د. عدنان بكريه
أكاد أجزم على أن ما يحدث في غزة من حصار جائر على شعبنا الفلسطيني... قلب موازين عديدة في مجمل السياسة العالمية ولخبط حسابات حكام إسرائيل ،لا بل أجزم أنه قلب الطاولة السياسية الانتخابية الإسرائيلية وعمق الخلافات بين الأحزاب هنا وأفرز تقاطبات حادة ووجهات نظر متباينة تكاد تشكل منعطفا في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وحتى العربي الإسرائيلي ..فحصار غزة وصموده الأسطوري يكاد يشكل الساطور الذي سيقسم الجسد السياسي الإسرائيلي...وعليه فالمطلوب من شعبنا وقادته استثمار هذه الحالة التي تمر بها المؤسسة الإسرائيلية بأحزابها وقيادتها واستغلال الضعف والوهن المسيطر على قادة الدولة العبرية لحصد المزيد من الانجازات على المستوى الوطني العام ..مطلوب من فتح كما هو مطلوب من حماس وباقي الفصائل إنهاء حالة الانقسام في الشارع الفلسطيني وبسرعة واستثمار الواقع الإسرائيلي المهتز لحصد مكاسب سياسية... استثمار الصمود الأسطوري للمواطن الفلسطيني لقلب موازين السياسة العالمية ...
أعيش هنا كوني ابنا من أبناء هذا الشعب شاء القدر أن نصمد ونبقى وأتابع عن كثب الاختلالات الحاصلة ليس فقط على مستوى القيادة الإسرائيلية التي تضع حساباتها الانتخابية في أية تسويات قد تُطرح ،لا بل أن الخلاف تفشى داخل المجتمع بشرائحه المتعددة والذي بات يصحو من غيبوبته ومن جرعات المورفين التي حقنتها بشرايينه القيادة وأوهمته بأنه أسطورة لا يمكن قهره وكسر شوكته وإرادته الفولاذية !!
علينا أن نكون أكثر تيقظا وحذرا مما هو قادم... إذ ليس من المقبول والمعقول أن نتحدث عن عملية سلمية في ظل الحصار المفروض وعمليات الاغتيال التي تطال أبناء شعبنا وبغض النظر عن انتماءاتهم الفصائلية .. الصواريخ الإسرائيلية لا تفرق بين الهوية الفصائلية للمواطنين .... والجوع لا يقتحم أبناء حماس دون فتح.. بل ان السياسة الإسرائيلية المبرمجة والمرسومة هي سياسة تنطلق من قاعدة ( التجويع من اجل التركيع ).. تجويع وحصار الشعب الفلسطيني وبالتالي تأليبه ضد القيادة الفلسطينية ودفعه للانتفاض على السلطة.
إن تحليل وسائل الإعلام الإسرائيلية في بداية الحصار وعلى لسان القيادة.. هو أن متابعة وتشديد الحصار ضد الشعب الفلسطيني يبقى الطريق الأجدى والأنجع والأسلم لضرب المقامة الفلسطينية وتصفية قيادتها لإجبارها على القبول بأية حلول قد تطرحها إسرائيل وطبعا يجب أن يرافق هذا الحصار عمليات عسكرية مكثفة لترويع الشعب وتأليبه ضد القيادة من أجل القبول بأنصاف الحلول مقابل فتات من الخبز .
إن التفكير الإسرائيلي هذا نابع من الغطرسة التي تلازم قادة الدولة العبرية وإيمانهم بان القوة قد تحقق شيئا وتأتي بالحلول التي ترتئيها على المسار السياسي وقد تثني الشعب الفلسطيني عن مواصلة مشواره النضالي حتى النهاية ..
لقد أثبت الانسان الفلسطيني انه قادر على تحمل الأعباء حتى النهاية ولن يفرط بحقوقه الحياتية والوطنية حتى لو أبقت إسرائيل حصارها لسنوات طوال ... لان النهاية ستكون لصالح الشعب الفلسطيني ومصير الاحتلال إلى زوال.....لقد بدأ الإعلام الغربي يعترف بان إستراتيجية إسرائيل في غزة قد فشلت .. حتى أنها جاءت بنتائج عكسية عما توقعته إسرائيل
"تكتيك إسرائيل في غزة لم ينجح. الحصار والعقوبات على السكان فشلت، ولم تؤدي إلى شيء يذكر سوى تعزيز موقع "حماس" وازدياد قوة المقاومة ". هكذا قاله مبعوث الاتحاد الأوروبي للمسيرة السلمية في الشرق الأوسط، مارك اوت في مقابلة مع "هآرتس". وحسب أقواله فان "آثار النشاط الإسرائيلي من شأنها أن تجعل غزة الصومال".
إنني أتوقع بأنه سيأتي اليوم الذي تقف فيه إسرائيل عاجزة على الاحتفاظ بالأراضي الفلسطينية لعدة أسباب أولها أنها واجهت وستواجه صمود أسطوري قلما سجل التاريخ مثله... وهي لم تتعلم الدرس من تجاربها وحروباتها ضد المقاومة الفلسطينية عام 82 في بيروت .... من هنا اجزم انه لو كان شارون الذي يقف على رأس الحكومة الإسرائيلية لاختلفت الحسابات... حسابات التعامل والتكتيك والتعاطي مع الأمور وبرغم انه أي شارون الأكثر تشددا إزاء التعامل مع الشعب الفلسطيني ... إلا أنه الوحيد بين قادة الدولة العبرية الذي يعرف معنى الصمود الفلسطيني وصلابته بعد أن عايشه إبان حصار بيروت عام 82 وولى متقهقرا.. لم تسعفه مجازر صبرا وشاتيلا في كسر شوكة الشعب الفلسطيني آنذاك .. ومن المفارقات انه يقف اليوم على رأس الحكومة الإسرائيلية رجل ضعيف مثل (اولمرت) تلاحقه ملفات الفساد وسياط (فينوغراد ) التي ستخرجه من الحياة السياسية مهزوزا مهزوما إضافة إلى حبال غزة التي كبلته وأخرسته ولم يعد قادر على الإجابة على التساؤلات التي يطرحها خصومه السياسيين.... لذا سيسعى للتغطية على فشله العسكري من خلال الهاء الرأي العام الإسرائيلي بغزة وحصارها والخطر الفلسطيني وما شابه ذالك من خزعبلات لن تفوتها له المعارضة ... إن إبقاء اولمرت على حصار غزة في الوقت الحاضر يدخل في حساباته الحزبية الانتخابية الضيقة ظانا بان الحصار والقصف قد يغطي على فضيحة فينوغراد وبأنه سيكون المنتصر في النهاية !! ولم يتعلم الدرس من صمود بيروت الذي أطاح بشارون عام 82 .
أما السبب الثاني الذي سيجعل إسرائيل عاجزة على الاحتفاظ بغزة هو عدم مقدرتها على مجابهة الصواريخ التي تطلق من هناك والتي باتت تشكل مصدر قلق للاسرائيلين وتضعف موقف اولمرت أكثر .. فالشارع الإسرائيلي بدأ يتساءل وبحق ما دام حصار غزة لم يمنع إطلاق الصواريخ ولم يردع المقاومة الفلسطينية ..إذا ما الغاية من الإبقاء على الحصار ... بل جاءت نتائج الحصار عكسية ..إذ أن الهدوء الأمني الإسرائيلي الداخلي الذي ساد لفترة سنتين لم يعد قائما اليوم.... من هنا بدأ بعض الساسة الإسرائيليين يطالبون ولمرت بالتنحي نتيجة فشله في التعاطي مع غزة وحماية المستوطنات من الصواريخ لا بل ان العمق الإسرائيلي أصبح مهددا والشعب الفلسطيني لم ينحني أمام الجوع ولم يركع تحت أقدام الحصار!
الصراع الداخلي في إسرائيل على أشده فالكل يحاول استثمار فشل اولمرت لصالحه ولمصالحه الحزبية والانتخابية واولمرت يقف خائبا أمام المعطيات لا حول له ولا قوة ...فشل في السلام كما فشل في الحرب وقد تفرز الساحة الإسرائيلية رئيس حكومة (كايهود باراك) أو (نتنياهو) مستقبلا وهما لن يستطيعان إسعاف امن الشارع الإسرائيلي ولا حتى الاقتصاد الإسرائيلي المنهار فهما ليسا بأفضل من اولمرت
النهاية كما أسلفت لن تكن إلا بصالح الشعب الفلسطيني إذا ما تحمل وصمد وصبر وقاوم... فلقد أصبح واضحا انه لا يمكن لأي زعيم إسرائيلي مهما كان نوعه وقوته أن يكسر إرادة الشعب... وإنني متيقن من أن إسرائيل لن تستطيع الاحتفاظ بالأراضي المحتلة كونها تشكل عبئا اقتصاديا وامنيا يدفع ثمنه المواطن الإسرائيلي
الدكتور عدنان بكريه /فلسطين الداخل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق