مراجعة زهير الخويلدي
"أن نصادر على أن الإسلام من حيث هو دين ونسق فكري في الآن نفسه تيولوجي قانوني واجتماعي سياسي يطرح عدة صعوبات آخذة بعين الاعتبار وبجدية مسلمات المسار الفلسفي الذي أدى إلى إنتاج فكرة العلمنة ونسخت في نص قانوني( قانون 9 ديسمبر 1905) هو أن نكشف عن بداهة. وأن نثبت العكس هو أن نثق في التفاهة"[1]
كتاب فرانك فريغوسي الصادر عن مكتبة الثقافية الدينية فايارد سنة 2008 مهم جدا من الناحية العلمية والثقافية لا لأنه يتناول الإسلام بوصفه موضة في الدراسات الإنسانية الراهنة بل لأنه يتطرق إلى وضعية مسلمي فرنسا في الجمهورية وتحولات العلاقة التاريخية بين الإسلام والعلمنة وانتقالها من التعارض إلى التفاعل المتبادل وتشكل رؤى إسلامية عن العلمنة ومواقف علمانية مرنة ومتفهمة ومخففة من الأحكام التقليدية المناهضة لإظهار الرموز الدينية في مؤسسات الفضاء العمومي.
يتضمن الكتاب مقدمة وأربعة أبواب كل باب ينقسم إلى ثلاث فصول وخاتمة وعناوين الأبواب مهمة وذات دلالة كبيرة ومؤثرة في مستوى طرح ومعالجة الإشكالية العامة التي يهتم بها المؤلف وهي العلاقة بين الإسلام والعلمنة أو بعبارة أخرى كيف يمكن تصور وجود الإسلام من منظور علماني أو المقابل وهو كيف يمكن التنظير لقيام علمنة من داخل المنظومة الإسلامية. لقد جاء عنوان الباب الأول على النحو التالي: الإسلام واللائكية laïcité: من التعارض إلى التفاعل المتبادل. وقد احتوى هذا الباب على مواضيع عدة نذكر من بينها التساؤل هل كان القرآن نصا سياسيا؟ واللاانقسام بين الحكم والسلطة في الإسلام وكذلك إشارته إلى الحضور البادي للعيان للإسلام في الدول الإسلامية عبر مجموعة من الموز والسمات الجلية وفحص دلالة الايمانية السياسية وحاول التمييز بين الهيئات وأيضا تطرق المؤلف إلى تيار الإسلام السياسي والحاكمية المعممة في الإسلام.
الفصل الثاني خصص لللائكية وتبحر فيه في عدة قضايا من بينها أن اللائكية هي إنتاج له أهمية مناقضة للتعاليم الإسلامية وأكد أن اللائكية مناقضة لجوهر الإسلام و بحث في النظرة الثقافية لللائكية اللاتسامح اللائكي وكذلك اعتبر البديل اللائكي ضرورة سياسية ومبدأ كوني يعبر عن مواجهة بين المشروع الإسلامي والمشروع اللائكي، ثم بحث المؤلف عن حدود النظرية الإسلامية الداعية إلى الفصل بين الدولة والدين وأكد أن النبي ليس سياسيا بل هو نبيا مرسلا من قبل الله بينما كان الخلفاء مجرد بشر ولم يكن لهم حسب رأيه أي أساس ديني وتساءل عن إمكانية وجود اتيقا في الإسلام ورفض تسييس الدين مهما كانت الذرائع طالما أن الحكومة الدنيوية المتسامحة هي البديل المجتمعي الذي يتعالى فوق كل الأديان.
لكن في الفصل الثالث من الباب الأول اكتشف الكاتب أن التفكير في الإسلام من زاوية اللائكية هو أفضل بكثير من التفكير في اللائكية من زاوية الإسلام وكأنه يلمح إلى أن اللائكية تترك مكانا للإسلام داخل نسقها بينما الإسلام يرفض اللائكية كليا باعتبارها فكرة غربية معادية، وينتقل بعد ذلك إلى تلمس الحدود المتحركة للهوية الإسلامية في فرنسا ويحاول الفصل بين الإيمان والشعائر والطقوس وبين معيار الجماعة والالتزام السياسي وينتهي إلى أن الإسلام فيه حد أدنى من الأرتوذكسية ودعا إلى التمييز بين الإيمان وأحكام الإسلام وبين البراكسيس الاجتماعي.
الباب الثاني كان مخصصا لوضعية المسلمين الفرنسيين في مواجهة العلمنةsécularisation وقد تناول في الفصل الأول مستويات الرصد للجالية المسلمة في فرنسا في ظل علمنة مباينة وانتبه إلى تفرنس الإسلام وأسلمة فرنسا من جهة الشكل التطبيقي للحضور الإسلامي في الأماكن المخصصة للممارسة الشعائر، ثم انتقل بعد ذلك إلى رصد ظواهر تدين مجاورة مثل الوثوقية البراغماتية الجديدة والطريقة العملية في التصوف وركز على ظاهرة المسلم الليبرالي باعتبارها مغايرة للمسلم الملتزم والحريص على أداء الشعائر والالتصاق بروح النص دون إعمال للعقل أو اعتبار للواقع.
الفصل الثاني من الباب الثاني كان فيه البحث موجها أكثر نحو الإسلام والظواهر المستحدثة فيها والمتعلقة بالخصوصية الفرنسية ضمن فضاء جمهوري علماني وقد أشار الكاتب إلى تعدد أنماط الانتماء وتثبيت الهوية داخل الإسلام وميز بين الإسلام المشاهد على المعتقدين الإيمانيين والإسلام الذاتي للمعتقدين غير المطبقين وبين الحد الأدنى من الإسلام عند الأشخاص المنحدرين من أصول إسلامية ودرس كذلك أسباب رفض الإسلام عند بعض الأشخاص الذين كانوا يعتنقون الديانة الإسلامية وحاول استشراف مستقبل الإسلام غدا في فرنسا وتراوحه بين النزعة العرفانية والنزعة الاثنية.
أما الفصل الأخير من الباب الثاني فانه متمحور حول إشكالية الحكم في الإسلام مبينا أسباب اختفاء هذا الشكل من الحكم في البلدان الإسلامية بعد الخلافة العثمانية ومفرقا بين الإمام والفقيه والقاضي ودرس بعض المحاولات التي سعت إلى تركيز حكومات دينية وأكد أنها ظلت محلية مرتبطة بالتقليد أكثر من كونها معاصرة ومواكبة لروح الحداثة وشخص واقع تطبيق الشريعة وامتحن مصداقية المنادين به وانتهى الى أن الأقلية فقط مع هذا الرأي وأن الأغلبية مع صعود الإسلام المعتدل والمتسامح.
الباب الثالث جاء تحت عنوان تنظيم الطقوس الإسلامية داخل الجمهورية بين الحماس والواقعية وقد درس في الفصل الأول مصادر الاستثناء الإسلامي لللائكية وربط ذلك بالتوسع الاستعماري وأعطى نموذج على ذلك وهو علاقة فرنسا بالجزائر وذكر بارتباط الدولة بالدين في الجزائر قبل قانون الفصل وذكر أن اللائكية فكرة استعمارية وأن كل المحاولات لبعاد الجزائر عن الإسلام بواسطة اللائكية قد باءت بالفشل الذريع ولم تتمكن من تهميش دور الدين في الشأن السياسي.
بعد ذلك تناول الكاتب في الفصل الموالي التجربة المعاصرة حول تعاقب المحاولات من أجل تنظيم العلمنة من الفوق إلى التحت وربط ذلك بما يتم اقتراحه من طرف البعض عن وجود التعددية في الإسلام وكشف عن محدودية التأثير الجزائري على الإسلام في فرنسا رغم سيطرتهم على إمامة جامع باريس وعلى كرسي الجالية المسلمة في فرنسا، في الفصل الثالث من الباب الثالث دعا الكاتب إلى حسن التصرف في الواقع الإسلامي وفق هندسة متنوعة ومن الناحية الثقافية والقانونية من أجل تفادي ظاهرة معاداة الأجانب وكشف عن المضيق الذي وقع فيه النظام الجمهوري وهو هل يبدأ بتنظيم الشعائر الدينية أم يدعو إلى إصلاح الإسلام حتى يتوافق مع مقتضيات الحياة المدنية في الغرب؟
الحل عند الكاتب هو التوجه نحو إسلام بوصفه دين دولة بمعنى ضرورة التوجه نحو نظام يستبعد أي ضرر من الإسلام.
نأتي إلى الباب الرابع والأخير والذي سماه المؤلف:" الحظائر والتوترات الخاصة بالإسلام في فرنسا" وتساءل فيه عن مستقبل المجلس الإسلامي في فرنسا وعن تمثيلية المسلمين في السلطات الجمهورية وتمثلية الدولة في هيئات المسلمين وطالب الكاتب بضبط الإسلام وفق ساعة التناوب السياسي ونصح بضرورة دمج منتسبي الديانات في المؤسسات ومأسسة الجمعيات والهيئات التي تجمعهم وطرح الإشكالية الهامة التالية: هل ينبغي أن نصلح الإسلام أن يجب أن نكيفه مع الواقع ونجعله قابل للتطبيق؟
الفصل الموالي هو حول الجمهورية ورصد التوتر بين الظروف الداخلية والمتغيرات الدولية وحدد الاهتمامات الكبرى للسلطات الجمهورية وأسند للإمام مهمة تنظيم الطقوس والشعائر الدينية وربط ذلك بالعودة إلى بعض النظريات المجموعاتية التي تعترف بمحاولات بعض الجماعات في الاعتماد على نفسها من أجل تكوين كوادر دينية وذكر المعهد العالي للدين الخاص بالمسجد الكبير بباريس والمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية ومعهد الدراسات الإسلامية بباريس وطرح الإشكال التالي: هل يتعلق تكوين الأئمة بتنظم جماعاتي داخلي أم بإرادة سياسية؟
وقد عالج مسألة الهامش الذي تدخل فيه الدولة لتسيير الشؤون الدينية لبعض الجماعات، وقد ركز الكاتب على ضرورة تطوير التعليم العالي الخاص بالإسلام.
الفصل الثالث من الباب الرابع كان سجاليا بامتياز لأنه احتوى على صراع بين مدرستين في الإسلام ةظهر فيه بعض المسلمين اللائكيين في مواجهة الدينيين وتفرز تعددية ثقافية وتنوع في المكونات الخاصة بالمسلمين والإسلام في فرنسا ونصح الكاتب بضرورة تجنب الإستراتيجية الثأرية الانتقامية والعملية السياسية التضليلية التي تنتهي إلى معاملة الإسلام معاملة اثنية.
الفصل الأخير من الباب الأخير عرض فيه فرانك فريغوسي الإسلام على محك الحق والقانون وأقر أن القوانين الداخلية للأديان تسمح للمسلم في فرنسا أن يمارس شعائره في كنف الحرية والأمن وأن ينشر ديانته في كنف التسامح والسلم ولذلك فانه نصح بتفاعل ملموس وغير محدود بين الإسلام والعلمنة رغم العلاقة التنافرية بين القانون الجمهوري والإسلام والماضي الاستعماري السيئ. لقد امتحن المؤلف بعض الإشكاليات العالقة الخاصة بإمكانية تطبيق القانون الوضعي على الشريعة الإسلامية وإمكانية معاملة الشريعة الإسلامية على أنها مجرد قانون شخصي وتشريع ثقافي ومبدأ اتيقي ينظم العلاقات بين الأشخاص المسلمين على المستوى الروحي والدولة تتكفل بتنظيم المستوى الدنيوي.
ميزة هذا الكتاب أنه لم يتطرق إلى القضايا الساخنة سوى في النهاية وبعد مجهود نظري كبير وتحليل إحصائي ومقارباتي مستفيض وبالتالي فهو لم يتورط في مأزق الموقف الفوري من تعدد الزوجات والحجاب وتطبيق الحدود بل ترك الباب مفتوحا لحرية المعتقد ونظر لإسلام جمهوري ليبرالي لا يتناقض مع الديمقراطية وحقوق الإنسان ويسمح بقيام علمنة تربوية وحرية في الضمير، فمتى يفهم المسلمون أن العلمنة مطلب إصلاحي تنبع من حاجة إسلامية ماسة للتجدد والاستئناف الحضاري؟
المرجع:
Frankc Frégosi, Penser l’islam dans la laicité ,librairie Arthème Fayard, 2008
كاتب فلسفي
الخميس، فبراير 05، 2009
التفكير في الإسلام من زاوية العلمنة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق