صبحي غندور
ما أهمّية الحديث عن العروبة وعن تجديد الفكر القومي في هذه المرحلة؟ وما علاقة هذا الموضوع في تطوّرات خطيرة تشهدها المنطقة العربية؟ ثمّ أليس ذلك نوعاً من الرفاهية الفكرية بأن يهتمّ المفكّرون والباحثون في قضية "الفكر القومي" بينما غدا هذا الموضوع بنظر البعض من التراث المنفصل عن الحاضر وتداعياته؟!
هذه التساؤلات أحاطت بلا شك في مؤتمر دمشق الأخير حول "تجديد الفكر القومي"، لكنّها تساؤلات تنمّ عن جهلٍ كبير بما يحدث حالياً في أوطان الأمّة وبعلاقة ما يحدث مع مسألتيْ الوطنية والهويّة القومية.
فظاهرة الانقسامات الطائفية والإثنية التي تعيشها بعض البلدان العربية هي تعبير عن عمق مشكلة غياب الفهم الصحيح للدين وللهويّة الوطنية والقومية، وبالتالي فإنّ أي جهد لمعالجة هذه المعضلة يمثّل جهداً هاماً بتناوله لقضية معاصرة عنوانها كيفيّة المحافظة على الهويّة الوطنية الواحدة المشتركة في مقابل محاولات الفرز الطائفي والمذهبي والإثني داخل الأوطان العربية، وفي مواجهة السعي الأميركي/الإسرائيلي لاستبدال الهوية العربية المشتركة بهويّات "شرق أوسطية" مختلفة الأشكال والألوان لكنّها تسعى جميعها لإسقاط الهويّة العربية ولتعميم الحالة الإسرائيلية على العرب كلّهم.
لقد بادرت الدكتورة نجاح العطار، نائب رئيس الجمهورية العربية السورية والوزيرة السابقة للثقافة، إلى الدعوة لمؤتمر "تجديد الفكر القومي والمصير العربي" الذي انعقد في العاصمة السورية بين 15 و20 نيسان/أبريل، بحضور عدد كبير من المفكّرين والكتّاب العرب.
لكن رغم أهميّة المؤتمر من حيث مكان انعقاده في دمشق، وهي عاصمة الثقافة العربية لهذا العام، ومن حيث زمان حدوثه بعد مؤتمر القمّة العربية التي تتولّى الآن سوريا مسؤوليتها لمدّة عام، فإنّ عنوان وموضوعات الجلسات مزجا بين الجانب الفكري (تجديد الفكر القومي) وبين قضايا سياسية عديدة تعيشها الآن الأمّة العربية، وهو أمر انعكس في المناقشات وفي أوراق العمل بطغيان الجانب السياسي على ما يُفترَض أن يكون محور المؤتمر، أي القضية الفكرية المرتبطة بتجديد الفكر القومي.
ورغم حُسن الإعداد والضيافة والأمور التنظيمية والإدارية للمؤتمر، فقد كان هناك غياب ملحوظ لمن هم دون سن الخمسين، بل كان معدّل أعمار المشتركين يتجاوز الستين عاماً ممّا جعلني أتساءل عن إمكانية اعتبار مؤتمر كهذا معنيّ بتجديد الفكر، بأن يكون "مجلساً للخبراء" لكن لمشاركين فعّالين من أعمار معنيّة أكثر بالحاضر، ومسؤولة كلّياً عن المستقبل، وهم جيل الشباب العربي الجديد.
لقد سرِرتُ في هذا المؤتمر بأجواء التفاعل الفكري الإيجابي الذي حدث بين بعض المشاركين، وفي التجاوب الذي حدث مع جملة طروحات عرضتها في سياق المؤتمر وتتعلّق بالفرق بين الأصول العربية والعروبة والقومية والدعوة للوحدة.
وكان من أبرز النقاط التي أثرتُها سواء في المداخلات الشفهية أو الأوراق المطبوعة:
1 – حاجة المؤتمرات الفكرية العربية إلى تخصيص جلسة تمهيدية تتعامل مع مسألة المفاهيم والمصطلحات، إذ يتوسّع النقاش أحياناً وتسود الخلافات في الرأي نتيجة عدم الانطلاق من فهم مشترك لمصطلحات معيّنة كتعابير العلمانية والمنهج والقومية والهوية، والفرق بين الإسلام كدين عبادة للمسلمين والإسلام كدين حضارة لجميع العرب والناس.
2- كان من الأفضل لو تعامل المؤتمر مع قضية "تجديد الفكر العربي" لا "الفكر القومي"، إذ أنّ هناك "فكراً عربياً" وليس "فكراً قومياً". فالقومية نفسها هي "فكرة" لكن لا يوجد هناك "فكر قومي واحد".
إنّ القومية هي تعبير يرتبط بمسألة الهويّة لجماعات وأوطان وأمم، وهي تحمل سمات ومضامين ثقافية تميّز جماعة أو أمّة عن أخرى، لكنّها (أي القومية) لا تعني نهجاً سياسياً أو نظاماً للحكم أو مضموناً عَقَديّاً/إيديولوجياً. لذلك من الخطأ الحديث عن "فكر قومي" مقابل "فكر ديني"، بل يمكن القول "فكر علماني" و"فكر ديني" تماماً كالمقابلة بين "فكر محافظ" و"فكر ليبرالي"، و"فكر اشتراكي" مقابل "فكر رأسمالي".. وكلّها عناوين لمسائل ترتبط بنمط فكري وسياسي تصلح الدعوة إليه في أي بلد أو أمّة، في حين يجب أن يختصّ تعبير "الفكر القومي" فقط بمسألة الهويّة كإطار أو كوعاء ثقافي. ولذلك أيضاً، يكون تعبير "العروبة" هو الأدقّ والأشمل حينما يتمّ الحديث عن القومية العربية حتى لا تختلط مسألة الهوية الثقافية المشتركة بين العرب مع قضايا المناهج والإيديولوجيات المتنوعة داخل الفكر العربي ووسط المفكّرين العرب.
3- الأمّة العربية يحضر فيها الآن الاحتلال والتدخّل الأجنبي كما تحضر فيها مقاومة هذا الاحتلال والتدخّل، لكن في ظلّ غياب واضح للعمل العربي المشترك وللديمقراطية السليمة في الأوطان. لذلك تصبح ثلاثية شعارات "التحرّر والديمقراطية والهويّة العربية" ثلاثية ضرورية يُكمل كل ضلعٍ منها الضلع الآخر. فبديل الاحتلال لا يجب أن يكون حروباً أهلية أو انقسامات وطنية أو انسلاخاً عن الهويّة العربية.
فصحيح أنّ المشروع الأميركي الذي تحمله إدارة بوش هو في حالة انحسار، وبأنّ المشروع الإسرائيلي عموماً هو في حال انكسار، لكن لم نصل بعد إلى حدّ اعتبار أنّ هناك مشروعاً عربياً هو في حال الانتصار.
فالمقاومة هي نهج عسكري وسياسي يواجه الاحتلال، لكن مشاريع ما بعد التحرير ما زالت غامضة ولا ترتبط حكماً بهويات وطنية ديمقراطية واحدة وبهويّة عربية مشتركة.
4- إنّ التجديد في الفكر العربي يجب أن ينطلق من حسم فهم العروبة أنّها هي اللغة العربية والثقافة العربية التي كانت موجودة قبل ظهور الدعوة الإسلامية، لكنّها (أي العروبة) انتقلت بفعل الإسلام الذي جاء قرآنه الكريم باللغة العربية إلى هوية ثقافية حضارية أخرجت الهوية العربية من دائرة العنصر والعرق والقبلية إلى آفاق الانتماء الثقافي الحضاري الذي أوجده الإسلام لدى العرب الأوائل ثمّ ساهم في صنعه ونشره مسلمون ومسيحيون عرب، ومسلمون من غير العرب.
وبهذا تكون العروبة هي هوية ثقافية استقطابية شاملة لكلّ العرب، وليست رمزاً لأفكار وممارسات سياسية أساء بعضها لفكرة العروبة نفسها.
ما أهمّية الحديث عن العروبة وعن تجديد الفكر القومي في هذه المرحلة؟ وما علاقة هذا الموضوع في تطوّرات خطيرة تشهدها المنطقة العربية؟ ثمّ أليس ذلك نوعاً من الرفاهية الفكرية بأن يهتمّ المفكّرون والباحثون في قضية "الفكر القومي" بينما غدا هذا الموضوع بنظر البعض من التراث المنفصل عن الحاضر وتداعياته؟!
هذه التساؤلات أحاطت بلا شك في مؤتمر دمشق الأخير حول "تجديد الفكر القومي"، لكنّها تساؤلات تنمّ عن جهلٍ كبير بما يحدث حالياً في أوطان الأمّة وبعلاقة ما يحدث مع مسألتيْ الوطنية والهويّة القومية.
فظاهرة الانقسامات الطائفية والإثنية التي تعيشها بعض البلدان العربية هي تعبير عن عمق مشكلة غياب الفهم الصحيح للدين وللهويّة الوطنية والقومية، وبالتالي فإنّ أي جهد لمعالجة هذه المعضلة يمثّل جهداً هاماً بتناوله لقضية معاصرة عنوانها كيفيّة المحافظة على الهويّة الوطنية الواحدة المشتركة في مقابل محاولات الفرز الطائفي والمذهبي والإثني داخل الأوطان العربية، وفي مواجهة السعي الأميركي/الإسرائيلي لاستبدال الهوية العربية المشتركة بهويّات "شرق أوسطية" مختلفة الأشكال والألوان لكنّها تسعى جميعها لإسقاط الهويّة العربية ولتعميم الحالة الإسرائيلية على العرب كلّهم.
لقد بادرت الدكتورة نجاح العطار، نائب رئيس الجمهورية العربية السورية والوزيرة السابقة للثقافة، إلى الدعوة لمؤتمر "تجديد الفكر القومي والمصير العربي" الذي انعقد في العاصمة السورية بين 15 و20 نيسان/أبريل، بحضور عدد كبير من المفكّرين والكتّاب العرب.
لكن رغم أهميّة المؤتمر من حيث مكان انعقاده في دمشق، وهي عاصمة الثقافة العربية لهذا العام، ومن حيث زمان حدوثه بعد مؤتمر القمّة العربية التي تتولّى الآن سوريا مسؤوليتها لمدّة عام، فإنّ عنوان وموضوعات الجلسات مزجا بين الجانب الفكري (تجديد الفكر القومي) وبين قضايا سياسية عديدة تعيشها الآن الأمّة العربية، وهو أمر انعكس في المناقشات وفي أوراق العمل بطغيان الجانب السياسي على ما يُفترَض أن يكون محور المؤتمر، أي القضية الفكرية المرتبطة بتجديد الفكر القومي.
ورغم حُسن الإعداد والضيافة والأمور التنظيمية والإدارية للمؤتمر، فقد كان هناك غياب ملحوظ لمن هم دون سن الخمسين، بل كان معدّل أعمار المشتركين يتجاوز الستين عاماً ممّا جعلني أتساءل عن إمكانية اعتبار مؤتمر كهذا معنيّ بتجديد الفكر، بأن يكون "مجلساً للخبراء" لكن لمشاركين فعّالين من أعمار معنيّة أكثر بالحاضر، ومسؤولة كلّياً عن المستقبل، وهم جيل الشباب العربي الجديد.
لقد سرِرتُ في هذا المؤتمر بأجواء التفاعل الفكري الإيجابي الذي حدث بين بعض المشاركين، وفي التجاوب الذي حدث مع جملة طروحات عرضتها في سياق المؤتمر وتتعلّق بالفرق بين الأصول العربية والعروبة والقومية والدعوة للوحدة.
وكان من أبرز النقاط التي أثرتُها سواء في المداخلات الشفهية أو الأوراق المطبوعة:
1 – حاجة المؤتمرات الفكرية العربية إلى تخصيص جلسة تمهيدية تتعامل مع مسألة المفاهيم والمصطلحات، إذ يتوسّع النقاش أحياناً وتسود الخلافات في الرأي نتيجة عدم الانطلاق من فهم مشترك لمصطلحات معيّنة كتعابير العلمانية والمنهج والقومية والهوية، والفرق بين الإسلام كدين عبادة للمسلمين والإسلام كدين حضارة لجميع العرب والناس.
2- كان من الأفضل لو تعامل المؤتمر مع قضية "تجديد الفكر العربي" لا "الفكر القومي"، إذ أنّ هناك "فكراً عربياً" وليس "فكراً قومياً". فالقومية نفسها هي "فكرة" لكن لا يوجد هناك "فكر قومي واحد".
إنّ القومية هي تعبير يرتبط بمسألة الهويّة لجماعات وأوطان وأمم، وهي تحمل سمات ومضامين ثقافية تميّز جماعة أو أمّة عن أخرى، لكنّها (أي القومية) لا تعني نهجاً سياسياً أو نظاماً للحكم أو مضموناً عَقَديّاً/إيديولوجياً. لذلك من الخطأ الحديث عن "فكر قومي" مقابل "فكر ديني"، بل يمكن القول "فكر علماني" و"فكر ديني" تماماً كالمقابلة بين "فكر محافظ" و"فكر ليبرالي"، و"فكر اشتراكي" مقابل "فكر رأسمالي".. وكلّها عناوين لمسائل ترتبط بنمط فكري وسياسي تصلح الدعوة إليه في أي بلد أو أمّة، في حين يجب أن يختصّ تعبير "الفكر القومي" فقط بمسألة الهويّة كإطار أو كوعاء ثقافي. ولذلك أيضاً، يكون تعبير "العروبة" هو الأدقّ والأشمل حينما يتمّ الحديث عن القومية العربية حتى لا تختلط مسألة الهوية الثقافية المشتركة بين العرب مع قضايا المناهج والإيديولوجيات المتنوعة داخل الفكر العربي ووسط المفكّرين العرب.
3- الأمّة العربية يحضر فيها الآن الاحتلال والتدخّل الأجنبي كما تحضر فيها مقاومة هذا الاحتلال والتدخّل، لكن في ظلّ غياب واضح للعمل العربي المشترك وللديمقراطية السليمة في الأوطان. لذلك تصبح ثلاثية شعارات "التحرّر والديمقراطية والهويّة العربية" ثلاثية ضرورية يُكمل كل ضلعٍ منها الضلع الآخر. فبديل الاحتلال لا يجب أن يكون حروباً أهلية أو انقسامات وطنية أو انسلاخاً عن الهويّة العربية.
فصحيح أنّ المشروع الأميركي الذي تحمله إدارة بوش هو في حالة انحسار، وبأنّ المشروع الإسرائيلي عموماً هو في حال انكسار، لكن لم نصل بعد إلى حدّ اعتبار أنّ هناك مشروعاً عربياً هو في حال الانتصار.
فالمقاومة هي نهج عسكري وسياسي يواجه الاحتلال، لكن مشاريع ما بعد التحرير ما زالت غامضة ولا ترتبط حكماً بهويات وطنية ديمقراطية واحدة وبهويّة عربية مشتركة.
4- إنّ التجديد في الفكر العربي يجب أن ينطلق من حسم فهم العروبة أنّها هي اللغة العربية والثقافة العربية التي كانت موجودة قبل ظهور الدعوة الإسلامية، لكنّها (أي العروبة) انتقلت بفعل الإسلام الذي جاء قرآنه الكريم باللغة العربية إلى هوية ثقافية حضارية أخرجت الهوية العربية من دائرة العنصر والعرق والقبلية إلى آفاق الانتماء الثقافي الحضاري الذي أوجده الإسلام لدى العرب الأوائل ثمّ ساهم في صنعه ونشره مسلمون ومسيحيون عرب، ومسلمون من غير العرب.
وبهذا تكون العروبة هي هوية ثقافية استقطابية شاملة لكلّ العرب، وليست رمزاً لأفكار وممارسات سياسية أساء بعضها لفكرة العروبة نفسها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق