د. عبدالله المدني
من بعد سنوات من التلكؤ والتردد، خوفا من حدوث ردود أفعال غير مستحبة أو انغماس البلاد في دوامة جديدة من العنف الديني والطائفي، أقدمت الحكومة الهندية مؤخرا على اتخاذ خطوة شجاعة تقضي بدمج آلاف المدارس الدينية الإسلامية المنتشرة في طول البلاد وعرضها في مسيرة التعليم الرسمي التي يغلب عليها الطابع العلماني ويهدف أساسا إلى الحصول على مخرجات تعليمية كفؤة تتناسب مع حاجات العصر وأسواق العمل، وليس مجرد وعاظ وفقهاء. حيث أنشأت نيودلهي قبل نحو شهرين مجلسا حكوميا لإدارة المدارس المذكورة، بحيث يكون للأخير سلطة صياغة الإطار العام للمناهج كوسيلة من وسائل تحديث وعصرنة مؤسسات التعليم الإسلامية وتخليصها من وصمة "أوكار الإرهاب" التي باتت تلاحقها في السنوات الأخيرة.
وبطبيعة الحال فان باكستان لو كانت قد أقدمت على مثل هذا العمل مبكرا لما نمت فيها الجماعات الميليشاوية الخارجة على القانون والنظام، والمنغمسة في التخريب والفوضى ونشر النزاعات المذهبية والشعبوية، ولما اشتد ساعدها إلى الدرجة التي صارت معها تهدد وجود الكيان الباكستاني نفسه. ولا حاجة لنا هنا إلى الإشارة إلى نماذج من قبيل جماعة طالبان باكستان وجيش محمد وأنصار السنة ولاكشار طيبة أو إلى أحداث من قبيل حادثة المسجد الأحمر للتدليل على أن ترك إسلام آباد الحبل على الغارب للمدارس الدينية ومناهجها طويلا من اجل إضفاء الشرعية على كيانها المسلم، كان وبالا عليها وعلى جوارها الإقليمي أيضا.
وعلى الرغم من أن القرار الهندي أكد على عدم نية الدولة في التدخل في تفاصيل ما يدرس في المدارس الإسلامية من مواد دينية، وأن تركيزها سينصب على حقن المناهج بجرعة أكبر وأحدث من علوم العصر كالرياضيات والفيزياء وعلوم الحاسوب والاقتصاد واللغات الاجنبية، فان عددا من رجال الدين المسلمين، ولا سيما أولئك الذين تخرجوا من أو تربوا في أحضان مدارس دار العلوم. سارعوا إلى التشكيك في القرار الهندي ووصفوه بأنه محاولة لسلخ الهوية الدينية للمسلمين الهنود. في الوقت ذاته عقب آخرون بالقول أن قرار نيودلهي سوف يؤدي إلى ضعف مخرجات التعليم الإسلامي، بحيث ستجد البلاد نفسها في المستقبل أمام فقهاء لا يعرفون صحيح الدين أو قليلي المعرفة في أمور الشرع والحديث والتفسير وبالتالي يعلمون الأجيال المسلمة ما يضعف عقيدتهم. وقبل أن نسترسل، لا بد من الإشارة إلى أن دار العلوم الذي يوازي في مكانته مكانة الأزهر في مصر تطورت من مجرد مدرسة ديوباندية – نسبة إلى بلدة ديوباند التي تبعد بنحو 100 ميل إلى الشمال من دلهي – إلى مركز للعلوم الإسلامية في عام 1879، ثم صارت تدريجيا الحاضنة لشبكة معقدة من المدارس الدينية الإسلامية على مستوى الهند كله.
ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليكتشف أسباب المقاومة الفجة لقرار الحكومة الهندية. فالقرار سيحرم حتما أصحاب اللحاء والعمائم من مدرسي الفقه الهنود من الكثير من سطوتهم ونفوذهم في أوساط العامة من المسلمين، كما سيحرمهم من العطايا والموارد المالية التي تأتيهم من الخارج لدعم مدارسهم، ويخضع طرق إنفاقهم للأموال للمحاسبة والتدقيق.
لقد قاومت المدارس الإسلامية في شبه القارة الهندية منذ زمن الاستعمار البريطاني جميع أشكال التحديث والإصلاح بحجة أن وراءها نوايا استعمارية شريرة تهدف إلى تغريب المجتمع والفرد المسلم في الهند. غير أن الإنصاف يدعونا في هذا السياق إلى الإشارة إلى بعض الجهود التي قام بها عدد من التنظيمات الإسلامية لجهة الجمع ما بين الموروث والحداثة في المنهاج والمسار التعليمي في المدارس والمعاهد التابعة لها (بغض النظر عن الأهداف). وبعبارة أخرى قامت تلك المنظمات – وعلى رأسها "الجماعة الإسلامية" التي أسسها أبو الأعلى المودودي (ملهم سيد قطب والإخوان المسلمين) - بطرح نمط من المعاهد الإسلامية، لا هي تقليدية على الإطلاق ، ولا هي عصرية على الإطلاق. فمثلا على حين انه لم يكن هناك في المعاهد الإسلامية التقليدية مكان لمواد عصرية أو حتى للقليل منها، فان النمط الجديد كان يدرس منهاجا اقرب لجهة المواد إلى منهاج الدولة الهندية العلمانية – لكن بعد تعديل وتشذيب مضامين بعض المواد لتتناسب مع العقيدة الإسلامية. وعلى حين كانت المعاهد التقليدية تركز على تدريس الفقه والشريعة الإسلامية دون سائر الأديان، فان النمط الجديد سمح بإعطاء الطالب فكرة عامة عن مختلف الأديان الأخرى كي يتمكن من فهم أفضل لشركائه في الوطن من غير المسلمين. وعلى حين كانت المدارس التقليدية تتبع في معظمها إلى مذاهب معينة، فان النمط الجديد من المعاهد ابتعد عن ذلك واتخذ موقفا محايدا من جميع المذاهب والفرق الإسلامية في مناهجها. وعلى حين كان هدف المدارس التقليدية تخريج أكبر عدد ممكن من القضاء الشرعيين والفقهاء والمفسرين، كان هدف النمط الجديد من المدارس تخريج طلاب في معظم التخصصات الحديثة (طب ، هندسة، قانون، صحافة، اقتصاد) وان ركزت على منحهم جرعة دينية، وذلك من منطلق المبدأ الاخواني المعروف بضرورة إيجاد كوادر اخوانية في مختلف التخصصات للقيام بالأدوار المنوط بها مستقبلا في إقامة الدولة الإسلامية. والجزئية الأخيرة يمكن أن يستشف من خطاب ألقاه المودودي بنفسه في البنجاب في عام 1944 (أي بعد 3 سنوات من تأسيس جماعته)، وذلك حينما دعا إلى خلق نظام تعليمي للمستويات الثانوية والإعدادية والابتدائية، لا يخرج العلماء فقط وإنما أيضا من سيقود الدولة الإسلامية الموعودة في مختلف المجالات والتخصصات الضرورية.
بعد تقسيم شبه القارة الهندية واضطرار المودودي وأنصاره للهجرة إلى باكستان، لم تتجمد فقط المشاريع المذكورة وقتيا، وإنما انقسمت الجماعة الإسلامية أيضا إلى قسمين: قسم سجل نفسه في باكستان كحزب سياسي بقيادة المودودي، وقسم آخر اتخذ لنفسه اسم "الجماعة الإسلامية – الهند" و اكتفى بدور اجتماعي وثقافي بعيدا عن الانغماس في السياسة بحكم واقع المسلمين الهنود كأقلية وسط بحار من الهندوس. غير أنه في سبتمبر 1948 اجتمع قادة القسم الأخير لوضع نظام إسلامي للمدارس الابتدائية والإعدادية في الهند، تحت تبرير أن الطفل المسلم إذا ما ترك في أيدي مدرسي ومناهج السلطة، فانه سيفقد شيئا فشيئا هويته الدينية. وبهذا اختارت الجماعة الإسلامية أن تتدخل في أمور التربية والتعليم الرسمية بحجة أن من حق الهندي المسلم أن تكون له مدارسه ومناهجه الخاصة المختلفة، على الأقل حتى المرحلة الثانوية، أي إلى المرحلة التي يملك المرء فيها درجة من الوعي تمكنه من الاختيار والتمييز.
ولم يكتف الفرع الهندي من الجماعة الإسلامية بذلك بل سارع إلى إعداد المقررات الدراسية ودفعها إلى المطابع. حيث شملت مقررات المرحلة الابتدائية: دراسات عامة في تجويد وحفظ القرآن، مباديء اللغات العربية والاوردية والهندية والإنجليزية، الرياضيات، التاريخ، الجغرافيا، المعلومات العامة. بينما شملت مقررات الصفوف الأعلى: القرآن والحديث والفقه و أحكام الشريعة، اللغة العربية، الإنجليزية، المعلومات العامة، العلوم السياسية، الاقتصاد. ومما يجدر بنا ذكره هنا هو أن كل المقررات المذكورة صنفت واعدت وطبعت وفقا لإرشادات وتعاليم المودودي. فمثلا في كتب الرياضيات كانت الأرقام والمسائل الحسابية تعرض من خلال الحديث عن الزكاة الشرعية أو الميراث الشرعي، وفي كتب العلوم كانت الأمثلة تستمد من السور والنصوص القرآنية، دون أدنى إشارة إلى تفاصيل الاكتشافات العلمية.
وظل الفرع الهندي يعمل بنشاط في مجال تطبيق برامجه التعليمية الخاصة، بل وأضاف إليه برامج وأنشطة أخرى مثل تأهيل الكوادر البشرية وتمكنيهم من معرفة ما يدور في العالم من تطورات سياسية، إلى أن جاء عام 1960 الذي شهد وقوع الجماعة في مصاعب إدارية ومالية، الأمر الذي اضطرت معه إلى إغلاق أبوابها، لتعود وتفتحها مجددا في عام 1986 بإدارة مكونة من 9 أشخاص على رأسهم العضو القيادي "مولانا يوسف إصلاحي". وطبقا للأخير فان الجماعة تسيطر اليوم على 1671 مدرسة ابتدائية، 65 مدرسة إعدادية، وا5 مدرسة ثانوية، علاوة على 15 معهدا للعلوم التقنية.
ومما لا شك فيه أن ما قامت به "الجماعة الإسلامية – الهند"، وموقف الدولة المهادن لها، شجعت جماعات إسلامية أخرى على تحرك مشابه. ففي عام 1962 انفصلت عن الجماعة الإسلامية مجموعة أطلقت على نفسها "جماعة الفقه". وهذه اتخذت من شرق ولاية "أوتار براديش" الشمالية معقلا لها وراحت تؤسس مدارس إسلامية أطلقت عليها وصف "الحديثة". وكي تميز نفسها عن غيرها، حصرت التعليم الابتدائي في سبع سنوات والتعليم الثانوي في سبع أخرى، علاوة على برنامج مدته خمس سنوات لنيل لقب "عالم" وبرنامج آخر يعقب الأخير لمدة سنتين ( وتدرس فيه مواد الصحافة والغرافيك والأديان المقارنة والدعوة واللغات الهندية والسنسكريتية والرعاية الاجتماعية والتربية) كي يحصل المنخرط على لقب "عالم فاضل".
ولا يكتمل حديثنا دون التوقف عند مدارس الفلاح التي أسسها في مطلع القرن العشرين رجل الأعمال والخير الخليجي الحاج محمد على زينل. فهذه المدرسة التي تعد واحدة من اكبر المدارس الإسلامية في الهند ( في عام 2004 كانت تضم 5000 دارسا بينهم 2700 طالبة يدرسن في قسم خاص، فيما كان عدد المدرسين والمدرسات 120) وتتميز هذه المدارس عن غيرها بأنها التزمت تدريس طلابها حتى الصفوف العليا للمرحلة الإعدادية وفق مناهج الحكومة الهندية دون تعديلات، علاوة على تدريس مواد إضافية اختيارية، ومنح كورسات خاصة في الدراسات الإسلامية واللغة العربية والإنجليزية والجغرافيا والتاريخ والرياضيات والأديان المقارنة والسياسة والاقتصاد. ومؤخرا فرضت هذه المدارس على طلابها مناهج الكمبوتر وتقنية الحاسوب.
ولهذه الأسباب مجتمعة، نجحت مدارس الفلاح أكثر من غيرها في فك جدار العزلة المفروض على طلابها، وفي تهيئتهم بصورة أفضل للاندماج في مجتمع فيه الكثير من الفرص، لكنها فرص تحتاج إلى متطلبات تعليمية معينة لا يوفرها معظم المدارس الدينية.
وربما للأسباب نفسها، فان شهادات مدارس الفلاح الإسلامية باتت مقبولة في معظم الجامعات الهندية وجامعات مصر والسعودية، مما يعنى خيارات اكبر أمام أصحابها لمواصلة دراستهم الجامعية.
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة : أغسطس 2009
البريد الالكتروني:
من بعد سنوات من التلكؤ والتردد، خوفا من حدوث ردود أفعال غير مستحبة أو انغماس البلاد في دوامة جديدة من العنف الديني والطائفي، أقدمت الحكومة الهندية مؤخرا على اتخاذ خطوة شجاعة تقضي بدمج آلاف المدارس الدينية الإسلامية المنتشرة في طول البلاد وعرضها في مسيرة التعليم الرسمي التي يغلب عليها الطابع العلماني ويهدف أساسا إلى الحصول على مخرجات تعليمية كفؤة تتناسب مع حاجات العصر وأسواق العمل، وليس مجرد وعاظ وفقهاء. حيث أنشأت نيودلهي قبل نحو شهرين مجلسا حكوميا لإدارة المدارس المذكورة، بحيث يكون للأخير سلطة صياغة الإطار العام للمناهج كوسيلة من وسائل تحديث وعصرنة مؤسسات التعليم الإسلامية وتخليصها من وصمة "أوكار الإرهاب" التي باتت تلاحقها في السنوات الأخيرة.
وبطبيعة الحال فان باكستان لو كانت قد أقدمت على مثل هذا العمل مبكرا لما نمت فيها الجماعات الميليشاوية الخارجة على القانون والنظام، والمنغمسة في التخريب والفوضى ونشر النزاعات المذهبية والشعبوية، ولما اشتد ساعدها إلى الدرجة التي صارت معها تهدد وجود الكيان الباكستاني نفسه. ولا حاجة لنا هنا إلى الإشارة إلى نماذج من قبيل جماعة طالبان باكستان وجيش محمد وأنصار السنة ولاكشار طيبة أو إلى أحداث من قبيل حادثة المسجد الأحمر للتدليل على أن ترك إسلام آباد الحبل على الغارب للمدارس الدينية ومناهجها طويلا من اجل إضفاء الشرعية على كيانها المسلم، كان وبالا عليها وعلى جوارها الإقليمي أيضا.
وعلى الرغم من أن القرار الهندي أكد على عدم نية الدولة في التدخل في تفاصيل ما يدرس في المدارس الإسلامية من مواد دينية، وأن تركيزها سينصب على حقن المناهج بجرعة أكبر وأحدث من علوم العصر كالرياضيات والفيزياء وعلوم الحاسوب والاقتصاد واللغات الاجنبية، فان عددا من رجال الدين المسلمين، ولا سيما أولئك الذين تخرجوا من أو تربوا في أحضان مدارس دار العلوم. سارعوا إلى التشكيك في القرار الهندي ووصفوه بأنه محاولة لسلخ الهوية الدينية للمسلمين الهنود. في الوقت ذاته عقب آخرون بالقول أن قرار نيودلهي سوف يؤدي إلى ضعف مخرجات التعليم الإسلامي، بحيث ستجد البلاد نفسها في المستقبل أمام فقهاء لا يعرفون صحيح الدين أو قليلي المعرفة في أمور الشرع والحديث والتفسير وبالتالي يعلمون الأجيال المسلمة ما يضعف عقيدتهم. وقبل أن نسترسل، لا بد من الإشارة إلى أن دار العلوم الذي يوازي في مكانته مكانة الأزهر في مصر تطورت من مجرد مدرسة ديوباندية – نسبة إلى بلدة ديوباند التي تبعد بنحو 100 ميل إلى الشمال من دلهي – إلى مركز للعلوم الإسلامية في عام 1879، ثم صارت تدريجيا الحاضنة لشبكة معقدة من المدارس الدينية الإسلامية على مستوى الهند كله.
ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليكتشف أسباب المقاومة الفجة لقرار الحكومة الهندية. فالقرار سيحرم حتما أصحاب اللحاء والعمائم من مدرسي الفقه الهنود من الكثير من سطوتهم ونفوذهم في أوساط العامة من المسلمين، كما سيحرمهم من العطايا والموارد المالية التي تأتيهم من الخارج لدعم مدارسهم، ويخضع طرق إنفاقهم للأموال للمحاسبة والتدقيق.
لقد قاومت المدارس الإسلامية في شبه القارة الهندية منذ زمن الاستعمار البريطاني جميع أشكال التحديث والإصلاح بحجة أن وراءها نوايا استعمارية شريرة تهدف إلى تغريب المجتمع والفرد المسلم في الهند. غير أن الإنصاف يدعونا في هذا السياق إلى الإشارة إلى بعض الجهود التي قام بها عدد من التنظيمات الإسلامية لجهة الجمع ما بين الموروث والحداثة في المنهاج والمسار التعليمي في المدارس والمعاهد التابعة لها (بغض النظر عن الأهداف). وبعبارة أخرى قامت تلك المنظمات – وعلى رأسها "الجماعة الإسلامية" التي أسسها أبو الأعلى المودودي (ملهم سيد قطب والإخوان المسلمين) - بطرح نمط من المعاهد الإسلامية، لا هي تقليدية على الإطلاق ، ولا هي عصرية على الإطلاق. فمثلا على حين انه لم يكن هناك في المعاهد الإسلامية التقليدية مكان لمواد عصرية أو حتى للقليل منها، فان النمط الجديد كان يدرس منهاجا اقرب لجهة المواد إلى منهاج الدولة الهندية العلمانية – لكن بعد تعديل وتشذيب مضامين بعض المواد لتتناسب مع العقيدة الإسلامية. وعلى حين كانت المعاهد التقليدية تركز على تدريس الفقه والشريعة الإسلامية دون سائر الأديان، فان النمط الجديد سمح بإعطاء الطالب فكرة عامة عن مختلف الأديان الأخرى كي يتمكن من فهم أفضل لشركائه في الوطن من غير المسلمين. وعلى حين كانت المدارس التقليدية تتبع في معظمها إلى مذاهب معينة، فان النمط الجديد من المعاهد ابتعد عن ذلك واتخذ موقفا محايدا من جميع المذاهب والفرق الإسلامية في مناهجها. وعلى حين كان هدف المدارس التقليدية تخريج أكبر عدد ممكن من القضاء الشرعيين والفقهاء والمفسرين، كان هدف النمط الجديد من المدارس تخريج طلاب في معظم التخصصات الحديثة (طب ، هندسة، قانون، صحافة، اقتصاد) وان ركزت على منحهم جرعة دينية، وذلك من منطلق المبدأ الاخواني المعروف بضرورة إيجاد كوادر اخوانية في مختلف التخصصات للقيام بالأدوار المنوط بها مستقبلا في إقامة الدولة الإسلامية. والجزئية الأخيرة يمكن أن يستشف من خطاب ألقاه المودودي بنفسه في البنجاب في عام 1944 (أي بعد 3 سنوات من تأسيس جماعته)، وذلك حينما دعا إلى خلق نظام تعليمي للمستويات الثانوية والإعدادية والابتدائية، لا يخرج العلماء فقط وإنما أيضا من سيقود الدولة الإسلامية الموعودة في مختلف المجالات والتخصصات الضرورية.
بعد تقسيم شبه القارة الهندية واضطرار المودودي وأنصاره للهجرة إلى باكستان، لم تتجمد فقط المشاريع المذكورة وقتيا، وإنما انقسمت الجماعة الإسلامية أيضا إلى قسمين: قسم سجل نفسه في باكستان كحزب سياسي بقيادة المودودي، وقسم آخر اتخذ لنفسه اسم "الجماعة الإسلامية – الهند" و اكتفى بدور اجتماعي وثقافي بعيدا عن الانغماس في السياسة بحكم واقع المسلمين الهنود كأقلية وسط بحار من الهندوس. غير أنه في سبتمبر 1948 اجتمع قادة القسم الأخير لوضع نظام إسلامي للمدارس الابتدائية والإعدادية في الهند، تحت تبرير أن الطفل المسلم إذا ما ترك في أيدي مدرسي ومناهج السلطة، فانه سيفقد شيئا فشيئا هويته الدينية. وبهذا اختارت الجماعة الإسلامية أن تتدخل في أمور التربية والتعليم الرسمية بحجة أن من حق الهندي المسلم أن تكون له مدارسه ومناهجه الخاصة المختلفة، على الأقل حتى المرحلة الثانوية، أي إلى المرحلة التي يملك المرء فيها درجة من الوعي تمكنه من الاختيار والتمييز.
ولم يكتف الفرع الهندي من الجماعة الإسلامية بذلك بل سارع إلى إعداد المقررات الدراسية ودفعها إلى المطابع. حيث شملت مقررات المرحلة الابتدائية: دراسات عامة في تجويد وحفظ القرآن، مباديء اللغات العربية والاوردية والهندية والإنجليزية، الرياضيات، التاريخ، الجغرافيا، المعلومات العامة. بينما شملت مقررات الصفوف الأعلى: القرآن والحديث والفقه و أحكام الشريعة، اللغة العربية، الإنجليزية، المعلومات العامة، العلوم السياسية، الاقتصاد. ومما يجدر بنا ذكره هنا هو أن كل المقررات المذكورة صنفت واعدت وطبعت وفقا لإرشادات وتعاليم المودودي. فمثلا في كتب الرياضيات كانت الأرقام والمسائل الحسابية تعرض من خلال الحديث عن الزكاة الشرعية أو الميراث الشرعي، وفي كتب العلوم كانت الأمثلة تستمد من السور والنصوص القرآنية، دون أدنى إشارة إلى تفاصيل الاكتشافات العلمية.
وظل الفرع الهندي يعمل بنشاط في مجال تطبيق برامجه التعليمية الخاصة، بل وأضاف إليه برامج وأنشطة أخرى مثل تأهيل الكوادر البشرية وتمكنيهم من معرفة ما يدور في العالم من تطورات سياسية، إلى أن جاء عام 1960 الذي شهد وقوع الجماعة في مصاعب إدارية ومالية، الأمر الذي اضطرت معه إلى إغلاق أبوابها، لتعود وتفتحها مجددا في عام 1986 بإدارة مكونة من 9 أشخاص على رأسهم العضو القيادي "مولانا يوسف إصلاحي". وطبقا للأخير فان الجماعة تسيطر اليوم على 1671 مدرسة ابتدائية، 65 مدرسة إعدادية، وا5 مدرسة ثانوية، علاوة على 15 معهدا للعلوم التقنية.
ومما لا شك فيه أن ما قامت به "الجماعة الإسلامية – الهند"، وموقف الدولة المهادن لها، شجعت جماعات إسلامية أخرى على تحرك مشابه. ففي عام 1962 انفصلت عن الجماعة الإسلامية مجموعة أطلقت على نفسها "جماعة الفقه". وهذه اتخذت من شرق ولاية "أوتار براديش" الشمالية معقلا لها وراحت تؤسس مدارس إسلامية أطلقت عليها وصف "الحديثة". وكي تميز نفسها عن غيرها، حصرت التعليم الابتدائي في سبع سنوات والتعليم الثانوي في سبع أخرى، علاوة على برنامج مدته خمس سنوات لنيل لقب "عالم" وبرنامج آخر يعقب الأخير لمدة سنتين ( وتدرس فيه مواد الصحافة والغرافيك والأديان المقارنة والدعوة واللغات الهندية والسنسكريتية والرعاية الاجتماعية والتربية) كي يحصل المنخرط على لقب "عالم فاضل".
ولا يكتمل حديثنا دون التوقف عند مدارس الفلاح التي أسسها في مطلع القرن العشرين رجل الأعمال والخير الخليجي الحاج محمد على زينل. فهذه المدرسة التي تعد واحدة من اكبر المدارس الإسلامية في الهند ( في عام 2004 كانت تضم 5000 دارسا بينهم 2700 طالبة يدرسن في قسم خاص، فيما كان عدد المدرسين والمدرسات 120) وتتميز هذه المدارس عن غيرها بأنها التزمت تدريس طلابها حتى الصفوف العليا للمرحلة الإعدادية وفق مناهج الحكومة الهندية دون تعديلات، علاوة على تدريس مواد إضافية اختيارية، ومنح كورسات خاصة في الدراسات الإسلامية واللغة العربية والإنجليزية والجغرافيا والتاريخ والرياضيات والأديان المقارنة والسياسة والاقتصاد. ومؤخرا فرضت هذه المدارس على طلابها مناهج الكمبوتر وتقنية الحاسوب.
ولهذه الأسباب مجتمعة، نجحت مدارس الفلاح أكثر من غيرها في فك جدار العزلة المفروض على طلابها، وفي تهيئتهم بصورة أفضل للاندماج في مجتمع فيه الكثير من الفرص، لكنها فرص تحتاج إلى متطلبات تعليمية معينة لا يوفرها معظم المدارس الدينية.
وربما للأسباب نفسها، فان شهادات مدارس الفلاح الإسلامية باتت مقبولة في معظم الجامعات الهندية وجامعات مصر والسعودية، مما يعنى خيارات اكبر أمام أصحابها لمواصلة دراستهم الجامعية.
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة : أغسطس 2009
البريد الالكتروني:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق