نقولا ناصر
(الهدف الاخير للاحتلال هو ضمان وجود عسكري وسياسي اميركي في العراق طويل الامد من اجل "اليوم الذي سوف ياتي عندما يكون العراق ديموقراطية مستقرة تساعد في محاربة اعدائنا المشتركين وتروج مصالحنا المشتركة في الشرق الاوسط" – الرئيس جورج بوش في خطابه يوم الخميس الماضي)
من قرا المقال الذي كتبه نائب رئيس الوزراء العراقي برهم صالح في الواشنطن بوست في يوم الذكرى السنوية الخامسة للاحتلال الاميركي لا يسعه الا العجب من مدى انفصال الرجل عن الواقع وقدرته على رسم صورة وردية لانجازات ما سماه "التحرير" بينما كان القادة السياسيون والعسكريون للاحتلال نفسه يتلاسنون في واشنطن حول افضل طريقة للخروج من مستنقع الرمال المتحركة التي غرقوا واغرقوا العراق والمنطقة فيه ليقرروا في النهاية ان الاحتلال مقيم ونهايته مفتوحة وليبعثوا برسالة الى المقاومة العراقية بان طريق التحرير ما زال طويلا امامها فيما السيد برهم صالح يغرق في تناقضاته ليكتب عن نيل "السيادة في حزيران / يونيو 2004" وليفتخر بان "قواتنا الامنية تعدادها 600 الف" رجل الان بعد ان كانت صفرا قبل خمس سنوات دون ان يوضح لماذا كما قال ما زال العراقيون "مسؤولين عن نصف محافظات العراق الثمانية عشر" فقط بعد اقل من اربع سنوات على "نيل السيادة" ولماذا لم تستطع هذه القوة (المسنودة بمائة وستين الفا من قوات الاحتلال الاميركي فقط دون حساب القوات الحليفة وبحوالي مائة الف غيرهم من قوات مرتزقة "الشركات الامنية" ناهيك عن عشرات الاف المليشيات المدعومة من الحليف الايراني) ضمان الامن في العراق بعد ستين شهرا من الغزو الاميركي .
غير ان الاهم ان برهم صالح عندما اعترف بان "الوعد" الذي "قدمه التحرير لنا (لمنحنا) فرصة بناء دولة جديدة قائمة على اساس حكم القانون والمبادئ الديموقراطية ... لم يتحقق بعد" ثم جدد التزاما يجمع عليه كل اركان "الدولة الجديدة" التي يحاول الاحتلال بناءها انطلاقا من المنطقة الخضراء ببغداد عندما كتب يقول ان "علاقتنا مع الولايات المتحدة سوف تظل لب استراتيجيتنا فمكاسبنا كانت ستكون مستحيلة دون دعم الولايات المتحدة" انما وضع اصبعه على عين الجرح العراقي النازف: فلا الاحتلال يريد ان يرحل ولا النظام الذي يحاول الاحتلال ترسيخ اقدامه في العراق يريده ان يرحل ، لان الطرفين ما زالا عاجزين عن تحقيق اهداف كل منهما من الاحتلال .
واذا كان اركان الحكم والحكومة في النظام الجديد والقوى السياسية الرئيسية التي يستندان اليها جميعهم قد اجمعوا علنا ورسميا على ان وقت رحيل الاحتلال لم يحن بعد لا بل اجمعوا على ان وقت اعلان جدولة لرحيله ما زالت سابقة لاوانها وبالتالي فان موقفهم لا يجادلون فيه لمحاولة اثباته فان موقف الادارة الاميركية التي قامت بالاحتلال وما زالت تقوده ما زال يتسم بحملة دعاوية منظمة ومكثفة تستهدف خداع الراي العام الاميركي نفسه قبل خداع الراي العام العراقي والعربي لايهامه بانها تبحث عن "استراتيجية خروج" من العراق وعن "سحب" لقوات الاحتلال منه او "تخفيض" لعديد هذه القوات بينما هي تخطط وتعمل للبقاء في العراق لامد طويل .
ان خلاصة شهادتي المسؤول السياسي للاحتلال في العراق السفير رايان كروكر والقائد العسكري للاحتلال الجنرال ديفيد بيترايوس امام الكونغرس نهاية الاسبوع الماضي ويومين من الجدل حولهما كانت توصيات تبناها الرئيس جورج دبليو بوش الخميس الماضي ويمكن ايجازها بوقف سحب خمسة كتائب تعدادهاعشرين الف مجند ومجندة (كان بوش قد اضافهم اوائل عام 2007 الى (140) الفا من قوات الاحتلال) الى اجل غير مسمى ، من اجل "حماية" المكاسب التي احرزتها القوة الاضافية ، كما قال بيترايوس ، مما دفع وزير الدفاع روبرت غيتس يوم الخميس الماضي الى القول انه فقد الامل في امكانية تخفيض قوات الاحتلال الى اقل من مائة الف بنهاية العام الحالي . لقد طلب بيترايوس ووافق بوش وقف سحب القوات الاضافية لمدة (45) يوما يعيد بعدها تقويم الوضع الميداني على الارض ثم يقرر البدء في سحبها او تمديد وقف سحبها .
والحديث يدور هنا فقط عن "القوات الاضافية" . لكن حتى لو قرر بيترايوس في الخريف المقبل انه لم يعد بحاجة الى عشرين الفا من هذه القوات فان عديد قوات الاحتلال التي ستبقى سيكون (140) الفا ، أي اكثر بعشرة آلاف من عديدها قبل وصول القوات الاضافية اوائل العام المنصرم (شبكة ايه بي سي) . ولم يكن غيتس هو فقط من فقد الامل في تخفيض فعلي لقوات الاحتلال ، فقد تساءلت مرشحة الحزب الجمهوري للرئاسة هيلاري كلينتون "ما هو الهدف النهائي في العراق" بينما اعلن منافسها باراك اوباما ان ما يعنيه قرار بوش بتبني توصيات بيترايوس هو ان (140) الف من القوات سوف تبقى في العراق حتى نهاية العام "أي انه لا نهاية في الافق" لسياسات بوش .
لقد اجاب غيتس على تساؤل كلينتون بقوله يوم الخميس ان قوة اميركية صغيرة نسبيا ينبغي ان تبقى في العراق لفترة طويلة كجزء من الجهد العالمي لاصطياد الارهابيين وتدريب العراقيين لبناء "قوة دفاع ذاتي قابلة للحياة" ، والمفارقة ان هذا هدف نهائي كانت كلينتون نفسها قد تبنته حرفيا تقريبا كهدف للحزب الديموقراطي المعارض ان وصلت هي الى الرئاسة .
غير ان الهدف النهائي لادارة بوش كشفته وسائل الاعلام الاميركية الكبرى ومنها الواشنطن بوست ولوس انجيليس تايمز في الحادي عشر من الشهر الجاري . فادارة بوش "تتفاوض" مع النظام المنبثق عن احتلالها في بغداد على اتفاقيتين لترتيبات امنية تحل قوات اميركية محل القوات متعددة الجنسيات الحالية التي ينتهي تفويضها بنهاية عام 2008 .
الاتفاقية الاولى هي "اتفاقية وضع القوات" ، او "سوفا" التي تستهدف "تعريف وحماية الوضع القانوني للعسكريين الاميركيين وممتلكاتهم في العراق" . والاتفاقية الثانية هي "اتفاقية اطار عمل استراتيجي" طويل الامد من اجل "التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والامنية" ، كما نشرت الواشنطن بوست ، مضيفة ان "اعلان المبادئ" الذي وقعه بوش ورئيس الوزراء نوري المالكي في كانون الاول / ديسمبر الماضي نص على ان اتفاقية اطار العمل ("التي يخطط الرجلان لتوقيعها قبل 31 تموز / يوليو المقبل على ان يبدا نفاذها في الاول من كانون الثاني / يناير المقبل") تتضمن "تطمينات امنية والتزامات (اميركية) لجمهورية العراق بردع أي عدوان خارجي على العراق ينتهك سيادته او وحدة اراضيه الاقليمية او مياهه اومجاله الجوي" .
والهدف الاخير من الاتفاقيتين هو ضمان وجود عسكري وسياسي اميركي في العراق طويل الامد من اجل "اليوم الذي سوف ياتي عندما يكون العراق ديموقراطية مستقرة تساعد في محاربة اعدائنا المشتركين وتروج مصالحنا المشتركة في الشرق الاوسط" كما قال بوش في خطابه يوم الخميس الماضي .
ان الدماء العراقية الزكية التي يسفكها المصطرعون على المغانم في ظل الاحتلال في شكله الراهن وفي شكله طويل الامد انما تسفح على مذبح هذا الهدف الاخير للاحتلال الذي يخطط لاقامة دائمة . ان المعارك الطائفية والعرقية والقبلية التي يفجرها المتصاغرون امام الاحتلال انما تصب في خدمة الحملة الدعاوية التي يشنها الاحتلال للتشويش على هدفه النهائي بالحديث عن سحب مزعوم لقواته او تخفيض موهوم لعديدها .
وبالرغم مما تقدم ذكره فان هناك جانب آخر للمشهد العراقي يشير الى ان الاحتلال ما زال امامه طريق طويل لتحقيق اهدافه القريبة والبعيدة بقدر الطريق الطويل امام المقاومة الوطنية لاحباط هذه الاهداف البعيدة كما نجحت في احباط اهدافه القريبة . فوقف سحب "القوات الاضافية" هو دليل فشل لا نجاح ودليل ضعف لا قوة . فتحت ضغط استجواب الكونغرس اضطر بيترايوس الى الاعتراف بان العراق ما زال منكوبا بالاضطراب والعنف وما زال تنقصه الوحدة السياسية وما زال عاجزا تماما عن القيام باعمال الشرطة لحماية امنه . ومن الناحية العسكرية "لم نحقق أي انعطافة ولم نر اية اضواء في نهاية النفق" كما قال الجنرال الاميركي . ومن الناحية السياسية عندما سؤل بيترايوس عن (18) معيارا حددها الكونغرس العام الماضي لقياس التقدم في العراق وكم تحقق منها اجاب: "بصراحة ، ولا واحد" .
والمراقب لم يعرف ان كان الجنرال الاميركي يسخر من ادارته ام من الكونغرس الذي كان يستجوبه ام من نفسه عندما لم يجد أي انجاز يذكره سوى: "سلسلة مطاعم اميركية شعبية تقدم خدمة ايصال الطلب الى السيارة ... فدباباتنا تتوقف في مواقف سيارات واسعة وبعد دقائق قليلة تاتي المضيفة" بوجبة سريعة حسب الطلب ، "وقبل زيادة القوات كان الخطر من نيران العدو اكبر من ان يسمح لنا بالتفكير في خدمة ايصال الطلب الى السيارة" .
فهل هذه هي "المكاسب" التي اوصى بيترايوس بوقف سحب القوات الاضافية من اجل "حمايتها" ؟ تحدث الجنرال الاميركي في شهادته عن تقدم "تكتيكي" وصفه بانه تقدم "هش وقابل للانتكاس" ولذلك اوصى ببقاء القوات الاضافية لمنع انتكاسه. لكن المحللين يعيدون الفضل في مكاسبه التكتيكية لعوامل سياسية عراقية لا علاقة لها بكفاءة أي زيادة في عديد قوات الاحتلال .
ويذكر المحللون بخاصة عاملين اولهما ظاهرة ما يسمى ب"الصحوات" وثانيهما اعلان زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر وقف اطلاق النار من جانب واحد لمدة ستة اشهر جددها في شباط / فبراير الماضي حيث خلق العامل الاول ارباكا في مسرح العمليات الرئيس للمقاومة بينما وفر العامل الثاني الوقت والجهد العسكري لقوات الاحتلال كي تتفرغ لملاحقة المقاومة مما دفع قادة الاحتلال الى التبجح بانهم احرزوا تقدما "نوعيا" نقل "المبادرة" الى ايديهم . غير ان مسارعة المقاومة الى التغلب على الارباك الذي خلقته الصحوات في مسرح عملياتها ثم انقشاع وهم التيار الصدري بان خصومه الطائفيين يمكن ان يفسحوا له مجالا قياديا في ما يسمى "العملية السياسية" ، خصوصا بعد محاولة تصفيته في البصرة ، هما عاملان جديدان يقودان الان يوميا نحو "الانتكاسة" التي اعرب بيترايوس عن خشيته منها على التقدم "الهش القابل للانتكاس" الذي ادعى احرازه واتخذ منه مسوغا للتوصية بوقف سحب القوات الاضافية .
في شهادة له امام لجنة القوات المسلحة بمجلس شيوخ الكونغرس الاميركي في التاسع من الشهر الجاري وصف روبرت مالي ، مدير برنامج الشرق الاوسط وشمال افريقيا في مجموعة الازمات الدولية ، ان "العراق تسيطر عليه المليشيات المسلحة ، وقوى طائفية ، وطبقة سياسية من الذئاب ، حيث جهاز الدولة منهار ، واي توافق سياسي مفقود ، والجهادية في نهوض ، وازمة لاجئين استثنائية ، ومحيط اقليمي اكثر استقطابا وتوترا من أي وقت مضى ، ... والخسائر في الارواح تتزايد ، والموارد الثمينة تهدر ، الخ" ليستنتج مالي بان كل ذلك وغيره يمثل "نكسة صارخة محفوفة بالمخاطر" !
ولفت مالي النظر في شهادته أن "حلفاء الولايات المتحدة في العراق هم ايضا حلفاء ايران ، التي نزعم بانها من اكبر اعدائنا وكذلك من اكبر اعداء العراق . والمفارقة اننا كنا ننحاز الى جانب شركاء ايران في الحرب الاهلية الناشبة بين الشيعة ، مما يشير الى تناقض اساسي آخر في قلب سياستنا: فالولايات لا تستطيع في الوقت نفسه العمل من اجل الهدفين المتعارضين المسببين للهزيمة الذاتية المتمثلين بالعمل على استقرار العراق والعمل في الوقت ذاته على عدم استقرار ايران . ويجب عليها ان تختار" .
ودحض مالي ادعاء بوش باحراز "تقدم هام" في احلال الاستقرار في العراق خلال العام المنصرم: "فحقيقة ان (923) مدنيا فقط قضوا في شهر آذار / مارس الماضي بالمقارنة مع (1861) قضوا في الشهر نفسه قبل عام ليس عزاء هنا ، اذ لا يعرف احد ماذا سوف يحدث في نيسان / ابريل او ايار / مايو او حتى غدا" .
ان "العراق ، الغني بالنفط ، هو اليوم مفلس انسانيا ايضا" ، قال مالي للمشرعين الاميركان ، فالموارد البشرية العراقية استنزفتها سنوات من العقوبات والحرب وسوء الادارة بعد الحرب ، ومعظم الطبقة الوسطى المؤهلة تعيش في المنفى ، او غارقة في ركود مهني ، والنظام التعليمي انتزعت احشاؤه ، والجامعات لا تعمل ، والاطفال بالكاد يتعلمون القراءة والكتابة اما الفتيات فقد اصبحن ضحايا بصفة خاصة ، وتحت مظلة اجتثاث البعث عزل المدراء ذوو الخبرة ، بينما دينامية الحرب الاهلية في مراكز المدن طهرتها من المهنيين الاقل طائفية والاكثر انفتاحا عقليا ، ... وسوف يحتاج العراق الى عقود من الزمن كي يتعافى ويعيد البناء" .
لكن مالي وغيره من الخبراء ممن يتقنون توصيف دقائق الاوضاع في العراق تحت الاحتلال يتجاهلون تماما حقيقة ان اعادة بناء العراق واعماره هي عملية مستحيلة مع استمرار الاحتلال ، ويتجاهلون تماما حقيقة ان الاحتلال لن يرحل من تلقاء نفسه كما تشير كل الدلائل والقرائن القديمة والجديدة ، وان "العملية السياسية" الجارية قد اثبتت فشلها لانها في خدمة الاحتلال بدات وما زالت ، وان الطريق الوحيد لرحيل الاحتلال ثم الاعمار والبناء لا بد له ان يمر عبر المقاومة ، فهذا هو درس التاريخ من كل تجارب الشعوب والامم التي تعرضت قبل العراق للغزو والاحتلال .
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق