سالم جبران
عقد يوم الخميس 10/5/2007، بمبادرة "المركز الإسرائيلي للديمقراطية"، في القدس الغربية لقاء غير مسبوق، بين رئيس الحكومة الإسرائيلية إهود أولمرت وبين نخبة كبيرة من المثقفين والأساتذة الجامعيين والسياسيين، العرب واليهود لمناقشة "صريحة، صريحة فعلاً" لحالة العلاقات العربية - اليهودية ومستقبلها داخل إسرائيل.
إهود أولمرت جلس في اللقاءات التي امتدت من التاسعة صباحاً إلى السادسة والنصف مساءً، وقال إن استعداده لذلك هو نظراً "للأهمية الاستراتيجية التي يراها للعلاقة الشاملة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بين اليهود والعرب في الدولة".
حضرتُ لقاءات عربية- يهودية، خلال العقدين الماضيين وبعضها كان متوتراً، متشنجا، مستقطباً من البداية، وبعضها وهذا أسوأ، كان فيه العرب من أعوان السلطة المتمسكنين، الذين يطلبون الصَّدقة، من السيد، وكل يهودي سيد.في هذا اللقاء الهام جداً، كان العرب ساسة ومثقفين متحررين تماماً من عقدة "الولاء"، ولكن أيضاً متحررين من عقدة التشنج القومي.
البروفسور ماجد الحاج قدَّم مداخلة هامة، علمية، شجاعة، عصرية وإنسانية طرح خلالها التغييرات البنيوية، الاجتماعية الثقافية للعرب، وحالة التمييز الصارخ والشامل الذي تعاني منه الأقلية العربية قال إن الجامعيين العرب كانوا في السبعينيات من القرن الماضي بضعة مئات، وهم الآن أكثر من خمسين ألفاً، ولدينا فئات مهنية عصرية وحركة تجارية، وأكثر من نصف طلاب الجامعات العرب هم نساء، ولذلك فقد فشلت سياسة تحويلنا إلى حطابين وسقاة ماء، ولذلك يجب إلغاء سياسة العزل والخنق واتباع سياسة التعايش والمشاركة.
رئيس الحكومة أولمرت، قال "إن حالة عزمي بشارة هي حالة شخص واحد، والتهم ضده خطيرة، وإذا عاد يأخذ القضاء مجراه، ولكن لا يجوز أن يقول أي سياسي أو مواطن يهودي إن العرب في إسرائيل خطر استراتيجي، هذا قول غير صحيح، ومضر، العرب جزء من الدولة، شركاء في المجتمع، ويجب أن نطور حياة مشتركة مع أقل ما يُمكن من التوتر وأكثر ما يمكن من التعاون".
إن النقاش الذي دار لم يكن بروتوكولياً ولا رسمياً لم يكن فيه عنصر "الوصاية" من الزملاء اليهود ولا عنصر "الولاء" من الزملاء العرب. بل إن العرب كانوا في موقع الهجوم، طول اللقاء.إن المشاركين العرب طالبوا بما هو حق، قانونياً، وبما هو حق إنسانياً- المشاركة، تقليص التمييز منهجياً وصولاً إلى المساواة الكاملة.
وبدون لغة التهديد والتشنج، قال العرب إن هذه البلاد بلادنا، أبّاً عن جد، ونريد التمسك بوطننا ولا بديل لنا عن ذلك. تقدَّمنا وسنتقدم أكثر، ونريد ترجمة تقدمنا، علمياً ومهنياً، بالمشاركة، بالمساواة، بالحياة الكريمة بلا تمييز وبلا اغتراب.ربما كان غياب السياسيين وأعضاء البرلمان من الجانبيين اليهودي والعربي، مفيداً لإجراء نقاش صريح، مبدئي، يقوم على الحقائق.
العرب قدموا مرافعة مشرِّفة، ضد الاقتلاع ونهب الأراضي والتمييز الصارخ. تحت خط الفقر من اليهود 12 بالمائة، بينما تحت خط الفقر من العرب 58 بالمائة، تعمل من النساء اليهوديات 71 بالمائة، بينما تعمل من النساء العربيات 17بالمائة، البطالة بين اليهود 7 بالمائة بينما البطالة بين العرب 25 بالمائة.خلال سنوات طويلة كانت السلطات ومحاموها السياسيون تستغل خطاباً "قومياً"، عند بعض العرب، لتبرير "خوف" اليهود الموهوم، وتستغل شعارات "قومية" فارغة وجعجاعة لتصوير الضحية وكأنه هو الذي يهدد الآخر!!
في هذا اللقاء كان العرب ناطقين بلسان الأقلية القومية المظلومة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتكلموا بلغة حضارية ونضالية معاً، لم يتوسلوا، بل طالبوا بالحقوق القومية والسياسية والاقتصادية التي هي حقوق طبيعية. وقال أحد المتكلمين العرب: لسنا نحن في قفص الاتهام، بل الديمقراطية الإسرائيلية هي التي في قفص الاتهام طالما نحن ضحايا التمييز!وعندما طالبوا بجامعة عربية، تكون في أحد مراكز الوسط العربي، أسرع ماجد الحاج للتأكيد: "لا نريد جامعة تكون ملجأ لمن لا ينجحون في القبول في الجامعات اليهودية، جامعة تكون متخلفة، وغيتو للعرب.
بل نريدها جامعة مع كل المقاييس والمعايير الأكاديمية المعمول بها في الجامعات اليهودية ولا نعارض، إطلاقاً، أن يعمل أساتذة يهود أيضاً شرطنا هو أن تكون لغة التدريس هي اللغة العربية، في هذه الجامعة العربية.عدد كبير من المشاركين اليهود، قالوا إنهم سمعوا مواقف ومعلومات كثيرة جديدة تشكل مرافعة مقنعة عن حق العرب في المشاركة والمساواة. وطالب كثيرون من العرب واليهود بنشر هذه الحقائق في الصحافة والإذاعة والتلفزيون وبالحاجة إلى إسقاط المواقف المسبقة السلبية، وكسر الحواجز، واللقاء الصريح بين الأكثرية اليهودية والأقلية العربية، بلا استعلاء وبلا انعزالية.
اعترف بأنني خلال كل جلسات اللقاء التي امتدت ست ساعات، شعرت بالاعتزاز، شعرت أن المتكلمين العرب قد تقدموا نوعياً بالصراع الفكري- السياسي الحضاري دفاعاً عن الذات، بدون تشنج أو بكائية، وبدون انعزالية أو يأس مسبق من تفهم الآخر لنا.
إن جيلاً جديداً من المثقفين العرب الفلسطينيين داخل إسرائيل، نشأ، واثقاً بالنفس. داعياً لحقوقه، قادراً على النقاش وبالأساس واثقاً بأن قضيته القومية هي في الوقت نفسه قضية إنسانية أيضاً عادلة.خلال ستة عقود كان الخطاب العربي إمّا خطاباً متوسلاً أو خطاباً احتجاجياً غاضباً.
ولم نتمكن أن نكسر الحواجز ونخترق الآخر. وفي السنوات العشر الماضية كان الخطاب "السوبر قومي" للبعض يُصعِّب الحوار مع اليهود بدل أن يكون الحوار جسراً للتفاهم وطريقاً لتحقيق حقوقنا وإقناع الآخر بعدالة مطالبنا القومية والمدنية والديمقراطية العادلة.لدي تفسير لهذا التقدم النوعي في خطابنا، ولكن لن أقوله، حتى لا أحرج أحداً. ولكن أقول بمنتهى الصراحة إن خطاب صاحب الحق قادر أن يخترق الآخر وأن يُقنع الآخر والعالم بقدر ما يكون موضوعياً، منطقياً، حضارياً، بعيداً عن الصراخ والتشنج، بعيداً عن الشعارات الصارخة الانفعالية والمتطرفة.
في اعتقادي إن الشعارات المتشنجة والانفعالية قد سقطت أو هي في طريقها إلى السقوط. إن شعبنا الباقي في وطنه لا يجب أن يعتذر لأنه بقي في وطنه، بل إن مَن هرب من الوطن هو الذي يجب أن يعتذر إذا كان صادقاً. ونحن، إذ بقينا وإذ نتمسك بالبقاء فنحن وطنيون ولسنا بحاجة إلى الصراخ أو إلى الكذب حتى نؤكد وطنيتنا وقوميتنا. إن بقاءنا في الوطن هو برهان قوميتنا وصراعنا للمساواة القومية والمشاركة في إدارة وطننا هو البرهان على قوميتنا الصادقة الحقيقية! المفعمة بالإنسانية أيضاً.
إننا مثل "الناطور" في مسرحية فيروز، الذي بقي حارساً للكرم، وليس أكثر صدقاً قومياً، من الناطور الذي حرس الكرم بالأعمال لا بالشعارات.رئيس حكومة إسرائيل لم يكن مضطراً أن يعترف أن نقاش المشاركين العرب كان صريحاً، صادقاً، منطقياً، يطرح أمام الحكومة والمجتمع اليهودي تحدياً حضارياً.
وقال إنه سوف يبادر إلى عقد مؤتمر قطري بمشاركة يهودية عربية، نطرح كل شيء "على الطاولة" بصراحة كاملة. كما وعد بتغييرات أساسية في تعامل الدولة مع العرب.هل هذا يعني أن كل مطلب سوف يتحقق؟ ليس بالضرورة. ولكن هذا يعني أن الجماهير العربية الفلسطينية تسير في الطريق الصحيح للبقاء، للتطور، للمطالبة الفعالة بالحقوق، وللحياة المشتركة، القائمة على التعاون والمساواة والمشاركة.
إن هذا الطريق صعب وطويل ومعقد، ولكن طريقنا إلى المستقبل الذي يقوم أساساً على البقاء في وطننا أولاً، وعلى المساواة ثانياً وعلى المشاركة ثالثاً.إن الإصرار على الحقوق، بلا شعارات فارغة، وبلا جعجعة بل بالمطالبة النضالية بالحقوق والنضال لتحصيل الحقوق، هو الأساس لبقائنا في وطننا وهو الأساس لتقدمنا الواثق بالنفس نحو المستقبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق