صبحي غندور
ذهبت بعض التحليلات، في تفسير ظاهرة التضامن العربي والعالمي الواسع مع قطاع غزّة، إلى استنتاج مفاده أنّ هذا التضامن هو دعم للخط الفكري الإسلامي الذي تسير عليه قيادة حركة المقاومة في غزّة.
وفي هذا الاستنتاج مخالفة للواقع وخلط بين ما هو أيديولوجي (عقدي) خاص بأصحابه وبين ما هو موقف سياسي مشترك مع جهات عديدة لها مواقع فكرية مختلفة.
وقد حدث صيف العام 2006 الأمر نفسه بعد نجاح المقاومة اللبنانية في التصدّي للعدوان الإسرائيلي على لبنان وإفشال مقاصده السياسية والأمنية.
ما يغذّي هذه التحليلات الخاطئة هو موقف المعارضين لنهج المقاومة بشكل عام حينما يحاولون صبغ حركات المقاومة بألوان فكرية وسياسية فئوية تُبعد عنها من هم في مواقع أخرى.
فحسب تحليلات أتباع "جبهة رفض المقاومة" فإنّ المقاومة اللبنانية بنظرهم هي فقط "إسلامية العقيدة"، "إيرانية" الهوى و"شيعية" المذهب، فيكون مطلوباً تبعاً لذلك التوصيف أن يبتعد عن المقاومة (وربّما أن يتصارع معها) كلٌّ من هو "غير إسلامي" و"غير شيعي" و"غير محبّذ لإيران"! ويتكرّر الآن هذا الحال في ردود الفعل الجارية على صمود المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة ورفضها التسليم بالشروط الإسرائيلية. فالتوصيف الآن لهذه المقاومة هو أنّها "إسلامية العقيدة"، حزبية الاتجاه السياسي (الإخوان المسلمون)، وبأنّها خاضعة للنفوذ السوري/الإيراني في المنطقة.
وقد أصبحت، وللأسف، هذه التحليلات والكتابات مادّة عربية مهمّة تستند عليها الدعاية الإسرائيلية في المنطقة والعالم للقول بأنّ إسرائيل لا تستهدف الشعب الفلسطيني (أو اللبناني) بل هي تحارب قوًى واتجاهات فكرية محدّدة تستخدم العنف المسلّح لصالح غايات خاصّة وحلفاء إقليميين!!
ولا أعلم ما هو تفسير أتباع "جبهة رفض المقاومة" للعدوان الإجرامي الوحشي الذي مارسته إسرائيل ضدّ الضفة الغربية وغزّة معاً في العام 2002، وتحديداً ضدّ قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة السلطة الفلسطينية التي كان على رأسها آنذاك مؤسس "حركة فتح" ياسر عرفات، وحصار شارون له لأشهر عديدة في مقرّه بمدينة رام الله، ثمّ للمجازر التي حدثت في جنين وغيرها وللمواجهات العسكرية المباشرة بين جيش الاحتلال وقوات الشرطة التابعة للسلطة الفلسطينية؟!
فياسر عرفات الذي كان في موقع قيادة المنظمة ورئاسة السلطة لم يكن على علاقة خاصّة مع دمشق أو طهران، ولم يؤسس "حركة فتح" على نهج عقدي إسلامي (أو غير إسلامي)، وكان هو من وقّع "اتفاق أوسلو" ووافق على الشروط الأميركية والإسرائيلية في تبنّي أسلوب المفاوضات والتخلّي عن الكفاح المسلّح والاعتراف بإسرائيل، كما كان حتماً من المؤيّدين للمبادرة العربية للسلام ومن الحريصين على التنسيق الدائم مع الدول العربية التي أقامت تسويات ومعاهدات وتطبيع مع إسرائيل.
ورغم ذلك كلّه، كان ياسر عرفات خاضعاً للحصار الإسرائيلي ومعزولاً من قبل إدارة بوش، وتعرّض مقرّه وقواته وحركته للضرب والعدوان الإسرائيلي أكثر من مرّة!!
لِمَ إذن حدث ذلك مع ياسر عرفات؟!
الإجابة تكمن فيما يحدث الآن في غزّة وفيما حدث قبلها في لبنان. فالمستهدف إسرائيلياً (والمدعوم أميركياً) هو نهج المقاومة بغضّ النّظر عمّن يحمل لواءه أو يدعو إليه (وكان ياسر عرفات داعماً للانتفاضة المسلّحة التي بدأت عقب زيارة شارون للمسجد الأقصى). لذلك، يكون من الخطأ تفسير ما يحدث الآن وكأنّه صراع مسلّح بين إسرائيل وفصيل فلسطيني محدّد أو تيّار فكري خاص. كذلك، يكون من الخطأ أن ترى المقاومة في فلسطين (أو في لبنان) أنّ معركتها السياسية هي معركة تيّارها الفكري مع تيّارات فكرية أخرى.
إنّ ما هو قائم في فلسطين، وما حدث في لبنان، هو معركة تحرّر وطني ضدّ اختلال غاشم، بغض النظر عن هُوية من يقود التحرر الوطني. وهذه المعارك تصنع عادةً تيّاراً تحرّرياً يجمع ولا يفرّق بين أبناء الوطن الواحد، ولا تحكمه مواصفات أيديولوجية خاصّة بل تحالفات واسعة تقوم على برنامج سياسي مشترك أهمّ بند فيه هو مواجهة الاحتلال وإنهائه. فهكذا كان حال وسيرة معظم حركات التحرّر الوطني في العالم التي انتصرت بفعل توسيع دائرة المشاركين فيها، وتقليص حجم الخصوم وتحييدهم، بهدف عزل العدوّ والانتصار عليه. وفي تجارب الشعوب الأخرى أمثلة مهمّة عن ذلك، كما حصل في تجربة الحزب الشيوعي في الصين، خلال فترة مقاومة الاحتلال الياباني، حينما قرّر زعيم الحزب ماوتسي تونغ إعدام أحد ضباطه لأنّه رفع العلم الأحمر الخاص بالحزب على موقع ياباني جرى الانتصار عليه في مقاومة مشتركة مع حزب "الكومنتانغ" الرأسمالي المتحالف معه في معركة التحرّر الوطني.
الآن تخوض إسرائيل معركة شرسة لإنهاء نهج المقاومة في غزّة بعدما استطاعت تدجين أوضاع السلطة الفلسطينية في الضفة وتوفير ضمانات بعدم تكرار ما حدث في ظلّ قيادة ياسر عرفات للسلطة من تساهل مع جماعات المقاومة أو من دعم لانتفاضات شعبية فلسطينية ضدّ الاحتلال.
وهناك حتماً علاقة حتمية بين غاية التحرّر الوطني وبين أداة هذه الغاية وبرنامجها السياسي. وتنجح وتنتصر حركات التحرّر حينما تكون أدواتها وبرامجها سليمة في البناء وفي أسلوب العمل وبغضّ النظر عن المنطلقات الفكرية. إنّ هناك حاجة فلسطينية كبيرة الآن لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بحيث تكون شاملة التمثيل، واضحة المنهج والأهداف، لكي تكون هي المرجعية الممثلة فعلاً للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية التحرّرية. فالمشكلة الآن هي في مضامين كل جزئية من اسم "منظمة التحرير الفلسطينية"، حيث تسود "الفوضى" لا التنظيم الجسم الفلسطيني، وحيث "التحرير" هدف يراه البعض قابل للتحقيق الآن من خلال أسلوب المفاوضات فقط رغم فشل هذا الأسلوب وفشل المراهنة عليه وحده لأكثر من 15 عاماً. أمّا "فلسطين" المنشود باسم المنظمة تحريرها، فهي أيضاً الآن موضع خلاف كبير بين المنظمات الفلسطينية، فهل هي فلسطين ما قبل وجود إسرائيل، أم فلسطين قرار التقسيم، أم فلسطين ما بعد حرب 1967؟!
هي معضلة كبيرة أن يكون الخلاف الفلسطيني قائماً على الغايات وعلى الأساليب .. وعلى الأداة التنظيمية وعلى البرنامج السياسي.
فالاختلاف الوحيد المقبول في حركات التحرّر الوطني هو الاختلاف الفكري، وما عداه يصبح عائقاً أمام هدف التحرير، بل خادماً أحياناً لواقع الاحتلال نفسه.
إنّ شعوب العالم تتضامن مع بعضها البعض في معارك تحرّرها بغضّ النّظر عن البلد أو عمّن يقود معركة التحرّر. فالاحتلال هو باطل كائناً من كان المحتل. والتحرّر هو حقّ يستحقّه كل شعب.
وهكذا هو حال أيّ شعب خاضع للاحتلال: يدعم ويؤّيد كل من يعمل لتحريره ويواجه الاحتلال ولا يسأل عن فكر المقاومين بل عن أعمالهم، وهو نفسه معيار محاسبة الرافضين لنهج المقاومة.
هي حكمة بليغة تلك التي تقول :" قلْ لي من صديقك، أقلْ لك من أنت"، وربّما نحتاج عربياً إلى حكمة جديدة أيضاً تقول: " قلْ لي من عدوّك، أقل لك من أنت"!!.
الخميس، فبراير 05، 2009
أهو تيّار إسلامي أم تحرّري؟
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق