقة وبما أن هذه الحقائق مفهومة لدى الإنسان وفي مستوى إدراكه وفي متناول معرفته فإنها مخلوقة مثله وخاضعة لقدرة الله ومشيئته، كما تمثل الحقائق والقوانين العلمية وسيطا بين الإرادة الخالقة والإنسان فهي خاضعة لله من جهة ومفهومة من قبل الإنسان يستطيع اكتشافها واستغلالها من جهة أخرى. إن الإنسان لا يقدر على تغيير هذه الحقائق لأنها أبدية ولأن الله وحده الذي أرادها وإرادته لا حدود لها وهي ما يمكن فهمه على الإطلاق لأن العقل في الله لا يسبق الإرادة ولاسبق زمني أو منطقي في الله. إن الله غير مفهوم لنا نحن المخلوقات لأنه القادر المريد ولأن قدرته لا يحدها شيء كما أن حريته لا يفسرها أو يعنيها شيئا فهو قادر مثلا على عدم خلق العالم أو على إنهاء الحياة في الكون في أي لحظة شاء ويمكن أن يجعل زوايا المثلث لا تساوي لزاويتين قائمتين وان يجعل أقطار الدائرة غير متساوية. وينتهي ديكارت إلى هذه النتيجة الباعثة على الحيرة: لقد أراد الله هذه القوانين في العالم الطبيعي مثلما يريد ملك من الملوك القوانين في مملكته.

علاوة على ذلك يقسم ديكارت الأفكار التي توجد في النفس إلى ثلاثة أنواع:

- أفكار خارجية صادرة عن الحواس وتمثل جملة من الانطباعات والكيفيات وتدل على موضوعات خارجية مثل أفكار اللون والصوت والطعم وتتركب من الأجسام والأحداث.

- أفكار مصطنعة يركبها الخيال من الأفكار الخارجية وهي لا تحيل إلى الواقع ولا تفيد معنى.

- أفكار فطرية نتعرف عليها بمجرد النظر في طبيعتها وهي راسخة في النفس مثل الشيء والوجود والذات والحقيقة والامتداد والله.

إن فلسفة ديكارت تتضمن مواقف ميتافيزيقية خطيرة وان معرفة الإنسان لذاته تمر حتما عبر معرفته لله وإذا كان الوجود المعقول بوجه عام مخلوقا يستطيع الإنسان ألا يرتبط به وألا يخضع له فإن الله قادر على أن يوجد مخلوقات لا تظهر على حقيقتها ويبدل سنن الكون متى شاء والتدخل في الطبيعة.

غاية المراد أن ديكارت يشير إلى أن الله يخلق الحقائق الأبدية ويضعها في الطبيعة بإرادته ويترك للإنسان الحرية للتصرف في الطبيعة كما يشاء ولحكم العالم وهكذا تكون الميتافيزيقا هي أساس الفيزياء والتيولوجيا هي جذور الفلسفة الطبيعية الجديدة التي يصنعها على هدي النور الفطري للعقل. فكيف ستظهر هذه الإرادة الإنسانية الغازية للطبيعة على الصعيد العملي؟

4- الأخلاق والسياسة والحرية:

" أفضل الدعة وان أفكاري في الطبيعة هي آراء نسبية لا أريد أن أثور بها على سلطات لها مقام في السيطرة على أفعالي"

في مقال عن المنهج عاب ديكارت على الفلسفة كونها ليست "سوى مدرسة للشك قبل أن تكون مدرسة علم ويقين" وحمل على الرياضيات لأنها لا تطبق في جميع أوجه الحياة وانتقد أساتذته الذين يعتمدون على الجدل السخيف والنقاش العقيم ويجهلون المنهج الذي يعصم من الوقوع في الخطأ ويرى أن الكائن ميال بطبعه إلى التمييز بين الصدق والباطل ويرى بوضوح ويسير بثبات وينشد سعادته.

إن الفلسفة عند ديكارت هي قواعد يقترحها الذهن إلى الإرادة لكي تهتدي بها ولهذا اهتم في آخر محاولاته ورسائله الفلسفية بالأخلاق وينظر إليها على أنها تدرس اتجاه الإنسان نحو الفضيلة والسعادة وما تشترطه من إلمام شامل بكل المعارف بما في ذلك الميتافيزيقا والطب لاسيما وأن الإنسان نفس متحدة بجسم والسعادة تقوم على صحة الجسم. النسق الفلسفي عند ديكارت يقوم على ثلاثة محاور هي النفس والعالم والله وترتبط الميكانيكا بالطبيعة ويدرس الطب الجسم الانساني وتهتم الميتافيزيقا بالله.

لما كان ديكارت يخوض تجربة الشك ويبحث عن الحقيقة كان لزاما عليه أن يفترض مجموعة من القواعد يهتدي بها في سيره وقد سماها الأخلاق المؤقتة وقد ذكر ذلك في الجزء الثالث من مقال عن المنهج سنة 1619ميلادي وقد صاغها على النحو التالي:

1- أن ينصاع الفيلسوف لقوانين وتقاليد بلاده وأن يحافظ على دينه ويتبع في العمل أعدل الآراء وأبعدها عن الغلو.

2- عدم الاشتراط يقين كامل في الآراء التي يتخذها في الميدان العملي مع الالتزام بالسير حسب الرأي الذي اختير دون تردد.

3- أن يعني الإنسان بما كان صادرا عن نفسه فحسب ولايتهم بما يأتيه من الأحداث الخارجية سواء كانت حسنة أو سيئة.

لم يكن هدف ديكارت من هذه القواعد إيجاد علم أخلاقي أو مذهب جديد وإنما توجيه حياته نحو الأنفع وتسديد أعماله نحو الأصلح وقد صاغه بعد بحث مطول في الطبيعة البشرية وبالإنصات إلى صوت العقل والاستفادة من ثقافته اليسوعية والتراث الرواقي عند أبيكتيت وسيناك.

ينبغي أن يستمر المرء في إتباع برنامج الحياة الذي سطره لنفسه وأن يبحث في مختلف الميادين ويتقيد بأحكام العقل ومثلما بإمكانه أن يصبح سيدا على الطبيعة بواسطة المنهج العلمي فإنه قادر على أن يسيطر على الانفعالات ويصل إلى السعادة ويصبح مستقلا. ويظهر التأثير الرواقي هنا عندما يصرح ما يلي:"ليس بإشباع الرغبات يكون الإنسان حرا بل بتحطيم الرغبات" ويضيف:" أن نغير رغباتنا ولا نظام الكون" ويقصد أن هناك أشياء أمرها بيدنا ويمكن تغييرها وهناك أشياء ليست بيدنا وينبغي أن نقبلها، و"لا شيء يكون تحت قدرتنا أكثر من أفكارنا" وكذلك الرغبات والانفعالات والأحاسيس أما الأشياء الخارجية مثل الحظ والقضاء والقدر فهي خارج سيطرة الإنسان ولا تتعلق بإرادته ولذلك ينصح بألا نرغب في أن تأتي الأشياء مثلما نرغب وإنما نرغب في أن تأتي مثلما تأتي ونكون سعداء".

ينادي ديكارت هنا بتحقيق المصالحة مع الواقع وإتباع القدر وذلك بالجمع بين الحذر والصرامة الذهنية وضرورة الحياة لأن الكانسان مثلما بإمكانه أن يصبح قديسا يمكنه أيضا أن يخطئ ويتدحرج عن مكانته. هكذا يقوم الإنسان بما يقدر أن يقوم به والنتيجة التي تعقب الفعل ليست متعلقة به وليس له قدرة عليها وإنما يتحكم فيها نظام الكون وحركة التاريخ. في رسالة إلى اليزبات يقر ديكارت آن الإنسان قادر أن يكون حليما "عندما يحس في نفسه تصميما ثابتا وصارما في حسن الاستعمال بمعنى ألا ننقص أي شيء في إرادتنا من أجل مباشرة وتنفيذ كل الأشياء التي حكمنا أنها حسنة: انه الذي يهتدي بالفضيلة اهتداء تاما." أما في انفعالات النفس فانه يقر باتحاد النفس والجسم ويقر بفعل الجسم في النفس عند الإحساس والانفعال وفعل النفس في الجسم عند الفعل الحر بل "إن الانفعالات تصبح ذات جدوى عندما تقوي وتثبت الأفكار". إن فضائل اللطف والغبطة يتوقفان على الاستعمال الحسن والسيطرة على الانفعالات.

إذا كان الإعجاب هو نوع من الانتباه الفطري فإن الإرادة تشعر بالفرح عندما تنجز فعلا فاضلا يقرره لها الذهن وتشعر بالحزن عندما ترتكب فعلا مذموما. إن النفس لا تقدر على تغيير كمية الحركة في العالم ولا تستطيع تغيير قوة الانفعال ولكن يمكنها أن تغير اتجاهه بالحد منه أو بالزيادة فيه لأنها نفسا حرة. والقيمة الحقيقة ترجع إلى قدرة الإرادة على التصميم وتنفيذ قرارات الذهن. حري بالإنسان إذن أن يقدر نفسه ويحترمها حتى يتمكن من ممارسة حريته ويسيطر على إرادته وتجعله شبيها بالآلهة.

إن الممارسة التامة للفضيلة تقتضي أن يتحلى المرء بالشهامة والمروءة وان يقدر نفسه ويحترمها ويتصرف بحرية ويحب غيره وربه ويريد الفعل الحسن. وإذا كانوا لا يحتقرون غيرهم فان هذه الفضيلة تمنع عدم احتقار الغير لهم لأنهم أكرم الناس والأكثر تواضعا يعترفون بهشاشة طبيعتهم ويعتبرون أخطائهم لا تقل فداحة عن أخطاء غيرهم. أما الكرم فيصلح لعلاج اضطراب الانفعالات لكونه يدفع الناس إلى إتيان جليل الأفعال ونكران الذات وخدمة الغير ويشعرون بالثقة في النفس ويطهرون من الغيرة والحسد والكراهية ويعتصمون بالفضيلة.

بقيت قضية الحرية التي يطرحها ديكارت في كتاب المبادئ ويرى أنها أعظم صفات الكمال التي تمنح إلى الإنسان لكونها هي التي تجعله موضح الذم أم القدح. ولما كانت الإرادة لامتناهية بطبيعتها فإن المرء حر في العويل عليها حتى يصبح سيد أفعاله وجدير بالمدح عندما يحسن قيادتها. وحرية الإرادة لا نعرفها بالدليل فقط بل بالتجربة الوجدانية إذ من البين والبديهي أن للإنسان إرادة حرة قادرة على القبول أو الرفض. أن الإنسان يدرك في نسه من الحرية ما يمكنه من الامتناع عن تصديق كل ما لا يعرفه معرفة تامة، أي أن الإنسان حر في ممارسة الشك وفي وضع معارفه السابقة بين قوسين. لكن ألا تتناقض حرية الإنسان مع أرادة الله المطلقة؟

تكمن الخطورة حسب ديكارت في محاولة التوفيق بين حرية الإرادة الإنسانية وأوامر الله لأن قدرته مطلقة بحيث لا يمكن أن نفعل شيئا إلا وقد قدره الله من قبل. علاوة على أن الإنسان يحوز من العقل ما يكفي لكي يعرف بوضوح وتميز أن قدرة الله كاملة ولامتناهية ويعرف أن هذه القدرة تسمح بأن تكون أفعاله حرة.

إن هذه الحرية الثابتة هي أمر ضروري من أجل أن يؤسس الإنسان الأخلاق لاسيما وأن المبادئ والقواعد والفضائل لا قيمة لها إذا لم يمتلك الإنسان وعيا ويكون غير حر وخاضع لجبرية معينة.

هذا ما يحسب لديكارت من مناهج ومعارف وأفكار ونظريات تبدو في الظاهر ثورية ولكن ماذا يعاب عند التقصي والاستنطاق على الديكارتية؟

خاتمة نقدية:

"النفوس الكبيرة قادرة على فعل أعظم الفضائل وارتكاب أبشع الرذائل"

صفوة القول أن فلسفة ديكارت هي خلاصة تجربة فكرية حديثة وقع التحضير لها لمدة طويلة وثمرة الجهد الذي بذله في مجال تجديد العلوم وتجويد الأساليب وتنمية المعارف ولذلك كان للديكارتية تأثيرا كبيرا على الفكر والحضارة الغربية وألقت بظلالها في العلوم وخاصة علم النفس الفزيولوجي وعلم الاجتماع الوضعي وتبوأت مكانة بارزة في عصر التنوير بحيث صار اللقب ديكارتي يكفي لكي ينعت حامله بأن عقلاني ومتنور. مع ديكارت تخرج الميتافيزيقا من العصر القديم لتصبح ميتافيزيقا الذاتية بحيث يكون الموجود بمقتضاها وجودا يعطي لذات وتصبح الذاتية أساس الوجود وفي ذلك ذكر هيدجر في دروب متشعبة ما يلي:" إن ماهية الإنسان نفسها ستتحول وسيصبح الإنسان مركزا ومرجعا للموجود بماهو كذلك ولكن هذا لم يكن ممكنا إلا شريطة تحول معنى الموجود رأسا على عقب..."

بيد أن ثقة ديكارت المبالغ فيها في العقل وتخليه النسبي عن دور التجربة ورده الوجود إلى الفكر وجعل الموضوع مجال لتمثل الذات وإيمانه بالآلية في تصوره للطبيعة والجسم وإرجاعه كل شيء في العالم إلى الامتداد أدى إلى تبني آراء محافظة وموروثة عن الماضي الفلسفي والعلمي. هناك العديد من المسلمات الميتافيزيقية التي أقام عليها ديكارت نسقه الفسلفي والعلمي دون أن يراجعها وثمة نوع من التمركز على الذات بلغت حد الأنانة والتنظير لغزو العالم ضمن رؤية ارادوية أفضت إلى انتشار الحملات الاستعمارية.

إن ديكارت ظل داخل التربة الأرسطية التي حاول جاهدا الفرار منها وبقي يتكلم لغة الجوهر والعرض والذات والكيفيات ويمارس الحدس والاستنباط تماما مثلما يفعل أي مفكر قروسطي. كما أن تجربة الشك كانت مصطنعة وتتضمن خلفية دينية واضحة للعيان ولم تكن شاملة بل استثنت المجالات العملية واحتاجت إلى نوع من الأخلاق المؤقتة من أجل تحقيق المصالحة مع الدين والسياسة. إن الكوجيتو الديكارتي بوصفه اليقين الأول ليس سوى نتيجة منطقية لمحاولة تطبيق المنهج العام الذي استمده من العلم في مجال الميتافيزيقا.ولكن بين الموقف الميتافيزيقي والموقف العلمي لا نجد تجانسا واتصالا منطقيا بل توجد فجوة هائلة وشرخا لا يمكن ردمه.

من بين الأفكار المحافظة التي تبناها ديكارت نجد مسألة الإنسان مدني بالطبع يرفض العزلة ويميل إلى التعاون مع الآخر ويقترح إتباع النور الفطري للعقل من أجل حل النزعات الطارئة على الناس تحت تأثير الانفعالات. زد على ذلك كان ديكارت مجرد أرستقراطي يؤمن بالمجتمع الفاضل الذي يحكمه الفلاسفة يرفض المعرفة المشتركة وينظر إلى الحقيقة على أنها فردية المنبت.

في مجال العلوم ارتكب ديكارت العديد من الأخطاء وكان متخلفا عن علوم عصره وخاصة رفضه فكرة الخلاء وسخريته من المنهج التجريبي الذي اعتبره فرانسيس بايكن الأورغانون الجديد وعدم اعتماده على كشوفات هارفي حول الدورة الدموية الكبري في نظرته الفزيولوجية إلى الجسم وحتى في مجال البصريات فهو لم يكن أكثر حداثة من ابن الهيثم وبقي داخل الفلك الأرسطي إذا استثنينا قوله بالانعكاس. السؤال الذي يطرح هنا ماذا لو تخلى ديكارت عن مبدأ الضمان الإلهي؟ هل كان قادرا بالفعل على الخروج من أناوحدية الكوجيتو واستعادة الثقة في الجسم والمادة والعالم والآخر؟ هل كانت اليقينيات ستتناسل من بعضها البعض وكانت كميات الحركات ستحفظ؟ أليس الكوجيتو نفسه في حاجة إلى إعادة تأسيس من منظور مختلف؟ كيف نعتبر الكوجيتو اكتشافا ديكارتيا أصيلا وهو نفسه يعتقد بوجود حقائق أبدية؟ ألا يوجد تناقض بين ديكارت الفيلسوف وديكارت رجل العلم وبين ميتافيزيقا الذاتية وفيزياء الاصطدام؟ وأليست برهنته الأنطولوجية على وجود الله هي الأخرى في حاجة إلى برهنة؟ لكن ماذا بقي من ديكارت في دنيا العقلانية اليوم؟ ألم يتحول هو نفسه إلى ميراث ينبغي التخلص منه وتراث يجب تحطيمه لكي نتوجه رأسا نحو الفكر؟

المراجع:
Œuvres et lettres de Descartes, publiées par Birdoux. Paris La Pléiade 1937.

تقسيم المسجد الأقصى تمهيداً لتهويده

صالح النعامي

في الوقت الذي يدفع الإنقسام الداخلي الفلسطينيين إلى مربع آخر من مربعات العبث والضياع، يخطو الصهاينة خطوة أخرى نحو تهويد المسجد الأقصى المبارك تحت سمع وبصر العرب والمسلمين. وبخلاف ما كانت عليه الأمور في السابق فإن مخططات تهويد المسجد الأقصى أصبحت واضحة المعالم، ولم يعد العمل على تطبيقها يقتصر على جماعات يهودية هامشية، بل إن جهات رسمية حكومية إسرائيلية أصبحت تنادي علناً وبشكل صريح بتقسيم المسجد الأقصى بين اليهود والمسلمين، على غرار ما هو عليه الحال في المسجد الإبراهيمي في الخليل. نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي سيلفان شالوم ووزير التهديدات الإستراتيجية موشيه يعلون كانا واضحين تماماً عندما اعتبرا أنه لا يوجد أي مانع من استنساخ تجربة المسجد الإبراهيمي في المسجد الأقصى. وعلى الرغم من التكتم الشديد على المخطط الصهيوني الرسمي الهادف إلى تهويد المسجد الأقصى ومنع المسلمين من الصلاة فيه، فإن الممارسات الصهيونية على الأرض تدلل على أن هذا المخطط يشتمل على عدة مراحل، تتم على النحو التالي:

1-جعل تواجد اليهود وسيما المتدينيين في المسجد الأقصى مسألة اعتيادية من خلال السماح بأكبر عدد من اليهود باقتحام المسجد والتجوال فيه تحت حماية رجال الشرطة الإسرائيلية، ومواجهة أي محاولة للتصدي لليهود بيد من حديد. وقد كشف وزير الأمن الداخلي إسحاق أهارونفيتش النقاب عن حملة أمنية سرية وعلنية تستهدف النشطاء الفلسطينيين الذين يتصدون لليهود عند اقتحامهم للمسجد الأقصى. وقد أخذت هذه الحملة أشكالاً مختلفة، فعلى الصعيد السري يقوم جهاز المخابرات الداخلية الإسرائيلي " الشاباك " بحملة إعتقالات واسعة النطاق ضد الفلسطينيين في القدس وتحديداً في البلدة القديمة الذين يشاركون في التصدي لقطعان المستوطنين عندما يقومون بتدنيس " الأقصى ". وتهدف حملات المداهمة الليلية شبه اليومية التي تتم في القدس إلى ممارسة ضغوط كبيرة على ذوي الشبان الفلسطينيين لمنعهم من المشاركة في التصدي للمستوطنين، علاوة على أن أجهزة الأمن الإسرائيلي تسعى إلى ردع بقية الشباب الفلسطيني وتحديداً المقدسيين من الإنضمام إلى مقاومة المغتصبين الصهاينة. وفي نفس الوقت يتم التصدي لفلسطينيي 48 الذين يفدون للدفاع عن المسجد الأقصى من خلال قمع قادة الحركة الإسلامية داخل فلسطين المحتلة 48 الذين يقودون مواجهات التصدي ضد قطعان المستوطنين وعناصر الأمن الصهيوني الذين يتولون حمايتهم. من هنا فقد سارعت المؤسسة الإسرائيلية إلى إصدار قرارين يحظر بموجبهما على كل من الشيخ رائد صلاح زعيم الحركة الإسلامية ونائبه الشيخ جمال الخطيب دخول القدس. وفي ذات الوقت تستخدم إسرائيل قدراً هائلاً من القمع ضد الشبان الذين ينجحون في التسلل للمسجد الأقصى، مع العلم أن السلطات الصهيونية تحظر على كل من هو دون الخمسين من العمر دخول " الأقصى ".

2- محاولة جلب أكبر عدد من اليهود للمشاركة في اقتحام " الأقصى "، وجعل عمليات الإقتحام تتم في أوقات متقاربة. وقد كان من اللافت مؤخراً هو كثرة المؤتمرات التي تعقدها الجماعات اليهودية المتطرفة لبحث سبل تهويد " الأقصى "، وعرض الجدل الذي يتم داخل هذه المؤتمرات على وسائل الإعلام من أجل تجنيد أكبر قدر من الدعم الشعبي لتهويد " الأقصى ". وكما أوضحت وسائل الإعلام الإسرائيلية فإن منظمات يهودية أمريكية تدفع مبالغ طائلة في إدارة حملات إعلامية تهدف إلى إقناع أكبر عدد من اليهود للمشاركة في عمليات الإقتحام المتكررة للاقصى.

3- وهناك سعي واضح لتغيير الوضع القائم في " الأقصى " والذي كان سائداً منذ العام 1967 من خلال ممارسة الضغوط على الحاخامية الكبرى في إسرائيل لتغيير الفتوى التي أصدرتها بعيد احتلال القدس خلال حرب الأيام الستة والتي حظرت بموجبها على اليهود الصلاة في المسجد الأقصى. وقد جاء هذا الحظر لدواع " فقهية "، حيث جاء في الفتوى التي أصدرها الحاخامان الأكبران لإسرائيل " نظراً لأن المسجد ( الأقصى ) مقام فوق الهيكل فإنه من المؤكد أن هناك الكثير من أشلاء الأنبياء والصديقين أسفله، من هنا يحظر الصلاة في المكان إلا بعد إعادة بناء الهيكل الثالث والتعرف على أماكن دفن الأنبياء الصديقين ". بكلمات أخرى الحاخامية الكبرى في إسرائيل لم تحظر صلاة اليهود في " الأقصى " لأنها تشك في حق اليهود بالسيطرة على المكان، بل لأنها ترى أنه لا يجوز الصلاة في المكان من ناحية فقهية وأن السماح بصلاة اليهود في " الأقصى " يجب أن تتبع سيطرتهم عليه. لكن خلال الأعوام الماضية حدث تطور لافت إذ إن عدداً من كبار الحاخامات أخذوا يصدرون فتاوى تنسف الفتوى التي أصدرتها الحاخامية العسكرية، وتجيز الصلاة لليهود في المسجد. وكانت نقطة التحول الفارقة في هذا المجال إنضمام الحاخام مردخاي إلياهو الحاخام الأكبر الأسبق لإسرائيل للحاخامات الذين يفتون بجواز الصلاة في " الأقصى "

4-يطرح الساسة والنخب الفكرية اليهودية إقتراحات علنية لطرد الفلسطينيين من المسجد الأقصى تمهيداً لبناء الهيكل الثالث المزعوم وتهويد المكان بشكل نهائي. فقد سبق لوزير الخارجية الصهيوني الحالي أفيغدور ليبرمان أن طرح فكرة فرض السيادة اليهودية على المسجد خلال الحملة الإنتخابية الأخيرة. في حين دعا جيرشون سلمون زعيم منظمة " أمناء جبل الهيكل " إلى تفكيك " قبة الصخرة " المشرفة ونقلها إلى مكة، على إعتبار أن اليهود يعتقدون أن الهيكل الزعوم يقع تحديداً أسفل الصخرة.

مما لا شك فيه إن التحركات الصهيوننية بشأن المسجد الأقصى تهدف في المرحلة الأولى إلى تقسيمه بين المسلمين واليهود على غرار ما يحدث في المسجد الإبراهيمي في الخليل تمهيداً لتهويده بالكامل. ومن أسف إن هذه التغول الصهيوني على المسجد الأقصى يأتي في ظل حالة التشرذم والتشظي غير المسبوقة التي تشهدها الساحة الفلسطينية وفي ظل عدم اللامبالاة العربية والإسلامية.

saleh1000@hotmail.com
هاتف : 00970599404726

الأربعاء، أكتوبر 28، 2009

مسؤولية مصر في إحياء التضامن العربي

صبحي غندور

رغم الاشتراك في التحدّيات والهموم، فإنَّ الحكومات العربية تتعامل مع هذه المسائل من منظورٍ فئويٍّ خاصّ وليس في إطار رؤيةٍ عربيةٍ مشتركة تحقِّق المصالح العربية.

إنّ المشكلة ليست في الظروف المحيطة بالعرب الآن بل في الجسم العربي نفسه، وتحديداً في رأس هذا الجسم، إذ ليس هناك حالياً صراعات في المنطقة حول طبيعة الأنظمة ومناهج التغيير .. فكلّ البلاد العربية محكومة الآن بأنظمة متشابهة سياسياً واقتصادياً، حتى لو حملت شعاراتٍ أو أسماء متباينة.

وليس هناك في العالم اليوم حالة من الاستقطاب الدولي لكي تفرز الحكومات العربية بين صديقٍ وعدوّ لهذه الدولة الكبرى أو تلك، فكلّ الحكومات العربية تنشد ودّ أميركا والغرب عموماً.

إذن، المشكلة عربياً هي بانعدام القرار العربي في وضع رؤيةٍ عربية مشتركة، وكأنَّ النظام الإقليمي العربي مرتاح لهذا الواقع العجوز طالما أنَّه يحافظ على استمرار الحكومات والمصالح الخاصَّة فيها!

وربّما يكون حاضر البلاد العربية اليوم هو أكثر الدلالات على مخاطر ما حدث في الربع الأخير من القرن الماضي، إن لجهة إخراج مصر من موقعها الريادي في المنطقة ومن الصراع مع إسرائيل بعد معاهدة كامب دافيد، أو لجهة آثار ما حدث من حروب ما كان يجب أن تحصل (الحرب العراقية/الإيرانية ثمّ غزو الكويت).. أو من تسوية فلسطينية خاطئة حدثت مع إسرائيل في "أوسلو"، فلم تحقّق سلاماً ولا عدلاً ولا تحريراً.

وهي كلها خطايا استفاد منها الطامعون من قوى كبرى دولية وإقليمية بهذه الأمّة، كما كانت هي المناخ المناسب لإدارة بوش من أجل احتلال العراق وتمييع القضية الفلسطينية وتعزيز الانشقاق العربي.

فالعرب يدفعون الآن ثمن هذه الخطايا الكبيرة التي حدثت في المنطقة، فضلاً عن أنّهم بلا مرجعية واحدة وبلا بوصلة مرشدة لحركتهم السياسية أو في مواجهة الحروب العسكرية على أرضهم.

إنّ ما يحدث الآن من تحسين وتعزيز للعلاقات السعودية/السورية هو خطوة بالغة الأهمية، وهو أمر يستدعي من مصر الانضمام اليه، فقادة دمشق والرياض والقاهرة يدركون أهمّية التضامن والتنسيق بين حكوماتهم من خلال تجارب سابقة أثبتت نجاحاتها في عقود ماضية وفي قضايا مصيرية، كما حصل ضدّ إسرائيل في (حرب أكتوبر) 1973، ثمّ في كيفيّة التعامل مع غزو نظام صدام حسين لدولة الكويت، وكذلك في إنهاء الحرب الأهلية في لبنان من خلال توقيع اتفاق الطائف.

وإذا كانت نتائج الاحتلال الإسرائيلي المستمر لأراضٍ فلسطينية وسورية ولبنانية، ثمّ الاحتلال الأميركي للعراق، قد أدّت، في ظلّ غياب المرجعية العربية الفاعلة، إلى نموّ الدور الإيراني في المنطقة، ثم تزايد التأثير التركي فيها، وانقسام حكومات المنطقة حول كيفيّة التعامل مع هذه القوى الإسلامية غير العربية المجاورة، فإنّ من شأن عودة الروح إلى التحالف السوري/السعودي/ المصري، أن يحقّق أفضل الظروف لإقامة حوار عربي/إيراني، وحوار عربي/تركي، يضمن كلٌّ منهما المصالح العربية على قاعدة تضامن عربي متين، ويخدم التنسيق المطلوب الآن بين الأمن العربي وجواره الإيراني والتركي وما لهذا الجوار الإقليمي/الإسلامي من دور مؤثّر حالياً في أحداث المنطقة.

إنّ العكس قد يحدث في حال تعثّر قيام التضامن العربي الفعّال أو في حال عدم عودة التنسيق الشامل بين دمشق والرياض والقاهرة. فالجوار الإقليمي له مصالحه وأولوياته، وسيعمل على ملء أي فراغ ينتج عن غياب الطرف العربي أو المرجعية العربية حتى لا يُعبَّأ هذا الفراغ من قبل طرفٍ آخر معادٍ له.

هذا هو واقع الجغرافية السياسية والأمنية الذي تتحكّم به أولويّة المصالح الذاتية، والذي يتحكّم الآن بصراعات المنطقة وبقوى النفوذ فيها.

الأمّة العربية تخشى بالحاضر على نفسها من نفسها أكثر ممّا يجب أن تخشاه من المحتلّين لبعض أرضها والساعين إلى السيطرة الكاملة على ثرواتها ومقدّراتها. وتسود بعض بلدان الأمة صراعات مسلحة تهدد وحدة الكيانات والشعوب معاً، وتُعزز من فرص التدخل الأجنبي في شؤون هذه الأوطان.

فضعف جسم الأمّة العربية هو من ضعف دور قلبها في مصر، ومن استمرار عقول هذه الأمّة محبوسةً في قوالب فكرية جامدة يفرز بعضها خطب الفتنة والانقسام بدلاً من التآلف والتوحّد.

وهناك وصف مشترك لأزمات سياسية قائمة في لبنان والعراق والأراضي الفلسطينية المحتلة، بأنّ حلَّ هذه الأزمات مرهون بمفاوضات واشنطن مع أطراف إقليمية فاعلة في المنطقة.

وخطورة هذا الوصف لأزمات خطيرة متفجّرة في منطقة المشرق العربي، أنّ فيه تسليماً من الأطراف المحلية بارتهان أوطانهم وقضاياهم ومصيرهم لصراعات خارجية، وبأنّ دور هذه الأطراف هو دور المراقب أو المنفّذ لقرارات وإرادات من هم في عواصم دول أخرى.

لكن هل كان من الممكن لواشنطن، أو لغيرها من العواصم الفاعلة في أزمات المنطقة الآن، أن تصادر دور الإرادات الوطنية لو كان هناك حدٌّ أدنى من التضامن العربي والرؤية العربية المشتركة لصيغ الحلول المنشودة لهذه الأزمات؟

فغياب التضامن العربي هو المسؤول الأول عن تحوّل أطراف محلّية إلى وكلاء الإرادات الخارجية.

إنّ استقلالية القرار الوطني في أيِّ بلدٍ عربي هي متأثرة حكماً باستقلالية القرار العربي عموماً. وهناك مزيج من الضغوط الأميركية والأجنبية تمارس الآن لمنع حدوث الأمرين معاً. أي أن لا تكون هناك إرادة عربية مشتركة تعبّر عن قرار عربي مستقل، إضافةً إلى دفع الأطراف المحلية أيضاً لمزيد من الارتهان السياسي والأمني الذي يعطّل فاعلية أي قرار وطني مستقل.

هي عناصر ثلاثة تُهيمن الآن على الواقع العربي، وكلٌّ منها يؤثّر ويتأثّر بالعنصر الآخر: غياب التضامن العربي وتحديداً التنسيق المصري/السعودي- السوري، ثمّ حضور الدور الأجنبي في تقرير مصير شؤون داخلية عربية وتدويل بعض هذه الأزمات، والعنصر الثالث والأهم هو اندفاع بعض القوى المحلية في أكثر من ساحة صراع إلى مزيد من الارتهان لقوى أجنبية بل إلى حدّ التسليم الكامل بما تقرّره هذه القوى من أجندة سياسية لأزمات هذه الأوطان.

لكن حينما تنظر الأطراف العربية بعيون عربية، وليس بمنظار أجنبي، إلى ما يحدث على أرضها وحول أوطانها، فإنّها ستصل حتماً إلى حتميّة التضامن العربي وأولويّة المصالح الوطنية.

التضامن العربي الفعّال على المستوى الرسمي بحاجةٍ أيضاً لتدعيم الوحدة الوطنية الشعبية في كلِّ بلدٍ عربي، فبذلك التضامن الرسمي وبالوحدة الشعبية يمكن مواجهة مخاطر التفتيت الداخلي للأوطان وتحديات واقع الاحتلال الإسرائيلي ومشاريع الهيمنة الأجنبية.

يبقى أنّ على مصر مسؤولية كبرى في إعادة إحياء دورها القومي المنشود، لصالحها ولصالح الأمَّة ككل.

نظرة شمولية على الاقتصاد المغربي


أ. د. اميل قسطندي خوري
(مستشار اداري وخبير اقتصادي)

تعتبر المملكة المغربية من الدول الاقتصادية الناهضة emerging economies شانها شان سائر الدول الصاعدة (او الناشئة) كدول البريك BRIC (البرازيل وروسيا والهند والصين) وبعض الدول الداخلة ضمن مجموعة العشرين G 20 مثل تركيا والمكسيك وجنوب افريقيا واندونيسيا والارجنتين وكوريا الجنوبية والمملكة العربية السعودية. وفي سعيه المستمر لمواكبة تغيرات العصر في كافة مجالات الحياة، بدا المغرب في الثمانينات من القرن المنصرم بتوجيه سياساته الاقتصادية الوطنية المنفتحة على مختلف الاقتصاديات العالمية نحو تطبيق نظام الخصخصة (ملكية الافراد لوسائل الانتاج)privatization . ففي عام 1990 شرعت المملكة المغربية في تنفيذ برنامج التخاصية، وذلك بهدف نقل عدد كبير من المنشات العامة (المملوكة من قبل الدولة) الى حظيرة القطاع الخاص. وقد تم تفعيل هذا النظام بشكل فعلي بين عامي 1993 و 1994. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: "هل يمكننا القول ان الاقتصاد الوطني المغربي (بصورته العامة) هو اقتصاد ذو طابع خاص private-sector economy؟" على الارجح، نعم .. يمكننا اعتباره كذلك. فاذا قلنا ان حصة القطاع العام public sector من اجمالي الناتج القومي للمغرب gross national product تمثل اقل من الثلث، نجد ان حصة القطاع الخاص تصل الى اكثر من ثلثي هذا الناتج، علما بان القطاع العام يمتلك النصيب الاكبر من معظم المشروعات الكبرى للبلاد (كمشاريع الاعمار والاسكان مثلا). وعلى صعيد التجارة الحرة يرتبط المغرب بعدة اتفاقيات تجارية وعلاقات اقتصادية متينة مع العديد من الدول العربية والاجنبية نذكر منها، على سبيل المثال، اتفاقية اغادير للتجارة الحرة Aghadeer free trade agreement وذلك مع ثلاث دول عربية شقيقة: الاردن ومصر وتونس.

يتالف الاقتصاد المغربي من ثلاث قطاعات رئيسية: الزراعة والصناعة والخدمات. يشكل القطاع الزراعي ما يناهز 17% من مجمل اقتصاد المملكة. ويشمل القطاع الزراعي الصيد البحري والزراعة التصديرية والفلاحة (كتربية المواشي مثلا). ويساهم الصيد الساحلي من الثروة السمكية بنسبة تقارب 82% من الناتج المحلي الاجمالي للمملكة المغربية. ومن اهم المحاصيل الزراعية agricultural crops لاقتصاد المغرب فهي الحمضيات والفاكهة والزيتون والحبوب (كالقمح والذرة والشعير) وقصب السكر والقطاني (كالفول والجلبان والعدس والفاصوليا البيضاء). وتعتبر الزراعة مصدرا رئيسيا من مصادر الدخل الفردي per capita/personal income لعدد كبير من سكان المغرب، اذ يعتمد زهاء 40% من اجمالي عدد سكان البلاد بشكل اساسي على هذا القطاع الحيوي الهام. اما الانشطة الصناعية فهي تتوزع على عدة محاور نذكر منها الصناعة الاستخراجية extractive manufacturing التي تعنى باستخراج المعادن والمياه والطاقة (كانتاج الكهرباء وتكرير البترول واستخلاص الزيوت الصخرية والطاقة النفطية ومشتقاتها) والصناعة الاستهلاكية manufacturing consumptive (كالمنتجات الغذائية والصناعات السمكية والمشروبات والتبغ) والصناعة التحويلية transformational manufacturing (كالصناعات الكيماوية وشبه الكيماوية والبتروكيماوية والمعدنية والتعليبية وصناعة النسيج والجلود والورق والورق المقوى ومعدات النقل) والبناء construction والصادرات exports والاشغال العامة public works. يساهم قطاع الصناعة بحوالي 35% من الناتج المحلي الاجمالي للمغرب. ومن المنتظر ان يتضاعف هامش الانتاج الصناعي بحلول عام 2012 بفضل عدة عوامل ومتغيرات اقتصادية نذكر منها مثلا تهافت المستثمرين private investors على المملكة وارتفاع معدلات الطلب consumer demand على مختلف الصناعات المحلية المغربية، وذلك نظرا لجودتها العالية واسعارها التنافسية المعقولة على مستوى العالم. ومن اهم الدول الاجنبية التي تستثمر باقة كبيرة من اعمالها ومصالحها التجارية business concerns المختلفة في المملكة المغربية، نذكر، على سبيل المثال, البرتغال والمملكة المتحدة وفرنسا واسبانيا والولايات المتحدة الاميركية. اما فيما يخص قطاع الخدمات، هناك حزمة متنوعة من النشاطات الاقتصادية business cycles التي تدخل في تشكيلة هذا القطاع الهام مثل التجارة والنقل والمواصلات والادارة العامة والمؤسسات المالية والاتصالات السلكية واللاسلكية. ويشكل قطاع الخدمات ما يعادل 52% من الناتج المحلي الاجمالي للمملكة ما يجعله من اكثر وانشط القطاعات الاقتصادية من حيث معدلات الانتاجية والمردوديات الربحية على رؤوس الاموال الاستثمارية profit returns on capital investments، ناهيك عن تحقيق عوائد اضافية لخزينة الدولة من الرسوم والايرادات الضريبية. وبناء على ما سلف ذكره من معطيات اقتصادية وبيانات احصائية statistical data فانه يمكننا القول ان الاقتصاد الوطني المغربي يمكن تصنيفه في بوتقة الاقتصاد المعني بالدرجة الاولى بقطاع الخدمات service economy.

وبالاضافة الى القطاعات اللوجستية الثلاث التي تشكل بمجملها الدعائم المحورية لاقتصاد المغرب، تعتمد المملكة على مصادر اخرى لجلب سلة متنوعة من العملات الصعبة hard currencies للخزينة العامة. تشمل هذه المصادر السياحة tourismالتي تعتبر احدى القطاعات الاقتصادية الوطنية الواعدة، والاستثمارات الخارجية المباشرة direct investments foreign، وعائدات الجاليات المغربية المقيمة والعاملة في الخارج expatriates’ returns من مدخرات الافراد وتحويلاتهم النقدية من العملات الصعبة التي تساهم بدور فاعل ومؤثر في مجمل الجهود التنموية الاقتصادية والاجتماعية للمملكة (كتشغيل رؤوس الاموال واقامة مشاريع استثمارية وانتاجية مختلفة)، اضافة الى سلة متنوعة من الصادرات المحلية العالية الجودة (كالفوسفات ومشتقاته والملابس الجاهزة والاجزاء الالكترونية والجوارب والمنتجات المعدنية والزراعية والبحرية مثل الاسماك الطازجة وزيت السمك والطحالب البحرية). والجدير بالذكر ان مجمل صادرات المغرب قد سجلت معدلات مقبولة جدا في حجم النمو الاقتصادي economic growth فاقت ما نسبته 10% على مدار سبع سنوات متتالية (2000-2007). وعلى الجانب الاخر من المعادلة النسبية للتجارة الخارجية foreign trade فان المملكة المغربية تستورد المواد التجهيزية والمواد الاستهلاكية والطاقة ومشتقاتها. ومن اهم المزودين suppliers/vendors اللوجستيين لاحتياجات المغرب المختلفة نذكر مثلا روسيا وايطاليا والمملكة المتحدة والصين والمانيا واسبانيا وفرنسا والولايات المتحدة الاميركية والمملكة العربية السعودية. اما الدول التي يصدر لها المغرب بالمقابل فهي تشمل ايطاليا والمانيا وهولندا وفرنسا والمملكة المتحدة واسبانيا والهند والولايات المتحدة الاميركية.

تتميز المملكة المغربية باقتصاد قوي ذي اداء رفيع يتسم بمرونة عالية وتنوع كبير ونظام مالي سليم وقطاع مصرفي متين. كما يتمتع الاقتصاد الوطني للمغرب بدرجة رفيعة المستوى من الديناميكية والاستقرار dynamism and stability. فقد تمكن المغرب من تقليص المستوى العام للاسعار general level of prices بشكل جوهري بفضل قدرته الفائقة التي اظهرها على ضبط تقلبات الاسعار prices fluctuationsمن خلال اعادتها الى معدلاتها الطبيعية regression to the mean والتحكم في معدلات متدنية من التضخم inflationوالابقاء عليها في حدود 1.8% على مدى اربعة اعوام متتالية (2000-2004). وبالرغم من ان نسبة التضخم قد ارتفعت نسبيا الى 3% في 2008 الا انها من المتوقع ان تعاود انخفاضها الى 2% خلال العام الحالي، وذلك بفضل التراجع النوعي لاسعار مستوردات المملكة الخارجية من السلع الاساسية كالنفط والحبوب والمواد الاولية. كما يتمتع المغرب بجاذبية كبيرة لمختلف الاستثمارات الاجنبية بفضل السياسات التصنيعية الارادية الحصيفة التي تنتهجها الحكومة المغربية من خلال سن التشريعات التنظيمية والقوانين المحفزة على دعم القطاعات الاقتصادية الانتاجية المادية (الصناعة والزراعة والتصدير) لوجستيا وماليا والاستغلال الامثل لرؤوس الاموال التشغيلية واقامة المشاريع الانتاجية المدرة للدخل القومي والفردي، وصولا بالمحصلة النهائية الى بناء بركة واسعة من الوظائف وفرص العمل المتنوعة التي من شانها ان تؤدي الى زيادة الدخول الاجمالية للمواطنين والتخفيف من حدة الفقر وخفض معدلات البطالة المرتفعة. ففي هذا الاطار، تمكن المغرب من تحقيق نجاح نوعي ملموس في جذب واستقطاب العديد من الاستثمارات الاجنبية التي وجدت في هذا البلد مناخا مناسبا وتربة خصبة للاستثمار على اراضيه. فقد لمسنا ترجمة حقيقية لهذه الاستثمارات في قطاعات اقتصادية متنوعة شملت صناعة الطائرات وتركيب السفن (الحربية والسلمية على حد سواء) والصناعات الغذائية والاوفشورينغ والنسيج والاتصالات. ومن العوامل اللوجستية التي ساهمت بفاعلية كبيرة في تحقيق نتائج ايجابية في هذا الاتجاه نذكر مثلا التسهيلات المرنة التي وفرتها الدولة للمستثمرين والموقع الاستراتيجي الهام للمملكة (الذي يربط بين القارة الافريقية واوروبا عن طريق مضيق جبل طارق Gibraltar) واتقان المغاربة لعدة لغات عالمية مختلفة وتوافر الايدي العاملة labor force المؤهلة والرخيصة. وللاستفادة القصوى من مجمل الفرص الاستثمارية الخارجية foreign investment opportunities التي اتاحتها الاجواء التشجيعية لهذه العوامل مجتمعة، قامت العديد من الشركات الاوروبية الكبرى بتحويل مجموعة واسعة من انشطتها الانتاجية المختلفة الى المملكة حيث تم توجيه هذه الاستثمارات النوعية واستغلالها بشكل فعال في صناعات عديدة ذات تكنولوجيا عالية state-of-the-art technology مثل السيارات والالكترونيات والصناعات الميكانيكية، على سبيل المثال لا الحصر. فالشراكة الاستراتيجية strategic alliance بين مجموعة رونو الفرنسية وشركة صوماكا المغربية لصناعة السيارات لهي خير مثال على ذلك.

كما يتمتع المغرب بقدرة عالية على امتصاص الصدمات الخارجية (كصدمات العرضsupply shocks) والتعامل معها بحصافة شديدة ما جعله قادرا على مواجهة الظروف الدولية الصعبة التي اتسمت بالارتفاع التاريخي لاسعار الغذاء والمواد الاولية الخام raw materials والسلع الاساسية الضرورية والتوامين المذهبين (الذهب الاسود والذهب الاصفر) والصمود بقوة عارمة في وجه الازمة المالية العالمية الراهنة global financial crisis التي كان لها اشد الانعكاسات السلبية على كافة الاقتصاديات الدولية وتجاوز تداعياتها المؤلمة بكل ثقة واقتدار وثبات واصرار. وان كان ثمة برهان ساطع على قدرة المغرب على الامساك بزمام الامور والتحكم الصارم في دفة التوازنات الاقتصادية الكبرى macro economics والتمكن منها والمحافظة عليها في مسارها الصحيح، فليس هناك خير دليل على ذلك من تسجيل المملكة نموا اقتصاديا باهرا بلغت نسبته 5.8% عام 2008 والذي من المتوقع له ان يتعاظم الى 6.7% خلال العام الجاري. ومن الجدير بالذكر ان الفضل الاكبر في تحقيق مثل هذا النمو كان لقطاع الزراعة.

ويعتبر المغرب من البلدان الغنية بالموارد الطبيعية المتنوعة مثل الفحم والملح والمعادن المختلفة كالحديد والباريتين والرصاص والمنغنيز والكوبالت والنحاس والزنك والفليورين والانتيموان والفضة والذهب. كما تعتبر المملكة المغربية من اغنى الدول كافة بمادة الفوسفات الحيوية، اذ يقدر مخزونها الاستراتيجي strategic reserve بما يعادل 75% من مجمل الاحتياطيات العالمية. وعلى صعيد الانتاج الاستخراجي يعتبر المغرب ثالث اكبر دولة منتجة للفوسفات على مستوى العالم واول مصدر لهذه المادة اللوجستية واول المصدرين للنسيج لدول الاتحاد الاوروبي European Union واول منتج للحامض الفوسفوري بنسبة تصل الى 46% من مجمل الانتاج العالمي الكلي world mass production. بالاضافة الى ذلك يعتبر المغرب من كبار مصدري الاسماك. ومع كل هذه الميزات والحسنات الايجابية للمغرب على صعيد الانتاج الوطني، الا ان المملكة ما زالت مقلة نوعا ما في انتاج الانتراسيت والبترول والغاز الطبيعي الذي لا يتعدى معدله 20% نظرا لمحدودية scarcity هذه المصادر من الطاقة الارضية الكامنة، الامر الذي يجعل المغرب بالكاد يغطي احتياجات السوق المحلية domestic market needsما يضطره في نهاية المطاف الى الاعتماد بشكل كبير على الطاقة المستوردة من الخارج.

وبالرغم من مجموعة العوامل القسرية التي تعيق تقدم المغرب باتجاه تحقيق النمو الاقتصادي المنشود (كالبطالة المتزايدة unemployment وتعرض قطاع الانتاج الزراعي لموجات متكررة من القحط والجفاف drought والارتفاع المضطرد للنمو السكاني population growth والاعتماد بشكل شبه كلي على تصدير سلعة استراتيجية واحدة -- الفوسفات)، الا ان المغرب ما زال ماض مضي الخيل الاصيل على طريق الاصلاح الاقتصادي economic reform والتنمية المستدامة الشاملة. فعلى سبيل المثال، تولي الحكومة المغربية اهتماما جليا بتطوير قطاعات اقتصادية اخرى (كقطاع النفايات المنزلية مثلا)، وذلك من خلال اجراء اصلاحات شاملة على مختلف الاصعدة القانونية والتنظيمية والتشريعية والمؤسسية والمالية والتقنية والبيئية والاجتماعية. كما ان الحكومة لا تدخر جهدا في تحقيق الانجازات تلو الانجازات على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وذلك من خلال سعيها المتواصل وعملها الدؤوب الجاد لاطلاق برامج اقتصادية متنوعة تهدف الى تطوير العديد من القطاعات الاقتصادية المحورية المختلفة (مثل الاتصالات والتجهيزات الصناعية والزراعية والبنى التحتية) وتحسين مستوى خدمات وسائل ومرافق النقل من جسور وشبكات طرق برية وسكك حديدية وموانيء (كميناء المحمدية وطنجة والداخلة والناضور) ومطارات (كمطار الدار البيضاء والرباط وفاس واغادير ومراكش وطنجة والعيون). وضمن رؤيتها التطويرية الرامية الى النهوض بالاقتصاد الوطني للبلاد، فقد تبنت الحكومة المغربية سياسات اقتصادية واضحة المعالم تجلت في وضع وتنفيذ مخططات تنموية شاملة economic development plans تهدف الى العمل على رفع سوية اداء وعطاء القطاعات الرئيسية الثلاث (الصناعة والزراعة والخدمات) التي تشكل بمجملها العمود الفقري لاقتصاد الدولة. من هذه المخططات نذكر مثلا "المخطط الازرق" الذي تم وضعه خصيصا للنهوض بالسياحة و"مخطط الانبثاق" الذي يهدف الى الارتقاء النوعي بالقطاع الصناعي و"المخطط الاخضر" الذي يعنى بتطوير الزراعة وتحسين مستويات الانتاج لهذا القطاع اللوجستي الهام.

_____________________
الاستاذ الدكتور اميل قسطندي خوري
مستشار اداري وخبير اقتصادي
Email: dekh@myway.com
عمان- المملكة الاردنية الهاشمية