محمود كعوش
في العام السادس لاحتلال العراق:
بمقدور أي مُتابع للأحداث المأساوية التي شهدها العراق خلال السنوات الخمس التي مضت على احتلاله من قبل الولايات المتحدة الأميركية زعيمة الاستعمار الجديد في العالم المعاصر والذي بدأ مع اجتياحه غير المبرر وغير المستند إلى أي مسوغ قانوني أو منطقي في عام 2003، أن يستدل دون عناء جهد أو طول تفكير على أن هذا البلد الذي كان مستقلاً وسيد نفسه وكان من أوائل البلدان التي أسهمت في إنشاء منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها الدولية الضامنة لتطبيق القانون والعدل في العالم، قد تحول إلى محرقة أميركية ـ صهيونية ـ غربية مشتركة لإبادة شعبه دون ما ذنب ارتكبه سوى أنه رفض التبعية وتصدى لمحاولات الاستقطاب والهيمنة والتهجين، وأن عاصمته التاريخية الشامخة والأبية بغداد قد أصبحت هي الأخرى مركز استقطاب وجذب لتجار ومروجي المخدرات والرذائل، ومرتعاً للفاسدين والمفسدين، وبؤرة انتقام وأخذ ثأر وإقصاء وطرد وتهجير وهدم وتدمير، وماكينة متحركة ومتنقلة للقتل والذبح والسحل وسفك الدماء وارتكاب المجازر والمذابح، التي تجاوزات في أحجامها وبشاعاتها حدود الإبادة الجماعية، مما تسبب في الإجهاز على بنيته التحتية اقتصادياً واجتماعياً وعلمياً وثقافياً وحضارياً وإنسانياً.
وما يدعو للأسى والأسف أن كل ذلك حدث وما زال متواصلاً حتى اللحظة الراهنة في أجواء واضحة من التآمر الدولي والتماهي الغربي والتواطؤ العربي والإسلامي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً حتى في العصور التي غاب عنها القانون وسادت فيها شريعة الغاب. وما يدعو للأسى والأسف أكثر أن كل التصريحات والمواقف التي صدرت مؤخراً عن "البيت الأسود" في واشنطن الذي يتحكم به ويمسك بزمام تلابيبه تيار المحافظين الجدد المتشكل من مسيحيين متشددين وصهاينة مجرمين وعن عملائهن المحليين لا تبشر بقرب حدوث انسحاب للمحتلين، بل تنبؤ بأن القادم سيكون أدهى وأمر.
واليوم ونحن نستقبل الذكرى الخامسة لقيام جحافل مغول وتتار الألفية الثالثة بأسر عروس العواصم العربية بغداد بكل ما في ذلك من مرارة وألم وحسرة ورفض للأمر الواقع المفروض بمنطق القوة والطغيان والجبروت، نرى أن من الضروري التذكير بغيض يسير جداً من فيض المعطيات والمعلومات والإحصاءات الغزيرة والمقاربة للحقيقة التي تداولها الإعلام الغربي ومراكز البحوث والاستقصاء العالمية في الأشهر والأسابيع القليلة الماضية، للتدليل على وحشية وبربرية وفاشية الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب والشرق وفداحة وخطورة حجم الفاجعة التي تسبب بها غزو العراق واحتلاله على مدار السنوات الخمس الماضية، ولمحاولة استنهاض واستنفار ما تبقي عند الجماهير العربية من إرادة وكرامة وشهامة ونخوة، بعدما تحولت هذه مجتمعة إلى "عملة نادرة" بالنسبة للنظام الرسمي العربي مذ تخلى عن وثيقة الدفاع المشترك وأصبح الاستسلام خياره الاستراتيجي الوحيد!!
ففي ما يتعلق بالإبادة الجماعية التي ارتكبتها ماكينة الاحتلال الغاشمة منذ غزو العراق واحتلاله في عام 2003، أكدت مراكز عديدة مختصة باستطلاعات الرأي من بينها المركز البريطاني "O.R.B" وفاة أكثر من مليون عراقي قضوا في مجازر ومذابح جماعية ارتكبتها قوات الاحتلال الأميركية والقوى العسكرية الدولية والمحلية المتحالفة معها، بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء والمسنين الذين لا حول لهم ولا قوة.
وخلُص استطلاع أخير للمركز البريطاني المذكور أُجري مع عينة عشوائية من العراقيين في مقابلات ميدانية مباشرة شملت جميع مناطق العراق تقريباً إلى أن عشرين بالمائة من الأسر العراقية فُجعت بفقدان وأحد من أبنائها على أقل تقدير، جراء الحرب العدوانية الظالمة والطاحنة التي شنها الأميركيون وحلفاؤهم على العراق أرضاً وشعباً وحضارة وثقافة وتاريخاً ووجوداً وإنسانية خلال تلك السنوات القاتمة، والمستمرة بضراوة حتى اليوم.
وفي جانب متصل، أفاد تقرير مفصل لمنظمة "أوكسفام" البريطانية بأن ثمانية ملايين عراقياً، أي حوالي ثلث تعداد سكان العراق من بينهم ما يزيد عن مليوني نازح في الداخل استبدلوا مناطق إقامتهم لاعتبارات عرقية وطائفية ومذهبية، قد أصبحوا بحاجة ماسة للمساعدات العاجلة والدائمة وغلى الخصوص المواد الغذائية والكساء والعلاج، وأن 28 بالمائة من أطفال جيل "الديمقراطية الأميركية الموعودة" يعانون من سوء خطير في التغذية، وأن 40 بالمائة من العراقيين قد اضطروا لمغادرة بلدهم واللجوء إلى حيث وصلت أقدامهم في أصقاع المعمورة وبالذات إلى اثنتين من بلدان الجوار الشقيقة هما سوريا والأردن، ولم يعد منهم إلى العراق حتى الآن سوى عدد ضئيل جداً بالرغم من كل ما قيل كذباً وزوراً عن عودتهم وعودة الأمن إليه، وأن مستوى المعيشة في بلد الخيرات سابقاً قد تدنى إلى مستوى خطير جداً، بحيث أصبح 43 بالمائة منهم يعانون من العوز والفقر المدقع.
والمنظمة المذكورة هي ائتلاف دولي من 13 منظمة ومؤسسة تعمل مع نحو 3000 شريك في 100 دولة بهدف إيجاد حلول دائمة لمعضلة الفقر المنتشرة في العالم. تأسست في بريطانيا عام 1942 تحت اسم "مجموعة أوكسفورد للحد من المجاعة" حيث كان هدفها تدارك السكان الذين عانوا المجاعة في اليونان تحت الاحتلال النازي. وقد أُسس أول فرع خارجي لها في كندا في عام 1965 واعتُمدت الحروف "OXFAM" اسماً برقياً لها، ومنذ ذلك التاريخ بدأت تُعرف بالاسم المتداول الآن "أوكسفام".
وبدورها، أكدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "UNICEF" أن حياة ملايين الأطفال العراقيين مازالت مهددة بسبب العنف وفقدان الأمن والأمان وسوء التغذية وشح مياه الشرب. وقال بحث للمنظمة نُشر قبل فترة وجيزة أنه "خلال عام 2007 وحده قُتل أو جُرح مئات الأطفال بسبب العنف، وأن عدداُ كبيراً من أرباب البيوت ومعيلي الأسر العراقية قد تعرضوا للاختطاف والتصفية الجسدية، وأن حوالي 25 ألف طفل وعائلاتهم يُضطرون لمغادرة مساكنهم واللجوء إلى مساكن أخرى في مناطق غير مناطقهم، وأن 75 ألف طفل عراقي باتوا يعيشون في مخيمات ومعسكرات وأماكن سكن مؤقتة".
وفيما اعترف ممثل المنظمة في بغداد روجر رايت بأن أطفال العراق المحتل يدفعون أثماناً باهظة لجرائم لا يرتكبونها، كشفت منظمته في بحثها النقاب عن أن الميليشيات المحلية العميلة للاحتلال والمتواطئة مع النظام الإيراني والتي يتخفى أفرادها بلباس الجيش والشرطة قد اعتقلت حتى نهاية 2007 نحو ألف و350 طفلا بتهمة انتهاكهم الأمن الوطني أو أمن قوات الاحتلال الباغية.
وعلى صعيد قطاع التعليم، أظهر البحث الذي أجرته المنظمة سالفة الذكر أن "28 بالمائة فقط ممن بلغوا السابعة عشرة من العمر قد اجتازوا امتحانات الثانوية العامة في العام الماضي 2007، وإن نسبة من اجتازوا الامتحان النهائي في وسط وجنوبي العراق بقيت في حدود 40 بالمائة". وأشار البحث إلى أن "عدد تلاميذ المدارس الابتدائية الذين تخلفوا عن الدراسة خلال 2006 بلغ 760 ألفا، وارتفع العدد خلال 2007 بسبب انقطاع عدد متزايد من الأطفال الذين نزحت أسرهم داخل البلاد أو هُجرت وهاجرت إلى خارجها عن الدراسة".
وبشأن عمليات القمع والتنكيل والاعتقال والحجز الجماعية التي تعرض لها العراقيون، فقد نقل موقع "الكوفية" الفلسطيني عن ممثلة اتحاد الأسرى والسجناء السياسيين العراقيين المحامية سحر الياسري قولها أن عدد السجون والمعتقلات في كافة محافظات "واحة الحرية الأميركية الموعودة" قد بلغ 36 سجنا ومعتقلاً، عدا "أبو غريب" الذي أصبح علامة سوداء ووصمة عار في تاريخ السياسة الأميركية الحمقاء والذي بات "نعمة النعم" و"جنة جنان الخلد" قياساً بالسجون والمعتقلات التي استُحدثت بعد تفجير فضائحه المريعة التي تصدرت قذارتها عناوين جميع وسائل الإعلام في العالم، بما في ذلك وسائل الإعلام الأميركية طبعاً التي يُسجل لها المراقبون أنها وقفت وراء عملية التفجير تلك.
وتكهنت المحامية العراقية بأن عراق ما بعد الرئيس الراحل صدام حسين سيصبح حاضناً لأسوأ وأكبر عدد من السجون والمعتقلات في العالم، مشيرة إلى أنه "علاوة على سجون ومعتقلات الاحتلال الموجودة فيه، فإنه يستضيف سجوناً ومعتقلات أخرى كثيرة خاصة بالحكومة العراقية ووزارات الداخلية والدفاع والأمن القومي وجهاز المخابرات، إلى جانب سجون ومعتقلات خاصة بالأحزاب السياسية" التي طفت فوق المشهد العراقي كما تطفو الفطريات فوق الأجساد العفنة. وأكدت أن هذه السجون والمعتقلات "تشهد أبشع أنواع وألوان التعذيب الجسدي والنفسي وانتهاكات حقوق الإنسان، وأن معظم نزلائها من الموقوفين دون أوامر توقيف قانونية، وعادة ما يقيمون فيها لآجال ومدد طويلة ولا يُعرضون على المحاكم"، لا العراقية ولا الأميركية!!
وحسب ذات الموقع المُشار إليه سابقاً وموقعي "الحقيقة الدولية" و"شبكة النبأ المعلوماتية" ومصادر صحفية أخرى عديدة، فإن مركز أبحاثٍ بريطانياً مرموقاً رسم صورة قاتمة للعراق تحت الاحتلال بتأكيده أنه "أصبح مهدداً في وحدته وبات قاب قوسين أو أدني من الانهيار الكامل والشامل، وأن الحكومة العراقية القائمة أصبحت بلا سلطة تُذكر بعدما فقدت الحد الأدنى من الشرعية التي كانت تتمتع بها"، والتي هي بالأصل منحة لها من سلطة الاحتلال الغاصبة. والمركز المقصود ويُدعى "شاثام هاوس" وهو خاص بالأبحاث المتعلقة بالعلاقات الدولية قال في تقرير أصدره مؤخرا أن "العراق الذي يشهد عدة حروب أهلية متوازية، مهدد بالانهيار والتفتت"، مطالباً بضرورة "إعادة النظر في الاستراتيجيتين الأمريكية والبريطانية المطبقتين فوق أراضيه، وإجراء المزيد من المشاورات بشأنه مع الدول المحيطة به". وأوضح التقرير الذي وضعه الباحث في المركز جاريت ستانسفيلد أن "ما يشهده العراق لا يمثل حركة تمرد أو حرباً أهلية واحدة فحسب، وإنما عدة حركات تمرد وحروب أهلية بين مختلف طوائفه ومذاهبه وأعراقه". وأضاف أن "الاقتتال الطائفي والعرقي والصراع على السلطة يهدد وجود هذا البلد"، الذي كان حتى غزوه في آذار 2003 واحداً موحداً بأرضه وشعبه ومؤسساته وسلطنه السياسية.
ووفقاً لرؤى واجتهادات الخبراء والمراقبين والمحللين الدوليين والإقليميين بمن فيهم بعض الأميركيين والعرب، فإن المحرقة التي تسبب بها الاحتلال الأميركي في العراق بالتعاون والتضامن مع البلدان الطامعة به والحاقدة عليه تاريخياً والتي ما تزال تتواصل بشراسة ما بعدها شراسة، مقبلة على مزيد من التفاقم والتصعيد، وهو ما أكده المحلل الأميركي في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن انتوني كوردسمان بقوله أن "حظوظ الجيش العراقي الذي تعول واشنطن على بنائه لحفظ الأمن والاستقرار في العراق لا تتجاوز 50 بالمائة"، وأن "لا إمكانية لحدوث استقرار في أوضاع العراق قبل عام 2012 أو ربما عام 2015"، وما ذهب إليه أيضا رئيس أركان الجيش الأمريكي الجنرال بيتر شوميكر بتأكيده أن "الوضعية القتالية للقوات الأمريكية في العراق ستبقى على ما هي عليه إلى حين حلول عام 2010"، مما يعني أن الولايات المتحدة غير جادة في التعويل على الجيش العراقي "الجديد" وقدراته "المحدودة" وأنها ليست بصدد التفكير بتدريبه وتطويره وتعزيز قدراته القتالية.
الحقيقة التي لا جدال فيها هي أن كل ما تقدم سرده من معطيات ومعلومات وإحصاءات موجزة ومحدودة لا يشكل غير يُسر ضئيل جداً من فيض ما بات يعتري واقع العراق المستجد قسراً بفعل جريمة غزوه واحتلاله من قبل الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين والمهجنين القدامى والجدد، والتي أقل ما يمكن أن تُوصف به هي أنها "جريمة العصر الكبرى"، لا بل أم جرائم كل العصور.
لكن الحقيقة الأهم هي أن الولايات المتحدة التي استأثرت بالنظام العالمي "الغريب، العجيب، المريب" وتزعمت الاستعمار الجديد في هذا الكون بعد انحسار نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق وتفككه إلى جمهوريات متناثرة لا حول لها ولا قوة في بدايات حقبة التسعينات من القرن الماضي، مهما بلغت من طغيان وجبروت ووحشية وبربرية وفاشية ومن خلفها جميع حلفائها على مذاهبهم المختلفة والمتباينة، فإنها لن تستطيع النيل من إرادة العراق وشعبه وسيصطدم عدوانها دائماً بصخرة صمود المقاومة العراقية الباسلة التي أصبحت تمثل ركناً رئيسياً من أركان الممانعة العربية والإسلامية التي ستفرض عليها وعلى قواتها الباغية هزيمة ما بعدها هزيمة، وإن ذلك لقريب إنشاء الله. لقد طال الانتظار وما بعد الانتظار إلا الفرج.
نيسان 2008
كاتب وباحث فلسطيني مقيم بالدانمرك
Kawashmahmoud@yahoo.co.uk
kawashmahmoud@hotmail.com
بمقدور أي مُتابع للأحداث المأساوية التي شهدها العراق خلال السنوات الخمس التي مضت على احتلاله من قبل الولايات المتحدة الأميركية زعيمة الاستعمار الجديد في العالم المعاصر والذي بدأ مع اجتياحه غير المبرر وغير المستند إلى أي مسوغ قانوني أو منطقي في عام 2003، أن يستدل دون عناء جهد أو طول تفكير على أن هذا البلد الذي كان مستقلاً وسيد نفسه وكان من أوائل البلدان التي أسهمت في إنشاء منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها الدولية الضامنة لتطبيق القانون والعدل في العالم، قد تحول إلى محرقة أميركية ـ صهيونية ـ غربية مشتركة لإبادة شعبه دون ما ذنب ارتكبه سوى أنه رفض التبعية وتصدى لمحاولات الاستقطاب والهيمنة والتهجين، وأن عاصمته التاريخية الشامخة والأبية بغداد قد أصبحت هي الأخرى مركز استقطاب وجذب لتجار ومروجي المخدرات والرذائل، ومرتعاً للفاسدين والمفسدين، وبؤرة انتقام وأخذ ثأر وإقصاء وطرد وتهجير وهدم وتدمير، وماكينة متحركة ومتنقلة للقتل والذبح والسحل وسفك الدماء وارتكاب المجازر والمذابح، التي تجاوزات في أحجامها وبشاعاتها حدود الإبادة الجماعية، مما تسبب في الإجهاز على بنيته التحتية اقتصادياً واجتماعياً وعلمياً وثقافياً وحضارياً وإنسانياً.
وما يدعو للأسى والأسف أن كل ذلك حدث وما زال متواصلاً حتى اللحظة الراهنة في أجواء واضحة من التآمر الدولي والتماهي الغربي والتواطؤ العربي والإسلامي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً حتى في العصور التي غاب عنها القانون وسادت فيها شريعة الغاب. وما يدعو للأسى والأسف أكثر أن كل التصريحات والمواقف التي صدرت مؤخراً عن "البيت الأسود" في واشنطن الذي يتحكم به ويمسك بزمام تلابيبه تيار المحافظين الجدد المتشكل من مسيحيين متشددين وصهاينة مجرمين وعن عملائهن المحليين لا تبشر بقرب حدوث انسحاب للمحتلين، بل تنبؤ بأن القادم سيكون أدهى وأمر.
واليوم ونحن نستقبل الذكرى الخامسة لقيام جحافل مغول وتتار الألفية الثالثة بأسر عروس العواصم العربية بغداد بكل ما في ذلك من مرارة وألم وحسرة ورفض للأمر الواقع المفروض بمنطق القوة والطغيان والجبروت، نرى أن من الضروري التذكير بغيض يسير جداً من فيض المعطيات والمعلومات والإحصاءات الغزيرة والمقاربة للحقيقة التي تداولها الإعلام الغربي ومراكز البحوث والاستقصاء العالمية في الأشهر والأسابيع القليلة الماضية، للتدليل على وحشية وبربرية وفاشية الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب والشرق وفداحة وخطورة حجم الفاجعة التي تسبب بها غزو العراق واحتلاله على مدار السنوات الخمس الماضية، ولمحاولة استنهاض واستنفار ما تبقي عند الجماهير العربية من إرادة وكرامة وشهامة ونخوة، بعدما تحولت هذه مجتمعة إلى "عملة نادرة" بالنسبة للنظام الرسمي العربي مذ تخلى عن وثيقة الدفاع المشترك وأصبح الاستسلام خياره الاستراتيجي الوحيد!!
ففي ما يتعلق بالإبادة الجماعية التي ارتكبتها ماكينة الاحتلال الغاشمة منذ غزو العراق واحتلاله في عام 2003، أكدت مراكز عديدة مختصة باستطلاعات الرأي من بينها المركز البريطاني "O.R.B" وفاة أكثر من مليون عراقي قضوا في مجازر ومذابح جماعية ارتكبتها قوات الاحتلال الأميركية والقوى العسكرية الدولية والمحلية المتحالفة معها، بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء والمسنين الذين لا حول لهم ولا قوة.
وخلُص استطلاع أخير للمركز البريطاني المذكور أُجري مع عينة عشوائية من العراقيين في مقابلات ميدانية مباشرة شملت جميع مناطق العراق تقريباً إلى أن عشرين بالمائة من الأسر العراقية فُجعت بفقدان وأحد من أبنائها على أقل تقدير، جراء الحرب العدوانية الظالمة والطاحنة التي شنها الأميركيون وحلفاؤهم على العراق أرضاً وشعباً وحضارة وثقافة وتاريخاً ووجوداً وإنسانية خلال تلك السنوات القاتمة، والمستمرة بضراوة حتى اليوم.
وفي جانب متصل، أفاد تقرير مفصل لمنظمة "أوكسفام" البريطانية بأن ثمانية ملايين عراقياً، أي حوالي ثلث تعداد سكان العراق من بينهم ما يزيد عن مليوني نازح في الداخل استبدلوا مناطق إقامتهم لاعتبارات عرقية وطائفية ومذهبية، قد أصبحوا بحاجة ماسة للمساعدات العاجلة والدائمة وغلى الخصوص المواد الغذائية والكساء والعلاج، وأن 28 بالمائة من أطفال جيل "الديمقراطية الأميركية الموعودة" يعانون من سوء خطير في التغذية، وأن 40 بالمائة من العراقيين قد اضطروا لمغادرة بلدهم واللجوء إلى حيث وصلت أقدامهم في أصقاع المعمورة وبالذات إلى اثنتين من بلدان الجوار الشقيقة هما سوريا والأردن، ولم يعد منهم إلى العراق حتى الآن سوى عدد ضئيل جداً بالرغم من كل ما قيل كذباً وزوراً عن عودتهم وعودة الأمن إليه، وأن مستوى المعيشة في بلد الخيرات سابقاً قد تدنى إلى مستوى خطير جداً، بحيث أصبح 43 بالمائة منهم يعانون من العوز والفقر المدقع.
والمنظمة المذكورة هي ائتلاف دولي من 13 منظمة ومؤسسة تعمل مع نحو 3000 شريك في 100 دولة بهدف إيجاد حلول دائمة لمعضلة الفقر المنتشرة في العالم. تأسست في بريطانيا عام 1942 تحت اسم "مجموعة أوكسفورد للحد من المجاعة" حيث كان هدفها تدارك السكان الذين عانوا المجاعة في اليونان تحت الاحتلال النازي. وقد أُسس أول فرع خارجي لها في كندا في عام 1965 واعتُمدت الحروف "OXFAM" اسماً برقياً لها، ومنذ ذلك التاريخ بدأت تُعرف بالاسم المتداول الآن "أوكسفام".
وبدورها، أكدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "UNICEF" أن حياة ملايين الأطفال العراقيين مازالت مهددة بسبب العنف وفقدان الأمن والأمان وسوء التغذية وشح مياه الشرب. وقال بحث للمنظمة نُشر قبل فترة وجيزة أنه "خلال عام 2007 وحده قُتل أو جُرح مئات الأطفال بسبب العنف، وأن عدداُ كبيراً من أرباب البيوت ومعيلي الأسر العراقية قد تعرضوا للاختطاف والتصفية الجسدية، وأن حوالي 25 ألف طفل وعائلاتهم يُضطرون لمغادرة مساكنهم واللجوء إلى مساكن أخرى في مناطق غير مناطقهم، وأن 75 ألف طفل عراقي باتوا يعيشون في مخيمات ومعسكرات وأماكن سكن مؤقتة".
وفيما اعترف ممثل المنظمة في بغداد روجر رايت بأن أطفال العراق المحتل يدفعون أثماناً باهظة لجرائم لا يرتكبونها، كشفت منظمته في بحثها النقاب عن أن الميليشيات المحلية العميلة للاحتلال والمتواطئة مع النظام الإيراني والتي يتخفى أفرادها بلباس الجيش والشرطة قد اعتقلت حتى نهاية 2007 نحو ألف و350 طفلا بتهمة انتهاكهم الأمن الوطني أو أمن قوات الاحتلال الباغية.
وعلى صعيد قطاع التعليم، أظهر البحث الذي أجرته المنظمة سالفة الذكر أن "28 بالمائة فقط ممن بلغوا السابعة عشرة من العمر قد اجتازوا امتحانات الثانوية العامة في العام الماضي 2007، وإن نسبة من اجتازوا الامتحان النهائي في وسط وجنوبي العراق بقيت في حدود 40 بالمائة". وأشار البحث إلى أن "عدد تلاميذ المدارس الابتدائية الذين تخلفوا عن الدراسة خلال 2006 بلغ 760 ألفا، وارتفع العدد خلال 2007 بسبب انقطاع عدد متزايد من الأطفال الذين نزحت أسرهم داخل البلاد أو هُجرت وهاجرت إلى خارجها عن الدراسة".
وبشأن عمليات القمع والتنكيل والاعتقال والحجز الجماعية التي تعرض لها العراقيون، فقد نقل موقع "الكوفية" الفلسطيني عن ممثلة اتحاد الأسرى والسجناء السياسيين العراقيين المحامية سحر الياسري قولها أن عدد السجون والمعتقلات في كافة محافظات "واحة الحرية الأميركية الموعودة" قد بلغ 36 سجنا ومعتقلاً، عدا "أبو غريب" الذي أصبح علامة سوداء ووصمة عار في تاريخ السياسة الأميركية الحمقاء والذي بات "نعمة النعم" و"جنة جنان الخلد" قياساً بالسجون والمعتقلات التي استُحدثت بعد تفجير فضائحه المريعة التي تصدرت قذارتها عناوين جميع وسائل الإعلام في العالم، بما في ذلك وسائل الإعلام الأميركية طبعاً التي يُسجل لها المراقبون أنها وقفت وراء عملية التفجير تلك.
وتكهنت المحامية العراقية بأن عراق ما بعد الرئيس الراحل صدام حسين سيصبح حاضناً لأسوأ وأكبر عدد من السجون والمعتقلات في العالم، مشيرة إلى أنه "علاوة على سجون ومعتقلات الاحتلال الموجودة فيه، فإنه يستضيف سجوناً ومعتقلات أخرى كثيرة خاصة بالحكومة العراقية ووزارات الداخلية والدفاع والأمن القومي وجهاز المخابرات، إلى جانب سجون ومعتقلات خاصة بالأحزاب السياسية" التي طفت فوق المشهد العراقي كما تطفو الفطريات فوق الأجساد العفنة. وأكدت أن هذه السجون والمعتقلات "تشهد أبشع أنواع وألوان التعذيب الجسدي والنفسي وانتهاكات حقوق الإنسان، وأن معظم نزلائها من الموقوفين دون أوامر توقيف قانونية، وعادة ما يقيمون فيها لآجال ومدد طويلة ولا يُعرضون على المحاكم"، لا العراقية ولا الأميركية!!
وحسب ذات الموقع المُشار إليه سابقاً وموقعي "الحقيقة الدولية" و"شبكة النبأ المعلوماتية" ومصادر صحفية أخرى عديدة، فإن مركز أبحاثٍ بريطانياً مرموقاً رسم صورة قاتمة للعراق تحت الاحتلال بتأكيده أنه "أصبح مهدداً في وحدته وبات قاب قوسين أو أدني من الانهيار الكامل والشامل، وأن الحكومة العراقية القائمة أصبحت بلا سلطة تُذكر بعدما فقدت الحد الأدنى من الشرعية التي كانت تتمتع بها"، والتي هي بالأصل منحة لها من سلطة الاحتلال الغاصبة. والمركز المقصود ويُدعى "شاثام هاوس" وهو خاص بالأبحاث المتعلقة بالعلاقات الدولية قال في تقرير أصدره مؤخرا أن "العراق الذي يشهد عدة حروب أهلية متوازية، مهدد بالانهيار والتفتت"، مطالباً بضرورة "إعادة النظر في الاستراتيجيتين الأمريكية والبريطانية المطبقتين فوق أراضيه، وإجراء المزيد من المشاورات بشأنه مع الدول المحيطة به". وأوضح التقرير الذي وضعه الباحث في المركز جاريت ستانسفيلد أن "ما يشهده العراق لا يمثل حركة تمرد أو حرباً أهلية واحدة فحسب، وإنما عدة حركات تمرد وحروب أهلية بين مختلف طوائفه ومذاهبه وأعراقه". وأضاف أن "الاقتتال الطائفي والعرقي والصراع على السلطة يهدد وجود هذا البلد"، الذي كان حتى غزوه في آذار 2003 واحداً موحداً بأرضه وشعبه ومؤسساته وسلطنه السياسية.
ووفقاً لرؤى واجتهادات الخبراء والمراقبين والمحللين الدوليين والإقليميين بمن فيهم بعض الأميركيين والعرب، فإن المحرقة التي تسبب بها الاحتلال الأميركي في العراق بالتعاون والتضامن مع البلدان الطامعة به والحاقدة عليه تاريخياً والتي ما تزال تتواصل بشراسة ما بعدها شراسة، مقبلة على مزيد من التفاقم والتصعيد، وهو ما أكده المحلل الأميركي في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن انتوني كوردسمان بقوله أن "حظوظ الجيش العراقي الذي تعول واشنطن على بنائه لحفظ الأمن والاستقرار في العراق لا تتجاوز 50 بالمائة"، وأن "لا إمكانية لحدوث استقرار في أوضاع العراق قبل عام 2012 أو ربما عام 2015"، وما ذهب إليه أيضا رئيس أركان الجيش الأمريكي الجنرال بيتر شوميكر بتأكيده أن "الوضعية القتالية للقوات الأمريكية في العراق ستبقى على ما هي عليه إلى حين حلول عام 2010"، مما يعني أن الولايات المتحدة غير جادة في التعويل على الجيش العراقي "الجديد" وقدراته "المحدودة" وأنها ليست بصدد التفكير بتدريبه وتطويره وتعزيز قدراته القتالية.
الحقيقة التي لا جدال فيها هي أن كل ما تقدم سرده من معطيات ومعلومات وإحصاءات موجزة ومحدودة لا يشكل غير يُسر ضئيل جداً من فيض ما بات يعتري واقع العراق المستجد قسراً بفعل جريمة غزوه واحتلاله من قبل الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين والمهجنين القدامى والجدد، والتي أقل ما يمكن أن تُوصف به هي أنها "جريمة العصر الكبرى"، لا بل أم جرائم كل العصور.
لكن الحقيقة الأهم هي أن الولايات المتحدة التي استأثرت بالنظام العالمي "الغريب، العجيب، المريب" وتزعمت الاستعمار الجديد في هذا الكون بعد انحسار نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق وتفككه إلى جمهوريات متناثرة لا حول لها ولا قوة في بدايات حقبة التسعينات من القرن الماضي، مهما بلغت من طغيان وجبروت ووحشية وبربرية وفاشية ومن خلفها جميع حلفائها على مذاهبهم المختلفة والمتباينة، فإنها لن تستطيع النيل من إرادة العراق وشعبه وسيصطدم عدوانها دائماً بصخرة صمود المقاومة العراقية الباسلة التي أصبحت تمثل ركناً رئيسياً من أركان الممانعة العربية والإسلامية التي ستفرض عليها وعلى قواتها الباغية هزيمة ما بعدها هزيمة، وإن ذلك لقريب إنشاء الله. لقد طال الانتظار وما بعد الانتظار إلا الفرج.
نيسان 2008
كاتب وباحث فلسطيني مقيم بالدانمرك
Kawashmahmoud@yahoo.co.uk
kawashmahmoud@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق