نقولا ناصر
إن إعلان تل أبيب القائم بأعمال فنزويلا شخصا "غير مرغوب فيه" بسبب تضامن رئيسه وبلاده مع الشعب الفلسطيني ليس شأنا "ثنائيا" يسوغ صمت أي قيادة فلسطينية عنه ، إذ لا يعقل منطقيا وأخلاقيا وسياسيا أن تخوض كراكاس معركة فلسطينية يغيب الفلسطينيون عنها وهي بسببهم ، لكن مثل هذا الصمت يصبح مستهجنا عندما يطال الإجراء الإسرائيلي القائم بأعمال البلد الصديق في رام الله حيث تفتعل سلطة الحكم الذاتي معركة لما تقول إنه دفاع عن شرعية تمثيلها لشعبها مع حركة حماس ، مطالبة هذه الحركة الالتزام ب"الاتفاقيات الموقعة" مع دولة الاحتلال بينما تلوذ بالصمت على إخلال هذه الدولة بتلك الاتفاقيات إخلالا فاضحا يضرب في صميم شرعية السلطة وسيادتها .
وقد وضع وزير خارجية فنزويلا نيكولاس مادورو إصبعه على الجرح عندما قال إن "إسرائيل عبر طرد القائم بالأعمال الفنزويلي المعتمد لدى السلطة الفلسطينية في رام الله تثبت للعالم بأنها لا تحترم السيادة الفلسطينية" لكي يضيف في بيان لاحق باسم وزارة الخارجية الفنزويلية بأن دولة الاحتلال "تنتهك اتفاقيات أوسلو وتطرد ممثلين دبلوماسيين كانوا هناك باسم هذا البلد" .
وباستثناء بيانات بعض الفصائل "اليسارية" ، كانت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وحكومتها حتى كتابة هذه السطور تلتزمان الصمت المطبق دون إصدار أي بيان حول قيام الاحتلال بطرد القائم بالأعمال الفنزويلي لديهما ، لتكتفيا كما يبدو بتصريحات صحفية لوزير خارجيتهما رياض المالكي من المغرب "أدان" فيها طرده المهين للسلطة أكثر من إهانته لبلده باعتباره "يعبر عن رد فعل في غير مكانه" ، دون أن ينسى تحميل جزء من المسؤولية ضمنا للدبلوماسي الفنزويلي لأنه "سبق ولفت نظر الممثليات لدى السلطة بأن عليها التسجيل لدى السلطة دون التسجيل الموازي في تل أبيب حتى لا يتعرض أي دبلوماسي لإشكالية مماثلة "مع سلطات الاحتلال وليعد بأنه سيواصل "التشاور مع الحكومة الفنزويلية لإيجاد المخرج المناسب لهذه الأزمة الدبلوماسية" .
لقد تحولت هذه "الأزمة" إلى كشٌاف فنزويلي يسلط أضواءه الساطعة على مدى هشاشة هذه السلطة بقدر ما يكشف مدى هشاشة احترام دولة العدوان لاتفاقياتها الموقعة مع المنظمة ولشرعية سلطتها ، ليتكشٌف البروتوكول الخادع الموحي بسيادة موهومة لتقبل رئاسة السلطة لأوراق اعتماد السفراء والمبعوثين الأجانب عن مجرد مراسم شكلية لإعتماد دبلوماسيين أجانب لا يمكن للسلطة اعتمادهم إذا لم يسجلوا أولا لدى وزارة خارجية دولة الاحتلال ، مما دفع حزب الشعب الفلسطيني المؤتلف مع قيادة السلطة في بيانه إلى اعتبار "الإجراء الإسرائيلي تعديا سافرا على فنزويلا وفلسطين معا" .
ويصبح صمت قيادة السلطة ، حكومة ومنظمة ، مستهجنا عندما تتعرض القيادة الفنزويلية الصديقة بسبب تضامنها مع الشعب الفلسطيني لحملة صهيونية ويهودية عالمية تقودها دولة العدوان ، تتهمها ب"معاداة السامية" ودعم "الإرهاب" بسبب معارضة هذه القيادة للحرب العدوانية على قطاع غزة وطردها لسفير دولة الاحتلال نتيجة لذلك ومطالبة الرئيس هوغو شافيز بتقديم قادة العدوان إلى محكمة دولية وأخذ رئيسهم شمعون بيريز إلى محكمة الجنايات الدولية لأن "ما يحدث الآن في غزة هو الهولوكوست" كما قال أثناء العدوان منتقدا "غياب الضمير العالمي" وصمته على "الاضطهاد غير الإنساني للشعب الفلسطيني" ، بينما قال وزير خارجيته مادورو إن "المجرمين الذين يحكمون إسرائيل كانوا ينفذون محرقة نازية ضد الفلسطينيين طوال ستين عاما" .
وقد تفسر قيادة السلطة صمتها بمتابعتها "الأزمة" عبر القنوات الدبلوماسية أو قد تفسره بأن فنزويلا دولة ذات سيادة تستطيع الدفاع عن نفسها ، وهي كذلك فعلا ، ودولة صديقة تستطيع أن "تتفهم" أوضاعها غير العادية التي تدفعها إلى الصمت ، غير أن مثل هذه التفسيرات لصمتها على الإهانة الدبلوماسية التي ألحقها الاحتلال بها نتيجة طرد دبلوماسي أجنبي اعتمدته لديها ضمن ولايتها بموجب "الاتفاقيات الموقعة" إياها -- التي ما زالت قيادة السلطة ترتهن الوحدة الوطنية لاحترامها فلسطينيا و"بالإجماع" -- لن تكون تفسيرات كافية لإقناع أحد لكنها بالتأكيد تعزز مطالبة حماس والعديد من فصائل منظمة التحرير نفسها بإسقاط احترام هذه الاتفاقيات كشرط للوحدة الوطنية .
فهذه الإهانة التي تبتلعها قيادة السلطة صامتة هي مناسبة لكي يتذكر المراقب بأن دولة الاحتلال قد "جددت" الاتصالات بين دبلوماسييها وبين الممثلين الرسميين لسلطة الحكم الذاتي في الخارج "فقط" بعد أن ألفت حكومة الطوارئ التي أعلنتها برئاسة سلام فياض لتسيير أعمالها إثر موافقتها على رفع الحصار "المالي والاقتصادي" عن الضفة الغربية مع إبقائه على قطاع غزة ، مستهلة بذلك الانقسام الذي تتخذ منه حاليا ذريعة لإطلاق يدها حرة للتفاوض على مصير الشعب الفلسطيني دون معارضة أو مشاركة أو رقابة في إطار حالة "طوارئ" معلنة تعفيها كذلك من المساءلة عن إصدار مئات القوانين دون رقيب أو حسيب .
كما تذكر هذه الإهانة بوضع السلك الدبلوماسي الفلسطيني الذي شهد خلال السنوات القليلة الماضية تنازعا لم يبق وراء الأبواب المغلقة بين قيادة السلطة وبين منظمة التحرير انتهى بانتزاع سلطة تعيين السفراء من الدائرة السياسية للمنظمة ونقلها إلى سلطة الحكم الذاتي في سياق تغوٌلها على المنظمة لإحلال السلطة محل المنظمة باعتبارها "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" ، كما قال رياض المالكي الأسبوع الماضي ، بينما تسعر قيادة السلطة حدة الإنقسام الفلسطيني بتوجيه الاتهامات يمينا ويسارا لفصائل المقاومة بأنها متورطة في "مؤامرة" لتصفية منظمة التحرير بإنشاء "بديل" لها مستفيدة من الإنقسام الوطني كساتر دخاني لمواصلة اختطاف السلطة للمنظمة ودورها وإلغاء كونها هي مرجعية السلطة لا العكس ، حتى طبقا لاتفاق أوسلو والاتفاق الانتقالي المنبثق عنه في الشهر التاسع من عام 1995 ناهيك عن قرار المجلس المركزي للمنظمة عام 1993 ، ومع ذلك ما زالت قيادة السلطة تتحدث عن "انقلاب" على المنظمة وشرعيتها في غزة وتسيٌر مهرجانات في رام الله ضد "الالتفاف على شرعية" المنظمة .
وتذكر هذه "الأزمة" أيضا بأن معظم الدول التي تعترف ب"دولة فلسطين" أو بمنظمة التحرير قد فعلت ذلك قبل إنشاء السلطة وعندما كانت المنظمة ما زالت ممثلة للمقاومة الوطنية قبل "نبذها" العنف وإلقائها سلاح المقاومة قبل أن تحقق أي من أهدافها - في سابقة لم تعرفها أي ثورة من أجل التحرر الوطني والاستقلال في العالم - بينما ما زالت دولة الاحتلال نفسها وشريكها الاستراتيجي الأميركي وكندا ومعظم البلدان الأوروبية الرئيسية الداعمة للسلطة لا تعترف بدولة فلسطين وتقيم فقط مستويات مختلفة من العلاقات مع السلطة لم يصل أي منها إلى تبادل السفراء بعد حوالي خمسة عشر عاما على إنشاء هذه السلطة .
وتفرض هذه "الأزمة" مقارنة لا يمكن تجنبها بالتساؤل عما إذا كان الاحتلال سيكون قادرا على طرد أي دبلوماسي أجنبي معتمد لدى السلطة لو كان بحماية المقاومة في قطاع غزة لا تحت رحمة الاحتلال في رام الله !
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق