د. حازم خيري
"..ما أشد ما خُدعت، إذ أرى الآن السلم
وهو يأتى بفساد لا يقل عن خراب الحرب!"
جون ميلتون
رغم تمتعه بقدر يُعتد به من الوعي، واطلاعه على معظم كتاباتى السابقة، تعجب صديقي كثيراً، عندما أخبرته بنيتى أن أكتب مقالاً عن الآخر العربي، وراح يتساءل فى دهشة واستنكار: آخر عربي..هل هذا ممكن؟! أن يظلم العربي أو يستبد بسلطة، فهذا أمر شائع ومألوف، فى عالمنا العربي، أما أن يكون آخراً، فهذا ما لا أفهمه..ولا أقبله؟! الآخر كما تعلمنا منذ نعومة أظافرنا هو من لا ينتمى إلى ثقافتنا العربية الاسلامية..هذا هو الآخر!..وما ان هدأت حماسة صديقي وفرغ من حديثه، حتى راح يراقب، انطباعات وجهى، فلما رأى منى اصرارا على المضي قُدما، فيما كنت قد عقدت العزم عليه، قال: سأنتظر مقالك، ولو أنى واثق أنه لن يُقنعني، ففكرك الأنسني لا أظنه يُجدى فى الدفاع عن قضية خاسرة كهذه..!
لصديقي الكريم أن يعرف أنني أقدم إليه ـ فى هذا المقال ـ من الايحاءات أكثر مما أقدم من المعاني الثابتة، وأنني ادعوه، بل ارجوه، أن يجرب قدرته على تفسير كلماتى واتخاذ موقف منها، أكثر مما أدعوه إلى القبول بها والتسليم فى سلبية وخشوع! فالقراءة الخلاقة للنص أبعد ما تكون عن حالة التلقي السلبي أو الخضوع المُمتثل..إنها فريضة أنسنية أراني شديد الحرص على اداء قارئي لها!
للفيلسوف ليسنج، كلمات تقطر عذوبة وحكمة، أُوردها تزخيما لمحاجتى المُشار إليها تواً! يقول المُربي العظيم ليسنج: "ليست الحقيقة التى يملكها انسان أو يتصور أنه يملكها هى التى تجعل له قيمة، بل الجهد الصادق الذى بذله فى التماسها والسعي وراءها. فليس تملك الحقيقة هو الذى ينمي طاقاته وقواه، بل إن البحث عنها هو الذى يعمل على تفتحها، وفيه وحده تكمن قدرته على الاستزادة من الكمال. إن التملك ليجعل الإنسان كسولا، ساكنا، مغرورا..ولو أن الله وضع الحقيقة كلها فى يمناه، وجعل الدافع الوحيد الذى يحرك الإنسان إلى طلبها فى يسراه ـ ولو كان فى نيته أن يضلني ضلالا أبديا ـ، ومد نحوي يديه المضمومتين، وهو يقول: اختر بينهما! لركعت أمامه فى خشوع وهتفت به وأنا أشير إلى يسراه: رب! أعطني هذه! فالحقيقة الخالصة ملكك أنت وحدك!"..
قارئي الكريم، كلنا يرغب فى الاعتقاد بأننا نستطيع دائما البدء من نقطة جديدة كلياً، لكن الواقع المُعاش يؤكد ـ وياللحكمة ـ أن البدء من نقطة جديدة كليا إمتياز للإله وحده! فحياة الإنسان ـ على ما يبدو ـ أقصر من أن تكفي حتى لوضع الخطوات التمهيدية لعمل بعينه، وذلك بحسب تعبير إريش آورباخ! إذ أن العادات والولاءات والضغوط التى تمنع تبديل عملية قائمة بأخرى جديدة كثيرة جداً! أقول هذا لتعلم أيها القاريء أن النهج الأنسني المطروح، فى هذا المقال، وفي مقالاتى السابقة، ليس جديداً، وإن بدا غير ذلك، فما هو إلا خطوة على طريق، بناه وعبده غيرى، من أنصار الفكر الأنسني فى شتى أنحاء المعمورة!
ولمن يسأل عن هوية هؤلاء الرواد الأنسنيين الذين أستلهم كلماتهم وأفكارهم فى جهودى الرامية لتأسيس تيار ثقافي أنسني فى عالمنا العربي، أقول إن الفكر الأنسني يختلف، بل أراه يمتاز عن غيره، باعتقاد أنصاره الراسخ فى الأخوة الإنسانية، فأنا كأنسني لا أفرق بين إخوتى فى الانسانية، وكيف أفعل؟! وأنا وهم رفاق طريق واحد..هو طريق الحياة! إن اللحم الذى على عظامي ليس غير اللحم الذى على عظامهم..؟! فكيف لى أن أطعنهم من غير أن أُدمى نفسي..؟!
من هنا، تراني أيها القاريء الكريم أستلهم كلمات وأفكار، جال بعضها فى صدور غير صدورنا، معشر العرب، ونبت بعضها فى أرض غير أرضنا، وعذرى فى ذلك أنى أؤمن بالإنسان، وأرى فيه بنياناً للرب، ملعون من يمد إليه يده بالسوء! ولمن يعارض استلهام مثل تلك الكلمات والأفكار، بحجة أنها آتية من جهة أعداء ثقافتنا العربية الإسلامية، أقول: هذا الفكر الأنسني يشكل جزءاً لا يتجزأ من التراث الإنساني، ونحن ـ معشر العرب ـ بحاجة إليه، وسوف نأخذ به ونستفيد منه، أيا تكن الجهة التي جاء منها، فلسنا استثناء من القانون الإنسانى!
قارئي الكريم، ما الضير فى امتلاكنا أفكار نشأت فى بيئة أخرى، خصوصا إذا صار هذا الامتلاك خصباً، على نحو ما سنرى فى هذا المقال؟! ألسنا جميعا إخوة فى الإنسانية؟! ألسنا معشر العرب نستورد معظم احتياجاتنا المادية من أمم الأرض، نظراً لتخلفنا الشديد والمُخزي عن ركب التطور الإنسانى؟! ألسنا أحق بأعمارنا الضائعة، وثرواتنا المهدورة؟! لما لا نفكر، وحالنا بهذا التردى المُخيف، فى الافادة من التراث الإنسانى، خاصة فى جوانبه المضيئة، وهى عديدة، لنستعين به على تبديد ظلمات عقولنا وقلوبنا، ولنستعين به على امتلاك القدرة على النظر إلى شمس المستقبل، دون أن يخشى عليها غيرنا، أن يدنس تخلفنا طهارتها..؟!
الآخر العربي والصراع الثقافي:
ذكرت تواً أن الفكر الأنسني يختلف، بل يمتاز عن غيره، باعتقاد أنصاره الراسخ فى الأخوة الإنسانية، فما هى حكاية الآخر إذن؟! وكيف يستقيم قولنا بوجود آخر، مع حديثنا الدائم كأنسنيين عن الرفقة الإنسانية الصحيحة؟! الحق أنه ـ وكما سنرى فى هذا المقال ـ لا يوجد ثمة تعارض!..ولكن..لنبدأ أولا، أيها القاريء الكريم، بالحديث عن "الأنسنية"، وتوضيح ما أعنية بذلك المصطلح الواعد والمُهم، الذى أظن أن الأذن العربية لم تألفه بعد..! "الأنسنية"، هي تحقيق الإنسان، أى إنسان، أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين لقول الأنسنية بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص العامة للأنسنية(1):
[1] معيار التقويم هو الإنسان.
[2] الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة.
[3] تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها.
[4] القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه.
[5] تأكيد النزعة الحسية الجمالية.
الأنسني (الذات الأنسنية) إذن، هو من يدرك الأنسنية، بمعناها المُشار إليه تواً، ويسعى لتبصير الغير بها، ولا يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه! ولك أيها القاريء الكريم أن تعلم أنه لا يستقيم أن يكون البشر جميعا أنسنيين، فهذا ـ وإن جاز لنا كأنسنيين أن نطمح إليه ونعمل جاهدين من أجل تحقيقه ـ يظل حلماً بعيد المنال، قدر الإنسان ـ وياللحسرة ـ أن يسعى جاهدا لادراكه، لا أن يدركه!
نحن إذن فى حاجة لمعيار نميز به بين الأنسني والباقين، وهى مهمة شائكة، وإن بدت للوهلة الأولى غير ذلك، فالصيغة البشرية مبهمة ومعقدة، على نحو مُربك ومُخيف! على أية حال، أرانى أميل، فى هذا الصدد، إلى الأخذ بالمعيار الأنسني، فهو على ما يبدو الأكثر ملائمة وموضوعية، فى التمييز بين الذات الأنسنية والباقين، فطبقا له، يُعد الإنسان ذاتا أنسنية، طالما أدرك الأنسنية، وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه! ويُعد آخراً طالما أدرك الأنسنية واستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الباقين بها كنهج حياة، وتعميته لهم عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمانهم من جني ثمار الأخذ بها! وطبقا للمعيار نفسه، يُعد الإنسان ذاتا حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتاً مغتربة ثقافيا! فالشائع ـ في المجتمعات المتخلفة ـ هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه!
وأعنى بالثقافة هنا ما أورده الناقد ت. س. إليوت في مؤلفه ذائع الصيت والمهم "ملاحظات نحو تعريف الثقافة"، فالثقافة عند إليوت طريقة حياة شعب معين، يعيش معا في مكان واحد. وتظهر هذه الثقافة في فنون أبناء هذا الشعب، وفى نظامهم الاجتماعي، وفى عاداتهم وأعرافهم، وفى دينهم. و طبقا لإليوت الحائز على جائزة نوبل عام 1948، لا يكون اجتماع هذه الأمور الثقافة، وإن تكلم الكثيرون ـ للتسهيل ـ كما لو كان هذا صحيحا. فهذه الأمور ليست إلا الأجزاء التي يمكن أن تُشرح إليها ثقافة ما، كما يمكن تشريح الجسم البشري. ولكن كما أن الإنسان أكثر من مجموع الأجزاء المختلفة المكونة لجسمه، فكذلك الثقافة أكثر من مجموع فنونها وأعرافها ومعتقداتها الدينية. فهذه الأشياء كلها يؤثر بعضها في بعض، ولكي يفهم المرء واحدا منها حق الفهم يجب أن يفهمها جميعا.
والآن، أما وقد بينت لقارئي الكريم كيفية استخدام المعيار الأنسني فى التمييز بين الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر، يبيت ملائما الكشف عن قناعتي بأن تطور التاريخ الانسانى، لا يعدو كونه نتاجاً لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر! أقول صراعا ثقافيا، استنادا لتعريف إليوت للثقافة المذكور تواً، وأقول صراعا معقدا، لتعدد جبهاته وتداخلها!
فهناك الصراع بين الذات الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في تكريس اغترابها، وبين الآخر، محليا كان أم عالميا، المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن إغراء الذات المغتربة، باستخدام كافة الوسائل المستترة وغير المستترة، لحسم الصراع لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب الذات المغتربة، يُغذيه الآخر، كما أسلفنا ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي لمحو هويتها الثقافية وهدر ثروتها العقلية!
والآخر قد يكون محلياً وقد يكون عالمياً، وقد يكون الإثنين معاً، بمعنى أنه من الوارد، بل والمألوف، تاريخيا ألا يكتفي القائمون على حضارة(2) مهيمنة بعينها بتعمية أبناء الحضارات الأخرى عن الأنسنية وتكريس اغترابهم الثقافي، فنراهم يعمدون لفعل الشيء نفسه مع أبناء حضارتهم، رغبة من جانبهم في الاستئثار بثمار الأنسنية، وذلك لاعتقادهم بتعرض مصالحهم للخطر حال شيوع الأخذ بالنهج الأنسني! وحينئذ يجتمع الآخران المحلي والعالمي في آخر واحد، ويصبح الجلاد واحدا على الصعيدين المحلي والعالمي، وتتشابه إلى حد كبير سلوكياته تجاه أبناء حضارته، مع سلوكياته تجاه أبناء الحضارات الأخرى، وهو الأمر الذي يُنبئنا التاريخ بحدوثه في حقب زمنية بعينها. وقد يحدث أحيانا أخرى أن يكون الآخر العالمي أكثر شراسة في مواجهة أبناء حضارته عنه في مواجهة أبناء الحضارات الأخرى، وهو ما يعضد القول بقبح الآخرية(3) وشراستها!
ولأن المقال الماثل يركز على الآخرية العربية فى العصر الحديث، ولأن الآخرية العربية فى هذا العصر ليست هى الآخرية العالمية، عكس ما حدث فى عصور أخرى، حين كان الآخر العربى هو نفسه الآخر العالمي، أُميز فى مقالي هذا بين الآخر العربي (الآخر المحلي) و بين الآخر الغربي (الآخر العالمي)، والذى تناوله كاتب هذه السطور بالتحليل فى مقال سابق له بعنوان "الحضارة الغربية والبروميثية الغائبة"(4)! ولمن يسأل عن الآخر العربي المعاصر، أقول إن النخب الحاكمة(5)، في عالمنا العربي، تُشكل حجر الزاوية في هيكله، وأقصد بالنخب الحاكمة تلك الطائفة من الحكام والساسة وغيرهم، الذين ترتبط منافعهم دوما بالأوضاع المتردية، والمواتية لتعمية الذات المغتربة عن إدراك الأنسنية، فنراهم ينزعون في كل زمان ومكان للمحافظة على تلك الأوضاع، بدعوى الحفاظ على مصالح مواطنيهم (الذات المغتربة). وهو ما يُفضي بهم دوما إلى الانفصال الثقافي عن الذات، وان بدا الأمر للمغتربين ثقافيا خلاف ذلك. وأراني بحديثي هذا قد أعفيت تجار الآلام من عبء تذكيرهم المستمر والملح لمواطنيهم ولنا بقبح جلد الذات، فالثابت أن أولئك الذين تحملهم آخريتهم على تعمية مواطنيهم عن إدراك جوهر الأنسنية وهدفها، ليسوا ذاتا تُجلد، وإنما آخر تصطلى الذات بناره!..
الآخر العربي فى التاريخ:
بداية، واستناداً لما خلص إليه كاتب هذه السطور في كتابه "الاغتراب الثقافي للذات العربية"، فإنه يقرر بضمير مستريح أن الآخر العربي ما فتئ يباشر ـ منذ اللحظات الأولى لميلاده وحتى اليوم ـ مهمة تكريس الإغتراب الثقافي للذات العربية بصبر ودأب مُلفتين، أى تكريس تنازلها عن حقها فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، بهدف تعميتها عن إدراك الأنسنية! وهو ما يُصير التأريخ لاضطلاع الآخر بتلك المهمة المخزية وغير الإنسانية تأريخا للآخر نفسه، عربيا كان أم غير عربي. وكيف لا ؟! فلولا اضطلاع الآخر بتلك المهمة المُشينة لتعذر علينا ـ معشر الأنسنيين ـ رصد تاريخه في مواجهة الذات العربية! ولولا نجاحه في مهمته تلك ما احتجنا لتحبير كل تلك الأوراق لإقناع الذات العربية بوجوده!
لقد دأب تجار الآلام على اعتبار البحث في علاقة الآخر العربي بالاغتراب الثقافي للذات العربية سلوكا محرما ومكروها لديهم، لانطوائه بالضرورة على أمرين خطيرين: أولا، لفت الانتباه لوجود الآخر العربي وتعرية ضلوعه بشكل أو بآخر في تكريس مأساة اغتراب الذات العربية ثقافياً. ثانيا، حرمان الآخر العربي من حجة لطالما استخدمها لتجميل صورته، وهى تأكيده الدائم على محاكاته المشروعة لأجيال سابقة، ثبت تورط معظمها للأسف الشديد ـ وكما سنرى فى السطور التالية ـ في تهيئة الأجواء المواتية لتوظيف الاغتراب الثقافي وتكريسه!
من هنا تأتى أهمية أن يضع القاريء الكريم الإيضاح السابق نصب عينيه، ليجنب نفسه الوقوع في شرك طالما نصبه له تجار الآلام! وللقاريء أيضا أن يعي أن الكاتب لا يقصد بحديثه إعفاء الآخر غير العربي من مسئولية الضلوع بشكل أو بآخر في تهيئة الأجواء المواتية لتوظيف اغتراب الذات العربية ثقافياً وتكريسه، ودليل ذلك استحواذ تلك المسألة على حيز يُعتد به في بحوثه ودراساته المتعددة.
على أية حال، وقبل الولوج في الحديث عن تاريخ الآخر العربي، يسوق الكاتب لقارئه العزيز الأسانيد المعززة لقوله بتزامن الميلاد غير المتعمد للإغتراب الثقافي للذات العربية مع وفاة النبي. إذ أن التاريخ يشي بأن وفاته (ص) لم تلبث أن وضعت أصحاب الثقافة الإسلامية الوليدة، للمرة الأولى في مواجهة مباشرة مع مسألة النظام السياسي في دولتهم. ولما كان الإسلام قد ترك معالجة هذا الأمر المتغير بطبيعته للاجتهاد البشري، تثمينا للعقل البشري، أضحى منطقيا لجوء الإنسان العربي لثقافته السابقة يلتمس منها العون، بما لا يتعارض ـ من وجهة نظره ـ مع ثقافته الجديدة. ولعل في أحداث سقيفة بني ساعدة وما تلاها تعضيدا لتلك النظرية، فقد بحث العرب في ثقافتهم الجديدة عن مخرج سهل وواضح كالعادة! فلما لم يجدوا، لم يروا بدا من اللجوء لثقافتهم العربية، يلتمسون لديها الرأي والمشورة. وكان أن شهد عصر الصحابة الأجلاء أحداثا لم يتلاش أثرها قط، ولو أنه غطى عليها عدلهم، فضلا عن فيض محبة الناس للإسلام ولهم!
قال الصحابي الجليل أبو بكر للأنصار المجتمعين في سقيفة بني ساعدة: "..فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحد بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور". قالها وهو معجل يخاف على الدولة الوليدة أن تعصف بها الأنواء، فترامى إلى الأذهان أنه ما دام هناك مهاجرين أمراء ووزراء أنصار، فالأمراء سادة الوزراء(6). ولعل أمورا أخرى عضدت ذلك الإدراك، أبرزها ما أصاب سعد بن عبادة من المهانة في سقيفة قومه..!
كان سيد بني ساعدة مريضا، وحضر الاجتماع مزملا. فلما بويع أبو بكر خليفة(7) كاد الناس يطئونه في الزحام. فصاح نفر من أصحابه: اتقوا سعدا، لا تطئوه. فقال الصحابي الجليل عمر بن الخطاب بصوت يسمعه كل الناس وترويه المصادر كلها: اقتلوه! قتله الله! ولا يكتفي بذلك، بل يقول له: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضدك (أي حتى ينقطع ذراعك). ويغضب لذلك قيس بن سعد بن عبادة، فيأخذ بلحية عمر ويقول: والله لو قصصت منه شعرة ما رجعت وفى فيك واضحة (أي وفى فمك سن). فقال أبو بكر: مهلا يا عمر! الرفق ها هنا أبلغ(8).
وإذا كانت وفاة النبي قد أثارت أمورا بين المهاجرين والأنصار، فإن مقتل الصحابي الجليل عمر بن الخطاب على يد عبد فارسي، واشتراطه وهو على فراش الموت أن يختار أفراد مجموعة بعينها من بينهم أصلحهم للخلافة، أثار أموراً مماثلة بين المكيين الحريصين على منافع الإسلام والمهاجرين المسيطرين على المدينة. فعلى الرغم من جهود أبي بكر وعمر في استمالة أولئك المكيين، وذلك بتعيينهم في الوظائف العليا، كاختيار عمر لمعاوية واليا على سوريا، فإن المكيين ظلوا على سعيهم الحثيث إلى استعادة ما كانوا يعتبرونه حقا من حقوقهم. وكان عثمان مثل معاوية من أفراد أسرة أمية، الأسرة المكية صاحبة الزعامة قبل الإسلام، لذا اعتبرت أسرته اختياره للخلافة نصرا وفرصة مواتية لها لاستعادة ما اعتبرته سيادة مفقودة! وبالفعل، لم تلبث أسرة أمية أن نالت لبانتها، فأعطيت الوظائف العليا في الدولة واحدة بعد الأخرى لأفرادها. وهو ما ساهم، مع عوامل أخرى، في وضع نهاية مأساوية لحياة ذلك الصحابي الجليل، على يد جماعة مسلحة من عرب مصر الثائرين، كانوا قد جاءوا إلى المدينة لتقديم شكاواهم(9).
وقد يعن للبعض محاجة ما أشرنا إليه تواً بقولهم إن النبي استند في إتمام تبليغ رسالته الإلهية إلى قومه العرب، ومن ثم فلا غبار على صحابته الأجلاء من بعده إن شاب تعاطيهم مع مسألة النظام السياسي للدولة الوليدة قبساً من العصبية على النحو المذكور سلفاً. ولهؤلاء نسوق قول عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته بأن تبليغ الرسالة الإلهية لا يتم من غير عصبية، وأن الله ما بعث نبيا إلا في منعة من قومه(10). غير أن النبي وان كان قد استند في إتمام تبليغ رسالته الإلهية إلى قومه العرب، فلا يحق لمسلم بعد اكتمال تبليغه لرسالته القول بعصبية، فالرسالة الإسلامية الخاتمة جاءت لتذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية..
وهكذا، وبدون الدخول في مزيد من الأحداث والتفاصيل المؤلمة، التي تعج بها كتب التاريخ على اختلاف مشارب أصحابها، يبدو منطقيا القول بوجود ارتباط ما بين التعاطي العربي مع وفاة النبي ابتداء وصحابته الأجلاء من بعده وبين ميلاد الاغتراب الثقافي للذات العربية، أو بتعبير أدق وجود ارتباط وثيق بين التعاطي العربي مع مسألة النظام السياسي في الدولة الوليدة فور وفاة النبي وبين ميلاد الاغتراب الثقافي للذات العربية. فقد أبرزت الأحداث المجسدة للتعاطي العربي مع مثل تلك المواقف الحرجة، و التي اكتفينا بذكر نماذج منها، على سبيل المثال لا الحصر، لجوءا واضحا من جانب المسلمين الأوائل لخبرتهم السياسية السابقة على الإسلام، وهي متواضعة بطبيعة الحال، التماسا للرأي، في مسألة متغيرة بطبيعتها، تركها الإسلام للاجتهاد البشرى. وهو ما أثر بقوة فيما أصطلح على تسميته فيما بعد بالثقافة العربية الإسلامية، لأن المسلمين الأوائل بلجوئهم الواضح للثقافة العربية السابقة على الإسلام، والتي يُفترض أن تكون الثقافة الإسلامية قد نسختها أو على الأقل طورتها، تنازلوا عن حقهم الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، مهدرين بذلك فرصة الاستفادة من التثمين الإلهى للعقل الإنساني..
غير أنه، وعلى الرغم من أن عدل الصحابة الأجلاء وفيض محبة الناس للإسلام غطى على هذا الميلاد غير المتعمد للاغتراب الثقافي، لم تلبث التداعيات أن طفت للسطح مع بداية حكم الأمويين، حيث شهد عصرهم والعصور التالية له أجواء مواتية للتكريس المتعمد لذلك الاغتراب. وأغلب الظن أن الأمويين بتوفيرهم مثل تلك الأجواء، أعلنوا ميلاد ما يمكن تسميته بالآخر العربي، فقد انفصلوا عن أبناء أمتهم ومارسوا في حقهم للأسف ما حاكاه الآخر غير العربي فيما بعد..
باستثناء الأموي عمر بن عبد العزيز، يعج تاريخ الأمويين بالأجواء المواتية لتوظيف الاغتراب الثقافي وتكريسه. ومما يؤسف له أن ما شهده عصر الصحابة الأجلاء ألقى بظلاله على الممارسات الأموية، فلو أن تعاطى المسلمين الأوائل مع مسألة النظام السياسي للدولة الوليدة تم طبقا لما اقتضته الحكمة الإلهية، أي عبر تثمين العقل الإنساني والاستفادة من الزخم الأيديولوجي للإسلام، ما جرؤ معاوية وأنصاره على توظيف الاغتراب الثقافي لصالحهم، حين أقدموا على حيلة رفع المصاحف على أسنة الرماح والمناداة بأن "الحكم لله"، وهى مقولة حق أريد بها باطل(11). فليس متصورا عدم إدراك معاوية بذكائه ودهائه الشهيرين للغموض النسبي للتعاطي الإسلامي مع مسألة النظام السياسي للدولة، غير أنه آثر النجاة من هزيمة محققة على يد الصحابي الجليل على بن أبي طالب وأنصاره في معركة صفين، فلجأ لتوظيف الاغتراب الثقافي، الذي أفرزه تعاطى المسلمين الأوائل مع مسألة النظام السياسي للدولة، لصالحه وصالح أنصاره.
وبالفعل، نجحت الحيلة رغم إدراك علي لها، فقد أجبره فريق من أنصاره على قبول الهدنة. واتفق على أن يختار كل فريق حكما، كما اشترط على الطرفين المتنازعين، أن يقبلا نتيجة التحكيم. وعين معاوية عمرو بن العاص ممثلا له، وبهذه الحيلة كسب معاوية نصرا معنويا، إذ أنزل الصحابي الجليل علي بن أبي طالب، في الواقع، من مركز حاكم المسلمين (الخليفة) إلى مُطالب بالحكم. ليس ذلك فحسب، فقد ثار على علي جماعة من أنصاره، ممن لم يرضوا عن قبوله بالتحكيم. واقتضى إخضاعهم نشوب معارك دموية بينه وبينهم. وعرف هؤلاء في التاريخ الإسلامي المتعارف عليه بالخوارج، أي الذين خرجوا على الجماعة!
ألم أقل إن الأمويين وظفوا الاغتراب الثقافي لصالحهم، دون مبالاة بآلام المغتربين وأوجاعهم. غير أن المؤسف أنهم تجاوزوا توظيف الاغتراب إلى تهيئة الأجواء المواتية لتكريسه، مستفيدين في ذلك من مقتل الصحابي الجليل على بن أبي طالب على يد خارجي يدعى بن ملجم، ومبايعة ابنه الحسن معاوية حاكما للمسلمين. إذ أن معاوية لم يلبث بعد توطيد نفوذه كحاكم قوى أن لجأ لإخماد المعارضة لتعيين ابنه يزيد خليفة له بشتى السبل. ولندع عبد الرحمن بن محمد بن خلدون يحدثنا في مقدمته عن ابتغاء معاوية مرضاة آله بجعله الملك فيهم(12):
"..اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به، ولم يكن لمعاوية أن يدفع ذلك عن نفسه وقومه، فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها واستشعرته بنو أمية. ومن لم يكن على طريقة معاوية في اقتفاء الحق من أتباعهم فاعصوصبوا عليه واستماتوا دونه، ولو حملهم معاوية على غير تلك الطريقة وخالفهم في الانفراد بالأمر لوقع في افتراق الكلمة التي كان جمعها وتأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة".
وهكذا، تعضد كلمات بن خلدون ما ذهب إليه كاتب هذه السطور، رغم تأكيدها الضمني على أمر آخر يخالفه الكاتب، وهو استساغة فعل معاوية، بزعم جمع الكلمة ورأب الصدع! فأي خير يُرجى من جمع كلمة اغترب أصحابها، وأي خير يُرجى من رأب صدع التآخي، وصدع الاغتراب ما فتئ حائلا بين الذات العربية وحقها في امتلاك ثقافة حرة و متطورة..!!
على أية حال، عمد معاوية، كما أسلفنا، لإخماد المعارضة لتعيين ابنه يزيد خليفة له بشتى السبل، وكان من بين أولئك الذين أُكرهوا على السكوت عن ذلك التوريث، الحسين بن على، إذ لم يستطع معاوية أن يحمله على المبايعة، فأقام بمكة رافضا بيعة يزيد. وجعلت الرسل تتصل بينه وبين شيعة أهل البيت في الكوفة، وهم أكثر أهلها. وقد استجابت هذه الشيعة للحسين. ويقول المؤرخون أنها هي التي بدأت فدعته إلى أن يأتي الكوفة ليكون إمامهم فيما أزمعوا من خلع يزيد بن معاوية وإخراج عامله النعمان بن بشير. وبالفعل، جعل الحسين يتأهب للمسير إلى الكوفة، وحمل معه أهل بيته، وفيهم النساء والصبيان. ولما رأت الأعراب قدومه إلى العراق منابذا ليزيد طمعوا في صحبته، وانتظروا منها الخلاص من القهر الأموي، فتبعه منهم خلق كثير. ودنا الحسين من العراق وقد أرصد عبيد الله بن زياد له الأرصاد، بعد أن ولاه يزيد الكوفة، وأمر رجلا يُقال له الحر بن يزيد، على ألف من الجند، وأمرهم أن يلقوا الحسين فيأخذوا عليه طريقه ويحولوا بينه وبين الذهاب في أي وجه من وجوه الأرض، ولا يفارقوه حتى يأتيهم أمره. ولما عرف الأعراب أنها الحرب تفرقوا عنه، فلم يبق معه منهم أحد. وبذلك واجه الحسين وآله مصيرا مأساويا على يد الأمويين وعاملهم عبيد الله بن زياد، الذي آل على نفسه قتل الحسين وآله في مذبحة لا يزال التاريخ يتحدث بأخبارها (13).
فقد أصر عبيد الله على إذلال حفيد النبي وإجباره على النزول على حكمه، ولما رفض الحسين قائلا "أما هذه فمن دونها الموت"، زحف الجيش الأموي عليه وعلى أنصاره، وكانوا اثنين وسبعين رجلا، فقاتلوهم أكثر من نصف النهار. وأبلى الحسين وإخوته وأبناء عمومته ومن كان معه من أنصاره القليلين أعظم البلاء وأقساه، فلم يقتلوا حتى قتلوا أكثر منهم. ورأى الحسين المحنة كأشنع ما تكون المحن، فقد كان آخر من قتل. ومن ثم شهد في يوم واحد مقتل الكثير من أحبائه، فقد قتل ستة من أبناء الصحابي الجليل على بن أبي طالب، وكذلك قتل اثنان من أبناء الحسين نفسه، وقتل أيضا عبد الله بن الحسن وأخواه أبو بكر والقاسم، وهؤلاء الخمسة من أحفاد فاطمة ابنة النبي. وقتل من بني عبد الله بن جعفر الطيار محمد وعون، وقتل كذلك نفر من بني عقيل بن أبي طالب!!
وقُتل غير هؤلاء سائر من كان مع الحسين! فكانت محنة للطالبيين عامة، وأبناء فاطمة خاصة. ثم كانت محنة للثقافة العربية الإسلامية، عصف فيها بما هو معروف من الأمر الإلهي بالرفق والنصح وحقن الدماء إلا بحقها، وانتهك أحق الحرمات بالرعاية، وهي حرمة النبي التي كانت تفرض على الأمويين أن يتحرجوا أشد التحرج، ويتأثموا أعظم التأثم، قبل أن يمسوا أحدا من أهل بيته. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الناس تحدثوا فأكثروا الحديث، والحوا فيه بأن الحسن أخو الحسين قد مات مسموما لتخلص الطريق ليزيد بن معاوية إلى ولاية العهد، عرفنا أن المناخ السائد آنذاك، ولم يمض على وفاة النبي إلا خمسون عاما، كان نموذجيا لتكريس الاغتراب الثقافي للذات العربية تكريسا متعمدا، على أيدي الأمويين وعمالهم، من أمثال عبيد الله بن زياد والحجاج بن يوسف الثقفي ومن على شاكلتهم(14)، لأنه إذا كان تعاملهم مع آل البيت تم بتلك الوحشية غير المبررة، فلنا أن نتصور سلوكهم في مواجهة سائر رعاياهم، خاصة البسطاء منهم..!
لم يشأ العباسيون أن يكون نصيبهم أقل من أسلافهم الأمويين في تهيئة الأجواء المواتية لتوظيف الاغتراب الثقافي وتكريسه، إدراكا منهم لكون إدامة الاغتراب أمرا حتميا، إذا أريد لسلطانهم أن يوجد وأن يستمر. وبدا ذلك واضحا منذ اللحظات الأولى لميلاد دولتهم وتبوء أبو العباس السفاح سدة الحكم فيها، فلم يعد الحاكم العباسي خليفة للنبي، بل أصبح خليفة الله، وادعى انه يستمد سلطانه منه مباشرة! وتظهر هذه الفكرة في اللقب المهيب الذي اتخذه الخليفة العباسي وهو "ظل الله على الأرض"، كما تظهر أيضا في الأبهة والمراسم التي أحاط بها الخليفة نفسه وعدم سماحه باتصال الآخرين به إلا عن طريق عدد من الحجاب. وبرغم خضوعه من الناحية النظرية لما اصطلح على تسميته أحكاما إسلامية، إلا أن هذا الحد من سلطان الخليفة العباسي لم يكن ذا اثر من الناحية العملية..!!
أو بتعبير أدق، أصبحت الخلافة العباسية حكما مطلقا يستند إلى القوة العسكرية ويدعي لنفسه حقا إلهيا مقدسا، حتى في مواجهة الذات العربية، من حيث أن العباسيين لم يعتمدوا عليها في إقامة سلطانهم وتوطيده، الأمر الذي جعلهم يفرضون حكمهم عليها دون اللجوء في الغالب إلى الحجة والإقناع(15).
في دولة قائمة على هذا النحو، بات منطقيا أن يُعمل الاغتراب الثقافي أنيابه في أدمغة مواطنيها ـ أقصد عقل الذات المغتربة ـ، فلا يتركها إلا ركاما وحطاما، لا حراك فيها ولا رجاء منها! فهيهات أن يشهد مناخ كهذا نقد ثقافة أو تطوير فكر، حتى وان ادعى سدنة الإغتراب وتجار الآلام خلاف ذلك..
وقد تكون ثورة العبيد من الزنوج (255 ـ 270 هـ) برهانا وافيا في هذا الصدد، فقد حمل أصحابها ـ شأنهم في ذلك شأن العباسيين ـ ميراثا مرا، حال بينهم وبين التعاطي السليم مع مسألتي النظام السياسي للدولة واسترقاق الإنسان لأخيه الإنسان، بما يحقق التثمين المنشود لذلك القبس الإلهي الذي يسكن أجسادهم. فحاكى موقفهم من المسألة الأولى موقف العباسيين، فكما اتشح العباسيون بعباءة الخلافة، استنادا إلى تنازل أبو هاشم بن محمد بن الحنفية ـ نسبة إلى أمه وهى غير السيدة فاطمة بنت النبي ـ عن مطالبه في الخلافة لمحمد بن على بن العباس من ذرية عم الرسول وإقرار شيعة العراق الحق نفسه لابنه إبراهيم من بعده، ادعى قائد الزنج على بن احمد انه من نسل الصحابي الجليل على بن أبي طالب ، بغية إضفاء الشرعية على ثورته في عيون معاصريه، غير أنه لم ينضم للشيعة واتخذ جانب الخوارج القائلين بأن أفضل الرجال هو الأجدر بالخلافة حتى ولو كان عبدا حبشيا. أما موقف الثائرين الزنج من مسألة استرقاق الإنسان لأخيه الإنسان، فقد بدا تأثير الأجواء السائدة عليه أشد وضوحا، إذ لم يكن لهم برنامجا حقيقيا لإلغاء الرق بوجه عام، بل كانوا يرمون لتحسين أوضاع قسم بعينه من العبيد. وحقق قائدهم وعده بذلك عندما مكنته الانتصارات التي أحرزها من توزيع من أسرهم عبيدا بين أتباعه(16)!
وقد يعن للكثيرين أن يتساءلوا، فور قراءة ما أورته توا، عن مدى مشروعية القول بضلوع الأمويين ومن جاءوا بعدهم في توظيف الاغتراب الثقافي للذات العربية وتهيئة الأجواء المواتية لتكريسه، في ظل ما أجراه الله على أيدي بعضهم من فتوحات لبقاع شاسعة أو انتصارات بعينها. وجوابنا أنه لا تعارض البتة، فقد تكفل الاغتراب الثقافي بخلط الأوراق على النحو المتوقع والمنشود من قبل سدنته، فأوهم المغتربين أن الفتوحات دليل قوة وإيمان صانعيها، فاستعذب المغتربون آلامهم واعتبروها قدرا محتوما وضريبة يؤدونها ـ عن طيب خاطر ـ لله و لسادتهم الفاتحين والمنتصرين! وفاتهم أن الله ليس ديكتاتورا، وأن قوة دولتهم لا تغنى ولا تسمن من جوع، طالما ظلوا على ضعفهم وهوانهم، فما جدوى تسيد الدولة حين يصبح مواطنوها عبيدا، لا حول لهم ولا قوة. ألا خاب من أوهمونا أن آلامنا قدرا محتوما، فما هي إلا صناعة أيديهم وأيدينا. فعندما تصبح الدولة في ذروة قوتها، يظل عاراً على مواطنيها أن يرفلوا في غلائل ضعفهم!
النخب الحاكمة حجر الزاوية فى هيكل الآخر العربي:
قارئي الكريم، انطلاقا من قناعتي بأن الآخر بناية شاغرة يسكنها من يأتي فعال الآخر، حتى ولو توافرت له المظاهر العربية، قمنا فى الجزئية السابقة، برصد بعض أبرز من شغلوا بناية الآخر العربي، عبر التاريخ، وقلنا إنه على الرغم من أن عدل الصحابة الأجلاء وفيض محبة الناس للإسلام ولهم غطى على الميلاد غير المتعمد للاغتراب الثقافي، فإن تداعيات الاغتراب لم تلبث أن طفت للسطح مع بداية حكم الأمويين، إذ شهد عصرهم والعصور التالية له أجواء مواتية للتكريس المتعمد للاغتراب الثقافي للذات العربية. ولعمري إن القول بغير ذلك ينطوي بالضرورة على امتهان صارخ لذلك القبس الإلهي الذي أودعه الرحمن أجسادنا، معشر العرب. فتاريخنا العربي، صنعه بشر، والبشر خطاءون مهما تسامت أقدارهم. وللذات العربية اعتذارنا إن آلمها نبش الجذور، فمأساة اغترابها الثقافي، ورغبتنا كأنسنيين فى تعرية الإغتراب الثقافي والآخرية العربية حرمتنا ترف التعامي، عن تاريخ، آن لنا أن نُعيد قراءته، ومن الكي تُشفى الجراح..!
كنت قد أجبت من يسأل عن الآخر العربي المعاصر، بقولى أن النخب الحاكمة، تُشكل حجر الزاوية في هيكله، وأن تحديد أولئك الذين تنطبق عليهم أوصاف الآخر العربي، من خارج تلك النخب الحاكمة، متروك بداهة للقارئ! بيد أنه ولأغراض بحثية، يقتصر اهتمام الكاتب فى هذا المقال على النخب الحاكمة، ويعتبرها مرادفا للآخر العربي، بوصفها حجر الزاوية في هيكله، إذ أن جل أعضائها يدركون الأنسنية، ويحرصون في الوقت نفسه على تعمية الذات العربية عن إدراكها، إيثارا للحصاد المنفرد لثمارها وتكريسا لاغتراب الذات البائسة!
وكنت أيضا قد عرفت النخب الحاكمة بأنها تلك الطائفة من الحكام والساسة وغيرهم، الذين ترتبط منافعهم دوما بالأوضاع المتردية، والمواتية لتعمية الذات المغتربة عن إدراك الأنسنية، إذ نرى النخب الحاكمة تنزع في كل زمان ومكان للمحافظة على تلك الأوضاع، بدعوى الحفاظ على المصلحة الوطنية لمواطنيهم (الذات العربية) ولدولهم. وهو ما أفضى بهم إلى الانفصال الثقافي عن مواطنيهم!
وقصة ذلك أن عالمنا العربي لم يلبث أن تنفس الصعداء فور رحيل الآخرين العثماني والأوروبي عنه، فقامت في ربوعه المختلفة دول عديدة مستقلة، غير أن لحظة الاستقلال الحقيقي تلك لم تدم طويلا، فسرعان ما حلت النخب العربية الحاكمة محل الأوروبيين، وراحت تعمل جهد طاقتها لإدامة الأوضاع العربية المتردية، والمواتية لتعمية الذات العربية عن إدراك الأنسنية، من خلال ممارسات، تماثل في مضمونها ممارسات الأمويين والعباسيين والآخر غير العربي، بل تتجاوزها في أحيان كثيرة إلى ما هو أسوأ. وكان ذلك إيذانا بدخول عالمنا العربي حقبة لا تزال غيومها تظله، وهى حقبة الاستقلال السلبي(17)!
وللقارئ العزيز أن يتوقع من الكاتب أن يعضد ما أورده تواً. وهذا بالطبع عين ما ينوي الكاتب فعله، غير أن منطقه قد يصدم الكثيرين، ممن يحلو لهم تمجيد رموز نخبوية بعينها، بزعم الكاريزمية والتفرد بالأدوار الريادية. ولهؤلاء أسوق مقولة ماركس: "لا تصدق كلامي..صدق كلام أحفادي"، فقد قصد الرجل بمقولته تلك أن التاريخ كفيل بكشف كل زيف وبطلان، فالقراءة المتأنية للأحداث بعد خبو ثورة الحماس والانفعال، تهدينا دوما لأمور يتعذر علينا إدراكها في حينه، خاصة في عالمنا العربي، حيث تغيب الشفافية ويغسل التلقين الإعلامي الشرس أدمغة المواطنين. لذا فنحن الأحفاد أدرى بفعال آبائنا وجدودنا، فلنكشفها بجرأة ونعالجها بحكمة، بغية تحطيم القيود التي لا تنفك تُدمى معصم الذات العربية!
ولتكن البداية مع أحد أبرز رموز النخب العربية الحاكمة في القرن المنصرم وهو الرئيس المصري عبد الناصر، فخطب الرجل وتصريحاته ذائعة الصيت تؤكد بما لا يدع مجالا للشك إدراكه للأنسنية، فها هو يخاطب المصريين في 9 يناير 1963 بقوله(18): "هذا الشعب ـ يقصد الشعب المصري ـ صانع الحضارة..صانع التاريخ..هذا الشعب الذي استطاع على مرور السنين بعد 7000 سنة ـ أن يبني نفسه ويحافظ على كيانه وأن يحافظ على طبيعته ولا يمكن بأي حال من الأحوال لأي مستعمر من أن يقضي على روحه الطيبة أو يقضي على آماله أو يقضي على الطيبة والعزم والتصميم اللي موجود في نفسه على مر السنين. 7000 سنة تعرضنا للغزو وتعرضنا لحملات وإحنا في هذا الموقع اللي بيعتبر ملتقى الطرق في العالم ولكن هل استطاعت أي غزوة أو هل استطاعت الحملات أو هل استطاعت الجيوش الغازية..أو هل استطاع الاستعمار أن يغير من طبيعة هذا الشعب؟ أبدا..الأتراك قعدوا هنا 500 سنة هل غيروا الشعب؟".
يا الله، هل بعد هذا الإدراك العميق للإنسان كأعلى قيمة في الوجود إدراك؟! اللهم لا، فكلمات الرجل تشي بحق الذات المصرية العظيمة في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي! وكيف لا؟! ألم يصفها عبد الناصر بأنها صانعة الحضارة وقاهرة الغزاة؟! والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل آثر عبد الناصر نفسه ونخبته الحاكمة بهذا الإدراك للأنسنية وعمد لتعمية الذات العربية عن فعل الشيء نفسه؟! الحق أن الرجل أبى إلا أن يكفينا مشقة البحث عن إجابة لهذا السؤال الشائك، فهو بإطلاقه يد أعضاء نخبته ـ أقصد أعضاء الاتحاد الاشتراكي العربي ـ في صناع الحضارة وقاهري الغزاة، يفعلون بهم ما يحلو لهم، وذلك حين خاطبهم في 4 يوليو 1962 بقوله(19): "..من المحتم على عضو الاتحاد الاشتراكي أن يعمل بكل قواه على أن يقف لأعداء الاشتراكية والثورة، والحرية، ويعتبر نفسه صاحب هذه الثورة وصاحب الاتحاد الاشتراكي العربي.."! أقول إنه بإقدامه على فعل ذلك إنما رمى لردع صناع الحضارة وقاهري الغزاة عن إدراك الأنسنية، إيثارا للحصاد المنفرد لثمار ذلك الإدراك!
وبالتحول لرمز نخبوي آخر، نجد أن الأمر لا يختلف كثيرا، على خلاف ما تعتقده الذات العربية المغتربة. فالرئيس السوري حافظ الأسد دأب هو الآخر على تمجيد الإنسان السوري والتغني بمعين فضائله الذي لا ينضب، وهو ما يعني إدراكه العميق للأنسنية! ففي كتيب صغير بعنوان "كذلك قال الأسد"، أفاض العماد مصطفى طلاس في سرد العديد من شمائل هذا الإدراك، حتى أنه أفرد فصلا كاملا لسرد أقوال الأسد المأثورة في هذا الصدد، وفي مقدمتها قوله(20): "إن السكان هم الثروة الكبرى لأية أمة، وإن الإنسان هو العامل الحاسم في أي تقدم اقتصادي أو اجتماعي. ونحن ـ يقصد النخبة السورية الحاكمة آنذاك ـ إيمانا منا بأن الإنسان هو العامل الحاسم في كل مجال بما في ذلك الدفاع عن الوطن، قد جعلنا من مواطننا محور كل خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وغاية كل إنجاز نحققه في هذا المضمار"! وكذلك قوله(21): "الإنسان بما يملك من إرادة وتصميم، فالحياة ثورة دائمة والإنسان هو أداة الثورة كما هو منطلقها وغايتها"!
ولا يلبث السؤال المعتاد أن يطرح نفسه بقوة: هل آثر الأسد نفسه ونخبته بهذا الإدراك للأنسنية وعمد لتعمية الذات السورية عن فعل الشيء نفسه؟! لندع الرجل يجيب بنفسه على ذلك السؤال الحائر، فها هو يجحد حق الشباب السوري في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، ويعتبر التزامهم بمبادئ حزب البعث الحاكم واجبا وطنيا وقوميا، وذلك بقوله(22): "لقد نشأ شباب الجمهورية العربية السورية وتربوا على مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي التي تؤكد على واجباتهم الوطنية والقومية، كما تؤكد على تضامن شباب العالم وتضافر جهودهم في سبيل مقاومة الظلم والاستغلال والعدوان". فضلا عن اعتباره شهداء سوريا بعثيين بالضرورة، وذلك بقوله(23): "شهداؤنا ـ يقصد شهداء سوريا ـ بعثيون لأن جيشنا هو جيش البعث، لأن جماهيرنا هي جماهير البعث". ألم أقل أن الرجل أقدر من غيره على الإجابة؟!
وقد يكون الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين الرمز النخبوي الأكثر صراحة في التعبير عن وجوب تعمية الذات العربية عن إدراك الأنسنية، رغم إدراكه ونخبته الحاكمة لهما. غير أن الرجل قد يعدم اليوم من يدافع عنه، على خلاف الحال مع الرمزين النخبويين السابقين، نظرا لدواع عديدة يخرج حصرها عن نطاق اهتمام هذا المقال. على أية حال، ها هو صدام حسين يؤكد إدراكه لآدمية الإنسان العراقي، وذلك بقوله(24): "إن النهضة لا تحققها أية مجموعة مهما كانت كبيرة في عددها أو مهمة في نوعيتها إذا ما انعزلت عن تأثير المجتمع ايجابيا عليها، وإذا ما انعزلت عن من هم دونها، لذلك نرى لا كمجلس لقيادة الثورة، وإنما كعراقيين، بأننا لم نحقق حتى الآن النهضة التي نريدها كما ينبغي، ولهذا مطلوب منا جميعا أن نحقق هذه النهضة بكل مقاييسها ومستلزماتها الخلقية والمعنوية والمادية، وان نجعل كل خلية في المجتمع وفي الدولة متجانسة في روحية العمل ومتناسقة في عملها إلى أمام، وان تنعدم الفروقات النوعية والكبيرة بين حلقة وأخرى سواء في الدقة أو في الإخلاص أو في المثابرة أو في المساءلة".
ولا يلبث صدام أن يُورد أقوالا مغايرة تشي باقتناعه و نخبته الحاكمة ـ حينئذ ـ بوجوب حرمان ذلك الإنسان العراقي من إدراك الأنسنية، أو بعبارة أخرى وجوب تجريده من حق التمحيص النقدي للأشياء. أقول أن صدام عبر عن ذلك في صراحة يُحسد عليها وتُحسب له، وذلك في حديث له في مدرسة الإعداد الحزبي، جاء فيه ما نصه(25): "..أنا هنا، وفي أي مكان آخر، بعثي، والمطلوب هو الكلام الصريح وليس التبرير. ربما تلوي الكلمات أحيانا أمام بعض الأوساط، وأمام الأعداء..ربما نخفي بعض الأمور، لكننا أمام الرفاق، وفي مستوى مثل هذا الاجتماع، يجب أن نقول الأشياء الضرورية، وبقناعة الإنسان البعثي..".
وختاما، وقبل التحول للحديث عن دعم الآخر العالمي للآخر العربي، يبيت لزاما التأكيد على أمرين: أولا، تعمد الكاتب، في سعيه لإثبات آخرية النخب العربية الحاكمة، الاحتكام إلى آراء وأقوال رموز نخبوية بعينها، لقناعته بكون النخب العربية الحاكمة ـ كما أسلفنا ـ حجر الزاوية في هيكل الآخر العربي. وذلك بدلا من الاحتكام إلى أقوال تجار الآلام، الذين يقتاتون ـ بحق ـ على موائد الآخر العربي، ويتخذون من الترويج لآخريته، وإقناع الذات العربية المغتربة بها، مصدرا للدخل ووسيلة للتربح!! فهم ـ على سطوتهم ـ مطية للآخر العربي، يوجههم كيفما تسنى له، حتى إذا قضى منهم لبانته، ألقى بهم في عرض الطريق، نهبا لطلاب التشفي والثـأر!! فما أمر حصاد تجار الآلام!!
ثانيا، تعمد الكاتب أيضا، في سعيه لإثبات آخرية النخب العربية الحاكمة، الاحتكام إلى الأحاديث المُعلنة للرموز النخبوية، رغم تأكده بأن مضمونها ـ على لاأنسنيته ـ لا يُقارن بطبيعة الحال بما يُقال عادة فى الغرف المغلقة، بعيداُ عن الأعين، بين أبناء النخبة الحاكمة! فالرموز النخبوية على قدر من الزكاء يجنبها الافضاء العلنى باعتقادها الراسخ فى حتمية تكريس تنازل الذات العربية عن حقها فى امتلاك ثقافة حرة متطورة! مثلها فى ذلك مثل شركة الكهرباء فى مدينة شُيدت تحت سطح الأرض، لا تصلها أشعة الشمس، بل تستضيء بنور الكهرباء. الشركة تستغل أبناء المدينة، زاعمة لهم، فى سبيل استمرار استغلالها، واحتكارها، أن الكهرباء هى المصدر الوحيد للانارة، وأن الشمس أسطورة من نسج الخيال، ومن صنع أوهام أناس سيئي النية، والقصد..! غير أن نفراً قليلا من الناس المتميزين بالجرأة، والمبادرة كانوا واثقين من وجود الشمس، ومن وجوب إخراج المدينة وأهلها من الظلمة إلى النور، وفكهم من أسر المستغلين، والمحتكرين..
دعم الآخر الغربي (العالمي) للآخر العربي (المحلي):
والآن، أما وقد أوضحت ما أقصده بالنخب العربية الحاكمة، بوصفها حجر الزاوية فى هيكل الآخر العربي المعاصر، أرانى مُطالبا بتعرية دعم الآخر الغربي (الآخر العالمي) للآخر العربي (الآخر المحلي)، على أمل تزخيم محاجتى المذكورة سلفاً والقائلة بأن الآخرية المحلية ليست إلا امتداداً للآخرية العالمية!
اضطلعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، إبان الفترة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الأخير، بالقيادة العالمية، من خلال كتلتيهما الغربية والشرقية. وساند القطبان الأعظم وكتلتاهما استقلال الدول العربية استقلالاً سلبياً، يسمح بإهدار الآخر العربي لآدمية الذات العربية، عبر تكريس أوضاعها المتردية، من خلال ممارسات، تماثل في مضمونها الممارسات الاستعمارية، بل تتجاوزها في أحيان كثيرة إلى ما هو أسوأ! ولم تقدح معاداة أي من القوتين العظميين لنخبة عربية حاكمة بعينها في مساندة تلك القوة لمبدأ الاستقلال السلبي، فغالباً ما كان مصدر العداء عدم احترام تلك النخبة لواحدة أو أكثر من مصالح القوة العظمى في المنطقة. وبانهيار الاتحاد السوفيتي، وتفكك كتلته الشرقية، لم تتخل الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين عن مساندة مبدأ الاستقلال السلبي للدول العربية، لعدم انتفاء دوافع تلك المساندة، باستثناء الدافع الخاص باحتواء المد الشيوعي في العالم العربي، في إطار ما أصطلح على تسميته بالحرب الباردة.
والحق أنه ثمة دوافع عديدة لانخراط الآخر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية في مساندة إهدار الآخر العربي لآدمية الذات العربية، عبر قبوله بمبدأ الاستقلال السلبي للدول العربية، ذلك المبدأ الذي لطالما خدم مصلحته أو على الأقل لم يتعارض مع تلك المصلحة. وأُورد فيما يلي عرضا موجزا لأهم دوافع مساندة الزعامة الغربية ـ ممثلة في الولايات المتحدة ـ لإهدار الآخر العربي لآدمية الذات العربية، عبر تكريسه لاغترابها الثقافي واستقلالها السلبي، نظراً لتنوع تلك الدوافع، وثرائها، وانطوائها على قدر وافر من التداخل(26):
[1] في إطار الحرب الباردة بين القطبين الأعظم، سعت الولايات المتحدة الأمريكية للوقوف في وجه المد الشيوعي في العالم العربي، من خلال سعيها لاستقطاب النخب العربية. ليس ذلك فحسب ، فقد دعمت الولايات المتحدة النخب الموالية لها، واقترن حرصها على حماية مصالحها في العالم العربي، بعملها على تجنب اندلاع أية مواجهات مع الاتحاد السوفيتي. فعلى خلاف الوضع في أوروبا، حيث وجدت خطوط فاصلة بين مناطق نفوذ القطبين الأعظم، افتقدت منطقة الشرق الأوسط مثل هذه الخطوط الفاصلة، مما عظم إمكانية اندلاع مواجهة عالمية بين القطبين الأعظم في أحيان عديدة. و في إطار سعيها المحموم لاستقطاب النخب العربية الحاكمة وضمها لمعسكرها، ساندت الولايات المتحدة مبدأ الاستقلال السلبي للدول العربية، في محاولة من جانبها لاسترضاء وإغراء تلك النخب، على غرار نهجها مع النخب الحاكمة في دول أفريقيا جنوب الصحراء، قبل انتهاء الحرب الباردة و اختفاء الخطر الشيوعي من القارة الأفريقية.
[2] أضافت الثورة الاقتصادية، التي أثارها اكتشاف النفط في العالم العربي، دافعاً آخرا للولايات المتحدة لمساندة مبدأ الاستقلال السلبي في العالم العربي، لاعتقادها بارتباطه بحماية مصالحها الاقتصادية، الماثلة في ضمان حصولها على النفط اللازم لها ولحلفائها، بأسعار مواتية. واعتقادها كذلك بارتباط الاستقلال السلبي بتكريس أنماط استهلاكية، تسمح بتحويل العالم العربي إلى سوق رائجة للمنتجات الأمريكية، خاصة دوله المنتجة للنفط، فالسوق العربية واحدة من الأسواق الأسرع نمواً على مستوى العالم. بالإضافة إلى اعتقادها بارتباط الاستقلال السلبي بديمومة الحاجة العربية للخبرات البشرية الأمريكية، وتدفق الاستثمارات العربية في أراضيها، على نحو يسمح باستغلال الأموال المدفوعة ثمناً للنفط العربي.
[3] دأبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عام 1948، على تأكيد التزامها الكامل بضمان أمن ورفاهية دولة إسرائيل، باعتبارها ركيزة للإستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة. وبالفعل ، لم تأل الولايات المتحدة جهداً للوفاء بالتزاماتها تجاه إسرائيل، وهو ما بدا واضحاً في أمور عديدة، منها تزويدها باحتياجاتها التنموية والدفاعية. وتأتي المساندة الأمريكية للاستقلال السلبي للدول العربية في الإطار نفسه، لاعتقاد أمريكي مفاده أن الاستقلال السلبي من شأنه تكريس تخلف وضعف العالم العربي، بصورة تضمن إجهاض مساعيه، لاستعادة الحق العربي المغتصب. وقد أثبت التاريخ صدق الحدس الأمريكي، فقد باءت المحاولات العربية الرامية لاستعادة الحق العربي بالفشل. إلى جانب نجاح الولايات المتحدة في استمالة بعض النخب العربية الحاكمة لممالأة إسرائيل، وإن أعلنت خلاف ذلك.
[4] شكل تهميش المجتمعات العربية الإسلامية أحد أهم دوافع مساندة الولايات المتحدة لمبدأ الاستقلال العربي السلبي، باعتباره السبيل الأنسب، لتكريس الأوضاع المتردية في العالم العربي الذي يشكل ـ من وجهة النظر الأمريكية ـ خطراً داهماً على الغرب، لاعتناق أغلبية أبنائه للإسلام. وهو ما عبر عنه صموئيل هنتنجتون صراحة في كتابه صدام الحضارات بقوله: " يقول بعض الغربيين بما فيهم الرئيس كلينتون إن الغرب ليس بينه وبين الإسلام أي مشكلة، و إنما المشكلات موجودة فقط مع بعض المتطرفين الإسلاميين. أربعة عشر قرنا من التاريخ تقول عكس ذلك. العلاقات بين الإسلام والمسيحية سواء الأرثوذوكسية أو الغربية كانت عاصفة غالبا. كلاهما كان الآخر بالنسبة للآخر. صراع القرن العشرين بين الديمقراطية الليبرالية والماركسية اللينينية ليس سوى ظاهرة سطحية وزائلة ، إذا ما قورن بعلاقة الصراع المستمر والعميق بين الإسلام والمسيحية. أحيانا، كان التعايش السلمي يسود، غالبا كانت العلاقة علاقة تنافس واسع مع درجات مختلفة من الحرب الباردة..عبر القرون كانت خطوط العقيدتين تصعد وتهبط في تتابع من نوبات انبعاث مهمة، فوقفات، وانتكاسات. الاكتساح العربي الإسلامي في اتجاه الخارج من بداية القرن السابع إلى منتصف القرن الثامن أقام حكما إسلاميا في شمال أفريقيا وأيبيريا والشرق الوسط وفارس وشمال الهند، ولمدة قرنين تقريبا كانت خطوط التقسيم بين الإسلام والمسيحية مستقرة. بعد ذلك، في أواخر القرن الحادي عشر، أكد المسيحيون سيطرتهم على البحر الأبيض المتوسط الغربي، غزوا صقلية، واستولوا على طليطلة، وفى 1095 بدأت المسيحية الحملات الصليبية، ولمدة قرن ونصف القرن حاول الحكام المسيحيون ـ مع نجاح متناقص ـ أن يقيموا حكما مسيحيا في الأرض المقدسة والمناطق المجاورة في الشرق الأدنى، وخسروا آخر موضع لقدم هناك في عام 1291، في نفس الوقت كان الأتراك العثمانيون قد ظهروا على المسرح. أضعفوا بيزنطة في البداية، ثم غزوا معظم البلقان بالإضافة إلى شمال أفريقيا، واستولوا على القسطنطينية في 1453 وحاصروا فيينا في 1529..الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك، وقد فعل ذلك مرتين على الأقل"!!
كانت تلك دوافع الآخر الغربي (العالمي) لمساندة الآخر العربي، أما فيما يتعلق بمظاهر تلك المساندة، قد تكون الفترة من عام 1955 إلى عام 1967 أحد أكثر الفترات تعبيراً عن مساندة الآخر الغربي بزعامة الولايات المتحدة لمبدأ الاستقلال السلبي للعالم العربي، فخلالها أرسيت دعائم تلك المساندة، وإليها ترجع أهم الأحداث السياسية التي ظلت آثارها تتفاعل على الساحة العربية لزمن طويل. وأُورد فيما يلي عرضا موجزا لأهم مظاهر مساندة الزعامة الغربية ـ ممثلة في الولايات المتحدة الأمريكية ـ للآخر العربي في تكريسه للاغتراب الثقافي للذات العربية وفي تكريسه لاستقلالها السلبي خلال تلك الفترة المذكورة(27):
[1] الحرص على انخراط النخب العربية في أحلاف عسكرية موالية للغرب. ففي خمسينيات القرن المنصرم، اضطلعت الولايات المتحدة بدور نشط، في محاولتها تعزيز الأمن الغربي في المنطقة، عن طريق مواثيق عسكرية. وأرسلت حكومتها تعليماتها إلى سفرائها في العالم العربي لإخبار المسئولين فيه أنها تؤيد الحلف الذي عقدته النخبة العراقية الحاكمة مع تركيا وباكستان والمعروف بحلف بغداد، وأنها تعارض تشكيل أي ائتلاف من الدول العربية لمناهضته، كما أبدت ترحيبها بانضمام دول عربية أخرى إلى الحلف في المستقبل. يضاف إلى هذا أن السفير الأمريكي في بغداد ذكر أن مسئولي حكومته وجهوا ضغطاً غير مباشر للتأثير على النخب العربية الحاكمة للانضمام إلى الحلف، وذلك بربط قدرتها على الحصول على مساعدات خارجية أمريكية بمخططات الدفاع الإقليمي. وحين أشار نوري السعيد، بفعل الضغط العربي، إلى أنه قد يمتنع عن الانضمام للحلف المقترح، هدد وزير الخارجية الأمريكي دالاس بإيقاف إرسال المعونات إليه. وقيل للسعيد بصراحة تامة أن يبتعد عن أي حلف يضم النخبة المصرية الحاكمة أو الجامعة العربية وأن يركز اهتمامه على الحلف التركي – الباكستاني، الذي يمثل الأساس الوحيد لتخطيط دفاعي واقعي وفعال في الشرق الأوسط. بل إن دالاس أيد علناً الحلف المقترح ووصفه بأنه تطور بناء جدا. وبحلول عام 1955، أخذت إدارة أيزنهاور تنظر في محاولة إجراء مصالحة مع الرمز النخبوي جمال عبد الناصر. لذا، فإن أحد الأسباب الرئيسية وراء تردد الولايات المتحدة في الانضمام إلى الحلف أو ترددها في تشجيع الأردن ولبنان على ذلك هو الخوف من استعداء عبد الناصر. كذلك كانت الإدارة الأمريكية مترددة في الانضمام إلى الحلف لأنها كانت عندئذ ستتعرض لضغط شديد لتقديم ضمانة أمنية إلى إسرائيل. ولم يكن دالاس ميالاً إلى إعطاء إسرائيل أي التزام أمني إلى أن يخف التوتر القائم بينها وبين بعض النخب العربية الحاكمة.
[2] رفض التدخل العسكري الأوروبي للإطاحة بأي من النخب العربية، باعتباره سيقوض شرعية النخب العربية الموالية للغرب. فقد عارضت إدارة أيزنهاور تدخل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عسكرياً في مصر، ومارست عليهم ضغوطاً شديدة لإيقاف القتال والانسحاب. ففي 31 أكتوبر 1956، فرضت الولايات المتحدة شيئاً من العقوبات الاقتصادية والعسكرية ضد إسرائيل. ولإقناع بن جوريون أن الولايات المتحدة جادة في العمل الذي تقوم به، أصدر أيزنهاور أوامر محددة إلى وزارة خارجيته لتقوم بإخبار إسرائيل بأن إدارته للأزمة لن تتأثر بالسياسات الداخلية فى الولايات المتحدة. كذلك قامت الحكومة الأمريكية بتفعيل ترسانتها الاقتصادية ضد شركائها في حلف الناتو. كان أيزنهاور ودالاس على علم بالحالة القلقة التي تسود المخزون النفطي واحتياطي العملة في بريطانيا، لكنهما رفضا تزويدها بالنفط. قال أيزنهاور إن على بريطانيا وفرنسا أن تتدبرا مشاكل الطاقة فيهما من دون تدخل من الغير. وكان دالاس يعتقد أن أوروبا تعتمد كل الاعتماد على الولايات المتحدة من أجل الإسناد الاقتصادي والعسكري والسياسي في أرجاء العالم، وكان واثقاً أن إيدن وموليه سرعان ما سيرضخان لرغباتها. وواصلت إدارة أيزنهاور توجيه ضغطها بلا هوادة ضد الحلفاء المتعنتين. فبعد دحر القرار الأمريكي في مجلس الأمن دعت الولايات المتحدة إلى عقد اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب القرار المعروف باسم الاتحاد من أجل السلام. وفى الأول من نوفمبر أقرت الجمعية العامة قراراً أمريكياً يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار وإلى انسحاب القوات من مصر. وشددت الولايات المتحدة ضغطها الاقتصادي على حلفائها الأوروبيين وذلك بأن سمحت بمضايقة الجنيه الإسترليني من جهة، وبرفضها التدخل للتخفيف من شح الوقود، من جهة أخرى. وفى السادس من الشهر المذكور استسلم إيدن وموليه، فقد كانا محاصرين داخل بلديهما ويخضعان للضغط خارجهما، للضغوط الاقتصادية الأمريكية فوافقا على وقف فوري لإطلاق النار وعلى الانسحاب. وفى الثامن من الشهر نفسه وافقت إسرائيل على الانسحاب من بعض الأراضي التي احتلتها وليس كلها.
[3] الاستعداد لاستخدام القوة لحماية النخب العربية الموالية للغرب. فبعد استنتاجها أن إطاحة الانقلاب العسكري بالنخبة العراقية الموالية للغرب في يوليو 1958 هو أمر واقع، وأن التدخل في لبنان المتوتر ضروري، أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية على إرسال مشاة البحرية إليه، في حين أرسلت بريطانيا قواتها إلى الأردن. فقد استخدم أيزنهاور و دالاس أمر لبنان لإظهار الإرادة السياسية و القدرة العسكرية على حماية مصالح الولايات المتحدة الحيوية ومصالح حلفائها. كانا يريدان إرسال إشارة إلى الخصوم باستعدادهما لاستخدام القوة إذا اقتضت الضرورة لحماية النخب العربية الحاكمة الموالية للغرب. ففي اجتماع موسع حضره وزيرا الخارجية والدفاع ومدير وكالة المخابرات المركزية جرى تلخيص النتائج التي ستسفر عن عدم التدخل في لبنان كما يلي: أولاً، أن عبد الناصر سيهيمن على الساحة العربية كلها. ثانياً، أن الولايات المتحدة ستخسر نفوذها في أرجاء المنطقة، وستكون قواعدها العسكرية هناك معرضة للأخطار. ثالثاً، أن الاعتماد على تعهدات الولايات المتحدة سيكون موضع الشك في العالم بأسره.
[4] السعي لتجنيب النخب العربية وإسرائيل الصدام العسكري، لانطواء سلامتهما على تكريس للأجواء المواتية للمصالح الأمريكية في المنطقة. فقد كتب جونسون، قبل غلق المضائق في مايو 1967، إلى كل من عبد الناصر و إشكول يحثهما على ضبط النفس والاعتدال. وقال لإشكول بصراحة تامة إن على إسرائيل ألا تتوقع تأييداً تاماً من الحكومة الأمريكية لقراراتها، إلا إذا جرت المشاورة معها قبل اتخاذها. أما بعد فرض الحصار المصري على خليج العقبة، فقد نشطت الدبلوماسية الأمريكية كل النشاط، وأصدر جونسون بياناً شدد فيه على أن الخليج ممر مائي دولي، وقال كذلك إن قرار مصر ينتهك تعهداً قدمته الولايات المتحدة إلى إسرائيل يضمن لها حرية المرور في الخليج ، واعتبر الحصار غير شرعي، وقد يؤدي ـ على حد تعبيره ـ إلى كارثة تصيب قضية السلام. وثمة ثلاثة أغراض أملت على الولايات المتحدة استراتيجيتها: أولاً، محاولة كبح جماح إسرائيل وتأخير ضربتها الاستباقية وتحذير القيادتين المصرية والسوفيتية من أي تصعيد آخر. ثانياً، إيجاد دعم في أوساط الرأي العام والكونجرس لفكرة القيام بمسعى متعدد الجنسيات لفك الحصار المفروض على المضائق. ثالثاً، القيام بجهد في مجلس الأمن الدولي لفتح المضائق.
والآن، أما وقد انتهينا من الحديث عن دوافع ومظاهر مساندة الآخر الغربي (ممثلا في الولايات المتحدة) للآخر العربي (ممثلا في النخب العربية الحاكمة) في إهدار الأخير لآدمية الذات العربية، عبر تكريسه لاغترابها الثقافي واستقلالها السلبي، يصير ملائما الرد على بعض التساؤلات التي ربما تثور في ذهن القارئ الكريم. أولا، قد يقول قائل إن الكاتب باكتفائه بتحليل سلوكيات الآخر الغربي تجاه الذات العربية، إبان الحرب الباردة، يكون قد أغفل تحليل سلوكيات الآخر الشرقي (ممثلا في الاتحاد السوفيتي) تجاه الذات العربية خلال الفترة نفسها. وهو قول لا غبار عليه، لولا أن الكاتب آثر الاكتفاء برصد وتحليل دعم الآخر الغربي (العالمي) للآخر العربي (المحلي) باعتباره الأكثر تأثيراً.
ثانيا، قد يثور التساؤل حول مدى منطقية اختزال الكاتب للآخر الغربي في الولايات المتحدة الأمريكية. والجواب على أهميته بسيط، فكما يعلم القاصي والداني أن الولايات المتحدة الأمريكية تضطلع بالزعامة الغربية، وأن دورها يكاد يطغى ـ بل هو يطغى بالفعل ـ على دور بقية الغربيين الذين يعمدون ـ وان أبدوا خلاف ذلك ـ لمحاكاتها، باعتبارها قاطرة الحضارة الغربية إلى السيادة على كافة الأصعدة وفي كافة المجالات.
ثالثاً وأخيرا، ربما لا يتفق البعض مع الكاتب في قوله بأن الفترة من عام 1955 إلى عام 1967 تعد أحد أكثر الفترات تعبيراً عن مساندة الآخر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية للنخب العربية الحاكمة في تكريسها للاغتراب الثقافي لمواطنيها و تعزيزها لاستقلالهم السلبي. ولهؤلاء يؤكد الباحث وهو مطمئن الضمير أن تلك الفترة شهدت ـ بحق ـ إرساء دعائم المساندة الغربية السخية للآخر العربي في تكريسه للاغتراب الثقافي للذات العربية وتعزيزه لاستقلالها السلبي كما أوضحنا سلفا، وأنه إليها أيضا ـ أي إلى تلك الفترة المذكورة ـ ترجع أهم الأحداث السياسية التي ظلت آثارها تتفاعل على الساحة العربية لزمن طويل، ولا تزال تداعياتها السلبية تظلنا حتى اليوم.
نحو عالم عربي بلا آخر محلي (آخر عربي):
قارئي الكريم، أظنك تلمس بنفسك ما آلت إليه أوضاع عالمنا العربي فى ظل النخب العربية الحاكمة، وأرانى إن أنا أقدمت على تذكيرك بما يجلبه الآخر العربي واستقلالنا السلبي من فساد، لا يقل عن خراب الحرب، أكون كمن يدفع بيديه باباً مفتوحا! لذا أستأذنك أيها القاريء الكريم بأن أتجاوز مسألة رصد ما يجلبه الآخر العربي لعالمنا من فساد، إلى مسألة أخرى وهى رؤيتي لمستقبل هذا الآخر المحلى البغيض، فى ظل ما أحدثته هجمات سبتمبر من تداعيات مزلزلة!
الحق أن النخب العربية الحاكمة لم تنج من ثورة الغضب الأمريكي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فالنهج الأمريكي تجاه النخب العربية قد شهد تحولات راديكالية، على الأقل نظريا! فلأول مرة تُثمن الولايات المتحدة الأنسنية في خطابها الموجه للعالم العربي، على خلاف تثمينها السابق للنخب العربية الحاكمة، ومساندتها لها في تكريسها لمبدأ الاستقلال السلبي وإهدارها لآدمية الذات العربية! ولعل نظام الراحل صدام حسين هو أبرز ضحايا الغضبة الأمريكية..
إذ أنه طبقاً لتقرير اللجنة الوطنية الأمريكية الخاص بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، استند تنظيم القاعدة بصورة ملموسة إلى الأتباع من مختلف الدول العربية، وهو ما بدا واضحاً في تشكيل المجموعات التي اضطلعت بتخطيط وتنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر ضد أهداف أمريكية، حيث حمل أعضاء تلك المجموعات جنسيات عربية مختلفة، فضلاً عن اضطلاع خالد شيخ محمد بالتخطيط لتلك الهجمات، فبرغم انتمائه لأصول عرقية غير عربية، إلا أنه نشأ وتربى في الكويت، وانتمى لجماعة الإخوان المسلمين في السادسة عشر من عمره. وفى الولايات المتحدة، حصل على مؤهله الجامعي في الهندسة الميكانيكية في 1986. ومنذ ذلك الحين، بدأت رحلته التي قادته إلى التخطيط لهجمات سبتمبر 2001. وهى الهجمات التى أسفرت عن إزهاق آلاف الأرواح في دقائق معدودة، وتدمير برجين تدميراً كاملاً، فضلا عن تدمير جزء من مبنى البنتاجون(28).
وكما هو معروف، لم تلبث الولايات المتحدة أن أعلنت أن الهجمات إعلان صريح للحرب عليها! وبذلك بدأ فصل جديد في تاريخ الاستراتيجية الأمريكية، خاصة في شقها المعني بالعالم العربي، فقد اعتبرت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين، النخب العربية الحاكمة التي طالما نعمت بالمساندة الغربية لها، مسئولة عن تكريس الأجواء القمعية المؤهلة لإفراز أمثال مخططي و منفذي هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وهو ما يشكل ـ من وجهة نظرها ـ تهديداً صريحاً للأمن الغربي بصفة عامة، والأمن القومي الأمريكي بصفة خاصة..
وقبل أن أُوجز رؤيتي لمستقبل الآخر العربي، أطرح سؤالاً لا ينفك يؤرقنى، وأظنه يؤرق الكثيرين فى عالمنا العربي المُبتلى: هل كانت الولايات المتحدة، بوصفها زعيمة العالم الغربي، جادة حين أعلنت على لسان رئيسها السابق جورج بوش(29)، فى أعقاب هجمات 11 سبتمبر، أن اطاحتها بالنخبة الصدامية، إنما ترمى لمساعدة دول العالم العربي على التخلص من نسخ الآخر العربي، وكذا مساعدة الدول العربية على استبدال استقلالها الحقيقي باستقلالها السلبي، عبر جعل العراق نموذجاُ لما ينبغي أن تكون عليه الدولة العربية فى المستقبل؟! أم أن الاطاحة بالنخبة الصدامية جاءت لاستعادة الهيبة فحسب!..
ليت الغرب كان جاداً فى تحرير الذات العربية من نير الآخر العربي، فهو سوطه الذى لطالما ألهب ـ ولايزال يُلهب ـ ظهرها به!! أغلب الظن أن الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، غير جادين، والأدلة على ذلك كثيرة! خذ مثلا التعذيب فى سجن أبو غريب للمعتقلين العراقيين..هل يتسق مع بناء ذات عراقية أنسنية؟! وخذ كذلك التحالف الغربي مع بعض الشخصيات العراقية الملوثة، وكذا الدعم الغربي المُستفز لنسخ الآخر العربي فى كافة الأقطار العربية، والذى يتواصل على الرغم من التصريحات التى تخرج بين الحين والآخر، من العواصم الغربية المختلفة، والتى يُبشر أصحابها باستقلال حقيقي لعالمنا العربي فى المستقبل..
ليت الغرب أيضاً يعلم أنه إن أقدم بجرأة وحسم على مساعدة الذات العربية المغتربة على قهر اغترابها الثقافي، وكذا مساعدتها على تعرية نسخ الآخر العربي، التى لا تتورع عن توظيف اغتراب الذات وتكريسه، عبر آليات متنوعة، منها البوليسي، والتعليمي، والإعلامي، والديني! أقول ليت الغرب يعلم أنه إن أقدم على تلك الخطوة الجبارة، سيضمن أمنه، ويجتث العداء من نفوسنا تجاهه، إذ كيف لنا معشر العرب أن نتعايش مع الآخر الغربي، وسوطه ـ أقصد الآخر العربي ـ يُلهب ظهورنا، فى كل وقت وحين! أحمق هو الغرب، إن إعتقد أن القوة الغاشمة تسحق الارهاب، وتُزيل العداء من نفوس العرب، أنسنة العالم العربي فقط هى التى تقضى على الارهاب المزعوم، وتجعل من الأرض مُقاما طيبا للجميع..
الهوامش:
ــــــــــــ
(1) راجع: دراسة للكاتب بعنوان "بناء الذات الأنسنية"، منشورة على شبكة الانترنت. وأيضا راجع للكاتب: الانسان هو الحل، (القاهرة: دار سطور للنشر، عام 2007).
(2) لا يختلف مفهوم الحضارة عن نظيره الخاص بالثقافة كثيرا، فكلاهما يشير إلى طريقة حياة شعب معين، غير أن الحضارة هي الكيان الثقافي الأوسع، أو بمعنى آخر هي أعلى تجمع ثقافي من البشر وأعرض مستوى من الهوية الثقافية يمكن أن يميز الإنسان عن الأنواع الأخرى. وهى تعرف بكل من العناصر الموضوعية العامة مثل اللغة، والتاريخ، والدين، والعادات، والمؤسسات، والتحقق الذاتي للبشر. وهناك مستويات للهوية لدى البشر، فساكن القاهرة قد يعرف نفسه بدرجات مختلفة من الاتساع: مصري، عربي، مسلم. والحضارة التي ينتمي إليها هي أعرض مستوى من التعريف يمكن أن يعرف به نفسه، أي أنها "نحن" الكبرى التي نشعر ثقافيا بداخلها أننا في بيتنا، في مقابل "هم" عند الآخرين خارجنا. وقد تضم الحضارات عددا كبيرا من البشر مثل الحضارة الصينية، أو عددا قليلا مثل الكاريبي الأنجلوفوني. وعلى مدى التاريخ وجدت جماعات صغيرة كثيرة ذات ثقافات مائزة وتفتقر إلى معين ثقافي أوسع لهويتها. وكانت الفروق تتحدد حسب الحجم والأهمية بين الحضارات الرئيسية والفرعية أو بين الحضارات الرئيسية والحضارات الجهيضة. وطبقا لصمويل هنتنجتون تتمثل الحضارات الرئيسية المعاصرة في الصينية، واليابانية، والهندية، والإسلامية، والغربية، والروسية الأرثوذوكسية، والأمريكية اللاتينية، فضلا عن الأفريقية. إلا أن الباحثين وإن اتفقوا بشكل عام في تحديدهم للحضارات الرئيسية في التاريخ وتلك الموجودة في العالم الحديث، فإنهم غالبا ما يختلفون على العدد الإجمالي للحضارات التي وجدت في التاريخ. لمزيد من المعلومات راجع: صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات ـ إعادة صنع النظام العالمي، (القاهرة: سطور، 1998)، ص ص 67 ـ 80.
(3) اعتاد الكاتب فى كتاباته السابقة استخدام مصطلح "الأخروية"، إلى أن أخبره الأستاذ الفاضل/ محمود عبد الرازق جمعة، المصحح اللغوي والمشرف الفني بالمجلس الأعلى للثقافة، أن مصطلح "الآخرية"، هو الأكثر ملائمة لغوياً..
(4) "الحضارة الغربية والبروميثية الغائبة"، مقال منشور على شبكة الانترنت.
(5) برغم أن تعبير النخبة في اللغة العربية، وهو ترجمة لمصطلح elite، يحمل معاني الامتياز والتفضيل والحسن، إلا أن الباحث لا يعني ذلك بالطبع. فتلك فضائل قد لا تنطبق بالضرورة على النخب العربية الحاكمة على اختلاف مشاربها. راجع: إيليا حريق، "السراتية والتحول السياسي والاجتماعي في المجتمع العربي الحديث"، المستقبل العربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، أكتوبر 1985، العدد 80، ص 4.
(6) لمزيد من المعلومات عن أحداث سقيفة بني ساعدة وتداعياتها راجع: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري 224 ـ 310 هجرية، تاريخ الطبري ـ تاريخ الأمم والملوك، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1987)، المجلد الثاني، ص ص 234 ـ 246. حسين مؤنس، م. س . ذ، ص ص 21 ـ 35.
(7) ليس معروفا على وجه الدقة من الذي اخترع للصحابي الجليل أبي بكر ـ ومن بعده الصحابة الأجلاء عمر وعثمان وعلى ـ لقب خليفة رسول الله، ولكن المحقق أن الصديق أجازه وارتضاه. فقد استهل به كتبه إلى قبائل العرب، إبان ما عرف بحروب الردة، وعهده إلى أمراء الجنود. ولعلهما أول ما كتب أبو بكر، فضلا عن كونهما على الأرجح أول ما وصل إلينا محتويا على ذلك اللقب. ولهذا اللقب روعة، وفيه قوة، وعليه جاذبية، فلا غرو أن يختاره أبا بكر، وهو الناهض بدولة وليدة، يريد أن يضم أطرافها بين زوابع من الأهواء العاصفة المتناقضة، وبين قوم حديثي العهد بجاهلية، وفيهم كثير من شدة البداوة، وصعوبة المراس. فهذا اللقب جدير بأن يكبح من جماحهم، ويلين بعض ما استعصى من قيادهم. لمزيد من المعلومات راجع: الشيخ على عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم ـ بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام، (القاهرة: دار الهلال، العدد 596، 2000).
(8) الطبري، م.س.ذ، ص ص 21 ـ 35.
(9) برنارد لويس، تعريب نبيه أمين فارس ومحمود يوسف زايد، العرب في التاريخ، (بيروت: دار العلم للملايين، 1954)، ص ص 80 ـ 83.
(10) عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، (بدون بلد نشر: دار الأمين للنشر والتوزيع، بدون تاريخ )، ص ص 111 ـ 113.
(11) برنارد لويس، م. س.ذ، ص ص 83 ـ 87 .
(12) عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، م.س.ذ، ص ص 142 ـ 146.
(13) طه حسين، الفتنة الكبرى ـ على وبنوه، (القاهرة: دار المعارف، 2003)، ص ص 236 ـ 245.
(14) نفس المرجع، نفس الصفحات. وللتعرف على مزيد من الشواهد التي تؤكد ضلوع الأمويين في تهيئة المناخ المواتي لتكريس متعمد للاغتراب الثقافي للإنسان العربي راجع خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي في أهل العراق، بعد أن ولاه عليها الأموي عبد الملك بن مروان: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري 224 ـ 310 هجرية، تاريخ الطبري ـ تاريخ الأمم والملوك، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1987 )، المجلد الثالث، ص ص 547 ـ 554.
(15) برنارد لويس، م . س . ذ، ص ص 113 ـ 137.
(16) للتعرف على السرد التفصيلي لأهم أحداث ثورة العبيد المعروفة بثورة الزنج راجع : سمير سرحان و محمد عناني ، المختار من تاريخ الطبري، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998)، ص ص 13 ـ 153. سلامة موسى، كتاب الثورات، (القاهرة: سلامة موسى للنشر والتوزيع، 1954)، ص ص 36 ـ 39.
(17) للمزيد من المعلومات عن أوضاع العالم العربي فى ظل الاستقلال السلبي، مقارنة بأوضاعه فى ظل الاستعمار الأوروبي، راجع: حازم خيري، آلام العالم العربي، (القاهرة: نشر المؤلف، 2005).
(18) جمال عبد الناصر، عبد الناصر والثورة ـ من أقوال الزعيم الخالد يوليو 1952 ـ سبتمبر 1970، (القاهرة: لجنة منظمة الشباب الاشتراكي بمحافظة القاهرة ، 1970)، ص 50.
(19) تشكل الاتحاد القومي في ربيع 1957، وحل محل هيئة التحرير، كوسيلة لدعم الحكام الجدد وحشد التأييد اللازم لهم. وكان المطلوب توسيع نطاق عضويته إلى أقصى حد ممكن، لأنه ـ كما قال جمال عبد الناصر ـ هو الأمة بأسرها. وبالفعل ضم هذا الاتحاد خلال فترة قصيرة بضعة ملايين من الأعضاء، وأصبح على درجة كبيرة من التضخم والفوضى، مما حال دون اضطلاعه بالدور المنوط به. وفى عام 1962، وبعد انهيار الوحدة مع سوريا، جرى إنشاء الاتحاد الاشتراكي العربي، لتحقيق نفس الهدف، وهو دعم الحكام أنفسهم وحشد التأييد نفسه. راجع : صموئيل هانتنتون، ترجمة سمية فلو عبود، النظام السياسي لمجتمعات متغيرة، (بيروت: دار الساقي، 1993)، ص 266. جمال عبد الناصر، إقامة الحياة الديمقراطية السليمة ـ من أقوال الرئيس جمال عبد الناصر، (القاهرة: الدار القومية للطباعة والنشر، كتب قومية، العدد 274، بدون تاريخ)، ص 98.
(20) حافظ الأسد، كذلك قال الأسد، (دمشق: طلاس للدراسات والترجمة والنشر، 1984)، ص 311.
(21) المرجع نفسه، ص 313.
(22) المرجع نفسه، ص 45.
(23) المرجع نفسه، ص 39.
(24) صدام حسين، المختارات ـ موضوعات عن الحزب والدولة، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام، دار الشؤون الثقافية العامة، 1988)، ص ص 56 ـ 57.
(25) المرجع نفسه، ص 11.
(26) راجع:Michael Sterner, "The Middle East and the Superpowers: The View from Washington", Paper presented to The Middle East and the Superpowers: 25 th Near East Conference, Princeton university, Held on October 25 – 26, 1979 , PP.12- 30 .
صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات - إعادة صنع النظام العالمي، م.س.ذ، ص ص 338 – 339.
(27) لمزيد من المعلومات عن تلك الفترة أنظر: الدكتور فواز جرجس، النظام الإقليمي العربي والقوى الكبرى، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997)، ص ص 39 ـ 323.
(28) اعتمد الباحث في رصده لأحداث 11 سبتمبر على الرواية الأمريكية، ليس لكونها الأكثر مصداقية ، ولكن لكونها الأكثر تأثيرا في مجريات الأحداث راجع:
National Commission on Terrorist Attacks upon the United States, The 9/11 Commission Report: Final Report of the National Commission on Terrorist Attacks upon the United States, (New York: W. W. Norton, 2004). (29) United States of America, The National Security Strategy of the United States of America, White House, September 2002 .
الأحد، فبراير 08، 2009
آخر عربي مُفرط فى آخريته
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق