صبحي غندور
صحيحٌ ما قاله وزير الخارجية السوري وليد المعلّم بأنّ قمّة دمشق قد نجحت بمجرّد انعقادها في مكانها وفي زمانها، وأيضاً في نوعيّة المناقشات والمقرّرات التي صدرت عنها، إضافةً طبعاً إلى مستوى المشاركة العربية فيها رغم الضغوط الكبيرة التي مارستها واشنطن لمقاطعة هذه القمّة.
وصحيحٌ أيضاً أنّ قمّة دمشق ما كانت لتختلف كثيراً، في ما حصل فيها من أعمال ومناقشات وما صدر عنها من مقرّرات، لو شارك فيها كلُّ من تغيّب عنها. فالقمم العربية في السنوات الأخيرة تشابهت أعمالها ونتائجها، ولم تخرج عن سياق اللقاء الدوري التقليدي بين الزعماء العرب دون القدرة الفاعلة على مواجهة التحدّيات التي تعصف منذ مطلع القرن الحالي بالأمّة العربية.
لكن هذا النجاح "السوري" و"العربي" في قمّة دمشق سيكون مرهوناً الآن بما سيحدث بعد القمّة حيث ستخضع معايير النجاح إلى امتحانات صعبة.
فالمعيار الأول كان يختصّ تحديداً بسوريا ودورها، وبمواقفها العربية والإقليمية والدولية. هذه المواقف السورية التي جعلت إدارة بوش، منذ غزوها للعراق، تسعى لعزل سوريا وللضغط عليها من أجل تغيير سياساتها وتحالفاتها في المنطقة، ولفكّ ارتباطها المؤثّر في مثلّث أزمات العراق وفلسطين ولبنان.
فجاءت قمّة دمشق لتعزّز دور سوريا العربي ولتجعلها معنيّة مباشرة الآن في عموم الأزمات العربية من خلال رئاستها للقمّة العربية لمدّة سنة. لذلك كانت الضغوط الأميركية تستهدف تأجيل القمّة أو تغيير مكانها أو تفجير مناقشاتها حتى لا تسير هذه القمّة بشكل طبيعي، فتخسر دمشق الدور المقرّر لرئاسة القمّة الدورية، وتكون أسيرة الصراعات مع أطراف عربية أخرى. وهنا خسرت واشنطن وربحت دمشق حينما انعقدت القمّة في مكانها وزمانها، وحينما سادت أجواء هادئة في أعمالها.
لكن ماذا بعد؟!
إنّ قمّة دمشق قد وضعت سوريا الآن أمام مسؤولية كبيرة، وهي أوّل قمّة تنعقد على أرضها وفي أخطر مرحلة تمرّ بها سوريا والأمّة العربية معاً.
إنّ قمّة دمشق ونجاحها في الانعقاد والأعمال والمقرّرات يضع قيادتها السياسية وأجهزتها الإعلامية والدبلوماسية أمام تحدّيات هامّة وامتحانات خطيرة، حيث أنّ هذه المرحلة تتطلّب أقصى درجات الوعي السياسي، والانتباه إلى مخاطر الانجرار وراء معارك سياسية تتناقض مع أهداف وشعارات قمّة دمشق، ولا تصبّ في خانة العمل العربي المشترك والتضامن العربي الفعّال، ولا تعزّز طبعاً دور سوريا العربي والإقليمي والدولي.
وما هو مؤشّر خيرٍ في هذا المجال، كلمة الرئيس بشّار الأسد في افتتاح القمّة وما صرّح به هو ووزير الخارجية وليد المعلّم خلال القمّة وما بعدها، حيث كان الموقف السوري متميّزاً في هدوء الأسلوب ووضوح الهدف بالحرص على التضامن العربي وعلى إفشال الغايات التي سعت إليها إدارة بوش من وراء حملتها لمقاطعة قمّة دمشق.
وما هو مؤشّر خيرٍ أيضاً ما جاء في مقرّرات القمّة و"إعلان دمشق" من دعوةٍ إلى وضع المصلحة العربية العليا فوق أيّ مصالح أخرى، ومن تأكيد على جملة ضوابط للتعامل مع أزمات المنطقة.
وصحيحٌ أنّ هناك جروحاً الآن في جسم العلاقات العربية/العربية، وخاصّة في العلاقات السورية/السعودية/المصرية، لكن يبدو أنّ هناك أيضاً إدراكاً لمخاطر الضغط على هذه الجروح عوضاً عن معالجتها، فالنتائج السلبية لاستمرار تدهور العلاقات العربية لن ترحم لا طرفاً ولا أحداً.
إنّ قادة دمشق والرياض والقاهرة يدركون أهمّية التضامن والتنسيق بين حكوماتهم من خلال تجارب سابقة أثبتت نجاحاتها في عقود ماضية وفي قضايا مصيرية، كما حصل ضدّ إسرائيل في حرب تشرين (أكتوبر) 1973، ثمّ في كيفيّة التعامل مع غزو نظام صدام حسين لدولة الكويت، وكذلك في إنهاء الحرب الأهلية في لبنان من خلال توقيع اتفاق الطائف.
وإذا كانت تداعيات الاحتلال الإسرائيلي المستمر لأراضٍ فلسطينية وسورية ولبنانية، ثمّ تداعيات الاحتلال الأميركي للعراق، قد أدّت، في ظلّ غياب المرجعية العربية الفاعلة، إلى نموّ الدور الإيراني في المنطقة، وانقسام حكومات المنطقة حول كيفيّة التعامل مع هذا الدور، فإنّ من شأن عودة الروح قريباً إلى التحالف السوري/المصري/السعودي، وموقع دمشق في ريادة العمل العربي المشترك خلال هذا العام، أن يحقّقا أفضل الظروف لإقامة حوار عربي/إيراني، وحوار عربي/تركي، يضمن كلٌّ منهما المصالح العربية على قاعدة تضامن عربي متين، ويخدم التنسيق المطلوب الآن بين الأمن العربي وجواره الإيراني والتركي وما لهذا الجوار الإقليمي/الإسلامي من دور مؤثّر حالياً في أحداث المنطقة.
إنّ العكس قد يحدث في حال تعثّر التضامن العربي وجهود المصالحة بين دمشق والرياض والقاهرة. فالجوار الإقليمي له مصالحه وأولوياته وسيعمل على ملء أي فراغ ينتج عن غياب الطرف العربي أو المرجعية العربية حتى لا يُعبَّأ هذا الفراغ من قبل طرفٍ آخر معادٍ له.
هذا واقع الجغرافية السياسية والأمنية الذي تتحكّم به أولوية المصالح الذاتية، والذي يتحكّم هو الآن بصراعات المنطقة وبقوى النفوذ فيها.
ربّما تكون هناك جوانب شخصية وفئوية الآن إضافةً إلى الأبعاد السياسية الهامّة وراء التوتّر في العلاقات العربية الراهنة، بل ربّما تكون هذه الجوانب مسؤولة إلى حدٍّ ما عن التعثّر الحاصل في المصالحات الوطنية داخل الأزمتين اللبنانية والفلسطينية. لكنّ ذلك لا يضعف من آثار العامل الأميركي في التشجيع على التوتّر وتأزيم العلاقات بين أركان التضامن العربي المنشود.
إنّ أهمّ نتيجة حاليّة في معايير نجاح قمّة دمشق هي فشل واشنطن بعزل دمشق عن محيطها العربي، فسوريا الآن هي رئيس القمّة لمدّة عام، وهي مطالبة بالقيام بمبادرات وتحرّكات لإنعاش جسم التضامن العربي. ودمشق أيضاً هي عاصمة الثقافة العربية الآن وما يعنيه هذا الأمر من تأكيد على الهويّة الثقافية المشتركة بين العرب ومن تعزيز الهويّة العربية لعموم العرب في كلّ مكان.
وقبل ذلك كلّه، وأهمّ من ذلك كلّه، فإنّ دمشق هي أكثر الأطراف العربية التصاقاً بالقضايا المصيرية التي تعصف الآن بالأمَّة. فسوريا هي طرف فاعل ومهم ومؤثّر في مصير الأزمة السياسية الداخلية في لبنان، وفي الصراع الدائر بين السلطة الفلسطينية ومعارضيها، وهي معنيّة بشكل مباشر بما حدث ويحدث في العراق، وعلى أرض سوريا الآن أكثر من مليون مهاجر عراقي، وحدود سوريا مع العراق ومع تركيا يجعلها عاملاً مهمّاً في مصير أمن العراق ومستقبل وحدته واستقراره. وسوريا تربطها علاقة خاصّة جداً بأطراف المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ولبنان، وهي على علاقة قوية جداً أيضاً مع طهران التي لا يمكن تجاهل دورها الآن في أزمات المنطقة وفي حلولها ..
أخيراً، فإنّ سوريا هي مفتاح التسوية النهائية في عملية السلام مع إسرائيل، وأرضها في الجولان ما زالت محتلّة، وليس هناك بينها وبين إسرائيل ما حصل من اتفاقات ومعاهدات كما جرى على الجبهتين المصرية والأردنية.
كلّ هذه العوامل تجعل من فكرة "عزل سوريا" فكرةً سخيفة وخاطئة وغير منطقية أو عملية. فهذه القضايا المعنيّة دمشق بها هي الآن قضايا الأمَّة والشرق الأوسط بأسره، وهي محور وأساس كل السياسة الأميركية في هذه المرحلة. ولقد أضيف حالياً إلى موقع سوريا ودورها، مسؤولية قيادة العمل العربي المشترك في أخطر عام ومرحلة.
قيل في السابق: "أن لا حرب من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا". الآن أصبحت سوريا معنيّة مباشرةً بالحرب والسلام معاً في قضايا المنطقة بأسرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق