الخميس، فبراير 12، 2009

العطب في رأس الأمة

صبحي غندور

بين قمة الخرطوم عام 1967 والقمم العربية الأخيرة، حدثت متغيرات كبيرة على المستويين العربي والدولي لكن الأبرز في واقع الحال العربي بعد أكثر من أربعة عقود هو الانحدار نحو مزيد من الصراعات والانقسامات، ليس فقط بين الدول والحكومات، بل بين أبناء الشعب الواحد في أكثر من بلد عربي.

المؤسف في واقع الحال العربي، أنَّه رغم الاشتراك في التحدّيات والهموم، فإنَّ الحكومات العربية تتعامل مع هذه المسائل من منظورٍ فئويٍّ خاصّ وليس في إطار رؤيةٍ عربيةٍ مشتركة تصون الحقَّ وتردع العدوان وتحقِّق المصالح العربية.

في السياق التاريخي المعاصر للأمَّة العربية، نجد أنَّ ما حدث عربياً في قمة الخرطوم بعد حرب 1967، كان نموذجاً صالحاً للتكرار في أكثر من حقبةٍ زمنيةٍ معاصرة، وخاصَّةً الآن.

فالعرب عام 1967 كانوا في أقصى حالات الصراعات العربية/العربية، وكانت بينهم حروب عسكرية داخلية (حرب اليمن وتفاعلاتها المصرية/السعودية)، وصراعات بين أكثر من حاكمٍ عربي، إضافةً إلى انقسامٍ سياسيٍّ حادّ حول طبيعة الأنظمة ومناهج الحكم (طروحات الاشتراكية والثورة والوحدة .. الخ)، وفي ظلِّ مناخٍ دوليٍّ حادّ الاستقطاب كانت تقود فيه أميركا حرباً، باردةً شكلاً وساخنةً ضمناً، ضدَّ المعسكر الآخر وكلّ من يتعامل معه من دول العالم الثالث ...

ورغم هذه الظروف كلّها، نجحت قمَّة الخرطوم عام 1967 في تجاوز كلِّ العقبات ووضعت رؤيةً عربيةً مشتركة لكيفية التعامل مح تحدّيات المرحلة آنذاك ولما هو مطلوبٌ عربياً من غاياتٍ مرحلية. أيضاً، نجحت قمَّة الخرطوم في بناء تضامنٍ عربيٍّ مشترك أنهى الصراعات العربية/العربية ووضع كلَّ الطاقات العربية في خدمة المعركة ضدَّ العدوِّ الإسرائيلي. وتزامن مع قمَّة الخرطوم سعي عربي مشترك للجمع بين العمل السياسي والدبلوماسي على الساحة الدولية وبين بناء الاستعدادات العسكرية لإعادة تحرير الأراضي المحتلة عام 1967، فكانت حرب الاستنزاف البطولية على الجبهة المصرية متزامنة مع قبول قرارات مجلس الأمن الدولي والمبادرات الدولية التي طُرِحت آنذاك. وكانت هذه الحقبة (67-1970) هي التي مهَّدت لحرب تشرين/أكتوبر عام 1973 والتي جمعت بين استخدام الطاقات العسكرية والاقتصادية معاً.

أمَّا اليوم، فالمشكلة ليست في الظروف المحيطة بل في الجسم العربي نفسه، وتحديداً في رأس هذا الجسم، إذ ليس هناك الآن صراعات في المنطقة حول طبيعة الأنظمة ومناهج التغيير .. فكلّ البلاد العربية محكومة الآن بأنظمة متشابهة سياسياً واقتصادياً حتى لو كانت تحمل شعاراتٍ أو أسماء متباينة.

وليس هناك في العالم اليوم حالة من الاستقطاب الدولي لكي تفرز الحكومات العربية بين صديقٍ وعدوّ لهذه الدولة الكبرى أو تلك، فكلّ الحكومات العربية تنشد ودّ أميركا والغرب عموماً.

إذن، المشكلة عربياً هي بانعدام القرار العربي في وضع رؤيةٍ عربية مشتركة، وفي عدم تحمّل مسؤوليات الدور القيادي المنشود لأكثر من طرفٍ عربي، وكأنَّ النظام الإقليمي العربي مرتاح لهذا الواقع العجوز طالما أنَّه يحافظ على استمرار النظام والمصالح الخاصَّة فيه!

كان العرب بعد حرب عام 1967 يحملون في صراعهم مع إسرائيل "البندقية في يد وغصن الزيتون في اليد الأخرى"، اليوم أيادي الوضع الرسمي العربي تحمل كلّها "أغصان الزيتون"، وهي متفقة كلها على "المبادرة العربية للسلام" ولا يهدّد أيَّ منها بالحروب العسكرية، رغم التباين الحاصل على الموقف من حركات المقاومة في فلسطين ولبنان.

التحدّيات على العرب قائمة بل ومتراكمة طالما أنَّ منهاج التعامل الرسمي العربي لا يخرج عن صفقاتٍ فئوية تحدث في السرِّ والعلن، فتُحقِّق منافع خاصَّة لكن لا تؤدّي إلى معالجة الأمراض العامَّة في المنطقة والتي تتحوَّل إلى أوبئةٍ تصيب أيضاً من عقدوا الصفقات واعتقدوا أنَّهم قد حقَّقوا الأمن الخاص من خلال "السلام المنفرد"!.

على الجانب الأميركي، هناك رؤية أميركية واحدة لمشاكل المنطقة العربية كلّها، وهناك أيضاً مشاريع حلولٍ أميركية لهذه المشاكل، وهي لا تنسجم كلها طبعاً مع آمال وطموحات شعوب المنطقة العربية.

وهذا التباين في واقع الحالين العربي والأميركي، يُشجّع واشنطن على ممارسة الضغوطات ضد بعض الأطراف العربية، وعلى عدم الضغط على إسرائيل في حال الأضطرار لذلك.

وربّما يكون حاضر البلاد العربية اليوم هو أكثر الدلالات على مخاطر ما حدث في الربع الأخير من القرن الماضي، إن لجهة إخراج مصر من موقعها الريادي في المنطقة ومن الصراع مع إسرائيل بعد معاهدة كامب دافيد، أو لجهة آثار ما حدث من حروب ما كان يجب أن تحصل (الحرب العراقية/الإيرانية ثمّ غزو الكويت) ومن تسوية فلسطينية جزئية ناقصة مع إسرائيل لم تحقّق سلاماً ولا عدلاً ولا حرّية.

العرب يدفعون الآن ثمن خطايا كبيرة حدثت في المنطقة، فضلاً عن أنّهم بلا مرجعية واحدة وبلا بوصلة مرشدة لحركتهم السياسية ولمعاركهم العسكرية.

فلو رفضت حكومة الرئيس المصري الراحل أنور السادات توقيع معاهدات التسوية مع إسرائيل ما لم تنسحب إسرائيل أيضاً من قطاع غزّة (فقط) الذي كان تحت الإدارة المصرية حينما احتلته إسرائيل في حرب العام 1967، ولو رفضت الحكومة الأردنية توقيع المعاهدة مع إسرائيل ما لم تنسحب الأخيرة من الضفة الغربية والقدس (وهي الأراضي الفلسطينية التي كانت خاضعة للإشراف الأردني)، هل كان من داعٍ لاحقاً للصراعات العربية حول مصير الضفة وغزة ومشروع الدولة الفلسطينية؟!

وقد وقع الفلسطينيون ضحية هذه المعاهدات أولاً، ثمّ ضحية اتفاقيات أوسلو التي لم تعترف حتى بأنّ إسرائيل هي قوّة محتلّة!

إنّ قادة دمشق والرياض والقاهرة يدركون أهمّية التضامن والتنسيق بين حكوماتهم من خلال تجارب سابقة أثبتت نجاحاتها في عقود ماضية وفي قضايا مصيرية، كما حصل ضدّ إسرائيل في حرب تشرين (أكتوبر) 1973، ثمّ في كيفيّة التعامل مع غزو نظام صدام حسين لدولة الكويت، وكذلك في إنهاء الحرب الأهلية في لبنان من خلال توقيع اتفاق الطائف.

وإذا كانت تداعيات الاحتلال الإسرائيلي المستمر لأراضٍ فلسطينية وسورية ولبنانية، ثمّ تداعيات الاحتلال الأميركي للعراق، قد أدّت، في ظلّ غياب المرجعية العربية الفاعلة، إلى نموّ الدور الإيراني في المنطقة، ثم تزايد التأثير التركي فيها، وانقسام حكومات المنطقة حول كيفيّة التعامل مع هذه القوى الإسلامية غير العربية المجاورة، فإنّ من شأن عودة الروح إلى التحالف السوري/المصري/السعودي، أن يحقّق أفضل الظروف لإقامة حوار عربي/إيراني، وحوار عربي/تركي، يضمن كلٌّ منهما المصالح العربية على قاعدة تضامن عربي متين، ويخدم التنسيق المطلوب الآن بين الأمن العربي وجواره الإيراني والتركي وما لهذا الجوار الإقليمي/الإسلامي من دور مؤثّر حالياً في أحداث المنطقة.

إنّ العكس قد يحدث في حال تعثّر التضامن العربي وجهود المصالحة بين دمشق والرياض والقاهرة. فالجوار الإقليمي له مصالحه وأولوياته وسيعمل على ملء أي فراغ ينتج عن غياب الطرف العربي أو المرجعية العربية حتى لا يُعبَّأ هذا الفراغ من قبل طرفٍ آخر معادٍ له.

هذا واقع الجغرافية السياسية والأمنية الذي تتحكّم به أولوية المصالح الذاتية، والذي يتحكّم هو الآن بصراعات المنطقة وبقوى النفوذ فيها.

ليست هناك تعليقات: