صبحي غندور
كانت القمّة الأخيرة بين الرئيسين الأميركي جورج بوش والروسي فلاديمير بوتين، قمّة اختلال التوازن بين حالة زعيمين وحالة بلدين. فبينما يغادر جورج بوش البيت الأبيض في مطلع العام القادم، إلى غير رجعة، يستمرّ الزعيم بوتين في دوره القيادي للاتحاد الروسي من خلال موقعه السياسي الجديد كرئيس للوزراء في مطلع الشهر القادم، بعد أن فاز حزبه بالانتخابات الأخيرة والتي أوصلت أيضاً معاونه فلاديمير ميدفييف إلى موقع رئاسة الاتحاد.
الرئيس الأميركي جورج بوش لا يضمن الآن استمرار حزبه الجمهوري في الحكم بعد انتخابات نوفمبر القادم، وهو يعاني من تدنٍّ كبير في مستوى التأييد الشعبي الأميركي لإدارته ولسياساته الداخلية والخارجية. كما أنّ إدارة بوش متورّطة في حروب عسكرية تستنزف اقتصادها ودورها العالمي الفاعل.
وبينما تشهد روسيا نموّاً اقتصادياً متصاعداً، يعاني الاقتصاد الأميركي من ظواهر الكساد وارتفاع العجز المالي وهبوط قيمة الدولار.
لقد حقّقت إدارة بوتين في سنواتها الماضية إنجازات ضخمة على الصعيدين الداخلي والخارجي. فقد كانت معدّلات التضخّم في روسيا حينما استلم بوتين الحكم في العام 1999 حوالي 37%. وكان حجم الديون الخارجية يتجاوز 165 مليار دولار لدولة انتشر فيها الفساد والفقر وسوء الإدارة على كل المستويات. وقد استطاع بوتين في سنوات حكمه تخفيض معدّل التضخّم وتسديد كافّة الديون الخارجية وامتلاك احتياطي من الذهب تجاوز قيمة الثلاثمائة مليار دولار.
صورة معاكسة تماماً حدثت في الولايات المتحدة في فترتيْ حكم بوش. وهاهو المجتمع الأميركي يعاني اليوم اقتصادياً واجتماعياً من السياسات الداخلية والخارجية التي اتبعتها إدارة الجمهوريين والمحافظين الجدد.
وإذا كانت السياسة الداخلية السليمة التي قادها بوتين هي التي حرّرت روسيا من قيودها الخارجية وعزّزت دورها العالمي، فإنّ السياسة الخارجية السيّئة لإدارة بوش ساهمت إلى حدٍّ كبير في تدهور أوضاع الاقتصاد الأميركي وبحصول الانقسام السياسي الحاد الذي يعيشه المجتمع الأميركي.
فالعالم يشهد اليوم هبوطاً متدرّجاً لدور الإمبراطورية الأميركية مقابل تصاعد ملحوظ لدور روسي قاده بوتين ويستمرّ برعايته.
إنّ ما حدث ويحدث من توتّر وخلافات بين واشنطن وموسكو ليس بغيمة عابرة تصفو بعدها العلاقات ما بين البلدين. لكن أيضاً، ما نشهده من أزمات سياسية بين البلدين ليس بحرب باردة جديدة بين قطبين دوليين. فأبرز سمات "الحرب الباردة" التي سادت بين موسكو وواشنطن خلال النصف الثاني من القرن العشرين كانت قائمة على مفاهيم إيديولوجية فرزت العالم بين معسكرين: شيوعي شرقي، ورأسمالي غربي، وهذا الأمر غائب الآن عن الصراع الروسي/الأميركي. و"الحرب الباردة" قامت كذلك على تهديدات باستخدام السلاح النووي بين الطرفين (كما حدث في أزمة صواريخ كوبا بمطلع الستينات) وعلى حروب ساخنة مدمّرة في دول العالم الثالث في سياق التنافس على مواقع النفوذ، وهي حالات بعيدة كلّها الآن عن واقع الأزمات الراهنة بين موسكو وواشنطن. فأولويات روسيا الآن هي أمنها الداخلي وأمن حدودها المباشرة في أوروبا وإصرارها على مواجهة أيّة محاولة لعزلها أو لتطويقها سياسياً وأمنياً، كما تحاول واشنطن أن تفعل من خلال توسيع عضوية حلف الناتو وعبر مشروع الدرع الصاروخي في أوروبا الشرقية.
وقد كان خطاب الرئيس بوتين في مؤتمر ميونيخ بمطلع العام الماضي مؤشّراً هامّاً عن الرؤية الإستراتيجية الروسية للسياسة الأميركية وكيفيّة التعامل معها.
فموسكو أدركت أنّ الوجود العسكري الأميركي في منطقة الخليج العربي وفي أفغانستان وفي العراق وفي جمهوريات آسيوية إسلامية، هو بمثابّة تطويق شامل للأمن الروسي، يتكامل مع تمدّد حلف "الناتو" في أوروبا الشرقية ومع محاولة نشر منظومة الدرع الصاروخي.
لذلك، كان الرئيس بوتين واضحاً في قمّته الأخيرة مع الرئيس بوش في التمييز بين الحرص على تحسين وتطوير العلاقات مع واشنطن، وبين "استمرار الخلافات في الملفين العسكري والسياسي"، كما قال بوتين!
إذن، تتصرّف موسكو الآن مع إدارة بوش باعتبارها إدارة عابرة، وهي تأمل بإدارة أميركية جديدة تكون أكثر تفهّماً للموقف الروسي، وأقلّ سعياً لمحاصرة روسيا أمنياً وسياسياً.
أيضاً، تأمل موسكو أن يتخلّى الرئيس الأميركي القادم عن السياسة التي اتبعتها إدارة بوش في معالجة الأزمات العالمية؛ من حيث التركيز على القوة العسكرية، والانفراد في القرارات الدولية، وعدم احترام مرجعية الأمم المتحدة.
ورغم التباين والخلافات القائمة حالياً بين موسكو وواشنطن، فإنّ الطرفين يحرصان على إبقاء الصراع بينهما مضبوطاً بسقف محدد، خاصّةً في ظلّ الضغط الأوروبي العامل في هذا الاتجاه.
فأوروبا هي بيضة الميزان الآن في العلاقات الروسية/الأميركية. وهناك عدّة دول أوروبية (غربية وشرقية) لا تجد لها مصلحةً في تصاعد التوتّر بين موسكو وواشنطن، ولا تريد أن تكون في حال الاضطرار للاختيار بين هذا الطرف أو ذاك. فروسيا الآن هي مصدر هام للطاقة في أوروبا، وهناك مصالح تجارية واقتصادية كبيرة تنمو بين الاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي. وهذا الموقف الأوروبي هو العنصر الأهم الآن في ضبط العلاقات الروسية/الأميركية.
حتى على مستوى الشارع الأوروبي، ليس هناك استعداد لعودة أجواء الفرز والانقسام التي كانت كابوساً على أوروبا خلال حقبة "الحرب الباردة" بالقرن الماضي.
فالصراع الدائر الآن بين موسكو وواشنطن هو صراع مصالح ونفوذ وليس صراعا إيديولوجياً، كما أنّه ليس بحرب باردة جديدة.
إنّ لائحة القضايا المختلف عليها بين موسكو من جهة، وواشنطن وحلف "الناتو" من جهة أخرى، هي بلا شك لائحة كبيرة، لكنّ موسكو تدرك حاجة واشنطن و"الناتو" للتنسيق معها في مسألة "الحرب على الإرهاب" والقضية الأفغانية تحديداً.
فالعراق أصبح الآن مسؤولية أميركية مباشرة بعدما فشلت إدارة بوش بإقناع معظم الدول الأوروبية بالمشاركة معها في هذه الحرب. أمّا الحرب في أفغانستان، فقد جرت وتستمر في إطار مسؤولية حلف "الناتو" ومشاركة قوات أوروبية وكندية تبحث دولها عن مخرج لها من المستنقع الأفغاني الذي يزداد سوءاً يوماً بعد يوم.
ربّما تكمن المصلحة الروسية هنا في إبقاء أفغانستان كورقة ضغط على "الناتو" بحيث لا تحقّق قواته نصراً ساحقاً قريباً، ولا أيضاً تتعرّض لهزيمة عسكرية وسياسية هناك.
إنّ موسكو هي مستفيدة طبعاً من محاربة "الناتو" لجماعات "طالبان" و"القاعدة" ودرء مخاطرها على الأمن الروسي في أقاليم إسلامية تابعة للاتحاد الروسي أو في جمهوريات دائرة في فلكه، لكن أيضاً لا تجد موسكو ضرراً من انغماس "الناتو" في مستنقع ساهم في إسقاط روسيا السوفييتية وقلّص من حجم نفوذها الدولي.
روسيا، بغضّ النظر عن نظام الحكم فيها، لا يمكن لها أن تكون منعزلة أو محصورة فقط في حدودها. هكذا كانت روسيا القيصرية وروسيا الشيوعية، وهكذا هي الآن روسيا "البوتينية".
كانت القمّة الأخيرة بين الرئيسين الأميركي جورج بوش والروسي فلاديمير بوتين، قمّة اختلال التوازن بين حالة زعيمين وحالة بلدين. فبينما يغادر جورج بوش البيت الأبيض في مطلع العام القادم، إلى غير رجعة، يستمرّ الزعيم بوتين في دوره القيادي للاتحاد الروسي من خلال موقعه السياسي الجديد كرئيس للوزراء في مطلع الشهر القادم، بعد أن فاز حزبه بالانتخابات الأخيرة والتي أوصلت أيضاً معاونه فلاديمير ميدفييف إلى موقع رئاسة الاتحاد.
الرئيس الأميركي جورج بوش لا يضمن الآن استمرار حزبه الجمهوري في الحكم بعد انتخابات نوفمبر القادم، وهو يعاني من تدنٍّ كبير في مستوى التأييد الشعبي الأميركي لإدارته ولسياساته الداخلية والخارجية. كما أنّ إدارة بوش متورّطة في حروب عسكرية تستنزف اقتصادها ودورها العالمي الفاعل.
وبينما تشهد روسيا نموّاً اقتصادياً متصاعداً، يعاني الاقتصاد الأميركي من ظواهر الكساد وارتفاع العجز المالي وهبوط قيمة الدولار.
لقد حقّقت إدارة بوتين في سنواتها الماضية إنجازات ضخمة على الصعيدين الداخلي والخارجي. فقد كانت معدّلات التضخّم في روسيا حينما استلم بوتين الحكم في العام 1999 حوالي 37%. وكان حجم الديون الخارجية يتجاوز 165 مليار دولار لدولة انتشر فيها الفساد والفقر وسوء الإدارة على كل المستويات. وقد استطاع بوتين في سنوات حكمه تخفيض معدّل التضخّم وتسديد كافّة الديون الخارجية وامتلاك احتياطي من الذهب تجاوز قيمة الثلاثمائة مليار دولار.
صورة معاكسة تماماً حدثت في الولايات المتحدة في فترتيْ حكم بوش. وهاهو المجتمع الأميركي يعاني اليوم اقتصادياً واجتماعياً من السياسات الداخلية والخارجية التي اتبعتها إدارة الجمهوريين والمحافظين الجدد.
وإذا كانت السياسة الداخلية السليمة التي قادها بوتين هي التي حرّرت روسيا من قيودها الخارجية وعزّزت دورها العالمي، فإنّ السياسة الخارجية السيّئة لإدارة بوش ساهمت إلى حدٍّ كبير في تدهور أوضاع الاقتصاد الأميركي وبحصول الانقسام السياسي الحاد الذي يعيشه المجتمع الأميركي.
فالعالم يشهد اليوم هبوطاً متدرّجاً لدور الإمبراطورية الأميركية مقابل تصاعد ملحوظ لدور روسي قاده بوتين ويستمرّ برعايته.
إنّ ما حدث ويحدث من توتّر وخلافات بين واشنطن وموسكو ليس بغيمة عابرة تصفو بعدها العلاقات ما بين البلدين. لكن أيضاً، ما نشهده من أزمات سياسية بين البلدين ليس بحرب باردة جديدة بين قطبين دوليين. فأبرز سمات "الحرب الباردة" التي سادت بين موسكو وواشنطن خلال النصف الثاني من القرن العشرين كانت قائمة على مفاهيم إيديولوجية فرزت العالم بين معسكرين: شيوعي شرقي، ورأسمالي غربي، وهذا الأمر غائب الآن عن الصراع الروسي/الأميركي. و"الحرب الباردة" قامت كذلك على تهديدات باستخدام السلاح النووي بين الطرفين (كما حدث في أزمة صواريخ كوبا بمطلع الستينات) وعلى حروب ساخنة مدمّرة في دول العالم الثالث في سياق التنافس على مواقع النفوذ، وهي حالات بعيدة كلّها الآن عن واقع الأزمات الراهنة بين موسكو وواشنطن. فأولويات روسيا الآن هي أمنها الداخلي وأمن حدودها المباشرة في أوروبا وإصرارها على مواجهة أيّة محاولة لعزلها أو لتطويقها سياسياً وأمنياً، كما تحاول واشنطن أن تفعل من خلال توسيع عضوية حلف الناتو وعبر مشروع الدرع الصاروخي في أوروبا الشرقية.
وقد كان خطاب الرئيس بوتين في مؤتمر ميونيخ بمطلع العام الماضي مؤشّراً هامّاً عن الرؤية الإستراتيجية الروسية للسياسة الأميركية وكيفيّة التعامل معها.
فموسكو أدركت أنّ الوجود العسكري الأميركي في منطقة الخليج العربي وفي أفغانستان وفي العراق وفي جمهوريات آسيوية إسلامية، هو بمثابّة تطويق شامل للأمن الروسي، يتكامل مع تمدّد حلف "الناتو" في أوروبا الشرقية ومع محاولة نشر منظومة الدرع الصاروخي.
لذلك، كان الرئيس بوتين واضحاً في قمّته الأخيرة مع الرئيس بوش في التمييز بين الحرص على تحسين وتطوير العلاقات مع واشنطن، وبين "استمرار الخلافات في الملفين العسكري والسياسي"، كما قال بوتين!
إذن، تتصرّف موسكو الآن مع إدارة بوش باعتبارها إدارة عابرة، وهي تأمل بإدارة أميركية جديدة تكون أكثر تفهّماً للموقف الروسي، وأقلّ سعياً لمحاصرة روسيا أمنياً وسياسياً.
أيضاً، تأمل موسكو أن يتخلّى الرئيس الأميركي القادم عن السياسة التي اتبعتها إدارة بوش في معالجة الأزمات العالمية؛ من حيث التركيز على القوة العسكرية، والانفراد في القرارات الدولية، وعدم احترام مرجعية الأمم المتحدة.
ورغم التباين والخلافات القائمة حالياً بين موسكو وواشنطن، فإنّ الطرفين يحرصان على إبقاء الصراع بينهما مضبوطاً بسقف محدد، خاصّةً في ظلّ الضغط الأوروبي العامل في هذا الاتجاه.
فأوروبا هي بيضة الميزان الآن في العلاقات الروسية/الأميركية. وهناك عدّة دول أوروبية (غربية وشرقية) لا تجد لها مصلحةً في تصاعد التوتّر بين موسكو وواشنطن، ولا تريد أن تكون في حال الاضطرار للاختيار بين هذا الطرف أو ذاك. فروسيا الآن هي مصدر هام للطاقة في أوروبا، وهناك مصالح تجارية واقتصادية كبيرة تنمو بين الاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي. وهذا الموقف الأوروبي هو العنصر الأهم الآن في ضبط العلاقات الروسية/الأميركية.
حتى على مستوى الشارع الأوروبي، ليس هناك استعداد لعودة أجواء الفرز والانقسام التي كانت كابوساً على أوروبا خلال حقبة "الحرب الباردة" بالقرن الماضي.
فالصراع الدائر الآن بين موسكو وواشنطن هو صراع مصالح ونفوذ وليس صراعا إيديولوجياً، كما أنّه ليس بحرب باردة جديدة.
إنّ لائحة القضايا المختلف عليها بين موسكو من جهة، وواشنطن وحلف "الناتو" من جهة أخرى، هي بلا شك لائحة كبيرة، لكنّ موسكو تدرك حاجة واشنطن و"الناتو" للتنسيق معها في مسألة "الحرب على الإرهاب" والقضية الأفغانية تحديداً.
فالعراق أصبح الآن مسؤولية أميركية مباشرة بعدما فشلت إدارة بوش بإقناع معظم الدول الأوروبية بالمشاركة معها في هذه الحرب. أمّا الحرب في أفغانستان، فقد جرت وتستمر في إطار مسؤولية حلف "الناتو" ومشاركة قوات أوروبية وكندية تبحث دولها عن مخرج لها من المستنقع الأفغاني الذي يزداد سوءاً يوماً بعد يوم.
ربّما تكمن المصلحة الروسية هنا في إبقاء أفغانستان كورقة ضغط على "الناتو" بحيث لا تحقّق قواته نصراً ساحقاً قريباً، ولا أيضاً تتعرّض لهزيمة عسكرية وسياسية هناك.
إنّ موسكو هي مستفيدة طبعاً من محاربة "الناتو" لجماعات "طالبان" و"القاعدة" ودرء مخاطرها على الأمن الروسي في أقاليم إسلامية تابعة للاتحاد الروسي أو في جمهوريات دائرة في فلكه، لكن أيضاً لا تجد موسكو ضرراً من انغماس "الناتو" في مستنقع ساهم في إسقاط روسيا السوفييتية وقلّص من حجم نفوذها الدولي.
روسيا، بغضّ النظر عن نظام الحكم فيها، لا يمكن لها أن تكون منعزلة أو محصورة فقط في حدودها. هكذا كانت روسيا القيصرية وروسيا الشيوعية، وهكذا هي الآن روسيا "البوتينية".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق