صبحي غندور
رغم مرور ثمانية أشهر على تولّي باراك أوباما منصب الرئاسة الأميركية، لم تحدث بعد تغيّرات فعلية كبيرة في السياسة الخارجية الأميركية، باستثناء القرار الأخير الذي أعلنته إدارة أوباما عن إلغاء مشروع الدرع الصاروخي في أوروبا الشرقية، والذي كانت إدارة بوش تعتزم تنفيذه وسط اعتراض روسي شديد ومخاوف أوروبية من تجدّد سباق التسلّح في أوروبا وعودة أجواء الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو.
وقد تكون المنطقة العربية هي الأكثر من غيرها الآن إصابةً بخيبة الأمل من عدم حدوث تغيير فعلي في السياسة الأميركية، خاصّةً لجهة الصراع العربي/الإسرائيلي وعدم وجود موقف أميركي حازم ضدّ إسرائيل التي رفضت حكومتها التجاوب مع الطلب الأميركي (والدولي عموماً) بوقف بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
لكن خيبة الأمل تحصل حينما تفوق التوقّعات الواقع فينتج الشعور بالإحباط من الطرف المؤمَّل منه.
وهنا مكمن المشكلة عربياً، حيث كانت التوقّعات من إدارة أوباما أكبر بكثير ممّا هو عليه واقع الحال الأميركي والتغيير النسبي الذي حدث فيه من خلال انتخاب باراك أوباما رئيساً. فهناك حتماً تغيير قد حصل، لكنّه ليس بإنقلاب ولا بثورة، بل هو حركة تصحيحية في داخل النظام السياسي الأميركي حملت معها تباشير تغيير ثقافي واجتماعي داخل المجتمع الأميركي، وأدّت إلى وصول أميركي أسود، ابن مهاجر إفريقي مسلم، إلى قمّة الهرم المؤسّساتي الأميركي.
وهذا الحدث الهام الذي جرى في الانتخابات الأميركية الأخيرة صنعته عوامل مشتركة ليست كلّها مؤيّدة لأوباما في كلّ برامجه الداخلية والخارجية، بل إنّ بعض هذه العوامل كان ردّة فعلٍ فقط على إدارة بوش أكثر ممّا هو حبّاً برؤية أوباما.
أيضاً، فإنّ الأصوات التي حصل عليها أوباما كانت أكثر من النصف بقليل من عدد الذين شاركوا بالانتخابات، وهذا يعني وجود حوالي نصف عدد الأميركيين في خانة المعارضين لكل ما عليه أوباما من برنامج ورؤية ولون وأصول عرقية. كذلك، فإنّ مشكلة الرئيس أوباما الآن هي أنّ مؤيّديه كانو أشبه بتحالف أو جبهة قامت بين قوًى عديدة اتفقت فقط على دعمه في الانتخابات، لكنّها ليست قوّة واحدة فاعلة الآن بالمجتمع الأميركي، بل إنّ بعض هذه القوى المحسوبة على اليسار الأميركي والتيّار الليبرالي تريد الآن من أوباما أكثر ممّا فعل وبدأت تسحب تأييدها السياسي له، بينما نجد على جبهة المعارضين أصلاً لوصول أوباما للرئاسة مزيداً من التنظيم والحركة الشعبية التي تزرع الخوف من برنامج أوباما وتُشكّك حتى في شهادة ولادته الأميركية!
هذا ظرفٌ صعب الآن بالنسبة لرئيس يريد على المستوى الداخلي إقرار برامج صحّية واقتصادية واجتماعية وتربوية ليس عليها إجماع وطني أميركي ولا توافق حتى داخل الحزب الديمقراطي نفسه، وهناك شبكات ضخمة من المصالح والشركات والمصانع تمارس نفوذها الضاغط داخل الكونغرس وعبر وسائل الإعلام لمنع أوباما من تنفيذ برامجه الإصلاحية الداخلية.
وتظهر أيضاً مشكلة الرئيس أوباما داخل الولايات المتحدة حينما يتمّ التعامل مع الملف الأمني حيث تزداد الأصوات المعارضة لنهج أوباما الداعي لإسقاط شعار "الحرب على الإرهاب" والذي استغلّته إدارة بوش لتبرير حروبها العسكرية وإجراءاتها الأمنية، ولإقامة معتقل غوانتامو وممارسة وسائل التعذيب ضدّ المعتقلين.
إنّ باراك أوباما يدعو إلى رؤية تتّصف بالاعتدال في مجتمع أميركي حكمه التطرّف لعقدٍ من الزمن تقريباً وجرت على أرضه أحداث 11 سبتمبر 2001، وهو مجتمع قام تاريخه على استخدام العنف، وما زال عدد كبير من ولاياته يرفض التخلّي عن اقتناء الأسلحة الفردية وفكرة الميليشيات المسلّحة.
إنّ باراك أوباما يقف على قمّة هرم مؤسّساتي في أميركا، ولكنّه (أي أوباما) ليس الهرم كلّه، بل إنّ أدراج وقواعد هذا الهرم هي الأساس فيه، لا من يقف على قمّته. لذلك يحصل هذا التباطؤ في تنفيذ سياسات أوباما الداخلية والخارجية، ويحصل التراجع أيضاً عن بعض القرارات أو التعيينات، كما حدث حينما اعترض اللوبي الإسرائيلي والمؤيّدين له في الكونغرس على اختيار السفير السابق فريمان ليرأس مجلس وكالات المخابرات.
فرغبات أوباما ليست أوامر ملكية أو تعبيراً عن حاكم مطلق الصلاحيات، بل هي تمنّيات ومشاريع تمرّ في أقنية عديدة قبل أن تصبح قرارات نافذة. والفارق كبير طبعاً بين من يملكون "الرغبة" وبين من يملكون "القدرة".
طبعاً، أميركا الداخلية والخارجية هي أفضل حالاً في ظلّ إدارة أوباما ممّا كانت عليه تحت إدارة بوش، أو ممّا كان يمكن أن تكون عليه لو استمرّ الحزب الجمهوري بالحكم في ظلّ تأثيرات أجندة "المحافظين الجدد" والقوى والشركات والمصانع التي تقف خلفها، إذ الخيار لم يكن بين الأسوأ والأفضل، بل بين الممكن والمرفوض إن لم نقل بين السيء والأسوأ!
وإذا اتّفق العالم كلّه على هذه الخلاصة، فإنّ ذلك لا يعني اتفاقاً على وحدة المعايير للحكم على مدى نجاح أو فشل إدارة أوباما حتى الآن. ففي السياسة الخارجية نجد ارتياحاً أوروبياً على المستويين الرسمي والشعبي من سياسة أوباما، بينما كان المعيار لروسيا هو إلغاء مشروع الدرع الصاروخي، وقد حدث ذلك الآن. أمّا معايير الصين وإيران مثلاً فهي مختلفة تماماً عن ذلك، بل مختلفة حتى عن المعايير العربية التي يقف فيها الصراع العربي/الإسرائيلي في مقدّمة المعايير للحكم سلباً أو إيجاباً على تجربة أوباما في الحكم. وفي هذا المعيار، فإنّ أيَّ تغيير فعلي بالسياسة الأميركية لم يحدث بعد، بل هو يعود بالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط إلى ما كانت عليه في ظلّ إدارة بيل كلينتون، من اهتمام بملفات الصراع وتحريك لمسارات التفاوض لكنْ في ظلّ الضغوط على الحكومات العربية لممارسة التطبيع الكامل مع إسرائيل قبل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة وتحرير الأراضي المحتلّة في العام 1967.
إنّ إدارة أوباما تريد الآن "السباحة" في بحر الصراع العربي/الإسرائيلي لكنّها تخاف من أن "تتبلّل"، فهي لا تمارس الضغط المؤثّر على إسرائيل، وهو ممكن من خلال ما تحصل عليه إسرائيل من سلاح ومال ودعم سياسي أميركي، في الوقت الذي تمارس فيه إدارة أوباما ضغوطاً على الأطراف العربية وتضع فيه الشروط على الطرف الفلسطيني، ممّا منع حتى الآن من توحيد الجسم الفلسطيني وتشكيل وحدة وطنية فلسطينية.
قد تكون إدارة أوباما "غير راغبة" أو "غير قادرة" على تغيير فعلي في سياستها بالشرق الأوسط، لكنْ ما سبب استمرار "عدم الرغبة" العربية والفلسطينية في تغيير واقع الحال القائم الآن على الانتظار والعجز والانقسام، مما يمنع توفر "القدرة" العربية للضغط على إسرائيل وواشطن معاً؟!
إنّنا بحاجة إلى تغيير أنفسنا قبل أن نطالب بتغيير سياسات الآخرين تجاهنا. فمشاكلنا بدأت بسبب واقعنا السيء، ومفتاح الحلّ يكمن في تغيير أنفسنا نحو الأفضل لا الأسوأ !!
رغم مرور ثمانية أشهر على تولّي باراك أوباما منصب الرئاسة الأميركية، لم تحدث بعد تغيّرات فعلية كبيرة في السياسة الخارجية الأميركية، باستثناء القرار الأخير الذي أعلنته إدارة أوباما عن إلغاء مشروع الدرع الصاروخي في أوروبا الشرقية، والذي كانت إدارة بوش تعتزم تنفيذه وسط اعتراض روسي شديد ومخاوف أوروبية من تجدّد سباق التسلّح في أوروبا وعودة أجواء الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو.
وقد تكون المنطقة العربية هي الأكثر من غيرها الآن إصابةً بخيبة الأمل من عدم حدوث تغيير فعلي في السياسة الأميركية، خاصّةً لجهة الصراع العربي/الإسرائيلي وعدم وجود موقف أميركي حازم ضدّ إسرائيل التي رفضت حكومتها التجاوب مع الطلب الأميركي (والدولي عموماً) بوقف بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
لكن خيبة الأمل تحصل حينما تفوق التوقّعات الواقع فينتج الشعور بالإحباط من الطرف المؤمَّل منه.
وهنا مكمن المشكلة عربياً، حيث كانت التوقّعات من إدارة أوباما أكبر بكثير ممّا هو عليه واقع الحال الأميركي والتغيير النسبي الذي حدث فيه من خلال انتخاب باراك أوباما رئيساً. فهناك حتماً تغيير قد حصل، لكنّه ليس بإنقلاب ولا بثورة، بل هو حركة تصحيحية في داخل النظام السياسي الأميركي حملت معها تباشير تغيير ثقافي واجتماعي داخل المجتمع الأميركي، وأدّت إلى وصول أميركي أسود، ابن مهاجر إفريقي مسلم، إلى قمّة الهرم المؤسّساتي الأميركي.
وهذا الحدث الهام الذي جرى في الانتخابات الأميركية الأخيرة صنعته عوامل مشتركة ليست كلّها مؤيّدة لأوباما في كلّ برامجه الداخلية والخارجية، بل إنّ بعض هذه العوامل كان ردّة فعلٍ فقط على إدارة بوش أكثر ممّا هو حبّاً برؤية أوباما.
أيضاً، فإنّ الأصوات التي حصل عليها أوباما كانت أكثر من النصف بقليل من عدد الذين شاركوا بالانتخابات، وهذا يعني وجود حوالي نصف عدد الأميركيين في خانة المعارضين لكل ما عليه أوباما من برنامج ورؤية ولون وأصول عرقية. كذلك، فإنّ مشكلة الرئيس أوباما الآن هي أنّ مؤيّديه كانو أشبه بتحالف أو جبهة قامت بين قوًى عديدة اتفقت فقط على دعمه في الانتخابات، لكنّها ليست قوّة واحدة فاعلة الآن بالمجتمع الأميركي، بل إنّ بعض هذه القوى المحسوبة على اليسار الأميركي والتيّار الليبرالي تريد الآن من أوباما أكثر ممّا فعل وبدأت تسحب تأييدها السياسي له، بينما نجد على جبهة المعارضين أصلاً لوصول أوباما للرئاسة مزيداً من التنظيم والحركة الشعبية التي تزرع الخوف من برنامج أوباما وتُشكّك حتى في شهادة ولادته الأميركية!
هذا ظرفٌ صعب الآن بالنسبة لرئيس يريد على المستوى الداخلي إقرار برامج صحّية واقتصادية واجتماعية وتربوية ليس عليها إجماع وطني أميركي ولا توافق حتى داخل الحزب الديمقراطي نفسه، وهناك شبكات ضخمة من المصالح والشركات والمصانع تمارس نفوذها الضاغط داخل الكونغرس وعبر وسائل الإعلام لمنع أوباما من تنفيذ برامجه الإصلاحية الداخلية.
وتظهر أيضاً مشكلة الرئيس أوباما داخل الولايات المتحدة حينما يتمّ التعامل مع الملف الأمني حيث تزداد الأصوات المعارضة لنهج أوباما الداعي لإسقاط شعار "الحرب على الإرهاب" والذي استغلّته إدارة بوش لتبرير حروبها العسكرية وإجراءاتها الأمنية، ولإقامة معتقل غوانتامو وممارسة وسائل التعذيب ضدّ المعتقلين.
إنّ باراك أوباما يدعو إلى رؤية تتّصف بالاعتدال في مجتمع أميركي حكمه التطرّف لعقدٍ من الزمن تقريباً وجرت على أرضه أحداث 11 سبتمبر 2001، وهو مجتمع قام تاريخه على استخدام العنف، وما زال عدد كبير من ولاياته يرفض التخلّي عن اقتناء الأسلحة الفردية وفكرة الميليشيات المسلّحة.
إنّ باراك أوباما يقف على قمّة هرم مؤسّساتي في أميركا، ولكنّه (أي أوباما) ليس الهرم كلّه، بل إنّ أدراج وقواعد هذا الهرم هي الأساس فيه، لا من يقف على قمّته. لذلك يحصل هذا التباطؤ في تنفيذ سياسات أوباما الداخلية والخارجية، ويحصل التراجع أيضاً عن بعض القرارات أو التعيينات، كما حدث حينما اعترض اللوبي الإسرائيلي والمؤيّدين له في الكونغرس على اختيار السفير السابق فريمان ليرأس مجلس وكالات المخابرات.
فرغبات أوباما ليست أوامر ملكية أو تعبيراً عن حاكم مطلق الصلاحيات، بل هي تمنّيات ومشاريع تمرّ في أقنية عديدة قبل أن تصبح قرارات نافذة. والفارق كبير طبعاً بين من يملكون "الرغبة" وبين من يملكون "القدرة".
طبعاً، أميركا الداخلية والخارجية هي أفضل حالاً في ظلّ إدارة أوباما ممّا كانت عليه تحت إدارة بوش، أو ممّا كان يمكن أن تكون عليه لو استمرّ الحزب الجمهوري بالحكم في ظلّ تأثيرات أجندة "المحافظين الجدد" والقوى والشركات والمصانع التي تقف خلفها، إذ الخيار لم يكن بين الأسوأ والأفضل، بل بين الممكن والمرفوض إن لم نقل بين السيء والأسوأ!
وإذا اتّفق العالم كلّه على هذه الخلاصة، فإنّ ذلك لا يعني اتفاقاً على وحدة المعايير للحكم على مدى نجاح أو فشل إدارة أوباما حتى الآن. ففي السياسة الخارجية نجد ارتياحاً أوروبياً على المستويين الرسمي والشعبي من سياسة أوباما، بينما كان المعيار لروسيا هو إلغاء مشروع الدرع الصاروخي، وقد حدث ذلك الآن. أمّا معايير الصين وإيران مثلاً فهي مختلفة تماماً عن ذلك، بل مختلفة حتى عن المعايير العربية التي يقف فيها الصراع العربي/الإسرائيلي في مقدّمة المعايير للحكم سلباً أو إيجاباً على تجربة أوباما في الحكم. وفي هذا المعيار، فإنّ أيَّ تغيير فعلي بالسياسة الأميركية لم يحدث بعد، بل هو يعود بالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط إلى ما كانت عليه في ظلّ إدارة بيل كلينتون، من اهتمام بملفات الصراع وتحريك لمسارات التفاوض لكنْ في ظلّ الضغوط على الحكومات العربية لممارسة التطبيع الكامل مع إسرائيل قبل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة وتحرير الأراضي المحتلّة في العام 1967.
إنّ إدارة أوباما تريد الآن "السباحة" في بحر الصراع العربي/الإسرائيلي لكنّها تخاف من أن "تتبلّل"، فهي لا تمارس الضغط المؤثّر على إسرائيل، وهو ممكن من خلال ما تحصل عليه إسرائيل من سلاح ومال ودعم سياسي أميركي، في الوقت الذي تمارس فيه إدارة أوباما ضغوطاً على الأطراف العربية وتضع فيه الشروط على الطرف الفلسطيني، ممّا منع حتى الآن من توحيد الجسم الفلسطيني وتشكيل وحدة وطنية فلسطينية.
قد تكون إدارة أوباما "غير راغبة" أو "غير قادرة" على تغيير فعلي في سياستها بالشرق الأوسط، لكنْ ما سبب استمرار "عدم الرغبة" العربية والفلسطينية في تغيير واقع الحال القائم الآن على الانتظار والعجز والانقسام، مما يمنع توفر "القدرة" العربية للضغط على إسرائيل وواشطن معاً؟!
إنّنا بحاجة إلى تغيير أنفسنا قبل أن نطالب بتغيير سياسات الآخرين تجاهنا. فمشاكلنا بدأت بسبب واقعنا السيء، ومفتاح الحلّ يكمن في تغيير أنفسنا نحو الأفضل لا الأسوأ !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق