صبحي غندور
يقوم الواقع الراهن للمنطقة العربية على صراعات بين حكومات وعلى مزيج من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في داخل معظم البلاد العربية.
ومن الطبيعي أن تطالب شعوب المنطقة بأوضاع أفضل وأن تسعى من أجل حقّ المشاركة الفعّالة في الحياة العامّة، لكن المشكلة أنّ التحرّك الجماهيري يحتاج إلى آفاق فكرية واضحة المعالم، وإلى أطر تنظيمية سليمة البناء، وإلى قيادات مخلصة للأهداف وليس لمصالحها الخاصّة .. فهل هذه العناصر كلّها متوفّرة في الحركات الشعبية العربية الظاهرة حالياً؟
أيضاً، فإنّ الواقع العربي الراهن تختلط فيه مفاهيم كثيرة لم تُحسَم بعدُ فكرياً أو سياسياً. وهذه المفاهيم هي أساس مهم في الحركة والأساليب، كما هي في الأفكار والأهداف. فما هو الموقف من التعدّدية بمختلف أنواعها داخل المجتمع، ومن العلاقة بين الدولة والهيئات الدينية، وما هو الفاصل بين المقاومة المشروعة وبين الإرهاب المرفوض، وما هي العلاقة بين حرّية الوطن وبين حرّية المواطنين؟ وكيف يمكن الجمع بين الديمقراطية وبين الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كلّ بلد؟ ولماذا يمرّ طريق الديمقراطية في نفق مخاطر تجزئة الكيانات أو إخضاعها للسيطرة الأجنبية أولاً؟!
ثمّ هل ستكون "الشرق أوسطية" هي الإطار الجامع لدول المنطقة في حال جرى تطبيق مبادرات السلام وخطوات التطبيع مع إسرائيل، أم ستكون هناك خطوات جدّية نحو تكامل عربي شامل يعزّز الهويّة العربية المشتركة ويأخذ بالنموذج الاتحادي الأوروبي كصيغة مستقبلية للعلاقة بين الدول العربية؟
***
أسئلة عديدة معنيّة بها الحركات الشعبية العربية وقادتها في ظلِّ هذا الضجيج الحاصل حول مستقبل المنطقة العربية بعد انتهاء "الحقبة البوشية" ومجيء إدارة أميركية تتحدث عن أسلوب الحوار والتسويات بديلاً لسنوات الحروب والأزمات التي أشعلتها الإدارة السابقة.
وهناك بلا شكّ أوضاع جديدة ومتغيّرات ستحدث في المنطقة، لكنّها حتى الآن متغيّرات متوقعة دون حسم للاتجاه الذي تسير فيه.. أي أنّ هذه المتغيّرات ستحدث باتجاهات مختلفة، وليس لها هدف واضح يمكن الوصول إليه. فجملة عوامل تتراكم الآن لإحداث تغييرات داخل المنطقة العربية. بعض هذه العوامل هو نموّ طبيعيّ في مجتمعات الأمَّة، وبعضها الآخر هو مشاريع من الخارج يراهن على حصاد خاصّ يتناسب مع مصالحه في داخل المنطقة.
ولسوف يشهد هذا العام محطّات هامّة في مسيرة العلاقات العربية/العربية، والعلاقات الأميركية/الإيرانية، في ظلّ غموض كبير يلف مصير احتمالات التسوية الشاملة بين العرب وإسرائيل بعد الانتخابات الأخيرة فيها، إضافةً لما هو قادم من استحقاقات انتخابية في إيران ولبنان وفلسطين؛ وغير ذلك الكثير من التطوّرات المرتقبة على الجدول الزمني لهذا العام في بلدان عربية أخرى.
وتحدث هذه المتغيّرات العربية في ظلِّ التركيز الأميركي على المنطقة الآن، وفي مناخ من تفاهم أميركي/أوروبي، ربّما يشمل روسيا والصين لاحقاً، حول العديد من الاستحقاقات القادمة هذا العام.
***
لقد كان السياق العام لتاريخ المنطقة هو أنّ "الخارج الأجنبي" يتعامل معها كوحدة متكاملة ومتجانسة، في الوقت نفسه الذي يدفع فيه هذا "الخارج" أبناء الداخل العربي إلى التمزّق والتشرذم.
لكنّ سلبيّات الواقع العربي الراهن لا تتوقّف فقط على سوء الأوضاع العربية وعلى المخاطر الناجمة عن المطامع الأجنبية، بل تنسحب أيضاً على كيفيّة رؤية أصحاب الأرض العربية لأنفسهم ولهويّتهم ولأوضاعهم السياسية والاجتماعية.
ففي هذه الظروف التي تمرّ بها المنطقة العربية، تزداد مشاعر اليأس بين العرب وتصل ببعضهم إلى حدّ البراءة من إعلان انتمائهم العربي، وتحميل العروبة مسؤولية تردّي أوضاعهم.
إنّها مشكلة الخلط بين الانتماء والظروف، بين العروبة والأنظمة، بين الهويّة والممارسات.
إنّها مشكلة التعامل مع الانتماء القومي بمقدار ما ننظر إليه آنيّاً وليس بمقدار ما هو قائم موضوعياً.
فالانتماء الوطني والقومي، ليس ثياباً نلبسها ونخلعها حين نشاء، بل هو جلد جسمنا الذي لا نستطيع تغييره مهما استخدمنا من أدوات مصطنعة. وسواء رضينا بذلك أم لم نرضَه، فتلك طبيعة قانون التطوّر الاجتماعي الإنساني الذي ينتقل بالناس من مراحل الأسر والعشائر والقبائل إلى مرحلة الأوطان والشعوب والأمم.
إنّ العروبة فخرٌ لأبنائها وبناتها، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. فيكفي فخراً أنّ الأرض العربية كانت أرض الرسالات السماوية كلّها، وأنّ الله عزَّ وجلَّ كرّمها بأنّ بعث رسله كلّهم منها وعليها، فكانت هذه الأرض الطيّبة منطقة ومنطلق الهداية الإلهيّة للناس أجمعين في كلّ مكان.
أيضاً، إنّ ما تعيش عليه الحضارات الحديثة من علوم وفلسفة وطب وثقافة وهندسة ما كان ليحدث لولا المساهمات التي قام بها العرب في مراحل ازدهار الحضارة العربية وانتقالها إلى الغرب في قرون سالفة.
إلا أنّ هذا الافتخار بالماضي، لا قيمة له وحده، ما لم نجعله، بالعمل المستمرّ وبالمسؤولية الواعية، حاضراً نعيشه، وجسراً يصل بنا إلى خير مستقبل.
إنّ الشعوب تنتقل خلال مراحل تطوّرها من الأسرة إلى العشيرة ثمّ إلى القبيلة فإلى الوطن والأمم، فلِمَ نريد أن نعيد دورة الزمن إلى الوراء؟ بل ماذا فعلنا حتى تبقى أوطاننا واحدة تتطوّر وتتقدّم وتتكامل بدلاً من دفعها للعودة إلى صراعات القبائل والطوائف؟!
لقد مضى أكثر من ثلاثين عاماً من الزمن على محاولات تفكيك هموم الأمَّة العربية وتفكيك شعوبها من أجل تفكيك كياناتها ونزع هُويّتها الثقافية العربية واستبدالها بهُويات أخرى..
وتعيش الأمَّة العربية طيلة هذه العقود الماضية جملةً من الأحداث والقضايا يصعب الفصل بينها، وربّما يكون العرب الآن حالة نادرة بين شعوب العالم المعاصر من حيث تشابك القضايا لديهم لكن في ظلّ اختلاف الأولويّات والاهتمامات لدى أبناء الأمّة الواحدة.
فلم تعد هناك قضية مركزيّة واحدة تشدّ اهتمام العرب جميعاً، كما كان الحال العربي قبل منتصف السبعينات من القرن الماضي، وأصبح لكلِّ بلد عربي قضيته الخاصّة التي تشغل شعبه وحكومته، رغم وجود عناوين مشتركة لهذه القضايا مثل: الإصلاح السياسي الداخلي، التخلّف الاجتماعي والركود الاقتصادي، تحدّي الأمن والاستقرار، الحفاظ على الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي المشترك، إضافةً طبعاً إلى وجود مشكلة الاحتلال في بعض الأوطان.
إنّ انطلاق الحركات الشعبية العربية، بغضّ النظر عن عقائدها الفكرية ومواقعها العملية، من حسم مفهوم العروبة وتأكيد الانتماء لها، سيؤدّي مستقبلاً إلى تكامل الرؤى الإصلاحية الشاملة المرجوّة لدى العرب وبين البلاد العربية.
لكن الشعوب هي مجموعة أفراد، والوطن هو مجموعة مواطنين، لذلك فإنّ المستقبل العربي يتوقّف أيضاً على مجهود كلّ فرد فيه، ويتحمّل كلّ مواطن عربي في كلّ مكان مسؤولية وأمانة رسم آفاق هذا المستقبل، وتصحيح خلل المعادلة ما بين المقوّمات الإيجابية للأمّة العربية والواقع السلبي للأوطان..
الخميس، فبراير 26، 2009
العروبة والمتغيرات القادمة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق